تحقيق الأصول - ج ٣

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-39-2
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٣٩٩

بالوجود الذهني ما لم يكنْ له مطابق في الخارج؟

وثانياً : كيف يكون المردد متعيّناً كغيره من المفاهيم المتعيّنة؟ إن أراد المتعيّن خارجاً ، فإن كلّ ما في الخارج معيّن غير مردد ، وإنْ أراد التعيّن ذهناً ، فالمفروض أنه مردد غير معيّن.

وأمّا ما ذكر في المقدّمة الثانية من صحّة تعلّق العلم ونحوه بالمردد ، فقد تقدّم أنه رأي صاحب الكفاية ، وما أجاب به من أنّ الارتباط بين المفهوم والمتعلّق الخارجي ليس ارتباطاً واقعيّاً غريب ، فإنّ الارتباط بين الشّيئين إمّا واقعي وامّا اعتباري ، وهل الارتباط بين الصورة الذهنية ومطابقها الخارجي اعتباري لا واقعي؟

والاستشهاد لذلك بأنّه «قد لا يكون العلم مطابقاً للواقع» أعجب ، فإنه يتضمّن الاعتراف بلزوم وجود المطابَق ولزوم المطابقة بينهما ، وأمّا عدم المطابقة أحياناً فمن الخطأ في التطبيق ، وأين هذا عن المدّعى حتى يستشهد به؟ وكذلك الاستشهاد بتعبيرهم عن الخارج بالمعلوم بالعرض ، فإنّ هذا التعبير يفيد خلاف المدّعى كما لا يخفى.

وتأييد ذلك بالإخبار عن أحد الأمرين ، واضح الضعف ، للفرق بين الإخبار ، والعلم والبعث والتكليف ، على أن المخبر عنه هو «الأحد» الجامع بين الفردين لا الفرد المردد ، وهذا هو المرتكز العقلائي.

الطريق الثالث

إنه في الواجب التخييري يوجد وجوبان ، لكن كلاًّ منهما مشروط بترك الآخر ، فالإطعام واجب مشروط بترك الصوم ، وهكذا بالعكس. والحاصل : إن هنا غرضين قائمين بالعدلين ، لكنّهما متزاحمان ولا يمكن استيفاؤهما معاً ،

٣٢١

فيجب استيفاء أحدهما على النحو المذكور ، وإن كان ظواهر الأدلّة لا تساعد عليه ـ لعدم دلالتها على وجود الغرضين والوجوبين ـ لكن لا مناص من تصوير الواجب التخييري بهذه الصّورة.

الاشكالات عليه

وقد أورد عليه بوجوه :

الأوّل : إن دعوى التمانع بين الغرضين مع القدرة على الفعلين وهم محض. قاله الميرزا وتبعه السيّد الخوئي (١).

وفيه : ليس الأمر كذلك ، فقد يقدر الإنسان على استعمال دواءين يكون الغرض من كلٍّ منهما مضادّاً للغرض من الآخر.

والثاني : إن هذا الطريق يستلزم القول بالترتّب ، ومن القائلين بالواجب التخييري من لا يقول بالترتب ، كصاحب الكفاية.

وفيه : أولاً : إن المحقق الخراساني قد أنكر الترتب بين الأهمّ والمهم. وأمّا لو كانا متساويين ـ كما في الواجب التخييري ـ فقد لا ينكره.

وثانياً : قد صوّر في الكفاية الواجب التخييري بوجهٍ آخر ـ كما تقدّم ـ لأنّ القول بشوب الوجوب بجواز الترك يغاير القول باشتراط وجوب أحدهما بترك الآخر.

والثالث : إنه في حال ترك كلا الواجبين ، يتحقّق الشرط لهما معاً فيكونان فعليين ، فيلزم الإتيان بكليهما بعنوان الوجوب ، وهذا مناف لحقيقة الواجب التخييري. قاله المحقق الإيرواني (٢).

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٢٦٨.

(٢) نهاية النهاية ١ / ٢٠٠.

٣٢٢

وفيه ـ كما تقدّم سابقاً ـ إن المفروض كون وجوب كلٍّ منهما مشروطاً بترك الآخر ، فلا يلزم من تركهما معاً كون كليهما مطلوباً.

والرابع : إنه في صورة ترك كليهما يلزم تعدّد العقاب ، وهو خلاف الضرورة.

وفيه : إنه إشكال مبنائي ، لأنّ تعدّد العقاب إنما هو في تعدّد الواجب المنتهى إلى تعدّد الغرض ، وليس الأمر في الواجب التخييري كذلك.

الخامس : إن لازم هذا القول أن لا يتحقق الامتثال بالإتيان بكلا الفردين ، مع اليقين بحصول الامتثال بذلك.

وهذا هو الإشكال الصحيح.

والسادس : إن هذا الوجه لا تساعده ظواهر الأدلّة في مقام الإثبات ، فقد جاءت الأفراد معطوفةً ب «أو» لا مشروطاً بعضها بترك البعض الآخر. والقول بضرورة حمل الأدلّة على هذا المعنى موقوف على سقوط جميع الوجوه. وهذا الإشكال الإثباتي وارد كذلك على هذا الوجه.

الطريق الرّابع

إنّ الواجب التخييري ما كان وجوبه مشوباً بجواز الترك إلى بدلٍ. ذهب إليه المحقق الأصفهاني رحمه‌الله (١).

إن قيل : فما الفرق بين هذا الطريق وطريق صاحب الكفاية؟

قلنا : إنّ المحقق الخراساني قد اختار ذلك على أساس قوله بتباين الأغراض ، أمّا المحقق الأصفهاني فقد ذهب إلى ما ذكر سواء كانت متباينة أو متسانخة ، فالاختلاف بينهما في منشأ الجعل ، كما بينهما اختلاف في التخيير كما

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٢٧١.

٣٢٣

سيظهر.

وتوضيح هذا الطريق :

أوّلاً : إنه يمكن أن يكون الغرض في كلّ من العتق والإطعام والصّوم من سنخ واحدٍ ، ويكون لزوميّاً ، فالمقتضي لكونه لزوميّاً موجود ـ وإلاّ لما كان هناك وجوب ـ إلاّ أنّ مصلحة الإرفاق والتسهيل على المكلّفين قد زاحمت هذا الغرض اللّزومي في حدّ الجمع بين الأُمور لا في حدّ جميع الأُمور ، وكان مقتضى الجمع أن لا يجب الإتيان بالجميع كما لا يجوز ترك الجميع ... وهذا معنى كون وجوب كلٍّ من الأُمور مشوباً بجواز تركه إلى البدل. وقد لا يكون الغرض قابلاً للإرفاق فلا يقع التزاحم بين مصلحة التسهيل ومصلحة الأُمور ، فيجب الجميع كما في كفارة الجمع ، خلافاً للمحقق الخراساني القائل بعدم إمكان تحقق الغرضين أو الأغراض في الخارج ، لكونها متباينة.

وثانياً : إنّ الأغراض قد يكون لها وحدة نوعيّة ، كما هو الحال بين الإطعام والعتق ، فإن الغرض الجامع بينهما هو الإحسان ، وقد تكون متباينة كما هو الحال بين العتق والصّوم ... خلافاً للمحقّق الخراساني القائل بالتقابل بين الأغراض دائماً.

وثالثاً : إنه يظهر مما تقدّم عدم توجّه الإشكال الوارد على المحقق الخراساني ، من أن لازم كلامه أن لا يكون المكلّف ممتثلاً لو جمع بين الأفراد مع أنه ممتثل يقيناً ، لأنّ المحقق الأصفهاني لم يؤسّس طريقه على التقابل بين الأغراض ، بل ذهب إلى إمكان تحقّقها ، لأنّ المزاحم ليس إلاّ مصلحة التسهيل ، فكان المكلّف مرخّصاً في ترك الغرضين ، لا ممنوعاً من الجمع بينهما.

٣٢٤

الإشكالات على هذا الطريق والنظر فيها

هذا ، وقد أورد على هذا الطريق بوجوه كلّها مندفعة :

الأول : إنّ الوجوب المشوب بجواز الترك لا يعقل إلاّ بنحو الواجب المشروط ، وعليه ، فلو ترك كلا الفردين فقد تحقق الشرط لها ، فيجب الجمع بينهما ، وهو خلف فرض الواجب التخييري ، قاله المحقق الإيرواني.

وفيه : إنّ هذا الإشكال لا يرد على صاحب الكفاية ، لقوله بالتقابل بين الأغراض كما تقدم ، ولا يرد أيضاً على طريق الأصفهاني ـ وإن كان لا يرى التقابل المذكور ـ لأن المفروض وقوع التزاحم بين الأغراض وبين مصلحة التسهيل ، ومع فرض التزاحم ، لا يبقى الفردان أو الأفراد على الوجوب ، والجمع موقوف على وجوبها كما هو واضح ، فيكون الواجب واحداً من الفردين أو الأفراد فقط ، فأين الجمع؟

الثاني : إنه في حال ترك كلا الفردين يلزم تعدّد العقاب.

وفيه : إنه قد عرفت أنّ الباقي بعد التزاحم هو أحد الغرضين أو الأغراض ، فلو ترك الكلّ فات الغرض الملزم الواحد ، فلا يُستحق إلاّ عقاب واحد.

والثالث : إن القول بوجود واجبين يجوز ترك أحدهما إلى بدل ، موقوف على تعدّد الغرض ، لكنّ الكاشف عن تعدده هو تعدّد الوجوب ، والحال أنّ الخطاب الشرعي في الواجب التخييري جاء بكلمة «أو» الدالّة على كون الواجب هو الجامع الانتزاعي ، وهذا يكشف عن غرض واحدٍ مترتب على هذا الجامع ، أي : هذه الأُمور ، لا على كلّ واحد واحد.

وقد أجاب شيخنا ـ في الدورتين ـ عن هذا الاشكال : بأنه ليس المقصود هو الكشف عن الغرض حتى يقال : ما هو الكاشف كذلك؟ بل المقصود تصوير

٣٢٥

الوجوب التخييري وحلّ مشكلته في مقام الثبوت ، وحاصل ذلك : إنّه ليس الحامل للغرض هو الأحد المصداقي ، لعدم معقوليته ، ولا المفهومي ، لأنّه جامع انتزاعي وليس له وجود في الخارج ، بل إنّا نكشف من مذاق الشارع وأدلّة الأحكام أن يكون لكلّ من العتق والصّوم والإطعام ملاك ، لكن مصلحة التسهيل توجب أن لا يكون المكلّف مأموراً بتحصيل جميعها ، إلاّ المفطر عمداً فلا يقع مورد الإرفاق والتسهيل ... إذن ، الكاشف عن الغرض موجود بهذه الصّورة.

والرابع : إن هذه المزاحمة إما أن تصل إلى حدّ اللّزوم ، فلا يجب شيء من الخصال ، وامّا لا ، فلا تزاحم.

وفيه : إن هذه المزاحمة لزوميّة ، لكنّها بين مصلحة التسهيل وتحصيل جميع الأغراض ، كلّ واحدٍ واحدٍ.

والخامس : إن سقوط التكليف يكون إمّا بالامتثال وامّا العجز وامّا النسخ ، والإتيان بالفرد الآخر من الواجبين ليس بواحدٍ من هذه الأُمور.

وفيه : إنّ ما ذكر يتمّ فيما لا يجوز تركه أصلاً وهو التعييني ، لا في الواجبين اللذين يجوز ترك أحدهما إلى بدل.

ويبقى الإشكال الإثباتي ، فقد قال في الدورة اللاّحقة : إنّ الإشكال الوارد على هذا الطريق هو الإشكال الإثباتي ، فإن ظواهر الأدلة هو مطلوبيّة «الأحد» لكنّ مقتضى هذا الطريق هو عدم الترديد ، فهو يرى وجوب كلٍّ من الأفراد.

أمّا في الدورة السابقة ، فقد أجاب بأنّ المحقق الأصفهاني في مقام التصوير ثبوتاً ولا يدّعي مطابقة الأدلّة لما ذهب إليه ، ولعلّ ذلك هو الظاهر من قوله : «يمكن فرض» أي أنه غير ملتزم لأن يكون التصوير متطابقاً مع مقام الإثبات ... فلو انسدّت الطرق كلّها وبقي هذا ، فلا مناص من رفع اليد عن الظواهر بحيث

٣٢٦

تناسب مقام الثبوت.

الطريق الخامس

قال المحقق العراقي (١) : إذا تعلّق الأمر بأحد الشيئين أو الأشياء على وجه التخيير ، فالمرجع فيه ـ كما عرفت ـ إلى وجوب كلّ واحدٍ لكن بإيجابٍ ناقص ، بنحو لا يقتضي إلاّ المنع عن بعض أنحاء تروكه وهو الترك في حال ترك البقية ، من غير فرقٍ في ذلك بين أن يكون هناك غرض واحد يقوم به كلّ واحد فرد ـ ولو بملاحظة ما هو القدر الجامع ـ أو أغراض متعددة ، بحيث كان كلّ واحد تحت غرضٍ مستقل وتكليف مستقل ، وكان التخيير من جهة عدم إمكان الجمع بين الغرضين ، إما للتضادّ بين متعلّقهما كما في المتزاحمين أو بين نفس الغرضين في عالم الوجود ، بحيث لا يبقى مع استيفاء أحد الغرضين في الخارج مجال لاستيفاء الآخر ، أو في مرحلة أصل الاتّصاف ، بحيث مع تحقق أحد الموجودات واتّصافه بالمصلحة لا تتصف البقيّة بالغرض والمصلحة والحاصل : إن الواجب التخييري ما يكون وجوبه وجوباً ناقصاً.

قال الأُستاذ : لا فرق جوهري بين هذا الطريق وطريق المحقّق الأصفهاني ، لأن الوجوب الناقص ـ في الحقيقة ـ هو الوجوب المشوب بجواز الترك.

نعم ، بينهما فرق من جهة أنه على القول بالوجوبين المشوبين بجواز الترك ، يكون العقاب المترتب في حال ترك كلّ الأطراف عقاباً واحداً ، أمّا على قول المحقق العراقي ، فقد صرّح بلزوم تعدّد العقاب في بعض الصّور ، فهو يقول بأنه لو ترك الجميع وكان الغرض منها غرضاً واحداً يقوم بالجامع بينها ، كان العقاب واحداً لا متعدّداً ، وكذا لو كان لكلٍّ غرضٌ ، لكن الغرضين كانا بحيث أنه مع تحقّق

__________________

(١) نهاية الأفكار (١ ـ ٢) ٣٩١ ـ ٣٩٢.

٣٢٧

أحد الغرضين أو الأغراض ينتفي الغرض من غيره. أمّا لو كان لكلٍّ من الأطراف غرض مستقل تام فترك جميع الأطراف ، فالعقاب متعدّد.

وبلحاظ هذا الفرق يصلح لأن يكون طريقاً آخر.

ويرد عليه أنّ تعدّد العقاب خلاف الضرورة الفقهيّة.

الطريق السادس

قال المحقق الإيرواني ـ بعد المناقشة لكلام الكفاية والطرق المذكورة فيها ـ ما نصّه : فلا محيص عن الالتزام بأن الواجب هو الواحد الجامع ، وأنّ التخيير في جميع الواجبات التخييرية عقليّ لا شرعي ، أو الالتزام بأن الواجب أحدهما لا بعينه مصداقاً ، مع عدم القول بتبعيّة الأحكام للمصالح في المتعلّق ، والالتزام بكفاية المصلحة في الحكم ، وذلك لأن توجّه الحكم إلى أحدهما لا بعينه معقول ، كتوجّه التمليك إلى الواحد المردّد ، لكن لا يعقل قيام المصالح التي تكون في الأغراض المتّصلة بالواحد المردّد ، فلا بدّ أن تكون المصلحة إمّا في واحدٍ معين أو في الجميع ، فإن كان الأوّل ، تعيّن ذلك الواحد للوجوب ، وإن كان الثاني ، وجب الجميع عيناً (١).

الإشكال عليه

وأورد عليه الأُستاذ بوجوه :

الأوّل : إن إرجاع موارد الوجوب التخييري في الشريعة إلى التخيير العقلي بعيد كلّ البعد عن ظواهر الأدلّة في مقام الإثبات ، بأن يكون المراد منها كون متعلّق التكليف هو القدر المشترك ، ثم العقل يحكم بكون المكلف مخيّراً فيما بين الأفراد ، كالأمر بالصلاة وحكم العقل للمكلّف بالصّلاة في الدار أو في المسجد أو

__________________

(١) نهاية النهاية ١ / ٢٠١.

٣٢٨

في المدرسة ، وأنّ واحدةً منها محقّق للامتثال ... وعليه ، فتكون الأدلّة في الوجوب التخييري إرشاداً إلى حكم العقل.

وهذا ما لا يمكن المساعدة عليه.

على أنّه يستلزم القول بكون العقل حاكماً ، وقد تقرّر أنه مدرك فحسب ولا حكم له.

الثاني : إنه يستلزم القول بوجود الواحد المردّد خارجاً. وقد تقرّر أنه محال.

والثالث : إنّ الالتزام بكفاية المصلحة في الحكم الوضعي لا إشكال فيه ، بأن تقوم المصلحة في حكم الشارع بصحّة البيع أو لزومه ، أمّا في الحكم التكليفي ـ كما فيما نحن فيه ـ فغير معقول ، لأن معنى قيام المصلحة في جعل الوجوب حصولها بنفس جعله ، وكذا في جعل الحرمة ، والحال أن الغرض في التكليفيّات لا يحصل إلاّ بالإتيان بالمتعلّق في الواجب وتركه في الحرام.

الطريق السابع

قال السيد البروجردي : وأمّا أصحابنا الإماميّة ، فلما توجّهوا إلى الفرق بين الوجوب التعييني والتخييري ، وأن الوجوب التعييني هو تحتّم المولى عبده بإتيان شيء ، والوجوب التخييري هو تحتّم المولى عبده بإتيان شيئين أو الأشياء على سبيل الترديد النفس الأمري ، زادوا على تعريف الواجب التخييري بأنه هو الذي يستحق تاركه لا إلى بدلٍ العقاب.

فالوجوب التخييري حقيقة هو : إيجاب المولى عبده نحو شيئين أو أشياء على سبيل الترديد النفس الأمرى وتعلّقه بالأطراف على وجه الترديد الواقعي ، كتردّد العلم الإجمالي بين الأطراف.

وليعلم أن ترديد الوجوب هاهنا ترديد واقعي كما أشرنا إليه ، والترديد في

٣٢٩

المعلوم بالعلم الإجمالي ظاهري ، وإن كان في نفس العلم واقعياً أيضاً.

ولا يخفى المراد بقولهم «لا إلى بدلٍ» في تعريف الوجوب التخييري ، ليس هو البدل في قبال الأصل كما هو المصطلح في بعض المقامات الأُخر ، بل معناه هو الفرد التخييري كما هو واضح.

فهذا نظره كما في تقرير بحثه (١).

ومن هنا نسب إليه الأُستاذ القول بأن حقيقة الوجوب التخييري عبارة عن تعلّق التكليف بالمردد ، في قبال التعييني حيث يتعلّق بالمعيّن.

وإذا كان هذا رأيه ، فلا يمكن المساعدة عليه أصلاً.

الطريق الثامن

قال في (المحاضرات) (٢) : الذي ينبغي أن يقال في هذه المسألة ـ تحفّظاً على ظواهر الأدلّة ـ هو : أن الواجب أحد الفعلين أو الأفعال لا بعينه ، وتطبيقه على كلٍّ منهما في الخارج بيد المكلّف ، كما هو الحال في موارد الواجبات التعيينيّة ، غاية الأمر أن متعلّق الوجوب في الواجبات التعيينية هو الطبيعة المتأصّلة والجامع الحقيقي ، وفي الواجبات التخييرية هو الطبيعة المنتزعة والجامع العنواني.

(قال) ولا مانع من تعلّق الأمر بالجامع الانتزاعي ، بل إنه تتعلّق به الصفات الحقيقية كالعلم ـ كما في مورد العلم الإجمالي ـ ، فضلاً عن الشرعي وهو أمر اعتباري ، فإنّه لا ريب في تعلّقه بالجامع الاعتباري كتعلّقه بالجامع الذاتي كالإنسان ، فلا مانع من اعتبار الشارع ملكيّة احدى الدارين للمشتري إذا قال البائع : بعت إحداهما ، بل ذلك واقع في الشريعة كما في باب الوصيّة.

__________________

(١) الحجة الفقه ١ : ٢٠٩ ـ ٢١٠.

(٢) محاضرات في أُصول الفقه ٣ / ٢٢٢.

٣٣٠

إذن ، يكون متعلّق الأمر عنوان «الأحد» ، ومجرّد عدم الواقعية له لا يمنع من تعلّق الأمر به ، إذ المفروض تعلّقه بالطبيعي الجامع ، ولا فرق بين الجامع المتأصّل والانتزاعي ... وهذا هو مقتضى ظواهر الأدلّة من جهة اشتمالها على «أو» ، وحينئذٍ يكون الغرض قائماً بهذا العنوان ، وهو يتحقق بالإتيان بأيٍّ من الفردين أو الأفراد ، بلا دخل خصوصيّة شيء منها ... فالمراد من تعلّق الأمر بالجامع الانتزاعي ـ ليس تعلّقه به بما هو موجود في النفس ، ولا يتعدى عن أُفق النفس إلى الخارج ، ضرورة أنه غير قابل لأن يتعلّق به الأمر ويقوم به الغرض ـ إنما هو بمعنى تعلّق الأمر به بما هو منطبق على كلّ واحدٍ من الفعلين أو الأفعال في الخارج ، ويكون تطبيقه على الخارج بيد المكلّف.

ومن هنا يظهر أنه لا فرق بين الوجوب التعييني والتخييري إلاّ في نقطةٍ واحدة ، وهي كون المتعلّق في الأول الطبيعة المتأصّلة كالصّلاة مثلاً ، وفي الثاني الطبيعة المنتزعة كعنوان أحدهما.

وهذا ملخّص هذا الطريق.

مناقشة الأُستاذ

إن العمدة في هذا المسلك كون متعلّق الأمر هو الجامع الانتزاعي ، لكن لا بما هو موجود ذهني ، بل بما هو ملحوظ مرآة لما في الخارج ، فنقول :

إذا كان المتعلّق كذلك ، فما معنى قوله : «مرادنا من تعلّق الأمر به بما هو منطبق على كلّ واحدٍ من الفعلين أو الأفعال في الخارج ويكون تطبيقه على ما في الخارج بيد المكلّف»؟

إن الجامع الانتزاعي موطنه النفس وليس له خارجيّة ـ بل ما في الخارج هو الجامع الحقيقي ـ فإن أراد سراية الأمر بتوسّط هذا الجامع إلى الخارج ، فهذا أيضاً

٣٣١

محال ، لأنّ الخارج ليس بظرفٍ لثبوت الأمر وتعلّقه بل هو ظرف سقوطه ، وبعبارة أُخرى ، فإن الجامع قبل التطبيق أمر ذهني لا خارجية له ، وأمّا بعده ، فإنّ الخارج ظرف سقوط الأمر لا تحقّقه.

هذا أوّلاً.

وثانياً : إن هذا الجامع ينتزعه العقل ، فإن كان مصداق هذا الأحد المفهومي في الخارج هو الأحد المردّد ، فهو يعترف بأن الأحد المردّد لا يتعلّق به التكليف ولا يقوم به الغرض ، فلا بدّ وأن يكون المصداق وما بإزائه في الخارج هو المعيّن ، غير أن هذا المكلّف يطبّقه على هذا الفرد ، والمكلّف الآخر يطبّقه على فردٍ آخر ، فإن كان الغرض قائماً بالقدر المشترك بين الأفراد أصبح التخيير عقلياً ، وإن كان قائماً بفردٍ معيّن خرج عن التخييريّة وكان الواجب تعيينيّاً ، وإن كان لكلّ واحدٍ واحدٍ منها غرض غير أن مجموع الأغراض تزاحمها مصلحة التسهيل ، عاد المطلب إلى طريق المحقق الأصفهاني ... وقد تقدّم سلامة طريقه ثبوتاً عن كلّ ما أُورد عليه ، ومع التنزّل عنه ، فإن طريق السيد الخوئي يكون أحسن الطرق والمسالك في الباب.

وتلخّص : إن هذا الطريق وإن كان أحسن الوجوه وأقربها إلى النصوص ، لكنّ الإشكال فيه من جهة الغرض باق ، لأنّ العنوان الانتزاعي لا يحمل الغرض بل المعيّن هو الحامل له ، لكن المفروض أنّ الواجب هنا غير معيّن. لأنه الأحد الخارجي ، والأحد المردد خارجاً محال ... فلا مناص من أن يكون الواجب كلّ من الأفراد بخصوصه ، ويكون في كلّ فردٍ فردٍ مصلحة ، فيقع التزاحم بين تلك الأغراض والمصالح ومصلحة التسهيل ، وهو مبنى المحقق الأصفهاني.

لكن تقدّم أن في مبنى المحقق الأصفهاني اشكالين :

٣٣٢

أولاً : إنه غير متطابق مع الأدلّة في مقام الإثبات.

وثانياً : إنّ الوجوب المشوب بجواز الترك مرجعه إلى الوجوب المشروط ، إلاّ أن يرفع بالتحقيق الأتي إن شاء الله.

تحقيق الأُستاذ

واختار الشيخ الأُستاذ دام ظلّه الطريق الأخير في الدورة السابقة ، وذكر أنه كان مختاره في الدورة الأُولى ـ في النجف الأشرف ... وكان حاصل ما أفاده : أنّه إذا كان متعلّق التكليف هو الجامع الانتزاعي ، فلا بدّ وأن يكون هو الحامل للغرض ، وأن يصحّ البعث إليه ... فهنا ثلاثة مراحل.

أمّا أن الجامع الانتزاعي هو المتعلّق ، فهو مقتضى ظواهر النصوص ، كما أنه سالمٌ من محذور تعدّد العقاب. وأمّا البعث والتحريك نحوه ، فهو بلحاظ تطبيقه على الفرد ، وهو بيد المكلّف ، فلا مشكلة في هذه المرحلة. وتبقى مرحلة قيام الغرض ، لأنّ الغرض يكون قائماً بما يتعلّق به التكليف ، وإذا كان المتعلّق هو الجامع الانتزاعي فهل يصلح لأن يقوم به الغرض؟

قال دام ظلّه : إنّ بيان (المحاضرات) غير وافٍ لحلّ المشكلة في هذه المرحلة. فلا بدّ من التحقيق في ملاك ما يقال من ضرورة قيام الغرض بنفس متعلّق التكليف ، فأفاد ـ في كلتا الدورتين ـ بأن صور المسألة مختلفة :

فقد : يتّحد المتعلّق والحامل للغرض كما في الأمر بالصّلاة ، فإنّها هي متعلّق التكليف وهي حاملة الغرض.

وقد يقع التخلّف ، بأن يكون العنوان متعلّق التكليف والمعنون هو الحامل للغرض ، كما في الأمر بإكرام من المسجد ، حيث يكون الغرض قائماً بالفرد المعيّن خارجاً.

٣٣٣

وقد يكون المتعلّق هو الملازم لعنوانٍ كان الغرض مترتباً عليه ، كما في التكليف الناسي ، بناءً على مسلك المحقق الخراساني ، إذ لا يعقل توجّه التكليف إلى «الناسي» لأنه بذلك ينقلب ذاكراً ، بل يتوجّه إلى عنوان «كلاه قرمز» ـ كما مثّل هو في الدرس ـ وهذا العنوان ملازم للناسي وهو موضوع الغرض.

فعليه ، لا يلزم أن يكون حامل الغرض هو المتعلّق ، ولا برهان على ذلك ، بل اللاّزم أن يكون تعلّق التكليف بالعنوان منتهياً إلى التحريك نحو الموضوع الحامل للغرض.

وما نحن فيه كذلك ، فإنّ التكليف قد تعلّق بالجامع الانتزاعي ، وموطنه الذهن ، فليس حاملاً للغرض ، إلاّ أن تعلّقه به موجب للتحرك نحو المصداق الخارجي ، ويكون المصداق هو الحامل له.

وبهذا البيان يرتفع الإشكال عن طريق المحقق الخوئي ، وما ذكره من أن تعلّق التكليف بالجامع الانتزاعي يكشف عن كون الغرض قائماً به ، فليس برافعٍ له.

الرأي النهائي

وبعد أن رفع الأُستاذ الإشكال عن مسلك السيد الخوئي ، والذي كان قد اختاره سابقاً ، لكونه الأقرب إلى ظواهر النصوص ، ذكر أنّ مقتضى الدقّة في النصوص شيء آخر غير المسلك المزبور ... فأورد بعض النصوص ، واستظهر منها كون المجعول في موارد الوجوب التخييري ـ الذي هو مفاد «أو» ـ هو «التخيير» :

* محمد بن أحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن أبي حمزة : عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سمعته يقول : «إنّ الله فوّض إلى

٣٣٤

الناس في كفارة اليمين ، كما فوّض إلى الإمام في المحارب أن يصنع ما يشاء. وقال : كلّ شيء في القرآن «أو» فصاحبه فيه بالخيار» (١).

فالخبر ظاهر في أنّ المجعول في هذه الموارد هو «تخيير المكلّف» و «تفويض الأمر إليه» ولا فرق بين لسانه ولسان جعل الخيار في أبواب الخيارات ، كقوله عليه‌السلام : «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» (٢) وقوله : «صاحب الحيوان بالخيار بثلاثة أيّام» (٣).

فإن قيل : هذا ما يرجع إليه الوجوب التخييري.

نقول : حمل المبدا على النتيجة خلاف الظاهر ، بل مفاد الخبر جعل المكلّف مختاراً كما جعل الإمام عليه‌السلام مختاراً في المحارب ، ولسانهما واحد ، وظاهرهما واحد ... فيكون الحاصل : كما أن البيّعين بالخيار بين الفسخ وعدمه ، كذلك من عليه الكفّارة بالخيار بين العتق والصيام والإطعام ، نعم الفرق هو أنّ المجعول هناك هو الخيار الحقّي ، والمجعول هنا هو الخيار الحكمي ، وحكم الأول أنه قابل للإسقاط ، وحكم الثاني أنه مثل الخيار في الهبة غير قابلٍ للإسقاط.

والظاهر تماميّة سند الرواية ، و «أبو حمزة» هو «الثمالي».

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : «في كفّارة اليمين ، يطعم عشرة مساكين ، لكلّ مسكين مدّ من حنطة أو مدّ من دقيق وحفنة أو كسوتهم لكلّ انسان ثوبان أو عتق رقبة ، وهو في ذلك بالخيار أي ذلك شاء صنع» (٤).

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٢ / ٣٧٧ الباب ١٢ من أبواب الكفارات.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ / ٦ الباب الأول من أبواب الخيار.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ / ٥ الباب ٣ من أبواب الخيار.

(٤) وسائل الشيعة ٢٢ / ٣٧٥ ، الباب ١٢ من أبواب الكفارات.

٣٣٥

فالمجعول الشرعي كونه بالخيار.

والسند صحيح بلا كلام.

قال الأُستاذ : إن هذا هو الظاهر من الأخبار ، وإذ لا مانع ثبوتاً وإثباتاً من الأخذ به ، فمقتضى الصناعة العلميّة هو الأخذ بالظهور.

ويبقى الكلام في ضرورة تصوير الجامع بين الأفراد ....

ولنرجع إلى الروايات في ذلك ، فإنّا نرى أنّ التخيير في الوجوب التخييري شرعي ـ وليس بعقلي ـ وقد وجدنا أن مقتضى الظواهر هو «الكفارة» و «الفدية» وهذا هو الواجب لا «أحد الأُمور» :

وعن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : «سألته عن المحرم يصيد الصيد بجهالةٍ. قال : عليه كفّارة».

فالمجعول على ذمة المكلّف هو «الكفارة» ... فكان ما يكفر به الذنب أن «يصوم ستين يوماً» أو «يطعم ستين مسكيناً» أو «يعتق رقبةً» وكلّ واحدٍ من هذه الأُمور مصداق للجامع وهو «الكفارة» ، وقد فوّض الأمر إلى المكلّف في التطبيق والعمل ، كما فوّض إلى الإمام عليه‌السلام في المحارب إذ قال تعالى (إِنَّما جَزاءُ الَّذينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ...).

ثم قال الراوي :

قلت : إنه أصابه خطأ.

قال : وأيّ شيء الخطأ عندك؟

قلت : ترمي هذه النخلة فتصيب نخلةً أُخرى.

قال : نعم ، هذا الخطأ وعليه الكفارة».

فكان ما «عليه» هو «الكفارة».

٣٣٦

قلت : إنه أخذ طائراً متعمّداً فذبحه وهو محرم.

قال : عليه الكفارة.

قلت : جعلت فداك ، ألست قلت إن الخطأ والجهالة والعمد ليسوا بسواء ...»(١).

وسندها صحيح.

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على كعب بن عجرة الأنصاري والقمّل يتناثر من رأسه. فقال : أتؤذيك هوامك؟ فقال : نعم. قال : فأنزلت هذه الآية (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ).

فالواجب هو عنوان «الفدية» (مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) و «من» هذه بيانية.

(قال عليه‌السلام) : «فأمره رسول الله بحلق رأسه وجعل عليه الصيام ثلاثة أيام والصدقة على ستة مساكين ، لكلّ مسكين مدّان ، والنسك شاة.

(قال عليه‌السلام) : «وكلّ شيء في القرآن «أو» فصاحبه بالخيار يختار ما شاء»(٢).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام :

«في رجلٍ أتى امرأته وهي صائمة وهو صائم. قال : إن كان استكرهها فعليه كفّارتان ، وإن كانت مطاوعته فعليه كفارة وعليها كفارة» (٣).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : «في الرجل يلاعب أهله أو جاريته وهو في قضاء شهر رمضان ، فيسبقه الماء فينزل. قال : عليه من الكفارة مثل ما على الذي

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٣ / ٦٩ الباب ٣١ من أبواب كفّارات الصيد.

(٢) وسائل الشيعة ١٣ / ١٦٦ الباب ١٤ من أبواب بقية كفّارات الإحرام.

(٣) وسائل الشيعة ٢٨ / ٣٧٧ الباب ١٢ من أبواب بقيّة الحدود والتعزيرات.

٣٣٧

يجامع في رمضان» (١).

قال الأُستاذ :

ولو تنزلنا عن هذا ، فالمختار من بين الوجوه المتقدمة هو مسلك السيد الخوئي.

هذا تمام الكلام في الواجب التخييري بين المتباينين.

التخيير بين الأقل والأكثر

وقد وقع الكلام بين الأعلام في جواز التخيير بين الأقل والأكثر ، واختلفت كلماتهم فيه ، بين قائل : بالجواز مطلقاً ، وقائل بالاستحالة مطلقاً ، ومفصّل بين ما كان تدريجيّ الحصول فلا يجوز كالتسبيحات ، وما كان دفعيّ الحصول فيجوز ، كدوران الأمر بين رسم الخط القصير أو الطويل ، على أن يوجد الخط دفعةً.

ومنشأ الخلاف هو :

أوّلاً : إنه إن وجب الأقل ، فإنّه دائماً موجود في ضمن الأكثر ، فإذا تحقق حصل الغرض من الأمر ، ويكون الأكثر حينئذٍ بلا غرض ، فلما ذا يكون واجباً؟

وثانياً : إن معنى «الوجوب» وحقيقته : ما لا يجوز تركه ـ اللهم إلاّ في الوجوب التخييري ، حيث يجوز ترك أحد العدلين مثلاً بالإتيان بالعدل الآخر ـ ولكنّ التخيير بين الأقلّ والأكثر يستلزم القول بجواز ترك الواجب ، لأنّه مع الإتيان بالأقل يسقط الأكثر عن الوجوب.

ولا يخفى ورود هذين المحذورين سواء في مورد التدريجي والدفعي ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٠ / ١٣٠ الباب ٥٦ من أبواب ما يمسك عنه الصائم.

٣٣٨

فلا وجه لتخصيص المحقق الأصفهاني (١) أحدهما بالتدريجي والآخر بالدفعي.

رأي المحقق الخراساني

وذهب المحقق الخراساني إلى الجواز مطلقاً ، وحاصل كلامه (٢) :

تارةً : يكون الغرض قائماً بالأقل بحدّه ، وبالأكثر بحدّه ، بحيث يكون للحدّ دخلٌ في الغرض. فهنا لا محيص عن القول بالتخيير.

وأُخرى : يكون الغرض قائماً بذات الأقل بلا دخل للحدّ فيه ، وكذا في الأكثر. فهنا لا يعقل التخيير.

ففي التسبيحات ـ مثلاً ـ إن كان الغرض الواحد قائماً بالأقل وبالأكثر بحدّهما ، كانت التسبيحة الواحدة حاملةً للغرض كالتسبيحات الثلاث ، فلو أوجب الأقلّ دون الأكثر لزم الترجيح بلا مرجّح ، فلا محالة يكون المكلّف مخيّراً ـ بحكم العقل ـ بين الإتيان بالأقل أو الأكثر ، لأنّ المفروض كون الواجب هو الجامع بينهما ، وكلّ منهما مصداق له بلا فرق.

أمّا لو تعدّد الغرض ، وكان كلٌّ منهما حاملاً لغرضٍ غير الغرض من الآخر ولا يمكن الجمع بينهما ، كان التخيير شرعيّاً ، إذ يكون كلٌّ منهما واجباً مع جواز تركه إلى البدل ، كما تقدّم في المتباينين.

فإن قلت : هذا إنما يتمّ في الدفعي ، لكون كلٍّ من الأقل والأكثر طرفاً فيتحقق التخيير ، وأمّا مع الحصول بالتدريج ، بأن يوجد الأقل ويصير كثيراً حتى يصل إلى الأكثر فلا ، لحصول الامتثال بالأقل.

فأجاب : بعدم الفرق ، لإمكان ترتب الغرض على التسبيحة بقيد الوحدة

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٢٧٣.

(٢) كفاية الأُصول : ١٤٢.

٣٣٩

وعليها بقيد الثلاثة ، وإذا كان كلّ منهما حاملاً للغرض ، كان تعيين الأقل منهما ترجيحاً بلا مرجّح.

قال الأُستاذ :

ومحصّل كلامه هو : إن جميع موارد التخيير بين الأقل والأكثر ـ حيث يكون كلّ منهما مقيّداً بحدّه ـ ترجع إلى التخيير بين المتباينين ، من قبيل التباين بين البشرطلا مع البشرطشيء ... وعلى هذا الأساس قال بالتخيير.

لكنّ هذا خلاف الفرض في مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، إذ يكون الأقل موجوداً في ضمن الأكثر ، فليس المراد من الأقل هو البشرطلا عن الأكثر ... حتى يرجع الحال إلى ما ذكره.

فما أفاده ليس حلاًّ للإشكال ورافعاً للمحذور المزبور سابقاً.

المختار

فالمختار في محلّ الكلام هو القول الثاني ، أي استحالة التخيير.

والعجب من السيّد الاستاذ أنه بعد ذكر محصَّل ما جاء في الكفاية قال ما نصه : «وبه يصحّح التخيير بين الأقل والأكثر وإنْ كانت النتيجة إرجاعه إلى التخيير بين المتباينين ، لإرجاعه إلى التخيير بين المأخوذ بشرط لا والمأخوذ بشرط شيء. فهو تصحيح للتخيير بين الأقل والأكثر بتخريجه على التخيير بين المتباينين ، لا التزام بالتخيير بين الأقل والأكثر» (١) فتدبر.

تفصيل المحقق الإيرواني

وقال المحقق الإيرواني (٢) : بأن محلّ الإشكال هو ما إذا كان نفس الفعل

__________________

(١) منتقى الأُصول ٢ / ٤٩٦.

(٢) نهاية النهاية ١ / ٢٠١.

٣٤٠