تحقيق الأصول - ج ٣

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-39-2
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٣٩٩

المتعلّق للتكليف مردّداً بين الأقل والأكثر ، وكان للأقل في ضمن الأكثر وجود مستقل ، كرسم خطٍّ طويل تدريجاً ، وإن عدّ المجموع بعد حصول الأكثر فعلاً واحداً ذا وجود واحد.

فيخرج بالقيد الأوّل : ما إذا لم يكن الفعل المتعلّق للتكليف مردداً بين الأقل والأكثر ، بل كان متعلّق ذلك الفعل مردّداً بينهما ، كما إذا أمر تخييراً بالإتيان بعصا طولها عشرة أذرع ، أو بعصا طولها خمسة أذرع ، أو بإكرام عشرة دفعةً واحدة ، أو إكرام خمسةٍ كذلك ، فإن ذلك من التخيير بين المتباينين ، لتباين الفعلين المتعلّق بهما التكليف.

ويخرج بالقيد الثاني : ما إذا لم يكن للأقل في ضمن الأكثر وجود مستقل ، كما إذا أمر تخييراً بالمسح بالكف أو بإصبع واحدة ، فإنه أيضاً من التخيير بين المتباينين.

ومن ذلك يظهر عدم الفرق بين الكمّ المنفصل والكمّ المتصل ، فلو أمر تخييراً بين التسبيحة الواحدة والتسبيحات الثلاث ، أو أمر تخييراً بين المشي فرسخاً واحداً أو فراسخ عديدة ، أو القراءة والتكلّم وسائر الأُمور التدريجيّة ، كان كلّ ذلك من محلّ الكلام.

ثم إنه أورد على (الكفاية) بإشكالين : (أحدهما) : ما تقدّم من أن ما ذكره خارج عن محلّ الكلام ، وأنّ لازم كلامه عدم معقوليّة التخيير بين الأقل والأكثر. و (الثاني) هو : إن ما ذكره من التخيير بين الأقل بشرط لا والأكثر غير معقولٍ أيضاً ، وإن كان ذلك داخلاً في المتباينين ، إذ التباين المذكور تباين عقلي لا خارجي ، والإشكال لا يرتفع بالتباين الخارجي ، ولذا لا يسع المصنف الحكم بعدم وجوب الأكثر بعد الإتيان بالأقل ، لأن ذلك في معنى إخراج الأكثر عن طرف التخيير ،

٣٤١

ولا الحكم بوجوب الأكثر عيناً ، لأن ذلك في معنى إخراج الأقل عن طرف التخيير ، وحكمه بالتخيير بين الإتيان بالزائد وعدمه في معنى عدم وجوب الزائد وانحصار الوجوب بالأقل ، لعدم معقوليّة وجوب فعل شيء وتركه على سبيل التخيير.

إشكال الأُستاذ

وقد أورد الأُستاذ ـ في كلتا الدورتين ـ على هذه النظريّة ، بأن ذات الأقل موجود في ضمن الأكثر في الوجود الدفعي كذلك ، والمفروض أن الغرض مترتب على الذات ، فيكون الأكثر زائداً عن الغرض ، لكنّ هذا يستلزم أن لا تكون ذات الأقل حاملةً للغرض إلاّ مع الحدّ وكونه بشرط لا ، وحينئذٍ ينقلب إلى التخيير بين المتباينين ، وهو خلف الفرض كما تقدم في الإشكال على (الكفاية).

إذن ، فمورد البحث هو ذات الأقل لا بحدّه ، وهو موجود في ضمن الأكثر ، من دون فرقٍ بين الوجود الدفعي للأكثر أو التدريجي.

وأمّا إشكاله على المحقق الخراساني بأن هذه التباين عقلي لا خارجي. ففيه : إنّ منشأ اعتبار الأقل بشرط لا مغاير خارجاً مع منشأ اعتبار البشرطشيء ، فكان التباين خارجياً لا ذهنيّاً.

وهذا تمام الكلام في الوجوب التخييري.

٣٤٢

الوجوب الكفائي

٣٤٣
٣٤٤

والفارق بينه وبين التخييري هو المتعلّق والموضوع ، ففي التخييري يتردّد متعلّق التكليف بين الصوم والإطعام والعتق ـ مثلاً ـ أمّا في الكفائي ، فإنه يتردّد موضوع التكليف بين زيد وعمرو وبكر ....

فالتكليف واحد ، لكن الموضوع متعدّد ، واستحقاق العقاب أو الثواب يكون للكلّ ، بخلاف الواجب التخييري حيث الثواب أو العقاب واحد.

وقد اختلفت كلمات الأعلام في هذا المقام كذلك على وجوه :

الوجه الأوّل

فقال المحقق الخراساني (١) : والتحقيق أنه سنخ من الوجوب ، وله تعلّق بكلّ واحد ، بحيث لو أخلّ بامتثاله الكلّ لعوقبوا على مخالفته جميعاً ، وإن سقط عنهم لو أتى به بعضهم ، وذلك قضيّة ما إذا كان هناك غرض واحد حصل بفعل واحدٍ صادر عن الكلّ أو البعض. كما أن الظاهر هو امتثال الجميع له أتوا به دفعةً واستحقاقهم المثوبة ، وسقوط الغرض بفعل الكل ، كما هو قضيّة توارد العلل المتعدّدة على معلول واحد.

وحاصل كلامه هو : أنّ حقيقة الوجوب الكفائي عبارة عن الوجوب المشوب بجواز الترك ـ كما في التخييري ، غير أنه هناك جواز الترك إلى بدلٍ في

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٤٣.

٣٤٥

الفعل ، وهنا جواز الترك إلى بدلٍ في الموضوع ـ وقد ذكر وجهين لهذه الدعوى :

(أحدهما) من جهة العلّة للحكم وهو الغرض ، إذ الغرض واحد والفعل واحد وهو الحامل للغرض ، وحينئذٍ ، يستوي الحال بالنسبة إلى أفراد المكلّفين ، فكلّ من أتى به فقد حصل الغرض وتحقّق الامتثال.

فالحاصل : إنّ موضوع التكليف هو كلّ الأفراد ـ لا جميعهم ، لوحدة الغرض والفعل ، ولا الأحد المفهومي المردّد منهم ، لأنه غير حاملٍ للغرض ، ولا الأحد المردد المصداقي ، لأنه لا وجود له ـ لكن سنخ التكليف هو أن الوجوب المتوجّه إلى كلّ واحدٍ مشوب بجواز الترك له في حال قيام غيره به.

ولو أتى الجميع بالفعل ـ كأن صلّوا جماعةً على الميّت ـ كان الامتثال حاصلاً بفعل الكلّ ، من باب توارد العلل المتعددة على المعلول الواحد.

وهذا هو (الوجه الثاني).

الاختلاف بين المحقق الأصفهاني وصاحب الكفاية

ثم إنّ المحقق الأصفهاني (١) قد وافق صاحب (الكفاية) في أصل الرأي ، إلاّ أنه خالفه في الوجه الثاني من الوجهين المذكورين ، لبطلان توارد العلل على المعلول الواحد في الصّلاة على الميت وغيره من الواجبات الكفائية القابلة للتعدّد ، فلو صلّى كلّ واحدٍ من المكلّفين على الميت ، كانت صلاته ذات مصلحة ، فلم يتحقّق توارد العلل على المعلول الواحد ، هذا بالنسبة إلى أصل المصلحة. وأمّا المصلحة اللّزوميّة فهي ليست إلاّ واحدة ، تتحقّق بقيام أيّ واحدٍ من المكلّفين بالصّلاة على الميّت ، فنسبتها إلى جميع المكلّفين على حدٍّ سواء ، ولذا يحصل الامتثال بفعل أيّ واحدٍ منهم ... فلا توارد للعلل ، لا في أصل المصلحة

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٢٧٧.

٣٤٦

ولا في المصلحة اللزوميّة.

أمّا في مثل دفن الميت ونحوه ممّا لا يقبل التعدّد ، فالأمر واضح ، إذ مع عدم تعدّد الفعل كيف يتحقّق توارد العلل على المعلول الواحد؟

إشكال الأُستاذ

وقد أورد عليه شيخنا بوجوه :

الأوّل : إنّ الوجوب الكفائي وجوب مشوب بجواز الترك في طرف الموضوع ، أي المكلّف ، فلو ترك كان المكلّفون كلّهم معاقبين ، لأنّ كلاًّ منهم قد ترك لا إلى بدلٍ ، فهو يقول بتعدّد العقاب هنا ، ولا يقول به في الواجب التخييري مع ترك جميع الأطراف ، والحال أنّ نفس الدليل القائم هنا على تعدّد العقاب يقتضي تعدّده هناك ، لأنّ جواز ترك الإطعام ـ مثلاً ـ كان منوطاً بالإتيان بالعتق أو الصوم ، فلو ترك الكلّ لزم تعدّد العقاب كذلك.

والثاني : لقد جاء في كلامه في (نهاية الدراية) عبارة : إن المصلحة اللزوميّة هذه لا متعيّنة. فيرد عليه :

أوّلاً : إنه لا وجود لغير المتعيّن ، وقد ذكر هو سابقاً إن الوجود مساوق للتعيّن.

وثانياً : إنّ المصلحة اللزوميّة متقوّمة بالفعل الحامل لها ، فكيف يكون المعلول متعيّناً والعلّة غير متعيّنة؟ وكيف يكون اللاّمتعيّن قابلاً للامتثال؟

وثالثاً : إن المصلحة اللزوميّة واحدة لا تقبل التعدّد وإلاّ لتعدّد الواجب وهو خلاف الفرض في الواجب الكفائي ، ولذا يكون نسبتها إلى كلٍّ من المكلّفين على السواء ، وهي نسبة صدوريّة ، فكيف يعقل أن يكون الصّادر واحداً ومن صدر عنه الفعل متعدّداً؟

٣٤٧

الإشكال الصحيح على صاحب الكفاية والمحقق الأصفهاني

هذا ، والإشكال الوارد على تصوير الوجوب الكفائي بالوجوب المشوب بجواز الترك ، هو عدم مساعدة مقام الإثبات والارتكازات العقلائيّة عليه ، وأمّا ثبوتاً فلا يرد عليه شيء.

الوجه الثاني

هو القول بالوجوب المشروط ، بأن يجب الفعل على كلّ واحدٍ من المكلّفين مشروطاً بعدم قيام غيره منهم به.

وهذا الوجه ساقط ، لأنّه يستلزم عدم حصول الامتثال لو صلّى الكلّ على الميّت مثلاً ، لأنّ المفروض اشتراط الوجوب على كلّ واحدٍ منهم بترك الآخر ، وإذا صلّى الجميع لم يتحقق الشرط وانتفى الوجوب ، فلا امتثال للأمر ... وهذا باطل.

الوجه الثالث

إن موضوع التكليف هو الفرد المردّد ، كما أنّ متعلّق التكليف في الوجوب التخييري هو المردّد ، فكما تتعلّق الإرادة التشريعيّة بالمراد المردّد ـ وهو الفعل ـ كذلك تتعلّق بالمراد منه المردد وهو الموضوع.

وفيه :

ما تقدّم هناك من أن تعلّق التكليف بالمردّد غير معقول ، سواء كان التردّد في الفعل المكلّف به أو في المكلّف نفسه ، لأنّ التكليف ـ سواء على القول بأنه الإنشاء بداعي جعل الداعي ، أو القول بأنه الطلب الإيقاعي الإنشائي ، أو القول بأنه البعث والتحريك نحو الإتيان بالمتعلّق ، أو القول بأنه اعتبار الفعل في ذمّة العبد وإبرازه بالصيغة ـ أمر ذو تعلّق وارتباط بالغير ، والتعلّق بالمردّد محال مطلقاً.

٣٤٨

هذا ، ولا يخفى أن الميرزا ـ وإن قال بمعقوليّة تعلّق الإرادة التشريعيّة بالمردّد في الوجوب التخييري ، من جهة أنّ أثرها إحداث الدّاعي في نفس المكلّف ، ولا مانع من أن يكون المدعوّ إليه مردّداً ـ لا يقول في الوجوب الكفائي بتعلّقها بالموضوع المردّد ، فهو يفرّق بين الموردين ، ولعلّ السرّ في ذلك هو تعيّن الموضوع في التخييري وتردّد المتعلّق ، ولا محذور ـ عنده ـ في إحداث الداعي نحو المتعلّق المردّد ، أمّا في الوجوب الكفائي ، فالموضوع مردّد ولا يعقل إحداث الداعي مع تردّده ... ولذا قال في تصوير الكفائي بأنّ الموضوع صرف الوجود ـ لا الفرد المردد ـ كما سيأتي.

الوجه الرابع

إنّ موضوع التكليف عبارة عن الكلّي الجامع بين الأفراد ، غير أنّه في مقام التشخّص يتشخص الموضوع بقيام أيّ فردٍ من الأفراد بالمكلّف به ، كما هو الحال في الوضعيّات ، كملكيّة سهم السّادة مثلاً ـ بناءً على أنه لكلّي الهاشمي الفقير ـ حيث الموضوع عبارة عن الكلّي ، ويتعيّن بالقبض والإقباض ، فهنا كذلك ، فقد تعلّق التكليف بالكلّي غير أنّه يتعيّن بمن يقوم بالعمل من أفراد المكلّفين.

وهذا ما نقله المحقق الأصفهاني عن السيد بحر العلوم صاحب بلغة الفقيه (١) في تصوير أخذ الأُجرة على الواجبات.

إشكال المحقق الأصفهاني

ثم أشكل عليه : بأنّ البعث والتحريك لا بدّ وأن يتوجّه نحو الشخص ، ولا يعقل أن يكون الكلّي طرفاً للبعث ، لعدم معقوليّة انقداح الإرادة في نفس

__________________

(١) بلغة الفقيه ٢ / ١٨.

٣٤٩

الكلّي ، لأن الكلّي لا نفس له (١).

جواب الأُستاذ

وقد أجاب عنه شيخنا : بأن هذا البعث اعتباري وليس تكوينيّاً ، وغاية ما يقتضيه البرهان هو انقداح الإرادة على أثر البعث ، وهذا يحصل في نفس الفرد بالبعث نحو كلّي المكلّف بعثاً اعتبارياً ، لأنّ الكلّي متّحد مع الأفراد. فالإشكال مندفع ....

وما جاء في كلامه من أنّ متعلّق التكليف هو المكلّف بالحمل الشائع. مخدوش عقلاً ، لأنّ التكليف من الأُمور ذات التعلّق ، فهو في وجوده محتاج إلى الطرف وهو مقوّم له ، لكن التكليف والبعث من الموجودات النفسانيّة ، وتقوّم الموجود النفساني بالموجود الخارجي محال ، لاستلزامه صيرورة النفساني خارجيّاً أو الخارجي نفسانياً ، وكلاهما محال.

بل إن متعلّق التكليف لا بدّ وأن يكون من سنخ التكليف ، فالتكليف أمر نفساني ومتعلّقه نفساني أيضاً ، وهو الداعي في نفس العبد ، غير أنّ هذا الداعي يصير علّةً للمراد الخارجي فيكون المبعوث إليه بالعرض ... فافهم واغتنم.

الإشكال الوارد

لكنّ الإشكال الوارد على هذا الوجه هو : عدم معقوليّته فيما نحن فيه ، وتنظيره بالأحكام الوضعيّة كالملكيّة قياس مع الفارق ، لأنّ الموضوع لملكيّة الخمس هو كلّي الهاشمي الفقير ، لكنّه في ظرف التشخّص تتحقّق ملكيّة شخصيّة بمقتضى الأدلّة الشرعيّة في المسألة ، بخلاف الأحكام التكليفيّة ، فإنّه لا موضوعية

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٢٧٨ ـ ٢٧٩.

٣٥٠

في ظرف التشخّص ، لأنّ ظرف التشخّص فيها هو ظرف التلبّس بالفعل والقيام به ، فما لم يقم أحد المكلّفين بالفعل لم يتشخص الموضوع ، وإذا قام بالعمل خرج عن الموضوعيّة ، فلا معنى لتوجّه التكليف إليه وبعثه نحو الفعل.

الوجه الخامس

إنّ موضوع الوجوب في الكفائي عبارة عن مجموع المكلّفين ، بنحو العام المجموعي ، في مقابل العام الاستغراقي حيث يكون الواجب عينيّاً وأنّ المكلّف كلّ واحدٍ من أفراد المكلّفين.

الإشكال عليه

وقد أورد عليه بوجهين :

الأوّل : إنّ المجموع أمر اعتباري ذهني ، إذ الموجود في الخارج هو الأفراد ، والتكليف ـ كما تقرر ـ إنما هو لإيجاد الداعي في نفس المكلّف ، ومن الواضح أن الأمر الاعتباري غير صالح للمبعوثية.

والثاني : إنه ليس الموضوع في الوجوب الكفائي هو مجموع المكلّفين ، وإلاّ يلزم أن لا يتحقق الامتثال بإتيان البعض بالمأمور به ، وتحقّقه بامتثال البعض كاشف عن أن الموضوع ليس المجموع.

وهذا الإشكال الثاني وارد.

وأمّا الأوّل فيمكن الجواب عنه : بأنّ الأمر الاعتباري وإن لم يكن بنفسه موضوعاً للتكليف لما ذكر ، إلاّ أنه يمكن أن يكون وسيلةً لبعث من في الخارج ، نظير عنوان «أحدهما» مثلاً ، فإنه أمر انتزاعي لا يتعلّق به التكليف ولا يقع موضوعاً له ، إلاّ أنه لمّا يقول المولى : ليقم أحدكم بالفعل الكذائي ، يصير هذا العنوان منشأً للانبعاث في الخارج ، وقد تقدّم ـ في تصحيح جعل الكلّي عنواناً للموضوع ـ أنه لا برهان على ضرورة كون المكلّف نفسه قابلاً للانبعاث ، بل يكفي أن يكون

٣٥١

لجعل العنوان موضوعاً أثر في الخارج يخرج أخذه كذلك عن اللغويّة ، فهذا الإشكال من المحقق الأصفهاني (١) غير وارد.

الوجه السّادس

إن الموضوع صِرف وجود المكلّف ، وكما أنّ الغرض من المكلّف به يترتّب على صرف وجود الطبيعة ـ كالإكرام مثلاً ـ حيث يتحقّق الامتثال بإكرام فردٍ واحدٍ أو على مطلق وجودها الساري ، فينحلّ التكليف بعدد أفراد تلك الطبيعة ، كذلك في طرف المكلّف ، فقد يترتّب الغرض على صدور الفعل من مكلّفٍ ما ، وقد يترتّب على مطلق وجود المكلّف ، فإن كان الأوّل فهو الكفائي ، وإن كان الثاني فهو العيني ....

وهذا مختار المحقق النائيني (٢) وقال في المحاضرات : «وهو الصحيح» (٣).

إشكال المحقق الأصفهاني

وقد تعرّض المحقق الأصفهاني لهذا الوجه في تعاليقه على (نهاية الدراية) (٤) فقال : إن صرف الوجود بمعناه المصطلح عليه في المعقول لا يطابق (٥) له إلاّ الواجب تعالى وفعله الإطلاق ، حيث إنه لا حدّ عدمي لهما وإن كان الثاني محدوداً بحدّ الإمكان. وبمعناه المصطلح عليه في الأُصول : إمّا أن يراد منه ناقض العدم المطلق وناقض العدم الكلّي كما في لسان بعض أجلّة العصر (٦) ، وامّا أن يراد

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٢٧٩.

(٢) أجود التقريرات ١ / ٢٧٠ ـ ٢٧١.

(٣) محاضرات في أُصول الفقه ٣ / ٢٤٠.

(٤) نهاية الدراية ٢ / ٢٧٨.

(٥) كذا ، والظاهر «مطابَق».

(٦) يقصد الشيخ الحائري اليزدي في درر الأُصول.

٣٥٢

المبهم المهمل من حيث الخصوصيّات ، وامّا أن يراد منه اللاّبشرط القسمي المساوق لكونه متعيّناً بالتعيّن الإطلاقي اللازم منه انطباقه على كلّ فرد.

(قال) فإن أُريد منه ناقض العدم المطلق والعدم الكلّي.

ففيه : إنّ كلّ وجود ناقض عدمه البديل له ، وليس شيء من موجودات العالم ناقض كلّ عدم يفرض في طبيعته المضاف إليها الوجود.

وإرجاعه إلى أوّل الوجودات ، باعتبار أنّ عدمه يلازم بقاء سائر الأعدام على حاله ، فوجوده ناقض للعدم الأزلي المطلق لا كلّ عدم.

فهو لا يستحق إطلاق الصرف عليه ، فإنه وجود خاص من الطبيعة بخصوصيّته الأوليّة ، مع أنه غير لائقٍ بالمقام ، فإنه من المعقول إرادة أوّل وجودٍ من الفعل ، ولا تصحّ إرادته من أول وجودٍ من عنوان المكلّف ، فإنّ مقتضاه انطباقه على أسنّ المكلّفين.

كما لا يصحّ إرجاعه إلى أوّل من قام بالفعل.

فإنّ موضوع التكليف لا بدّ من أن يكون مفروض الثبوت ولا يطلب تحصيله ، فمقتضاه فرض حصول الفعل لا طلب تحصيله.

وإن أُريد المبهم المهمل.

فلا إهمال في الواقعيّات.

وإن أُريد اللاّبشرط القسمي ، وهي الماهيّة الملحوظة بحيث لا تكون مقترنةً بخصوصية ولا مقترنةً بعدمها.

فيستحيل شخصيّة الحكم والبعث ـ مع لحاظ المكلّف بعد الاعتبار الإطلاقي ـ إذ لا يعقل شخصيّة الحكم ونوعيّة الموضوع وسعته ، فلا بدّ من انحلال الحكم حسب انطباقات الموضوع المطلق على مطابقاته ومصاديقه ، فيتوجّه

٣٥٣

حينئذٍ السؤال عن كيفية هذا الوجوب الوسيع على الجميع مع سقوطه بفعل البعض. وسيأتي توضيح الجواب عنه.

جواب الأُستاذ

وأجاب شيخنا عن الإشكال : بأن المراد من «صرف الوجود» هو ما ذكره من نقيض العدم البديل ، بمعنى أن وجود زيد ـ مثلاً ـ رافع لعدم زيد لا عدم عمرو ، لكنّ وجود زيدٍ في نفس الوقت رافع لمطلق العدم ، لا للعدم المطلق حتى يرد الإشكال ، إذ الفرق بين مطلق العدم والعدم المطلق كبير ، وكذلك الفرق بين الوجود الخاص ومطلق الوجود ، فلما يتحقق زيد يتحقق أصل الوجود معه ، كما هو الحال بين الأفراد والطبائع ، إذ يتحقق مع وجود زيد أصل الإنسانية ومطلق الانسانية لا الإنسانية المطلقة.

فالمراد من صرف الوجود هو الوجود الناقض للعدم ، وهذا هو الموضوع للتكليف ، لا الوجود الناقض لجميع الأعدام أو المهمل أو الطبيعة لا بشرط ولا من يقوم بالفعل ولا أول الوجود ... فالإشكال مندفع وإنْ تعجّب السيد الأُستاذ من التزام المحقق النائيني به وموافقة السيد الخوئي له ، فلاحظ (١).

الوجه السّابع

هو : إن الأمر إذا صدر عن المولى متوجّهاً إلى عبده ، فله أنحاء من الإضافات ، إذ له نحو إضافةٍ إلى الآمر وهو بصدوره عنه ، ونحو إضافةٍ أُخرى إلى المأمور ، وهو بتحريكه نحو المطلوب ، ونحو إضافة بالفعل الصادر ، وهو بقيامه فيه شبه قيام العرض في الموضوع لا مثله حقيقةً ، لما عرفت من أن التكليف ليس من العوارض الخارجية ، إذ الخارج ظرف السقوط لا ظرف العروض.

__________________

(١) منتقى الأُصول ٢ / ٤٩٩.

٣٥٤

ومعلوم : أنه لا فرق بين الواجبات العينيّة والكفائيّة من جهة الإضافة الأولى والثانية ، إذ في كليهما كان الآمر يصدر عنه الطلب وكان المأمور مبعوثاً نحو الفعل ، لكنّ الفرق بين العيني والكفائي إنما هو في نحو الإضافة الأخيرة ، حيث أن نحو إضافة التكليف إلى الفعل في العيني هو بقيد صدوره عن آحاد المكلفين مباشرةً ، فيتعدّد لا محالة بتعدّد المكلّفين بمناسبة هذا القيد ، بخلاف الواجبات الكفائية فلا يتعدّد بتعداد المكلّفين.

فتعلّق التكليف بالمكلّفين هو على نحو الاستغراق في العيني والكفائي من غير فرقٍ ، والفرق بينهما إنما هو بنحو الإضافة الأخيرة ، فكما يمكن أن يكون نحو إضافة التكليف إلى الفعل المتعلّق بقيد أن يكون التعلّق صادراً عن كلّ فردٍ من الأفراد بالمباشرة ، كما في الصّلاة والصوم ونظائرهما من الواجبات النفسيّة ، حيث أن المصلحة قائمة في فعل آحاد المكلّفين بالصّدور المباشري ، كذلك يمكن أن يكون نحو إضافته إلى المتعلّق لا بقيد صدوره عن كلّ واحدٍ مباشرة ، بل يكون نحو تعلّقه بصرف الوجود من طبيعة الفعل لا بقيد تكثرها بكثرة أفراد المكلفين ، فيسقط الأمر بصرف وجود الطبيعة في الخارج من أحد المكلفين قهراً ، لأنّ الطبيعة توجد بوجود فردٍ ما. هذا هو حقيقة الوجوب الكفائي فافهم واغتنم. وهذا مختار السيد البروجردي (١).

وحاصل هذا الوجه هو : أن كلّ التصويرات مردودة ، لأنها كانت متوجّهةً نحو المطلوب منه ، فقيل : هو مجموع الأفراد ، وقيل : الجميع ويسقط بفعل البعض ، وقيل : الواحد المردّد ... بل الفرق بين العيني والكفائي هو من ناحية المطلوب ، إذ هو في الأول مشروط بصدوره من المكلّف الخاص والثاني

__________________

(١) الحجة في الفقه : ٢١٦ ـ ٢١٧.

٣٥٥

لا بشرط من ذلك.

وجوه الإشكال

أورد عليه الأُستاذ بوجوه :

الأول : النقض بالواجب التخييري ، حيث ذهب إلى أن الواجب فيه هو الواحد المردّد ... فيقال له : أيّ فرقٍ بين ترديد المتعلّق وترديد الموضوع؟ لوضوح وحدة المناط وهو أنّ المردّد لا وجود له ، وما كان كذلك فلا يقبل البعث ... والأحكام العقليّة لا تقبل التخصيص.

والثاني : إنّه لا يعقل تقييد المعلول بصدوره عن علّته ، فالحرارة تصدر من النار ، وإذا صدرت لا يعقل تقييدها بالصدور عن النار ، بل إنها تصدر عنها ثم تتّصف بالصّدور. فهذه مقدّمة. ومقدمة أُخرى : إنّ الإرادة التشريعية من المولى إنما تتعلّق بما تتعلّق به الإرادة التكوينيّة من العبد.

وبناءً على ما ذكر يتّضح عدم إمكان اشتراط الواجب بصدوره عن إرادة المكلّف ، لأن إرادته علّة لتحقق الواجب ، فلو كان الواجب مشروطاً بصدوره عن إرادة المكلّف لزم اشتراط المراد بصدوره عن الإرادة ، وهذا غير معقول ، فلا يعقل تعلّق الإرادة التشريعيّة به ...

والحاصل : إن الإرادة تتعلّق بالصّلاة لا بالصّلاة الصادرة عن الإرادة ... فقوله بأن الواجب العيني عبارة عن الواجب المشروط بصدوره عن فاعل خاص ، يرجع إلى كون الصّلاة الواجبة على زيد هي الصّلاة المقيّدة بصدورها عن إرادته ، ولمّا كان هذا المحقق من القائلين بأن التقابل بين الإطلاق والتقييد من قبيل العدم والملكة ، فإنه إذا استحال التقييد ـ كما ذكرنا ـ يستحيل الإطلاق. فما ذكره في تصوير الواجب الكفائي وفرقه عن العيني ساقط.

٣٥٦

والثالث : إن الغرض في الواجب الكفائي واحد لا متعدّد ، وقد صرّح بذلك أيضاً ، ومع وحدته يستحيل تعدّد الواجب ، فقوله بتعدّد الوجوب على عدد أفراد المكلّفين غير صحيح.

الوجه الثامن

إنه ليس للوجوب حقائق مختلفة متعدّدة ممتازة بذاتيّاتها ، بل هو في جميع موارده سنخ واحد ، ويكون تكثّره بالعوارض المصنّفة والخصوصيّات المشخّصة.

فسنخ الكفائي هو سنخ العيني ، والتكليف فيه متوجّه إلى الجميع ، لعدم معقوليّة تكليف واحدٍ على البدل ، والفرض عدم اختصاص التكليف بواحدٍ معيّن ، والتكليف المتوجّه إلى الجميع متعدّد ، لعدم معقوليّة توجّه تكليفٍ واحدٍ إلى متعدّدين ، فإذا تعدّد التكليف والمكلّف تعدّد الفعل المكلّف به ، ويكون تكليف كلّ واحدٍ متعلّقاً بفعل نفسه لا بفعل غيره ....

فحقيقة الوجوب هنا هي حقيقة الوجوب هناك من غير تخالف في الحقيقة الوجوبيّة أصلاً ، فيجب على كلّ واحدٍ امتثال تكليف نفسه ، فإذا اجتمع الكلّ على الامتثال دفعةً واحدة استحق كلّ واحدٍ المثوبة الكاملة ، وإذا اجتمعوا على المعصية استحق كلّ واحدٍ عقاباً تامّاً كما في الواجبات العينيّة.

نعم ، إذا بادر أحدهم إلى الامتثال سقط التكليف عن الباقين ، على خلاف الواجبات العينيّة ، وليس المنشأ لهذا الاختلاف حقيقة الوجوب ، بل الوجه في ذلك ارتفاع موضوع التكليف بإتيان واحدٍ ، وذلك لخصوصيّة أُخذت في المتعلَّق ، فإنّ متعلّق التكليف هو الغسل والكفن والدفن لميت لم يغسّل ولم يكفّن ولم يصلّ عليه ولم يدفن. وهذا كلّه ينتفي بإتيان واحد ، فموضوعُ التكليف

٣٥٧

غير باقٍ ليكلّف الباقون.

وحاصل الكلام هو : إن الفرق بين الوجوب العيني والوجوب الكفائي هو في طرف موضوع التكليف ، فهو في الأول لا بشرط وفي الثاني بشرط ، أي هو الميت الذي لم يغسّل ولم يكفن ولم يصلّ عليه ولم يدفن ، فإذا تحقّق ذلك كلّه في حقّه من واحد ، فلا موضوع لتكليف سائر المكلّفين ، ويكون سقوط التكليف عنهم لانتفاء الموضوع ، خلافاً للسيد البروجردي ، إذ جعل العيني مشروطاً بصدوره عن فاعلٍ خاصٍ والكفائي لا بشرط ... وهذا مختار المحقق الإيرواني (١).

إشكال الأُستاذ

وقد أورد الشيخ الأُستاذ على هذا الوجه : بأنّ كلّ موضوع فهو بقيوده مقدّم رتبةً على الحكم ، وكلّ حكم متأخّر عن موضوعه بالتأخّر الطبعي ، فكان نسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلّة إلى المعلول ، وإن كانت العلّة الواقعيّة هي إرادة المولى.

وأيضاً : فإنّ الرافع للشيء لا بدّ وأن يكون متقدّماً على الشيء رتبةً ، لأنه العلّة لعدمه ، وإلاّ فلا يكون رافعاً له.

وأيضاً : فإنّ الإهمال في الموضوع وقيوده محال.

وبناءً على هذه المقدّمات نقول : إذا كان تغسيل الميّت واجباً على زيدٍ أو عمرو كفايةً ، وكان وجوبه على كلٍّ منهما مقيّداً بعدم كون الميت مغسّلاً بواسطة الآخر ، كان الرافع للموضوع الموجب لانتفاء تكليف زيد ، هو تغسيل عمرو ، وحينئذٍ يتوجّه السؤال : هل كان تغسيل عمرو ـ الرافع لموضوع تكليف زيد ـ مهملاً ، أي هو رافع له سواء كان المأمور به أو لا؟ لا ريب في عدم الإهمال بل هو

__________________

(١) نهاية النهاية ١ / ٢٠٣.

٣٥٨

مقيّد بكونه غسلاً صحيحاً مطابقاً للأمر ، إذن ، كان موضوع الوجوب على كلٍّ من زيد وعمرو هو عدم كون الميت مغسّلاً بالغسل الصحيح بواسطة الآخر ، فيكون الرافع للموضوع هو الغسل الصحيح ، لكنّ قيد الصحّة للموضوع متأخّر رتبةً على الموضوع المتقدم رتبةً على الحكم.

ونتيجة ذلك هو : أن يكون وجوب التغسيل على زيدٍ متأخّراً عن الموضوع ـ وهو عدم تغسيل عمرو الغسل الصحيح ـ بمرتبتين ، وأن يكون وجوبه على عمرٍو متأخّراً عن الموضوع ـ وهو عدم تغسيل زيد له كذلك ـ بمرتبتين ، فيجتمع التأخّر والتقدّم في وجوبه على زيدٍ ، وهو محال.

هذا كلّه أوّلاً.

وثانياً : إنه قد نصّ على وحدة الغرض ، وفي نفس الوقت نصّ على تعدّد التكليف ، فكيف يكون الغرض واحداً والمكلّف به واحداً ، ـ وهو الدفن ـ والتكليف متعدّداً؟

رأي الأُستاذ في الوجوب الكفائي

واختلف مختار الأُستاذ في الدورتين. أمّا في السابقة ، فقد اختار قول المحقّق الخراساني ، كالمحققين الأصفهاني والعراقي ، مستشكلاً على قول الميرزا بأن متعلّق الوجوب هو صرف الوجود ـ بعد أن ذكر تعبير (المحاضرات) عنه بالجامع لا بعينه ـ بأن تصوير الجامع الانتزاعي ـ الواحد لا بعينه ـ وإن أمكن في الوجوب التخييري ، فهو غير ممكن في الكفائي ، للفرق بينهما من جهة استحقاق العقاب الواحد هناك في صورة المخالفة للكلّ ، بخلاف الوجوب الكفائي ، فلو ترك كلّ أفراد المكلّفين استحقّوا العقاب جميعاً ....

وأمّا في الدورة اللاّحقة ، فقد ناقش في طريق صاحب الكفاية ومن تبعه ،

٣٥٩

واختار طريق الميرزا ، مستشكلاً على (المحاضرات) إرجاع النظريّة إلى الجامع الانتزاعي بأنّه ليس المراد عند المحقق النائيني ، ويشهد بذلك قوله في التخييري بأن الواجب هو الفرد المردّد ، لأنّ الإرادة التشريعيّة تختلف عن الإرادة التكوينيّة ، فلو كان مراده في الكفائي ذلك أيضاً لصرّح به ، مع وجود الفرق بين الوجوبين ، حيث أن المردّد هناك هو المتعلّق والمردّد هنا هو الموضوع ... لكنّ بيان الميرزا هنا شيء آخر ، إنه يجوّز أن يكون صرف الوجود موضوعاً للحكم ، كما جاز أنْ يكون متعلَّقاً له ، ومن الواضح أنّ «صرف الوجود» غير «الجامع» وغير «الفرد المردد».

والحاصل : إنه كلّما أمكن تصوير الجامع صحّ صرف الوجود ، وكلّما لم يمكن كان التكليف متوجّهاً إلى عنوان «الأحد». أمّا في التخييري فلا جامع بين أفراد المكلّف به من الصوم والعتق والإطعام في الكفارة ، أو القتل والصّلب والنفي في حدّ المحارب ، ولذا يكون الواجب هو «الأحد» ، بخلاف الكفائي ، فالجامع موجود ، وهو عنوان الصّلاة ، فكان صرف وجود المكلّف هو الموضوع للتكليف ....

وهذه هي النكتة في اختلاف تعبير الميرزا في الموردين ، حيث قال في الوجوب التخييري بأن المتعلّق هو عنوان «الأحد» وفي الوجوب الكفائي جعل الموضوع هو «صرف وجود المكلّف» ....

وما ذهب إليه هنا لا يتوجّه عليه أيّ إشكالٍ ، بعد ظهور اندفاع مناقشات المحقق الأصفهاني.

وهذا تمام الكلام على الوجوب الكفائي.

٣٦٠