تحقيق الأصول - ج ٣

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-39-2
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٣٩٩

الاعتبارات» (١).

مختار الأُستاذ

قال الأُستاذ : إنه إن كان الوجوب هو الإرادة ، وكانت الشدّة والضعف من الحالات ، جرى الاستصحاب بلا إشكال ، لكنّ الكلام في المبنى ، فإنّ الحق هو بساطة الوجوب ، وأنه غير الإرادة ، لكونها من التكوينيّات ، بل هو إمّا من الأُمور الاعتباريّة وامّا من الانتزاعيّات ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، لكونه من قبيل القسم الثاني من قسمي الثالث من أقسام الكلّي.

نظريّة السيد الحكيم في الاستصحاب

وقال السيد الحكيم ـ معلّقاً على قول (الكفاية) : فلا مجال للاستصحاب ـ ما نصّه:

«يكفي في إثبات الجواز استصحاب الرضا بالفعل الثابت حال وجوبه ، إذ لو ثبت الرّضا به بعد ارتفاع الوجوب لا يكون وجوداً آخر للرضا ، بل يكون الرضا الأوّل باقياً ، وإذا ثبت الرضا به ـ ولو بالاستصحاب ـ كان جائزاً عقلاً ، لأنّ الأحكام التكليفيّة إنما تكون موضوعاً للعمل في نظر العقل بمناط حكايتها عن الإرادة والكراهة والرضا لا بما هي هي ، ويكفي في إثبات الاستحباب استصحاب نفس الإرادة النفسانية ، إذ مجرّد رفع الوجوب لا يدلّ على ارتفاعها ، وإذا تثبت الإرادة المذكورة ثبت الاستحباب ، لأنه يكفي فيه الإرادة للفعل مع الترخيص في الترك الثابت قطعاً بنسخ الوجوب» (٢).

وتوضيح كلامه :

أوّلاً : إنه قد كان مع الوجوب الرضا بالفعل ، وبعد النسخ يبقى الرّضا السّابق

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٢٦٣.

(٢) حقائق الأُصول ١ / ٣٣١.

٣٠١

بالاستصحاب. لا يقال : الرضا ليس من المجعولات الشرعيّة كي يجري فيه الاستصحاب. لأن الوجوب ـ كغيره من الأحكام التكليفيّة ـ إنما يكون موضوعاً للعمل في نظر العقل بمناط حكايته عن إرادة المولى ، فكلّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات ، وهذا روح الحكم في نظر العقل.

وثانياً : إنه مع بقاء الرضا السابق يتمّ الجواز العقلي.

وثالثاً : إنه يكفي في إثبات الاستحباب استصحاب نفس الإرادة النفسانيّة.

وبناءً على ما ذكر ، فإنه مع بساطة الوجوب يكون رضا المولى متحقّقاً ، فإذا نسخ الوجوب استصحب الرضا ، ويترتّب عليه الأثر ، وهو حكم العقل بلزوم العمل اتّباعاً لإرادة المولى ورضاه ، ويفتى بالاستحباب.

أقول :

العمدة في هذه النظريّة ، هي أنه قد أجرى الاستصحاب في الإرادة التي هي منشأ الوجوب ، فأثبت بها موضوع حكم العقل ، بخلاف المحقق العراقي ، حيث أجراه في نفس الوجوب وجعله بمعنى الإرادة ، فلا يرد على هذه النظريّة ما ورد على المحقّق المذكور.

لكنّ التأمّل فيها هو : أنّ الوجوب ـ على كلّ حالٍ ـ إمّا بسيط وامّا مركّب ، وظاهر الكلام أوفق بالثّاني ، فإن أراد التركيب الانضمامي بأنْ يكون الوجوب مركّباً بالانضمام من الرضا بالفعل مع المنع من الترك ، فقد عرفت تماميّة الاستصحاب بناءً عليه ، وإن أراد الاتحادي ، فقد عرفت ما فيه. وأمّا على القول بالبساطة ، فما هو المراد من قوله «الرضا بالفعل الثابت حال وجوبه»؟ الظاهر أن «الرضا» حالة نفسانيّة خارجة عن الوجوب لازمة له ، فإذا زال الوجوب زال الرّضا بتبعه ، فلا يبقى شيء لكي يستصحب.

وهذا تمام الكلام في النسخ.

٣٠٢

الوجوب التخييري

٣٠٣
٣٠٤

مقدمة

إنّ هذا البحث مهم علماً وعملاً ....

إنه لا ريب في أنّ في الشريعة واجبات يجوز تركها إلى بدلٍ كخصال الكفارة ، وواجبات لا يجوز تركها إلى بدل كالصّلاة ، وتسمّى الأُولى بالواجبات التخييريّة والثانية بالواجبات التعيينيّة ، ولكلٍّ من القسمين أحكام وآثار ، ففي الأوّل يستحق العقاب لو ترك جميع الأفراد ، لكن استحقاق الثواب يكون بالإتيان بواحدٍ منها ، ومن ذلك يظهر أن متعلّق الإرادة وحامل الغرض هو أحد الأفراد ، ولذا وقع الكلام في تصوير هذا التكليف ، وإذا أمكن ذلك في الأحكام التكليفيّة طبّق في الأحكام الوضعيّة كذلك ، كما في مسألة الضمان في تعاقب الأيدي على الماء المغصوب والمأخوذ بالعقد الفاسد.

والإشكال العمدة ينشأ من نقطتين :

الأُولى : كيف يمكن أن تتعلّق الإرادة المشخّصة الموجودة ، بأحد الأشياء أو الشيئين ، لأن الأحد مبهم ، فكيف يُعقل تعلّق المعيّن المتشخّص بالمبهم؟

والثانية : إنه لا ريب في أن الواجب التخييري بعث مولوي ، فكيف يكون البعث نحو «الأحد»؟ مضافاً إلى أنه مضايف للانبعاث ، والانبعاث بالمردّد غير معقول.

٣٠٥

فإمّا يصوّر الوجوب التخييري بحيث يتلاءم مع هذه البراهين ، وامّا يرفع اليد عن ظواهر الأدلّة من أجلها وينكر من أصله!

فلننظر في الكلمات والأقوال ....

كلام المحقق الخراساني وشرحه

قال في (الكفاية) : إذا تعلّق الأمر بأحد الشيئين أو الأشياء ، ففي وجوب كلّ واحدٍ على التخيير ، بمعنى عدم جواز تركه إلاّ إلى بدلٍ ، أو وجوب الواحد لا بعينه ، أو وجوب كلّ منهما مع السقوط بفعل أحدهما ، أو وجوب المعيّن عند الله. أقوال.

والتحقيق أن يقال : إنه إن كان الأمر بأحد الشيئين بملاك أنه هناك غرض واحد يقوم به كلّ واحد منهما ، بحيث إذا أتى بأحدهما حصل به تمام الغرض ولذا يسقط به الأمر ، كان الواجب في الحقيقة هو الجامع بينهما ، وكان التخيير بينهما بحسب الواقع عقليّاً لا شرعيّاً .... وإن كان بملاك أنه يكون في كلّ واحدٍ منهما غرض لا يكاد يحصل مع حصول الغرض في الآخر بإتيانه ، كان كل واحدٍ واجبا بنحوٍ من الوجوب يستكشف عنه تبعاته ، من عدم جواز تركه إلاّ إلى الآخر ، وترتب الثواب على فعل الواحد منهما والعقاب على تركهما (١) ....

أقول :

لقد ذكر رحمه‌الله أربعة أقوالٍ فقط ، لكنّها في المسألة أكثر منها ، واختار منها القول الرابع وحاصله : إن المتعلّق في الوجوب التخييري لا يختلف عنه في التعييني إلاّ من جهة سنخ التكليف ، فإنّ التخييري مشوبٌ بجواز الترك إلى بدلٍ بخلاف التعييني ، فكانا مشتركين في عدم جواز الترك ، لأن الواجب ما لا يجوز

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٤٠.

٣٠٦

تركه ، غير أنّ التخييري يجوز ترك أحد فرديه مثلاً بالإتيان بفردٍ آخر ، والتعييني لا يوجد له بديل.

إذن ، لا يرد الإشكال : بأنّ البعث والإرادة لا يتعلّق بالمردّد ، لأنه لا ماهيّة له ولا وجود. والإشكال : بأن البعث والانبعاث متضايفان ، فكيف يكون الانبعاث مردّداً؟

ويبقى اشكال اختلاف الآثار فأجاب : بأن هذا الاختلاف ينشأ من اختلاف سنخ الوجوب ، فإنّ سنخ الوجوب في التخييري هو ترتب العقاب على ترك الكلّ والثواب على الإتيان بأحدها ... أما في التعييني ، فإنهما يترتبان على ترك أو فعل نفس ذاك المتعلّق المعيّن.

وقد ذكر أنّه إذا كان هناك غرض واحدٍ يقوم به كلّ واحد من الفردين ، فإنّ التخيير حينئذٍ عقلي لا شرعي ، أي يكون المتعلّق هو الطبيعة ، والبرهان على ذلك هو قاعدة أن الواحد لا يصدر إلاّ من الواحد ، فيكون ذلك الواحد بين تلك الأفراد هو الطبيعة. وامّا إذا كان هناك غرضان ، بأن يقوم بكلّ من الفردين غرض مستقل عن الآخر ، لكن بينهما تزاحم ولا يمكن اجتماعهما في الوجود ، فلا محالة تكون الإرادة متعلّقة بكلٍّ من الفردين مع جواز تركه إلى الفرد الآخر.

ثم إنّه ذكر الأقوال الأُخرى وناقشها.

فأمّا القول : بأنّ المتعلّق للإرادة هو «الأحد لا بعينه» فقد أجاب عنه : بأن هذا «الأحد» ليس مفهوميّا ، إذ ليس هو متعلّق الغرض حتى تتعلّق به الإرادة ، بل هو «الأحد» المصداقي ، لكنّ «الأحد لا بعينه» لا مصداق له. وقد أوضح هذا في الحاشية : بأن «الأحد» يصحّ تعلّق العلم به كما في موارد العلم الاجمالي ، وكذا يصحّ تعلّق الأمر الانتزاعي به كتعلّق الوجوب بأحد الشيئين ، لكنّ الإرادة لا تتعلّق

٣٠٧

بالمردّد ، لأنّها علّة الوجود ولا يمكن أن يكون معلولها مبهماً ، ولا يعقل البعث والتحريك نحو المبهم ... فظهر الفرق بين العلم والوجوب وبين البعث والإرادة.

وأجاب عن القول بأن الوجوب التخييري هو وجوب كلا الشيئين ، لكن وجوب أحدهما مسقط لوجوب الآخر : بأن الفرضين إن كانا يقبلان الوجود ، فإسقاط أحدهما للآخر مستحيل ، وإن كانا متزاحمين لا يقبلان الوجود معاً ، فأحدهما لا يتحقق ولا تصل النوبة إلى إسقاط الآخر إيّاه.

وعن القول بأن الواجب هو «أحدٌ» معيّن لكن عند الله ... بأنّ المفروض كون كلّ واحدٍ من الشيئين أو الأشياء حاملا للغرض ووافيا به ، فكيف يكون «أحد» معيّن هو الواجب دون الآخر أو الأفراد الأُخرى.

هذا بيان كلام (الكفاية) في هذا المقام.

إشكال المحقق الأصفهاني

وقد أشكل المحقق الأصفهاني (١) ـ وتبعه في (المحاضرات) (٢) و (المنتقى) (٣) ـ بأنّ مستند مبنى المحقق الخراساني هو قاعدة أن الواحد لا يصدر إلاّ من الواحد ، ولكنّها إنما تجري في الواحد الشخصي دون النوعي ... وتوضيحه :

إن البرهان على تلك القاعدة هو : إنّ كلّ معلول حدّ ناقص للعلّة ، وكلّ علّةٍ فهو حدّ كامل للمعلول (وقد وضع أهل الحكمة هذه القاعدة في باب صدور العقل الأوّل أو الفيض الأقدس من الباري عزّ وجلّ. لكنّ الحق جريانها في الفاعل الطبيعي. أمّا الله سبحانه وتعالى فيفعل ما يريد وكلّ الأشياء توجد بإرادته مع تكثرها ...) وعليه ، فالمعلول موجود في رتبة وجود العلّة ، كالحرارة الحاصلة من

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٢٦٦.

(٢) محاضرات في أُصول الفقه ٣ / ٢١٦.

(٣) منتقى الأُصول ٢ / ٤٨٥.

٣٠٨

النار ، فإنها موجودة في رتبة وجودها ، وإلاّ يلزم الترجّح بلا مرجّح ، فيقال : لما ذا وجدت هذه الحرارة ولم توجد تلك الأُخرى ... فإذا كان وجود المعلول ووجوبه واحداً ، فلا بدّ وأن تكون علّته كذلك ، لأن العلّة إذا تعدّدت تعدّد وجود المعلول ووجوبه ، والمفروض أنه واحد ، والواحد لا يتعدّد.

هذه هي القاعدة.

فقال المحقق الأصفهاني : بأنها إنما تجري في الواحد الشخصي ، أما النوعي ، فيمكن فيه صدور الواحد عن الكثير مع الاختلاف في حقيقة الكثير ، فإن الحرارة قد تحصل من النار وهي من الجواهر ، وقد تحصل من العرض كالحركة ، فقد صدر الواحد من الكثير ... وأيضاً ، فإنّ تحقق الأجناس بالفصول ، إذ الفصل علّة لوجود الجنس كالناطقيّة بالنسبة إلى الإنسان ، مع أن الناطقيّة مباينة للفصل الموجد لنوع الفرس مثلاً ، فكانت المتباينات علةً لوجود الشيء الواحد وهو الجنس.

وتلخّص : إن ما ذهب إليه المحقق الخراساني من كون الجامع هو المتعلّق غير صحيح.

تحقيق الأُستاذ

وأفاد الأُستاذ دام بقاه حول القاعدة بقدر ما يرتبط بعلم الأُصول : أنّ للواحد أنحاءً من الوجود :

١ ـ الواحد بالشخص ، مثل زيد وعمرو ، من حيث كونه زيداً وكونه عمراً.

٢ ـ الواحد بالنوع ، مثل زيد وعمرو من حيث الإنسانيّة.

٣ ـ الواحد بالعنوان ، مثل وجود زيد ووجود عمرٍو وهكذا ... فإنّ العنوان مفهوم الوجود ، وحقيقة الوجود هو المعنون ، والنسبة بينهما نسبة العنوان

٣٠٩

والمعنون ، لا الكلّي والفرد ، ولا الطبيعي والمصداق.

فهذه مقدمة.

والمقدمة الثانية : إنّ الطبيعي موجود في الخارج بلا ريب ، فليس من الأُمور الانتزاعيّة العقليّة ، وليس من الاعتباريات كالزوجيّة والملكيّة ، غير أنّ وجوده وجود فرده ، كما أن الأُمور الانتزاعيّة موجودة لكن بوجود منشأ الانتزاع ... والحاصل : إن الطبيعي كالإنسان موجود في الخارج ، لكن بوجود زيد مثلاً.

والمقدّمة الثالثة : إن «الوحدة» و «التعدد» متقابلان ، والاجتماع بينهما في أيّ عالمٍ محال ، فلا يجتمع الواحد بالشخص مع المتعدّد بالشخص ، وكذلك الواحد بالنوع ، والواحد بالعنوان.

وبعد المقدّمات نقول :

إنّ المحقق الأصفهاني يعترف بوجود الطبيعي خارجاً ، وأنّ نسبته إلى الخارج نسبة الآباء إلى الأبناء ـ لا نسبة الأب الواحد إلى الأبناء كما قال الرجل الهمداني ـ فنقول : هذا الطبيعي إمّا مختص أو مشترك؟ والأول خلف الفرض ، وعلى الثاني : هل لوجود هذا الطبيعي علّة أو لا؟ والثاني محال ، ومنافٍ لقوله بأنّ الاجناس موجودة وعللها هي الفصول ، وإذا كان له علّة ، فهل لتلك العلّة حيثيّة غير حيثيّة الخصوصيّة؟ إنّه لا بدّ وأن يكون فيها حيثيّة تصلح بها لأن تكون علةً لماهيّةٍ مشتركة ، إذ ما ليس فيه إلاّ حيثيّة الخصوصيّة لا يمكن أن يكون علةً لماهيّة ذات حيثيّة مشتركة ....

إذن ، لا مناص من الالتزام بأنّه : لو حصل غرض وكان فيه حيثيّة القدر المشترك ، فلا بدّ وأن يكون له منشأ هو القدر المشترك ... وهذا معنى كلام المحقق الخراساني حين يقول باستحالة حصول الأثر الواحد من كلّ واحدٍ من الفردين أو

٣١٠

الأفراد ويكون مبدأ الأثر متعدّداً ... لأنّ الأثر موجود في مرتبة المبدا ، فإذا كان واحداً والمبدأ متعدّد ، لزم اجتماع الوحدة والتعدّد في الشيء الواحد ، وهو محال.

وبالجملة ، فإنّ قاعدة الواحد وإن طرحت في الواحد الشخصي ، لكن الملاك لها موجود في الواحد النوعي والواحد العنواني أيضاً ، فإنّه ـ على القول بثبوت الواحد النوعي والواحد العنواني ـ يكون للمعلول وحدة نوعيّة ، فلو لم يكن في العلّة وحدة نوعية كذلك ، يلزم عدم السنخيّة بين العلّة والمعلول.

فظهر اندفاع الإشكال على (الكفاية) في هذا القسم من كلامه.

اشكالات المحاضرات على الكفاية

وأورد في المحاضرات (١) على القسم الآخر من كلامه حيث قال : أنه إذا كان هناك غرضان متزاحمان ، فلا بدّ من الالتزام بالوجوبين ، إلاّ أن كلاًّ منها مشوب بالترك ، بوجوه :

أوّلاً : إن ذلك مخالف لظواهر الأدلّة ، فإن الظاهر من العطف بكلمة «أو» هو أن الواجب أحدهما لا كلاهما.

وثانياً : إن فرض كون الغرضين متضادّين فلا يمكن الجمع بينهما في الخارج ، مع فرض كون المكلّف قادراً على إيجاد كلا الفعلين ، بعيد جداً ، بل هو ملحق بأنياب الأغوال ، ضرورة أنا لا نعقل التضادّ بين الغرضين مع عدم المضادّة بين الفعلين ، فإذا فرض أن المكلّف متمكّن من الجمع بينهما خارجاً ، فلا مانع من إيجابهما معاً عندئذ.

وثالثاً : إنا لو سلّمنا ذلك فرضاً وقلنا بالمضادّة بين الغرضين وعدم إمكان

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٣ / ٢٢٠.

٣١١

الجمع بينهما في الخارج ، إلاّ أن من الواضح جدّاً أنه لا مضادّة بين تركهما معاً ، فيتمكّن المكلّف من ترك كليهما بترك الإتيان بكلا الفعلين خارجاً. هذا من ناحية. ومن ناحية أُخرى : إن العقل مستقلّ باستحقاق العقاب على تفويت الغرض الملزم ، ولا يفرّق بينه وبين تفويت الواجب الفعلي. ومن ناحية ثالثة : إن فيما نحن فيه وإن لم يستحق العقاب على ترك تحصيل أحد الغرضين عند تحصيل الآخر ، من جهة عدم إمكان الجمع بينهما في الخارج ، إلاّ أنه لا مانع من استحقاق العقاب عليه عند تركه تحصيل الآخر. فالنتيجة أنه يستحق العقابين عند جمعه بين التركين.

جواب الأُستاذ

وأجاب الأُستاذ دام بقاه :

أمّا عن الأوّل فبأنه : خلاف القاعدة ، لأن صاحب الكفاية يرى أن التكليف غير متعلّق بأحدهما ، لا مفهوما ولا مصداقا ، لأن الأحد المفهومي غير حاملٍ للغرض حتى تتعلّق به الإرادة ، والأحد المصداقي هو المردد ، والمردّد لا يقبل الوجود حتى يتعلّق به التكليف والإرادة ، وإذ لم يمكن ثبوتاً تعلّق الإرادة بالأحد ، فلا بدّ من التصرّف في مقام الإثبات وظواهر الأدلّة ... فالإشكال غير وارد عليه.

على أنّ القول بتعلّق التكليف بالأحد أيضاً خلاف ظواهر الأدلّة ، لعدم وجود هذا العنوان فيها ، بل الموجود هو العطف ب «أو» وهي في أمثال المقام للترديد ، وأمّا «الأحد» فانتزاع من العقل وليس من ظاهر الأدلّة.

وأمّا عن الثاني فبأن : التباين بين الأغراض شائع تكويناً وعقلاء ، فقد يستعمل دواء لغرض العلاج من مرضٍ فيكون سبباً لحصول مرضٍ آخر.

وأمّا عن الثالث ، فقد تقدّم في بحث الترتب بأنّه : لو لم تكن قدرة على

٣١٢

الفعلين فلا استحقاق للعقابين ... وهذا كلام المحقق الخراساني. ولقد أشكل هناك على السيّد الميرزا الشيرازي بلزوم تعدّد العقاب ، وكان السيّد لا يلتزم بذلك مع قوله بالترتب. أمّا المحقق الخراساني ، فقد أنكر الترتب وصحّح عباديّة المهم عن طريق الغرض ، فهو قائل بوجود الغرضين في الأهم والمهم ، وغير قائل بتعدّد العقاب بترك الغرضين ، بل يتعدد بمخالفة الأمرين ... فالإشكال عليه خلاف القاعدة كذلك.

الاشكال الوارد على الكفاية

ثم قال الأُستاذ : بأن الإشكال الوارد على الكفاية. أمّا في الشق الأوّل فهو : إنّه لا دليل على الوحدة بالنوع في الأغراض ، في الواجبات التخييريّة في الشريعة المقدسة ، فما ذكره موقوف على تماميّة الصغرى ، وإن تصوّرت الوحدة فهي ليست إلاّ الوحدة العنوانيّة.

وأمّا في الشق الثاني ، فالإشكال عليه ـ كما في المحاضرات أخيراً ـ أنه لا ريب في سقوط التكليف في الواجبات التخييريّة ـ العقليّة منها والشرعيّة ـ بالإتيان بكلا الطرفين أو كلّ الأطراف ، وحصول الامتثال بذلك ، فلو كان الغرضان متباينين لم يكن الامتثال حاصلاً ، وكان الأمر باقياً ، والحال أنه ليس كذلك يقيناً.

فما ذكره غير صحيح.

كلام الميرزا النائيني

وذهب المحقق النائيني في تصوير الواجب التخييري ، كما في (أجود التقريرات) (١) إلى أنّ الواجب هو الفرد المردّد والواحد على البدل ، أي هو أحد الشيئين أو الأشياء ، وذلك ، لأنّه لا مانع من تعلّق الإرادة التشريعيّة بالمردد ،

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٢٦٥.

٣١٣

وتوضيحه :

إن الإرادة التكوينية والتشريعية تشتركان في أن كلتيهما إرادة ، لكنهما تفترقان من جهة التكوينيّة والتشريعيّة ، ولكلٍّ منهما أحكام وأقسام. مثلاً : الإرادة من المولى لا فاعليّة لها ، بل الفاعليّة هي لإرادة المكلّف ، والإرادة التشريعيّة تنقسم إلى التعبّدي والتوصّلي ، وهذا غير معقول في التكوينيّة.

ومن ذلك : إن الإرادة التكوينيّة لا يعقل أن تتعلّق بالكلّي ، بل متعلّقها دائماً هو الجزئي الحقيقي ، لأن الإرادة التكوينيّة علّة للوجود ، والعلّة يستحيل تعلّقها إلاّ بالوجود وهو عين التشخّص ، بخلاف الإرادة التشريعيّة ، فإنّها تتعلّق بالكليّات حتى لو قيّد المتعلّق بقيودٍ كثيرة ، كأن يقال : صلّ في المسجد يوم الجمعة ظهراً جماعةً في أوّل الوقت ... والسرّ في ذلك : أنه ما لم يوجد في الخارج أو الذهن فلا تتحقّق له الجزئيّة ....

إذن ... الإرادة التي لا تتعلّق بالمبهم المردّد هي التكوينيّة ، وأمّا التشريعيّة فإنّها تتعلّق به ، إذ التكوينيّة هي العلّة التامّة للوجود ، والمردّد غير قابلٍ للوجود أي لا وجود له ، أمّا التشريعيّة فليست بعلةٍ للوجود ، وإنما أثرها هو إحداث الداعي الإمكاني في نفس العبد ، فقد يمتثل وقد لا يمتثل ، ومن هنا تكون التشريعيّة تابعة للغرض والملاك ، فإن كان الغرض يحصل بأحد الأفراد جاءت الإرادة متعلّقة به كذلك ، وكان الخطاب على طبق الإرادة ، إذ يأمر بالعتق أو الإطعام أو الصوم ليدلّ على أنّ المكلّف به ليس معيّناً ، وليس هو الجامع ، بل المطلوب خصوصيّة كلّ واحدٍ من الأفراد لكن على البدل ، وكذلك الحال في الوصيّة ، إذ يوصي بأحد الشخصين أن يعطى كذا ، أو ينوب عنه في الحج مثلاً ، أو يُعتق في سبيل الله.

إذن ، فما ذهب إليه الميرزا متوافق مع ظهور الأدلّة في الواجب التخييري في

٣١٤

مقام الإثبات ....

فظهر أنْ لا محذور لهذا المبنى حتّى يذكر ويدفع ، فلا يبقى مجالٌ لاستغراب السيّد الأُستاذ من الميرزا قائلاً : «وهذا غريب من مثل المحقق المذكور ، فإنّ اللازم عليه كان بيان ما يحتمل أنْ يكون محذوراً ودفعه ، لا مجرّد عدم وجود المانع لا أكثر من دون بيان وجه ذلك ، فإن ذلك لا يتناسب مع علميّة البحث» (١).

ولا يخفى أنه أيضاً قد اختار هذا المبنى في الواجب التخييري (٢).

الأنظار في كيفية تعلّق الإرادة ونحوها بالمردّد

وقد فصّل شيخنا الاستاذ الكلام في أصل البحث وذكر الأنظار فيه ، وذلك لضرورة الوصول إلى منشأ الخلاف في أنّ المردّد هل يمكن أن يقع متعلّقاً للإرادة أو للاعتبار أو لصفةٍ وجوديّة ، أو لا؟

لقد ذكر الشيخ في (المكاسب) (٣) مسألة ما لو باع صاعاً من الصبرة ، فهل يحمل على الكسر المشاع ، فلو كان عشرة أصوع يكون المبيع هو العشر ، أو يكون كلّياً معيّناً ، أو يكون فرداً من أفراد الأصوع على البدل؟ ثم أشكل على الوجه الأخير بوجوه ، منها : إن التردّد يوجب الجهالة ، وأنه يوجب الغرر ، وأنه غير معقول ، وهذا محلّ الشاهد هنا.

إن تعلّق البيع بفردٍ مرددٍ من أفراد الأصوع غير معقول ، لأنّ الملكيّة صفة وجوديّة ، والصفة الوجوديّة لا يعقل أن تتعلّق بالشيء المردد ... وهذا هو الإشكال.

__________________

(١) منتقى الأُصول ٢ / ٤٩٠.

(٢) منتقى الأُصول ٢ / ٤٩٥.

(٣) كتاب المكاسب : ١٩٥ ط ١.

٣١٥

وقد أجاب عنه : بأنّ الصفة الوجوديّة على قسمين : فتارةً : هي صفة وجوديّة خارجيّة ، كالسواد والبياض ، فهذه لا تقبل التعلّق بالمردد ، لأنها عرض خارجي وهو لا يوجد إلاّ في موضوع ، والمردّد ليس له وجود حتى يتحقّق فيه العرض ويقوم به. وأُخرى : هي أمر اعتباري ، وهذه تقبل التعلّق بما ليس له وجود خارجي ، كما في بيع الكلّي في الذمة ، والمبيع في باب السّلم.

فالشيخ يرى أن الصّفة الوجوديّة إن كانت اعتباريةً فهي تقبل التعلّق بالمردّد.

وخالفه المحقق الخراساني (١) ، فذهب إلى أن الصفة الوجوديّة الحقيقيّة أيضاً تقبل التعلّق بالمردّد ، وقد تقدّم كلامه في حاشيته على الكفاية ، إذ صرّح بأنّ العلم يمكن تعلّقه بالمردّد كما في موارد العلم الإجمالي ، بخلاف مثل البعث ، لأنه ليس بصفةٍ بل إنه إيجاد للدّاعي في نفس العبد ، وإيجاده نحو المردّد محال. وبعبارة أُخرى : كلّما يكون له جهة الباعثيّة والمحرّكيّة ، فلا بدّ وأن يكون متعلّقه مشخصاً ، وأمّا ما يكون ـ مثل العلم ـ لا جهة باعثيّة له ، فلا مانع من تعلّقه بالمردّد.

وأمّا الميرزا ، فقد جعل ملاك الافتراق في الإرادة جهة التكوينيّة والتشريعيّة ، فخالف المحقق الخراساني القائل بعدم تعلّق ما كان له باعثية ـ وإنْ كانت تشريعيّة ـ بالشيء المردّد.

ولكنّ المحقق الاصفهاني خالف الكلّ ، وأنكر التعلّق بالمردد ، سواء في الصفة الحقيقيّة أو الاعتباريّة ، وفي الإرادة التكوينيّة أو التشريعيّة ، وسواء فيما له جهة الباعثيّة وغيره ... وله على هذا المدّعى برهانان :

(الأول) : إن الوجود عين التشخّص والواقعيّة ، فكلّ موجود متشخّص ،

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٤١.

٣١٦

ولا يعقل فيه أيّ إبهامٍ واجمال ، حتى لو كان الوجود اعتباريّاً ، فلا يعقل أن يكون مردّداً ، لأنّ الوجود هو التعيّن ، وبينه وبين التردد تقابل ولا يمكن اجتماعهما أبداً.

و (الثاني) : إن المردّد المصداقي محال ، لأنّ التردّد إمّا يكون في ذات الشيء وامّا في وجوده ، أمّا الذات ، فهي متعيّنة ولا يعقل الإبهام والتردد فيها. وأمّا الوجود ، فقد تقدّم.

وبعبارة أُخرى : إنه لو كان للمردّد مصداق خارجي ، وقع الإشكال في الأُمور ذات التعلّق ، كالإرادة والبعث والحبّ والملكيّة وأمثالها ، ـ سواء التكوينيّة منها والاعتبارية ـ فهي أُمور لا يحصل لها الوجود إلاّ بالمتعلّق ، لكنّ الوجود لا يقبل التردّد ، فلو تعلّقت الإرادة مثلاً بمردّد لزم إمّا تعيّن المردد أو تردّد المعيّن ، وكلاهما محال ، لأنّ الأوّل انقلاب ، والثاني خلف.

وبالنظر إلى هذين البرهانين نقول ـ وفاقاً للمحقق الأصفهاني ـ بعدم صلاحيّة المردّد لأن يكون متعلّقاً للإرادة ـ ... وتبقى المناقشة بذكر نقوض ، من قبيل الوصية بعتق أحد العبدين ، وتمليك أحد الولدين ، أو هبة أحد المالين ، أو بيع المعدوم كما في بيع السلف. ولا بدّ من حلّها في كتاب البيع.

نظريّة السيّد الاستاذ

لكن السيّد الاستاذ بعد أنْ ذكر آراء الأعلام قال :

هذا محصل الإيرادات على تعلق التكليف بالفرد المردّد وهي في الحقيقة ثلاثة ، إذ الأول يرجع إلى الثالث كما لا يخفى.

وشيء منها لا ينهض مانعاً عن تعلّق التكليف بالفرد المردد ، ولأجل ذلك يمكننا أن ندّعي أن متعلّق الوجوب التخييري هو أحد الأمرين على سبيل البدل ، في الوقت الذي لا ننكر فيه أن الفرد المردد لا واقع له ، وأن كلّ موجود في الخارج

٣١٧

معيّن لا مردّد.

وبتعبير آخر نقول : إن المدّعى كون متعلّق الحكم مفهوم الفرد على البدل ، أو فقل هذا أو ذاك ، بمعنى أن كلاً من الأمرين يكون مورد الحكم الواحد ، لكن بنحو البدل في قبال أحدهما المعين ، وكلاهما معاً بنحو المجموع.

ووضوح ذلك يتوقف على ذكر مقدمتين :

الأُولى : إن مفهوم الفرد على البدل أو الفرد المردد الذي يعبّر عنه بالتعبير العرفي ب : «هذا أو ذاك» من المفاهيم المتعينة في أنفسها ، فإن المردّد مردّد بالحمل الأوّلي لكنه معيّن بالحمل الشائع ، نظير مفهوم الجزئي الذي هو جزئي بالحمل الأولي كلّي بالحمل الشائع ، فالفرد على البدل مفهوم متعين ، ولذا نستطيع التعبير عنه والحكم عليه وتصوّره في الذهن كمفهوم من المفاهيم ، فهو على هذا قابل لتعلّق الصفات الحقيقيّة والاعتبارية به كغيره من المفاهيم المتعينة.

الثانية : إن الصفات النفسيّة كالعلم ونحوه لا تتعلّق بالخيارات ، بل لا بدّ وأن يكون معروضها في أُفق النفس دون الخارج ، وإلا لزم انقلاب الخارج ذهناً أو الذهن خارجاً وهو خلف ، فمتعلق العلم ونحوه ليس إلا المفاهيم الذهنية لا الوجودات الخارجية.

وإذا تمت هاتان المقدّمتان ، تعرف صحّة ما ندّعيه من كون متعلّق العلم الإجمالي في مورده والملكية في صورة بيع الصاع من صبرة والبعث في الواجب التخييري هو الفرد على البدل ومفهوم هذا أو ذاك ، فإنه مفهوم متعين في نفسه كسائر المفاهيم المتعينة ، ولا يلزم منه انقلاب المعين مردداً ، إذ المتعلق له تعين وتقرر ، كما لا يلزم كون الصفة بلا مقوّم ، إذ المفهوم المذكور له واقع.

يبقى شيء ، وهو : إن الصفات المذكورة وإنْ تعلقت بالمفاهيم ، لكنها

٣١٨

مرتبطة بالواقع الخارجي بنحو ارتباط ومأخوذة مرآتاً للواقع ، والمفروض أنه لا واقع لمفهوم الفرد المردد ، فكيف يتعلق به العلم؟! وحلّ هذا الإشكال سهل ، فإن ارتباط المفهوم المعلوم بالذات بالواقع الخارجي ليس ارتباطاً حقيقياً واقعياً ، ويشهد له أنه قد لا يكون العلم مطابقاً للواقع ، فكيف يتحقق الربط بين المفهوم والخارج؟ إذ لا وجود له كي يكون طرف الربط ، ولأجل ذلك يعبّر عن الخارج بالمعلوم بالعرض. إذن ، فارتباطه بنحو ارتباط لا يستدعي أن يكون له وجود خارجي كي يشكل على ذلك بعدم الواقع الخارجي لمفهوم الفرد المردد.

ومما يؤيّد ما ذكرناه من امكان طروّ الصفات على الفرد المردد : مورد الإخبار بأحد الأمرين ، كمجيء زيد أو مجيء عمرو ، فإنه من الواضح أنه خبرٌ واحدٌ عن المردد ، ولذا لو لم يأت كلّ منهما لا يقال إنه كذب كذبتين ، مع أنه لو رجع إلى الإخبار التعليقي لزم ذلك ولا تخريج لصحة الإخبار إلا بذلك.

يبقى إشكال صاحب الكفاية وهو : إن التكليف لتحريك الإرادة ، والإرادة ترتبط بالخارج ارتباطاً تكوينياً ، فيمتنع التكليف بالمردّد ، إذ لا واقع له كي يكون متعلق الإرادة(١).

والجواب عنه : إنّه لا ملزم لأن نقول بأن التكليف لأجل التحريك والبعث والدعوة نحو متعلّقه بجميع خصوصيّاته وقيوده ، بل غاية ما هو ثابت إن التكليف لأجل التحريك نحو ما لا يتحرك العبد نحوه من دون التكليف المزبور بحيث تكون جهة التحريك وسببه هو التكليف المعين وإن اختلف عن متعلّقه بالخصوصيّات.

ومن الواضح : أن تعلق التكليف بالفرد المردد يستلزم الحركة نحو كلّ من

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٤١.

٣١٩

الفعلين على سبيل البدل ، فيأتي العبد بأحدهما منبعثاً عن التكليف المزبور ، وهذا يكفي في صحة التكليف وكونه عملاً صادراً من حكيم عاقل.

ونتيجة ما تقدم : إنه لا مانع من تعلّق التكليف بالفرد على البدل وبأحدهما لا بعينه ، بمعنى كون كلّ منهما متعلقاً للتكليف الواحد ، ولكن على البدل لا أحدهما المردد ولا كلاهما معاً. وبذلك يتعين الالتزام به فيما نحن فيه لفرض ثبوت الغرض في كل من الفعلين على حدّ سواء ومن دون مرجح ، فلا بدّ من كون الواجب في كلّ منهما بنحو البدلية والتردد.

وهذا المعنى لا محيص عنه في كثير من الموارد ، ولا وجه للالتزام ببعض الوجوه في العلم الإجمالي ، كدعوى أن المتعلّق هو الجامع والترديد في الخصوصيات. وفي مسألة بيع صاع من صبرة ، كدعوى أن المبيع هو الكلّي في الذمة ولكن مع بعض القيود ، أو دعوى اخرى لا ترجع إلى محصل. وتحقيق الكلام في كلّ منهما موكول إلى محلّه.

فالمختار على هذا في الواجب التخييري كون الواجب أحدهما لا بعينه ، كما التزم به المحقق النائيني ، وإن خالفناه في طريقة إثباته» (١).

أقول :

أمّا ما ذكر في المقدمة الأُولى من أن «الفرد على البدل مفهوم متعيّن ، ولذا نستطيع التعبير عنه والحكم عليه وتصوّره في الذهن كمفهومٍ من المفاهيم» فهذا صحيح ، ولكن التفريع عليه بقوله : «فهو ـ على هذا ـ قابلٌ لتعلّق الصّفات الحقيقيّة والاعتباريّة به كغيره من المفاهيم المتعيّنة» فيه :

أوّلاً : كيف تتعلّق الصفات الاعتباريّة من البعث والتحريك ونحوهما

__________________

(١) منتقى الأُصول ٢ / ٤٩٢ ـ ٤٩٥.

٣٢٠