تحقيق الأصول - ج ٣

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-39-2
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٣٩٩

فيقول : إن متعلّق الطلب في الأمر هو العنوان ، لكن العنوان المرئيّ خارجاً ، وكذلك الصفات النفسانيّة كالحبّ والشوق والإرادة ، فإنها تتعلّق بالعناوين الفانية في المعنونات. فمراد القائلين بتعلّق الأمر بالفرد هو أن المتعلّق نفس المعنون الموجود في الخارج ، ومراد القائلين بتعلّقه بالطبيعة أن المتعلّق هو العنوان ـ لا المقيّد بالوجود الذهني ، لأنه لا يقبل الوجود في الخارج ، ولا بما هو هو ، لأنه ليس بحاملٍ للغرض كي يتعلّق به الغرض والأمر ، ولا الموجود في الخارج ، لأنه فرد وهو منشأ لانتزاع عنوان الطبيعة ، ـ أي العنوان المتّحد مع الخارج ، كالإنسان المتحد مع زيد ... فظهر الاختلاف بين القولين ... فالقول الأول : هو تعلّق الأوامر بالأفراد الموجودة خارجاً ، كزيد المعنون بعنوان الإنسان. والقول الثاني : هو تعلّقها بالعناوين كعنوان الإنسان الملحوظ فانياً في زيد.

قال : نظير الحال في الجهل المركب ، حيث توجد الإرادة عند الجاهل كذلك ، لكنّ متعلّق الإرادة عنده هو العنوان والصورة الفانية في الخارج في ذهنه ، لا الخارج ، لأن الخارج ظرف سقوط الأمر ، فلا يكون متعلّقاً للطلب والإرادة التي هي صفة نفسانية.

ثم أورد على الكفاية قوله : بأن متعلّق الطلب هو إيجاد الطبيعة فقال : إن متعلّق الطلب متقدّم على الطلب تقدّماً طبعيّاً ، فلا يعقل وجود الطلب بلا متعلّق ، وإن أمكن وجود المتعلّق بلا طلب ، كأن يتعلّق الطلب بالأكل ، فإنه بدون الأكل محال ، لكن قد يوجب الأكل بلا طلب ، فلا ريب في تقدّم متعلّق الطلب على الطلب تقدّم الواحد على الاثنين ، إذ لا يعقل وجود الاثنين بدون الواحد ، لكن يمكن وجوده بدون الاثنين ... هذا أوّلاً.

وثانياً : إن إيجاد الطبيعة معلولٌ للطلب فيكون متأخّراً عنه رتبةً ، فلو كان هو

٢٨١

المتعلّق كان متقدّماً رتبةً على الطّلب ، فيلزم تقدّم المتأخّر ، وهو محال.

وأورد عليه أيضاً قوله : بكون المتعلّق هو الوجود السعي للطبيعة : بأنّ هذا غير ممكن ، لأنه قد تؤخذ مادة الوجود في الأمر ، فيلزم حضور الوجود في الذهن قبل الأمر بمرتبتين ، كما لو قال ـ بدل : «صل» ـ أوجد الصّلاة ، وهذا ضروري البطلان.

وتلخّص : إنه ليس متعلّق الإرادة هو الخارج ، إذ الخارج ظرف سقوط الطلب والإرادة ، وليس الوجود الذهني ، بل إن الحامل للمصلحة والغرض هو الوجود الخارجي ومتعلّق الطلب هو الوجود الزعمي ، كما ذكر ، أي الوجود المرئي خارجاً ، فلمّا يقول : «جئني بماءٍ» يتصوّر الماء خارجاً ، أمّا لدى التّصديق فالصّورة غير خارجيّة وإنما هي مرئيّة خارجاً ، فالصّورة في النظر التصوّري خارجيّة وفي النظر التّصديقي غير خارجيّة ، لأن الخارج ظرف للسقوط ، فهي غير منعزلة عن الخارج ، كما أن الماهيّة غير منعزلة عن الوجود ، لكنّ التحليل العقلي يعزل الماهيّة عن الوجود ، فالصّور كذلك ، هي بالتحليل العقلي منعزلة عن الخارج ، لكنّ الصورة متّحدة مع الخارج ، فيكون الخارج هو الحامل للغرض ، ولكن الصّورة هي متعلّق الطلب (١).

نظر الأُستاذ

وتنظّر الأُستاذ في هذه النظريّة : بأنه صحيحٌ أن الخصوصيّات لا تتعلّق بها الإرادة ، سواء في الأوامر الشرعيّة أو العرفيّة ، لكنّ القول بأن متعلّق الإرادة هي الصّورة الفانية في الخارج بالنظر التصوّري ـ أمّا بالنظر التصديقي فخلاف الواقع ، لكون الصورة في الذهن ولا علاقة لها بالخارج ـ لا يمكن المساعدة عليه ، لأنه

__________________

(١) نهاية الأفكار (١ ـ ٢) ٣٨٣ ط جامعة المدرسين.

٢٨٢

خلاف الوجدان ، لأنا لا نجد في أنفسنا في مختلف مراداتنا تعلّق الطلب والإرادة بالصّورة الفانية في الخارج ، وكيف يكون للإنسان طلب وإرادة ولا يجد في نفسه ولا يلتفت إلى متعلّق طلبه؟ هذا أوّلاً.

وثانياً : إنّ المفروض في كلامه قدس‌سره هو : أجنبيّة الصّورة الفانية في الخارج عن الخارج الواقعي ، وأنّ ذلك ليس إلاّ في النظر التصوّري أمّا بالنظر التصديقي فهو باطل. فيرد عليه : أنه كيف يعقل تعلّق الإرادة بعنوانٍ وصورةٍ يراها بالنظر التصديقي غير موجودة في الخارج؟

وأمّا إيراده على نظريّة تعلّق الأمر بإيجاد الطبيعة ، فيمكن دفعه بأن : الإيجاد ذهني تارةً وأُخرى هو ذهني فانٍ في الخارج ، فكما عندنا وجود خارجي ووجود ذهني هو مرآة للوجود الخارجي ، كذلك الإيجاد ، لأن الوجود والإيجاد واحد حقيقةً ، فلقائل أن يقول بأن متعلّق الطلب هو الايجاد المفهومي الفاني في الخارج ... وبذلك يندفع الإشكال وإن كانت عبارة الكفاية قابلةً له.

وأمّا إيراده الثاني من لزوم تصوّر الوجود مرّتين في مثل : أوجد الصّلاة ، لكون الهيئة مشتملةً على الوجود على مسلك الكفاية ، ولكون مادّة الوجود في حيّز الطلب ... فقد يجاب عنه : بأنّ الوجه في إشراب الوجود في الهيئة هو أن العقل يرى عدم قابليّة الطبيعة من حيث هي لتعلّق الطلب بها ، فلا مناص من أخذ الوجود لتصير قابلةً لذلك ، سواء كانت المادّة هي الوجود أو غيره من المواد ، فإن كانت المادّة هي الوجود فلا ضرورة عقليّة لإشرابه في المادّة ، فلا يتكرّر تصوّر الوجود.

٢٨٣

نظريّة السيد البروجردي

وأمّا السيّد البروجردي ، فقد قدّم على بيان ما ذهب إليه (١) مقدّماتٍ ، ذكر في الأولى المراد من الحصّة والطبيعة والفرد فقال : بأن المراد من الحصّة تارةً : هو الطبيعة المضافة كقولنا : الانسان الأبيض ، وأُخرى : الماهيّة المتشخّصة بالوجود ، أي الإنسانية الموجودة بوجود زيد حصّة من الإنسان ، وكذا في عمرو وغيره ، فلهم في الحصّة اطلاقان في قبال الطبيعة بقطع النظر عن الإضافة ، كقولك الانسان نوع ، الصادق على الخارج من زيد وعمرو ... فيقال : زيد إنسان ، وذلك لأنهم وجدوا في الأفراد ـ كقولنا زيد موجود ـ حيثيّتين ، حيثيّة الوجوديّة ، وهي تشمل عمراً وبكراً والسماء والأرض أيضاً ، وحيثيّة خصوصيّة في زيد ، فهو زيد ومع الإنسانية التي يشاركه فيها عمرو وبكر ، فالطبيعة لها وجود في القضيّة الذهنيّة ـ وهي قولنا : الإنسان نوع ـ يشترك فيها زيد وعمرو وبكر من حيث الوجود كما يشتركون من حيث الانسانية ... وهذه هي الطبيعة.

(قال) والماهيّة التي هي عبارة عن الطبيعة موجودة في الخارج ، ولا يصح القول بعدم وجودها ، غير أنّ للوجود إضافتين ، احداهما : إلى الفرد ، والأُخرى : إلى الطبيعة ، فهو يضاف أوّلاً وبالذات إلى الماهيّة المتشخّصة التي هي حصّة من الطبيعة ، ثم إلى الطبيعة في الرتبة الثانية ، فبناءً على أصالة الوجود يكون المتحقق بالذات في الخارج هو الوجود ، إلاّ أنه ليس بغير حدّ ، بل الحدّ أيضاً موجود حقيقةً ، فالوجود موجود بالذات والإنسانيّة الموجودة في زيد حدّ لهذا الوجود ، وكذلك الوجود في عمرو ... وذلك الحدّ هو الماهيّة الشخصيّة أي الإنسانية الموجودة بوجود زيد المركّبة من جنس هو «حيوان» وفصل هو «ناطق». وهكذا

__________________

(١) نهاية الأُصول : ٢١٧.

٢٨٤

في غيره ... لكن الإنسانية الموجودة بوجود زيد غير الموجودة بوجود عمرو ... وهكذا ، كما أنّ وجود كلّ منهم يغاير وجود الآخر ... إلاّ أن الإنسانيّة ـ الحيوانيّة الناطقية ـ موجودة ووجودها يكون أوّلاً وبالذات ، ويكون وجود الإنسان : زيد وعمرو ... ثانياً وبالعرض ، أي بتبع وجود الإنسانيّة ، وهذا معنى قولهم : «الحق أن الطبيعي موجود بوجود فرده».

فظهر المراد من الحصّة والطبيعة والفرد ، وخلاصة ذلك أن :

الحصّة عبارة عن الإنسانية الموجودة بوجود خاص :

والطبيعة عبارة عن الجهة المشتركة بين الإنسانيّات الموجودة ، ووجود هذه الجهة يكون بوجود الأفراد ، كنسبة الآباء إلى الأبناء.

والفرد قد يطلق ويراد منه الوجود ، بناءً على أصالة الوجود ، إذ الوجود متفرّد بذاته وهو عين الفردية ، وقد يطلق ويراد منه الماهيّة ، وهو الفرد بالعَرَض.

وقد ذكروا أن الماهيّة على قسمين : ما يقبل الصّدق على كثيرين وهو الطبيعة غير المتحصّصة ، وما لا يقبله وهو الماهيّة المتحصّصة أي المتشخّصة. فالإنسانية تصدق على كثيرين ، أمّا إنسانية زيد فلا ، كما أن الوجود كذلك ، فلا يقبل الصّدق على كثيرين لأنه سالبة بانتفاء الموضوع ، بخلاف الماهيّة المتشخّصة ، فهي في ذاتها تقبل الصّدق على كثيرين ، لكنّها بإضافتها إلى الوجود سقطت عن القابليّة لذلك ، فكان عدم القابليّة للصّدق على كثيرين فيها بالعرض ، كما كان في الوجود بالذات.

المقدمة الثانية : تارةً : نجعل الموضوع في القضيّة مفهوم الوجود كأن نقول : «مفهوم الوجود من أعرف الأشياء» ، أي : إنه بديهي التصوّر ، وهذا من أحكام مفهوم الوجود ، ـ لا من أحكام واقع الوجود ، لاستحالة تصوّر واقع الوجود

٢٨٥

حتى يحكم عليه بحكمٍ ـ بأن يجرّد المفهوم من الوجود ويتصوّر وحده في الذهن ، ثم يحكم عليه.

وأُخرى : نجعل الموضوع واقع الوجود؟ كأن نقول : «كنه الوجود في غاية الخفاء». لكن إذا كان واقعه غير قابلٍ للتصوّر ، فكيف يجعل موضوعاً ويحكم عليه بحكم من الأحكام؟

إن غاية ما قيل في الجواب هو : إن مفهوم الوجود ، إن لوحظ بلحاظ ما فيه ينظر ، كان موضوعاً لأحكام نفس المفهوم ، وإن لوحظ بلحاظ ما به ينظر ، كان موضوعاً لأحكام واقع الوجود ، وفي قولنا : «كنه الوجود في غاية الخفاء» جعلنا مفهوم الوجود بما فيه ينظر بالنسبة إلى واقع الوجود.

فقال : بأن متعلّق الطلب هو مفهوم وجود الطبيعة ، لكن بلحاظه مرآةً لوجود الطبيعة ، خلافاً لصاحب الكفاية ، إذ قال بأن المتعلّق هو وجود الطبيعة.

المقدمة الثالثة : إن متعلّق الطلب لا بدّ وأن يكون فيه جهة وجدان وجهة فقدان ، وأمّا الفاقد من جميع الجهات فلا يصلح لأن يتعلّق به الطلب ، لأنه معدوم والمعدوم لا يتقوّم وجود الطلب به ، وكذا لو كان واجداً من جميع الجهات ، فإن طلب ما كان كذلك طلب للحاصل وهو محال.

وبعد المقدمات : إن متعلّق الطلب والإرادة هو الوجود الفرضي للموجود التحقيقي الخارجي ، فإنّه في عالم الفرض يفرض وجود شيء فيتعلّق الإرادة والطلب والشوق به لأن يوجد خارجاً ، فالمتعلّق هو ما في يفرض أنه موجود في الخارج ... وكذلك الحال في جميع الإرادات التكوينيّة ، إذ المتعلّق لها هو الموجود بالحمل الشائع لكن بالوجود الفرضي ، ووزان الإرادة التشريعيّة وزان الإرادة التكوينيّة ، فيكون المتعلّق لها هو الوجود التحقيقي الموجود بالوجود

٢٨٦

الفرضي ... وأمارات المشخّصات خارجة عن دائرة المتعلّق ... وعلى هذا ، يكون تطبيق المكلّف للمتعلّق على الأفراد بنحو التخيير ... لأنه ليس المتعلّق إلا وجود الطبيعة بالوجود الفرضي بتعبير المحقق الأصفهاني ، وبتعبير السيد البروجردي : مفهوم وجود الطبيعة الفاني بوجود الطبيعة ، فيكون التطبيق بيد المكلّف ، وهذا تخيير عقلي ، بخلاف ما لو قلنا بتعلّق الطلب بالأفراد والماهيّة الشخصيّة ، فإن التخيير يكون شرعيّاً. فظهر ما في كلام المحاضرات من جعل التخيير عقليّاً على كلّ تقدير.

إشكال الأُستاذ

قال الأُستاذ بعد بيان كلام المحقق الأصفهاني والسيد البروجردي : بأن الإشكال السّابق يعود ، لأن مفروض الكلام كون الآمر ملتفتاً إلى أن متعلّق طلبه ليس خارجيّاً وأنه يستحيل ذلك ، لكن غرضه من الطلب قائم بالوجود الخارجي لا الفرضي ....

وعلى الجملة ، فإنّ مشكلة كيفيّة تعلّق الطلب باقية ، ولم تحل بوجهٍ من الوجوه المذكورة في المقام في الكتب الأُصوليّة ... بل إن حلّها موقوف على فهمنا لكيفيّة علمنا بالأشياء ، وأنه هل يمكن المعرفة أو لا؟

وكيف كان ، فعلى القول بتعلّق الأمر بأمارات التشخّص وكونها داخلةً في المتعلّق ، فلا محالة يلتزم بالامتناع في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، لكون المورد حينئذٍ صغرى لباب التعارض ، وعلى القول بخروجها ، يكون صغرى لباب التزاحم ، وتكون النتيجة هو القول بالجواز.

لكن الحق خروجها عن المتعلّق ، لأن محلّ البحث هو تعلّق الأمر بذات الطبيعة ، المرئية خارجاً كما عليه المحقق العراقي ، أو الموجودة بالوجود الفرضي

٢٨٧

كما عليه السيد البروجردي ... فالمتعلّق هو القدر المشترك بين الحصص ، لأنّه الذي يقوم به الغرض ، ... وعليه يكون التخيير عقليّاً ... خلافاً للعراقي فإنّه ـ مع ذهابه إلى أن المتعلّق عبارة عن الطبيعة وأن الحصص غير داخلة فيه ـ قال بأن التخيير شرعي ، لكون المتعلّق وإن كان الطبيعة ، لكنه الطبيعة بالحدود الطبيعيّة ، كالإنسان مثلاً ، فإنه يمتاز عن غيره من الأنواع بحدودٍ طبيعيّة ، فإذا كان كذلك ، كان التخيير شرعيّاً.

فأورد عليه الأُستاذ : بأنّ الحدود للطبيعة ليست إلاّ الجنس والفصل ، لأنّ الحدّ المضاف إلى الطبيعة المقوّم لها ليس إلاّ ذلك ، فعلى القول بتعلّق الأمر بالطبيعة ، يكون المتعلّق هو الطبيعة النوعيّة ، وهي متّحدة مع الحدود ، غير أنّ الاختلاف يكون بالإجمال والتفصيل ، كالإختلاف بين «الإنسان» و «الحيوان الناطق» فليست حدود الطبيعة شيئاً زائداً عليها ، ولمّا كان متعلّق الطلب هو الطبيعة وهي الحامل للغرض ، فكيف يكون التخيير شرعيّاً؟ إنّ التخيير الشرعي يتقوّم بكون الخصوصيّة داخلةً تحت الطلب بنحو على البدل ، بأن يصلح دخول «أو» عليه ، كما في : أعتق رقبةً أو صم ستّين يوماً. أمّا حيث يكون متعلّق الطلب هو «الصّلاة» فلا تكون الصّلاة هنا أو هناك داخلةً تحت الطلب.

وتلخّص :

إن الأمر يتعلّق بالعنوان فيما لا طبيعة له ، كعنوان الصّلاة والصّوم والحج ، فإن كان للمتعلّق طبيعة قابلة للوجود خارجاً فإنها هي المتعلّق وهي الحاملة للغرض ، ويكون التخيير عقليّاً.

٢٨٨

النسخ

٢٨٩
٢٩٠

كلام الكفاية :

«إذا نسخ الوجوب ، فلا دلالة لدليل الناسخ ولا المنسوخ على بقاء الجواز بالمعنى الأعم ولا بالمعنى الأخص ، كما لا دلالة لهما على ثبوت غيره من الأحكام.

ضرورة أنّ ثبوت كلّ واحدٍ من الأحكام الأربعة الباقية بعد ارتفاع الوجوب واقعاً ممكن ، ولا دلالة لواحدٍ من دليلي الناسخ والمنسوخ ـ بإحدى الدلالات ـ على تعيين واحدٍ منها ، كما هو أوضح من أن يخفى ، فلا بدّ للتعيين من دليلٍ آخر» (١).

أقول :

للبحث أمثلة كثيرة ، منها : قوله عزّ وجلّ : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) حيث قيل إنّ الآية منسوخة بقوله عزّ وجل (لا إكراهَ في الدِّين). فهل يبقى جواز القتل بعد زوال الوجوب أو لا؟ فههنا مقامات ، أحدها : بقاء الجواز ثبوتاً ، والثاني : الجواز إثباتاً ، والثالث : في مقتضى الأُصول في المسألة .... وقد أشار المحقق الخراساني في كلامه المزبور إلى أنّ للجواز معنيين ، أحدهما : الجواز بالمعنى الأعمّ ، وهو ما يجتمع مع الوجوب والاستحباب

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٤٠.

٢٩١

والإباحة ، والآخر : الجواز بالمعنى الأخص ، وهو الإباحة. ولفظ «البقاء» يقتضي أن يكون المراد من «الجواز» هو المعنى الأعم لا الأخص.

فما ذكره المحقق المذكور من عدم الدلالة على بقاء الجواز ، لا بالمعنى الأعم ولا بالأخص ، مخدوش ، لأن الجواز بالمعنى الأخص ليس بقائيّاً أصلاً بل هو حدوثي.

المقام الأوّل

إن البحث الثبوتي في المسألة يبتني على تشخيص حقيقة الوجوب ، فهل هو بسيطٌ أو مركّب ، وعلى الثاني هو مركّب من جواز الفعل مع المنع عن الترك تركيباً انضماميّاً ، أو مركّب منهما تركيباً اتحاديّاً من قبيل التركيب بين الجنس والفصل ، فيكون موجوداً بوجودٍ واحدٍ منحلٍّ إلى جزءين؟ أقوال.

فعلى القول بالبساطة ـ وهو الحق ـ لا بقاء للجواز بعد ارتفاع الوجوب ، لأنّ الحقيقة شيء واحد ، إمّا موجود وامّا مرتفع ، إذ البسيط لا يتبعّض والواحد لا يتعدّد.

وكذا على القول بالتركيب الاتّحادي ، لأن بقاء الجنس بعد زوال الفصل غير معقول إلاّ متفصّلاً بفصلٍ آخر.

وأمّا على القول بالتركيب الانضمامي ، فيمكن بقاء الجواز ثبوتاً بعد زوال الوجوب ، وهذا واضح.

تصوير المحقق العراقي بقاء الجواز على القول بالبساطة

وحاول المحقق العراقي رحمه‌الله (١) تصوير بقاء الجواز ثبوتاً على القول بالبساطة ، بأنّ الوجوب عبارة عن الإرادة غير المحدودة بالحدّ العدمي ، وهذه

__________________

(١) نهاية الأفكار (١ ـ ٢) ٣٩٠ ـ ٣٩١.

٢٩٢

الإرادة ـ مع كونها بسيطة ـ مشتملة على ثلاثة أُمور هي : أصل الرجحان ، والجواز ، والحدّ الوجوبي وهو شدّة الرجحان ، فلو ارتفع شدّة الرجحان ـ وهو الوجوب ـ أمكن بقاء الرجحان والجواز ، نظير اشتمال اللّون الأبيض على : اللّونية ، والبياض ، وشدّة البياض ، فإن ارتفعت الشدّة ، كان اللون والبياض باقيين.

ويشهد بذلك قولهم بجريان الاستصحاب في المراتب ، كما في النور ، فلو كان هناك نور شديد ، ثم علم بارتفاع الشدّة وشكّ في بقاء أصل النور والضوء ، فإنّه يستصحب النور.

مناقشته

وقد يورد عليه بناءً على أنّ الوجوب أمر منتزعٌ من اعتبار الشارع اللاّبديّة على ذمّة المكلّف ، والأُمور الانتزاعية لا مراتب لها وليست مشكّكة. لكنّه إشكال مبنائي.

فيرد عليه ـ مع حفظ المبنى ـ أولاً : إن الإرادة ، وهي الشوق الأكيد غير المحدود ، كيف نفساني تكويني ، والترخيص أمر جعلي اعتباري ، فكيف يكون من أجزاء الأمر التكويني؟

ومن هنا يظهر أن الإرادة ليست إلاّ الشوق وشدّة الشوق ، ولا ثالث.

وثانياً : إنه على فرض كون الترخيص أمراً واقعيّاً ، فإنّ الإرادة عبارة عن الشوق كما تقدّم ، فإن أُبرزت مع الحدّ فهو الاستحباب ، ومع عدمه فهو الوجوب ، فهي متقوّمة بالرجحان ، لكنّ الترخيص هو اللاّاقتضاء ، فاجتماع الترخيص مع الإرادة ودخالته فيها غير معقول ، وعليه ، فلو نسخ الوجوب أمكن بقاء الاستحباب ـ على مبنى المحقق العراقي ـ لا الجواز بالمعنى الأعم الذي هو مورد البحث.

٢٩٣

دليل المحاضرات على الامتناع الثبوتي

قال : إن الجواز والوجوب ليسا مجعولين شرعيين ، بل هما أمران انتزاعيّان ، والمجعول الشرعي إنما هو اعتبار المولى لا غيره ، والمفروض أنه قد ارتفع بدليل الناسخ ، فإذن ، لا موضوع للاستحباب (قال) : ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ الوجوب مجعول شرعاً ، فمع ذلك لا دليل لنا على بقاء الجواز ، والوجه في ذلك :

أمّا أوّلاً : فلأن الوجوب أمر بسيط وليس مركّباً من جواز الفعل مع المنع من الترك.

وأمّا ثانياً : فلو سلّمنا أن الوجوب مركّب ، إلاّ أن النزاع هنا في بقاء بالجواز بعد نسخ الوجوب وعدم بقائه ، ليس مبنيّاً على النزاع في تلك المسألة ، أعني مسألة إمكان بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل وعدم إمكانه ، وذلك ، لأن النزاع في تلك المسألة إنما هو في الإمكان والاستحالة العقليين ، وأمّا النزاع في مسألتنا هذه إنما هو في الوقوع الخارجي وعدم وقوعه ، بعد الفراغ عن أصل إمكانه (١).

توضيحه :

إنّ الأمر الواقع بالنسبة إلى الوجوب هو اعتبار ثبوت الفعل في ذمّة المكلّف ، فإن اعتبر مع الترخيص في الترك ، كان المنتزع عقلاً هو الاستحباب ، فالوجوب في الحقيقة أمر منتزع من الاعتبار الشرعي لا مع الترخيص ، فليس مجعولاً شرعيّاً ، فلا موضوع للبحث عن أنه بعد النسخ هل يبقى الجواز أو لا؟

وأيضاً : فإنّ حقيقة النسخ ليس الرفع ، لأنه يستلزم الجهل في الباري ، وإنما هو الدفع ، بمعنى أنّه بيانٌ لانتهاء أمد الحكم ، وهذا مفاد الدليل الناسخ.

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٣ / ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

٢٩٤

إشكال الأُستاذ

وأورد عليه شيخنا ـ في كلتا الدورتين ـ بأن ما ذكره يناقض ما ذهب إليه ـ تبعاً للمحقق العراقي ـ من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة الكليّة الالهية الإلزاميّة ـ خلافاً للمشهور بين المحققين ـ من جهة المعارضة بين استصحاب بقاء المجعول مع استصحاب عدم الجعل ، كما لو شك في جواز وطئ المرأة بعد انقطاع الدم وقبل الغسل ، فالأصل بقاء الحكم المجعول وهو حرمة الوطء في حال الحيض ، لكن هذا الأصل معارض باستصحاب عدم جعل الحرمة لهذه الحال بالخصوص ، فالوجوب والحرمة أمران مجعولان شرعاً. بينما يقول هنا بأنهما غير مجعولين من قبل الشارع ، فكيف يقع التعارض؟

وأمّا قضيّة أن حقيقة النسخ هو الدفع ، بمعنى انتهاء أمد الحكم ، فإنّه لا منافاة بين انتهاء أمد الحكم الوجوبي وبقاء أصل الجواز.

فالمختار في المقام

هو عدم البقاء ثبوتاً ، من جهة أنّ الوجوب أمر بسيط ، سواء كان انتزاعيّاً أو واقعيّاً. وما ذكره المحقق العراقي من تصوير المسألة بناءً على هذا القول ، قد عرفت ما فيه.

هذا تمام الكلام في المقام الأول.

المقام الثاني

إنه بناءً على تماميّة بقاء الجواز ثبوتاً ـ كما عليه المحقق العراقي ـ تصل النوبة إلى مقام الإثبات والبحث عن دلالة الدليل على البقاء ، ولا دليل إلاّ الناسخ والمنسوخ. وتقريب الاستدلال هو : إن حكم الدليل الناسخ بالنسبة إلى الدليل المنسوخ حكم دليل الاستحباب بالنسبة إلى دليل الوجوب ، فكما يقتضي ذاك

٢٩٥

الدليل رفع اليد عن ظهور ما دلّ على الوجوب وحمله على الاستحباب ، كذلك ناسخ الوجوب ، فإنه يزاحم المنسوخ في دلالته على الوجوب ، أي شدّة الارادة ، ويبقى دلالته على أصل الرجحان.

وقد أورد عليه المحقق العراقي (١) : بأن هذا إنما يتمّ في الدليلين المتعارضين ، كأن يقوم الدليل على الوجوب ثم يأتي دليل آخر مفاده «لا بأس بالترك» ، فبمقتضى نصوصيّة الثاني أو أقوائيّة ظهوره يتقدّم على الأوّل ، لا في دليلين أحدهما حاكم على الآخر ، لأنه لا يلحظ في الحكومة جهة النصوصيّة أو الأقوائية بل الحاكم يتقدّم على المحكوم وإن كان أضعف ظهوراً منه. وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّ الدليل الناسخ ناظر إلى الدليل المنسوخ ، وهذا معيار الحكومة ، فلا يتم تنظير محلّ الكلام بالوجوب والاستحباب.

ثم قال : وبناءً على الحكومة ، وأن الحاكم يتقدّم على المحكوم وإن كان أضعف ظهوراً ، فإنّ الظهور العرفي قائم على كون الناسخ ناظراً إلى المنسوخ بجميع مراتبه لا بعضها ، وعلى هذا ، فإن المنسوخ يرتفع بتمام مدلوله ـ وهو الإرادة ـ وحينئذٍ لا يبقى شيء بعد ارتفاع الوجوب.

قال : اللهم إلاّ إذا كان الناسخ مجملاً ، فإنه يقتصر فيه على القدر المتيقّن ، وهو نسخه لمرتبة الشدّة من الإرادة ، فيبقى أصل الإرادة ، إلاّ إذا سرى إجمال الناسخ إلى المنسوخ فيسقط من الأساس.

قال الأُستاذ

ولا يرد على المحقق المذكور : أن ما ذكره إنما يتم في صورة كون الظهور ذا مراتب ، وهذا أول الكلام ، إذ لا ينبغي الاختلاف في مراتب الظهور ، وإلاّ لما أمكن

__________________

(١) نهاية الأفكار (١ ـ ٢) ٣٩١.

٢٩٦

تقدم النصّ على الظاهر ، إذ النصوصيّة ليست إلاّ الشدّة في مرتبة الظهور.

لكنّ الإشكال الوارد عليه في استثنائه صورة إجمال الناسخ ، إذ فيه :

أوّلاً : إن الناسخ دليل منفصلٌ عن المنسوخ ، فيستحيل سراية إجماله إليه ، وإلاّ لزم سراية إجمال كلّ مخصّص منفصل مجمل إلى العام ، وعدم جواز التخصيص ....

وثانياً : إن بقاء الرجحان في حال عدم سراية الإجمال ـ إن كان مجملاً ـ إلى المنسوخ ، موقوف على دلالة المنسوخ على الرجحان ، وهي إمّا بالالتزام وامّا بالتضمّن ـ وهو يقول بالثاني لأنه يرى أن الرجحان من مراتب الوجوب ، والتحقيق هو الأول ـ لكنّ الدلالة التضمنيّة والالتزامية فرعٌ للدلالة المطابقيّة ، في الحدوث والحجيّة ، فلو سقطت فلا تبقى الدلالتان ، وفيما نحن فيه : تقع المزاحمة بين الناسخ والمنسوخ ، إمّا في أصل مدلول المنسوخ وامّا في حجيّته ، وعلى كلّ تقديرٍ ، فإنّه يسقط ، وإذا سقط المدلول المطابقي استحال بقاء شيء.

فالحق ، أنه على مسلك المحقق العراقي في حقيقة الوجوب : لا يبقى دلالة على الرجحان المستلزم للجواز بالمعنى الأعم.

المقام الثالث

فإنّه ـ بعد الفراغ عن مرحلة الثبوت ، وعن البحث الإثباتي ـ هل يجري استصحاب بقاء الجواز بعد ارتفاع الوجوب أو لا؟

إن المستصحب تارة شخصي وأُخرى كلّي ، وقد ذكروا للكلّي أقساماً :

أحدها : الكلّي الموجود في الفرد المشكوك بقاؤه ، فيصح استصحاب الكلّي واستصحاب الفرد.

الثاني : أن يكون الفرد مردّداً بين مقطوع الزوال ومقطوع البقاء ، وهذا هو

٢٩٧

القسم الثاني من أقسام الكلّي.

والثالث : أن يكون الفرد معيّناً ، وهو زائل يقيناً ، لكن يحتمل وجود فردٍ آخر للكلّي مع ذاك الفرد. وهذا هو القسم الأوّل من القسم الثالث.

والرابع : أن يكون الفرد معيّناً ، وهو زائل يقيناً ، لكن يحتمل حدوث فردٍ آخر للكلّي مقارناً لزوال ذاك الفرد. وهذا هو القسم الثاني من القسم الثالث.

والخامس : أن يكون المتيقّن حقيقة واحدة لكن ذا مراتب ، فيقطع بزوال مرتبة ويشك بذلك في بقاء الحقيقة وعدم بقائها.

فهذه مقدمة.

ومقدمة أُخرى : إنه يعتبر في الاستصحاب وحدة القضية المتيقّنة مع القضيّة المشكوكة ، وحدةً عرفيّة لا عقلية.

وبعد المقدمتين ، نذكر أوّلاً كلام المحقق الخراساني في هذا المقام ؛ قال :

«ولا مجال لاستصحاب الجواز إلاّ بناءً على جريانه في القسم الثالث من أقسام الكلّي ، وهو ما ، إذا شك في حدوث فرد كلّي مقارناً لارتفاع الحادث الآخر ، وقد حقّقنا في محله أنه لا يجري الاستصحاب فيه ما لم يكن الحادث المشكوك من المراتب القويّة أو الضعيفة المتّصلة بالمرتفع ، بحيث يعدّ عرفاً ـ لو كان ـ أنه باق ، لا أنه أمر حادث غيره. ومن المعلوم أن كلّ واحدٍ من الأحكام مع الآخر ـ عقلاً وعرفاً ـ من المتباينات والمتضادّات ، غير الوجوب والاستحباب ، فإنه وإن كان بينهما التفاوت بالمرتبة والشدّة والضعف عقلاً ، إلاّ أنهما متباينان عرفاً ، فلا مجال للاستصحاب إذا شكّ في تبدّل أحدهما بالآخر ، فإن حكم العرف ونظره يكون متّبعاً في هذا الباب» (١).

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٤٠.

٢٩٨

وحاصل كلامه :

١ ـ إن المورد من قبيل القسم الثالث من أقسام الكلّي ، ولا يجري فيه الاستصحاب ، إلاّ إذا كان الباقي من مراتب الزائل ، كما في الشدّة والضّعف مثلاً.

٢ ـ إن الأحكام الخمسة متباينات عقلاً وعرفاً ، إلاّ في الوجوب والاستحباب ، فإنهما متباينان عرفاً ومختلفان في المرتبة عقلاً ، فإذا ارتفع الوجوب لا يصح القول ببقاء الاستحباب من باب الاستصحاب ، للتباين العرفي بينهما ، إذ الملاك في الاستصحاب هو الوحدة العرفيّة في موضوع القضيّتين.

قال الأُستاذ

والتحقيق هو النظر في المسألة على ضوء المباني (١) في حقيقة الوجوب :

فإن قلنا : بأنه مركّب من البعث إلى الفعل مع المنع من الترك تركيباً انضماميّاً ، فإنه إذا نسخ الوجوب وشك في أنّ الزائل هو الجزءان أو خصوص المنع من الترك ، كان هذا الجزء مقطوع الزوال والآخر ـ وهو البعث إلى الفعل ـ مشكوك فيه ، وعليه فلا إشكال في جريان الاستصحاب ، وهو استصحاب فرد واحدٍ شخصي.

وبعبارةٍ أُخرى : الزائل مردّد بين الأقل والأكثر ، وقد كان زوال الأقل متيقّناً ، وزوال الأكثر مشكوك فيه ، فيستصحب.

وإن قلنا : بأن الوجوب بسيط لا مركّب ، فهنا لا يتصوّر إلاّ القسم الثاني من القسم الثالث من استصحاب الكلّي الذي اتّفقوا على عدم جريانه.

وإن قلنا : بمسلك المحقق العراقي ، كان المورد ـ على تقديرٍ ـ من قبيل القسم الأخير من أقسام الكلّي ، وهو كون المستصحب ذا مراتب ، ومن قبيل القسم

__________________

(١) تقدّم ذكرها في المقام الأول.

٢٩٩

الأوّل على تقدير آخر. وتوضيحه : إنّه قد استثنى الشيخ الأعظم من أقسام الكلّي ما لو كان الفرد الموجود مرتبةً شديدةً ، ثم علم بزوال الشدّة وشكّ في بقاء أصل المرتبة ، فقال بجريان الاستصحاب فيه. وقال المتأخّرون عنه بأن هذا من القسم الأوّل لا من أقسام الكلّي ، لأن الشدّة إن كانت من المقوّمات لم يجر الاستصحاب لكونه من القسم الثالث ، وإن كانت من الحالات جرى لبقاء الحقيقة ، كالعدالة الموجودة بالمرتبة العالية ثم حصل اليقين بزوال تلك المرتبة ، فإنه تستصحب العدالة ، لكون تلك المرتبة من الحالات لا المقوّمات ، فيكون ـ على هذا ـ من القسم الأوّل.

فبناءً على أن حقيقة الوجوب هي الإرادة ، يكون أصل الإرادة هو المشكوك فيه بعد زوال الحدّ ، فيستصحب بقاؤها ، ولذا قال المحقق العراقي هنا بجريان الاستصحاب ، كما لا أنه لا يرى التباين العرفي بين الاستحباب والوجوب خلافاً لصاحب الكفاية.

وأمّا إن قلنا بالتركيب الاتّحادي ، فإنّه مع زوال الفصل لا يعقل بقاء الجنس ، فلا مجال للاستصحاب ، وما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره ـ من أنه مع انعدام الفصل ينعدم الجنس بما هو جنس ، لكنّه بما هو متفصّل بفصلٍ عدمي يكون باقياً ، فلو قطعت «الشجرة» ينعدم «النامي» فالجهة الجنسيّة وهي حيثية استعداد الشجر للنمو منعدمة ، إلاّ أن تلك الجهة تبقى مع الفصل العدمي ، أي : فإن مادّة الشجر وهي الخشب موجودة مع عدم الاستعداد للنموّ ، فعلى القول بتركّب حقيقة الوجوب يكون الجواز باقياً ـ بعد نسخ الوجوب ـ لكن مع الحيث العدمي ، أي الجواز مع عدم المنع من الترك ـ فقد عَدَل عنه في تعليقته ، ونصّ على عدم معقوليّته ، قال : «لأن التركّب الحقيقي من جنس وفصلٍ خارجيين ، لا يتصوّر إلاّ في الأنواع الجوهريّة دون الأعراض التي هي بسائط خارجية ، فضلاً عن

٣٠٠