تحقيق الأصول - ج ٣

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-39-2
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٣٩٩

فكان المختار عنده جريان الإطلاق في طرفها ، فما معنى هذا الإطلاق؟

وهل هو صحيح؟

قال المحقّق الأصفهاني (١) :

إنّ مقتضى مقدّمات الحكمة هنا عدم تقييد الوجوب وهو مفاد الهيئة لا إطلاقه ، أي : إنّها تقتضي حيثيّة عدميّة ، وليست مقتضيةً لإطلاق الوجوب بمعنى اللاّبشرطيّة ... وتوضيح ذلك :

إنّ الوجوب النفسي والغيري قسمان من الوجوب ، وقد تقدّم أنّ النفسي هو الواجب لا لواجبٍ آخر ، والغيري هو الواجب لواجبٍ آخر ، فكان أحدهما مقيّداً بأمرِ عدمي والآخر مقيّداً بأمرٍ وجودي ، فالواجب النفسي مقيَّد بعدم كونه لواجب آخر ، والغيري مقيَّد بكونه لواجبٍ آخر ... فكلاهما مقيَّد ، وكلّ قيدٍ ـ سواء كان وجودياً أو عدميّاً ـ فهو محتاج إلى بيان.

وعلى الجملة ، فكما أنّ كون الشيء «بشرط شيء» قيد له ، كذلك كونه «بشرط لا» ، ولا بدّ لكلّ قيدٍ من بيانٍ ومئونةٍ زائدة ... وهذا مقتضى القاعدة.

لكنّ هناك موارد يرى العرف فيها استغناء القيد العدمي عن البيان ، بمعنى أنّ مجرّد عدم البيان بالنسبة إلى القيد الوجودي ، يكفي لأنْ يكون بياناً على القيد العدمي ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، وذلك : لأنّ الواجب النفسي ما كان واجباً لا لواجبٍ آخر ، والغيري ما وجب لواجبٍ ، فكان الغيري مقيّداً بكونه للغير ، وحينئذ ، فلو تعلّق الطلب بشيءٍ ولم يكن معه بيانٌ لكون هذا الطلب لشيء آخر ، كان نفس عدم البيان لذلك كافياً عند أهل العرف في إفادة أنّ هذا المطلوب ليس لواجبٍ آخر ....

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ١٠٧.

٢١

وعلى هذا ، ليس الطريق إلى تعيين حال الفرد المحقّق خارجاً من الوجوب المتعلّق بالوضوء ، من حيث النفسيّة والغيريّة ، هو التمسّك بالأصل اللفظي في مفهوم الوجوب ، كما ذهب إليه المحقّق الخراساني ، بل الصّحيح إثبات إطلاق الفرد الواقع عن طريق عدم التقييد بكونه للغير ، فإنّه يفيد كونه لا للغير ، فهذا هو المراد من الاطلاق هنا ، وهذا طريق إثباته.

وتلخّص : إنّه ليس الطريق هو التمسّك بإطلاق مفهوم الطّلب ، فإنّه لا يحلّ المشكلة ولا يخرج الفرد الواقع من التردّد بين النفسيّة والغيريّة ، لأنّ ذلك لا يحصل عن طريق إطلاق مفهوم الوجوب ، إذ الإطلاق المفهومي لا يعيّن حال الفرد الواقع ، بل الطريق الذي سلكناه هو الذي يعيّن حاله ويرفع التردّد والشك ، لأنّه أفاد عدم التقييد بالغيريّة.

أقول :

وبهذا التقريب الذي استفدناه من شيخنا الأُستاذ دام بقاه تندفع خدشة سيدنا الأُستاذ ، حيث أنه أورد كلام المحقّق الأصفهاني وذكر اشتماله على ثلاثة إيرادات على الكفاية ، ثم قال : والإنصاف أنّ هذه الوجوه مخدوشة كلّها ، ووجه الاندفاع هو أنّ مناقشته للكلام المذكور إنما جاءت على مقتضى القاعدة ، من جهة أنّ النفسيّة يحتاج إلى بيان كالعدميّة ، لأنّ كلاًّ منهما قيد زائد على أصل الوجوب ، ولا وجه لدعوى أنّه لا يحتاج إلى بيانٍ زائد بعد أن كان قيداً كسائر القيود الوجوديّة أو العدميّة (١).

لكنّ الارتكاز العرفي الذي أشار إليه المحقق الأصفهاني بقوله : «فما يحتاج إلى التنبيه عرفاً كون الوجوب لداعٍ آخر غير الواجب» هو الوجه للدعوى

__________________

(١) منتقى الأُصول ٢ : ٢١٧.

٢٢

المذكورة ، وقد وقع الغفلة عنه.

فما أفاده المحقق الأصفهاني لا محذور فيه ، لكنه ـ كما قال شيخنا ـ متّخذ من كلام صاحب الكفاية في مبحث الإطلاق والتقييد (١) ... وبيان مطلبه هناك هو :

إنّ الإطلاق يفيد تارة : الشمول والعموم الاستيعابي ، وأخرى : العموم البدلي ، وثالثة : خصوصيّة أُخرى ، غير الشموليّة والبدليّة.

مثال الأوّل : قوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (٢) ، فإنّه يفيد حليّة البيع عامّة.

ومثال الثاني : قولك : بع دارك ، فإنّه أمر ببيع داره ويفيد جواز البيع بأيّ نحوٍ من الأنحاء اختار هو ، على البدليّة ، وليس يفيد العموم الاستيعابي ، فإنّه غير ممكن كما لا يخفى.

ومثال الثالث : قول المولى : «توضّأ» من غير أنْ يعلّق الوجوب على شيء ... فهنا ليس الإطلاق من قبيل الأوّلين ، وإنّما هو لإفادة خصوصية أنّ وجوبه ليس لغيره ، لأن خصوصيّة الغيريّة هي المحتاجة إلى البيان ، وأمّا النفسيّة فيكفي فيها عدم البيان على الغيريّة ، فكان الإطلاق ـ بمعنى عدم إقامة القرينة على إرادة الغيرية ـ يقتضي النفسيّة.

القول بالإطلاق الأحوالي

وقال المحقّق الإيرواني (٣) بالإطلاق الأحوالي في الفرد المردّد بين النفسيّة والغيريّة ، لأنّ الإطلاق قد يكون أفرادياً ، وقد يكون أحواليّاً. فالأفرادي موضوعه الطبيعة وهي ذات فردين أو أفراد ، وحينئذٍ يصلح لأنْ يكون مطلقاً ، أي لا بشرط بالنسبة إلى خصوصيّة هذا الفرد أو ذاك ... كما هو الحال في «الرقبة» مثلاً ، حيث

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٢٥٢ تحت عنوان : تبصرة لا تخلو من تذكرة.

(٢) سورة البقرة : الآية ٢٧٥.

(٣) نهاية النهاية ١ / ١٥٦.

٢٣

أنّها طبيعة ذات حصّتين ، وهي قابلة لأنْ تكون هي المراد والمورد للحكم.

وأمّا الإطلاق الأحوالي ، فإنّه يجري في الفرد أيضاً ... وكلّما كانت طبيعة ذات حصّة ولكن المورد لا يصلح لأن تكون الطبيعة هي المراد ، فإنّه يجري فيه الإطلاق الأحوالي.

وعلى هذا ، فإنّ الشيخ رحمه‌الله لمّا قال بأنّ مدلول الهيئة هو الفرد ، والفرد لا يقبل الإطلاق والتقييد ، يتوجّه عليه : إنّه لا يقبل الإطلاق الأفرادي ، لكنّه يقبل الإطلاق الأحوالي.

والمحقّق الخراساني ذهب إلى الإطلاق المفهومي ، فيرد عليه الإشكال : بأنّ الإطلاق المفهومي لا مورد له في المقام ، لأن مجراه مثل «الرقبة» حيث أنّ الطبيعة تكون مورداً للحكم والإرادة ويتعلّق بها التكليف ، فيعمّ كلتا الحصّتين المؤمنة والكافرة ، بخلاف المقام ، فإنّه لا يعقل أن يكون المراد هو الأعم من النفسيّة والغيريّة ، بل إن حال الفرد الواقع خارجاً مردّد بين الأمرين ، والمقصود بيان حاله وإخراجه من حالة التردّد ، ولا يعقل الإطلاق المفهومي في الفرد ... بل يتعيّن الإطلاق الأحوالي ، فإذا كان الوجوب المتعلّق بالوضوء فرداً ، فإنّه ذو حالين ، حال وجوب الصّلاة وحال عدم وجوبها ، ومقتضى الإطلاق هو التوسعة بالنسبة إلى الحالين لهذا الفرد ، فهو توسعة في الحال لا في المفهوم.

فظهر جريان الإطلاق الأحوالي بناءً على مسلك المحقّق الخراساني من أنّ مدلول الهيئة هو مفهوم الطلب ، وهو أيضاً جار بناءً على كون مدلولها : النسبة البعثيّة أو البعث النسبي. أمّا الإطلاق الأفرادي فلا يجري ، لأن مدلول الهيئة معنىً حرفيّ والمعنى الحرفيّ جزئي ....

هذا كلّه في التمسّك بإطلاق مفاد الهيئة.

٢٤

وأمّا التمسّك بإطلاق المادّة ، فقد أفاد في (المحاضرات) (١) : بأنّه بناءً على نظرية الشّيخ من لزوم رجوع القيد إلى المادّة ، يمكن تقريب التمسّك بالإطلاق بوجهين :

الأوّل : فيما إذا كان الوجوب مستفاداً من الجملة الاسميّة ، كقوله عليه‌السلام : «غسل الجمعة فريضة من فرائض الله» فإنّه لا مانع من التمسّك في مثله بالإطلاق لإثبات النفسيّة ، إذ لو كان غيريّاً لزم على المولى إقامة القرينة.

والثاني : التمسّك بإطلاق دليل الواجب ـ كدليل الصّلاة مثلاً ـ لدفع ما يحتمل أن يكون قيداً له كالوضوء مثلاً ، ولازم ذلك عدم كون الوضوء واجباً غيريّاً ، وقد تقرّر حجيّة مثبتات الأُصول اللفظيّة.

قال الأُستاذ : إنّه لا وجه للحصر بوجهين ، بل الإطلاق الأحوالي جارٍ أيضاً كما تقدّم ... هذا أوّلاً.

وثانياً : إنّ الوجه الثاني ـ من الوجهين المذكورين ـ لا يقول به الشيخ ، وإن كان وجهاً صحيحاً في نفسه.

وتلخّص : تمامية الإطلاق بوجوهٍ ثلاثة :

١ ـ الإطلاق الأحوالي في مفاد الهيئة.

٢ ـ إطلاق المادّة ، أي مادّة الوضوء في «توضّأ».

٣ ـ إطلاق دليل الواجب.

٢ ـ مقتضى الأصل العملي

واختلف الأنظار في مقتضى الأصل العملي بعد فرض عدم تماميّة الأصل اللفظي :

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ / ٢٢١.

٢٥

رأي المحقق الخراساني :

ذكر المحقّق الخراساني (١) لمقتضى الأصل العملي ـ في دوران أمر الفرد الواقع من الوجوب بين النفسيّة والغيريّة ـ صورتين ، لأنّ وجوب ذلك الغير ـ الذي شككنا في كون هذا الشيء مقدّمةً له ، أو أنّه واجب نفسي وليس بمقدّمةٍ له ـ تارةً فعلي وأُخرى غير فعلي.

فإن كان فعليّاً ، كان الشيء المشكوك النفسيّة والغيريّة مجرى قاعدة الاشتغال ، لأنّ المفروض هو العلم بوجوبه ، إنّما الجهل في وجه هذا الوجوب. مثلاً : الوضوء واجب على تقدير النفسيّة وعلى تقدير الشرطيّة للصّلاة الواجبة بالوجوب النفسي الفعلي ، فلو تُرك الوضوء فقد تُرك واجب نفسي ، وهو الوضوء إن كان واجباً نفسيّاً أو الصّلاة المشروطة به ، فكان العلم الإجمالي المتعلّق بالمردّد بين النفسيّة والغيريّة موجباً للعلم باستحقاق العقاب في حال ترك الوضوء ، فلا محالة يكون هذا العلم الإجمالي منجزاً.

وإنْ لم يكن وجوب الغير فعليّاً ، كان مشكوكُ النفسيّة والغيريّة مجرى أصالة البراءة ، لأنّ المناط في منجزيّة العلم الإجمالي هو تعلّق العلم بالتكليف الفعلي ، والمفروض عدمه ، إذ الوضوء على تقدير كونه واجباً نفسيّاً فعلي ، وعلى تقدير كونه واجباً غيريّاً ، فهو شرط لواجب غير فعلي ، ومع عدم فعليّة المشروط لا يكون الشرط فعليّاً ، فلا يكون العلم حينئذٍ منجّزاً ، فالمرجع البراءة.

هذا كلام المحقّق الخراساني.

تفصيل الإيرواني

لكن الصّورة الثانية يتصوَّر فيها صورتان ، لأنّ ذاك الغير المفروض عدم

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١١٠.

٢٦

فعليّته ، قد يكون واجباً من قبل ثم ارتفع وجوبه ، وقد لا يكون كذلك ، فإنْ لم يكن مسبوقاً بالوجوب فالأصل الجاري هو البراءة كما ذكر. وأمّا إن كان مسبوقاً بوجوب مرتفع عنه فعلاً ، حصل لنا العلم بأنّ الواجب المشكوك في نفسيّته وغيريّته كان من قبل واجباً غيريّاً ، فالحالة المتيقّنة السابقة لهذا المشكوك فيه هو الوجوب الغيري ، وبزوال فعليّة وجوب ذلك الغير يصير هذا الوجوب الغيري مقطوع الزوال ، لأنّه بزوال وجوب المشروط بقاءً يزول وجوب الشرط كذلك ... فيكون وجوب المشكوك النفسيّة والغيريّة فرداً مردّداً بين مقطوع الزوال ومقطوع البقاء ، لأنّ هذا الوضوء ـ المشكوك كذلك ـ في كون وجوبه نفسيّاً أو غيريّاً ـ إنْ كان واجباً غيريّاً فقد زال عنه الوجوب يقيناً وإنْ كان واجباً نفسيّاً فوجوبه باق ... وعليه ، فيكون صغرى للقسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّي ....

فعلى القول بعدم جريان الاستصحاب في القسم الثاني من أقسام الكلّي ـ لا في الفرد ولا في الكلّي ـ فالمرجع أصالة البراءة ، وأمّا على القول بجريانه فيه ـ كما هو الصحيح ـ فهو أصل حاكم على البراءة ، فكانت الصورة الثانية من صورتي المحقّق الخراساني تنقسم إلى صورتين ، والحكم يختلف ... وقد نبّه على هذا المحقّق الإيرواني (١).

إشكال الأُستاذ

وأشكل عليه الأُستاذ : بأنّ المعتبر في المستصحب أن يكون حكماً شرعيّاً أو موضوعاً لحكمٍ شرعي مجعول أو موضوعاً للحكم العقلي بمناط عدم لغويّة التعبّد فإنّه ـ وإن لم يكن المستصحب حكماً أو موضوعاً لحكم ـ يكفي لأن يكون للاستصحاب أثر في الاشتغال أو الفراغ ، فلا يكون التعبّد به لغواً.

__________________

(١) نهاية النهاية ١ / ١٥٨.

٢٧

لكن استصحاب الكلّي هنا لا تتوفّر فيه هذه الضابطة ، لأنّ هذا الكلّي الذي يراد إجراء الاستصحاب فيه ـ وهو الجامع الانتزاعي بين الوجوب النفسي والوجوب الغيري ـ ليس بمجعولٍ شرعي ، إذ المجعول من قبل الشارع إمّا الوجوب النفسي أو الوجوب الغيري (١) ، ولا هو موضوع لحكم شرعي كما لا يخفى ، وهل هو موضوع للحكم العقلي على ما ذكر؟ كلاّ ... وذلك : لأنّ الحكم العقلي إنّما يتحقّق في الجامع بين الواجبين النفسيّين وإنْ كان جامعاً انتزاعيّاً ، لأنّ موضوع حكمه هو استحقاق العقاب على المخالفة ، فلو كان واجبان نفسيّان تردّد أمرهما بين مقطوع الزوال ومقطوع البقاء ، جرى استصحاب الكلّي الجامع بينهما ، وأفاد وجوب الإتيان بالجامع وترتيب الأثر عليه ، لحكم العقل باستحقاق العقاب على المعصية.

أمّا في محلّ البحث ، فأحد الوجوبين نفسي والآخر غيري ، والواجب الغيري لا يحكم العقل باستحقاق العقاب على تركه ، فإحدى الحصّتين من الكلّي غير محكومة بحكم العقل باستحقاق العقاب على تركها ، فكيف يتمّ إجراء الاستصحاب في الجامع لتحقيق الحكم العقلي؟

فتلخّص : عدم تماميّة الاستصحاب في الكلّي الانتزاعي أي : الوجوب الجامع بين النفسي والغيري. نعم ، لو صحّ جريانه في الفرد المردّد لتمّ ما ذكره المحقّق الإيرواني ، لكنّه أجلّ شأناً من أن يقول بذلك.

__________________

(١) والفرق بين الأمر الخارجي الواقعي والأمر الاعتباري هو : إنّ الكلّي قابل للجعل بتبع جعل الفرد له ، فجعل زيد هو جعلٌ للإنسان أيضاً ، إذ الكلّي الخارجي موجود بوجود فرده. أمّا الاعتباري فليس له طبيعي أي الجنس ، وليس له فرد أي النوع ، حتى يجعل له الكلّي ، بل الجامع في الاعتبارات هو الجامع الانتزاعي العقلي.

٢٨

رأي الميرزا

وذهب الميرزا (١) إلى أنّ المردّد واجب بالوجوب النفسي ، وأنّ الصّلاة مجرى البراءة. وتوضيح ذلك : إنّه إذا تردّد أمر الوضوء بين النفسيّة والغيريّة ، وكان على تقدير الغيريّة شرطاً لواجبٍ غير فعلي ، كما لو تيقّن بالنذر وتردّد بين أن يكون قد نذر الصّلاة أو نذر الوضوء ، فإنْ كان متعلّق نذره هو الوضوء فهو واجب نفسي ، وإن كان الصّلاة كان الوضوء واجباً غيريّاً. إذن ، لا فعليّة لوجوب الصّلاة ، بل إنّه فعلي على تقدير كون الوضوء واجباً غيريّاً لا نفسيّاً. فيقول الميرزا : بأنّ الوضوء واجب قطعاً ، بالوجوب النفسي أو الغيري ، وأمّا الصّلاة فهي مجرى البراءة ، لجريانها فيها بلا معارض ، وذلك : لأنّ معنى دوران أمر الوضوء بين النفسيّة والغيريّة هو تحقّق علم إجمالي بأنّ الواجب عليه بالوجوب النفسي إمّا هو الصّلاة وامّا هو الوضوء ، وهذا العلم مؤثر في التنجيز ، ولا بدّ من الإتيان بالوضوء والصّلاة معاً ، غير أنّ الوضوء يؤتى به قبل الصّلاة ، حاله حال الواجب الغيري ... لكنّ هذا العلم منحل ... لأنّ أحد الطرفين ـ وهو الوضوء ـ يقطع باستحقاق العقاب على تركه ، إمّا لكونه واجباً نفسيّاً وامّا لأن تركه يؤدّي إلى ترك الواجب المشروط به ، ومع القطع باستحقاق العقاب على تركه لا تجري البراءة فيه ، ويبقى الطرف الآخر محتمل الوجوبيّة ، فالشبهة فيه بدويّة ، وتجري البراءة فيه بقسميها.

ثمّ ذكر في نهاية الكلام أنّ المقام من صغريات التفكيك والتوسّط في التنجيز.

وتوضيح المراد من ذلك هو : إنّ الوقائع منها هو منجّز على كلّ تقدير ، ومنها ما هو غير منجّز على كل تقدير. والأوّل : هو الحكم المعلوم بالإجمال ،

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٢٥٠.

٢٩

والثاني : هو الحكم المشكوك فيه شبهةً بدوية. وهذا القسمان واضحان. والثالث منها هو : ما إذا كان العلم الإجمالي مردّداً بين الأقل والأكثر ، وهذا مورد التوسّط في التنجيز ، كما لو حصل العلم بوجوب مركب تردّدت أجزاؤه بين كونها عشرة أو أحد عشر مثلاً ، فإنّه مع ترك الجزء الحادي عشر لا يقين باستحقاق العقاب ، بخلاف الأجزاء العشرة ، فلو تركها استحق العقاب ... إذن ، فالواجب الواحد والوجوب الواحد قابل للتفكيك من حيث استحقاق العقاب وعدمه ... وهذا مراده من التوسّط والتفكيك في التنجيز.

الإشكال على رأي الميرزا

إنّما الكلام في اختصاص ذلك بمورد المركّب ذي الأجزاء الخارجيّة ـ كما ذكر ـ أو أنّه ينطبق على المركّب ذي الأجزاء التحليليّة أيضاً؟

إن حال المركّب من الأجزاء الخارجيّة هو أنّ وجوده بتحقّق أجزاءه كلّها ، فهو وجود واحد ، أمّا عدمه فيتعدّد بعدد الأجزاء ، ويتّصف بالعدم إذا عدم الجزء الأوّل ، وبعدمٍ آخر إذا عدم الجزء الثاني ، وهكذا ... فإذا دار أمره بين الأقل والأكثر ، فأيّ مقدارٍ من الأعدام بقي تحت العلم كان العلم منجّزاً بالنسبة إليه.

وهل هذا الحال موجود في الأجزاء التحليليّة كما في محلّ البحث؟

مقتضى الدقّة في كلام الميرزا : جريان التوسيط في التنجيز في الأجزاء التحليليّة أيضاً ، لأنّه كما يحصل للمركب من الأجزاء أعدام بعدد أجزائه ، كترك الصّلاة بترك القراءة ، وپتركها بترك الركوع ... وهكذا ... فإنّه يحصل له ذلك بترك كلٍّ من قيوده وشروطه ، فالصّلاة المقيَّدة بالطهارة والاستقبال و... يحصل لها تروك بعدد تلك الأُمور ، فكما ينتفي المركب بانتفاء جزئه ، كذلك ينتفي بانتفاء قيده ... وليس تعدّد الترك منحصراً بالأجزاء الخارجيّة المحقّقة للمركّب ....

٣٠

وعلى هذا ، فترك الصّلاة من ناحية ترك الوضوء منجّز ، لأنّ المفروض تحقّق العلم بوجوب الوضوء سواء كان نفسيّاً أو غيريّاً ، وإذا تعلّق العلم بالوضوء كان ترك الصّلاة من جهة ترك الوضوء مورداً للمؤاخذة ، لقيام الحجة من ناحية المولى عليه ، بخلاف ما لو تركت الصّلاة من جهة غير الوضوء ، لعدم وجود البيان والحجّة منه ، وعلى الجملة ، فقد تحقّق التنجيز بالنسبة إلى الصّلاة من حيث الوضوء ، أمّا بالنسبة إلى الصّلاة فلا ، بل الشبهة فيها بدويّة ، فالبراءة جارية في الصّلاة ، لكن وجوب الوضوء نفسي.

وتحصّل : أنّ التفكيك في التنجّز يجري في أجزاء المركب ، ويجري في القيود والشرائط ، ولا يختص بالأجزاء.

فلا يرد على الميرزا الإشكال بذلك (١).

وأورد عليه : بأن موردنا من قبيل دوران الأمر بين المتباينين ، وليس من الأقلّ والأكثر ، لأن طرفي العلم الإجمالي هما الوضوء والصّلاة ، والنسبة بينهما هو التباين.

وفيه : إنّه منقوض بالموارد التي تكون نسبة الجزء إلى الكلّ بحيث لا يطلق على الجزء عنوان الكلّ ـ كما هو في الإنسان والرقبة مثلاً ـ فلو علمنا بمقدارٍ من الأجزاء هي في العرف في مقابل المركب لا بعضه ، وتردّد الأمر بينه وبين سائر الأجزاء ، كان لازم ما ذكر عدم جريان البراءة. مثلاً : الصّلاة مركّبة من أجزاء أوّلها التكبير وآخرها التسليم ، فلو تعلّق العلم بالتكبير وحده وشكّ في الزائد تجري البراءة عنه ، مع أنّ النسبة بين التكبير والصّلاة هو التغاير والتباين ، إذ لا يصدق عنوان الصّلاة على التكبير وحده.

__________________

(١) منتقى الأُصول ٢ / ٢٣١.

٣١

وأمّا حلّ المطلب فهو : أنّ ملاك انحلال العلم ليس خصوصيّة الأقل والأكثر ، حتى لا ينحل ولا تجري البراءة إذا كانت النسبة التباين ، بل الملاك على التحقيق ـ وعليه الميرزا ـ هو كون أحد الطرفين مجرى الأصل دون الطرف الآخر ، فإذا كان أحد الطرفين فقط مجرى الأصل ـ سواء كانا متباينين أو أقل وأكثر ـ جرت البراءة. وفيما نحن فيه : الوضوء وإنْ لم يكن جزءاً من الصّلاة بل هو شرط لها ، إلاّ أنّ الأصل لا يجري في الوضوء وهو جارٍ في الصّلاة ، لأنّ الوضوء معلوم الوجوب على كلّ تقدير ، دون الصّلاة فإنّها مشكوكة الوجوب.

وأورد عليه : بأنّه يعتبر في انحلال العلم الإجمالي وجود السنخيّة بين المعلوم بالإجمال والمعلوم بالتفصيل ، وذلك كما في مثال أجزاء الصّلاة ، فلو علم إجمالاً بالوجوب النفسي ، وتردّد بين أن يكون عشرة أجزاء من المركب أو أحد عشر ، فإن عنوان «الوجوب النفسي» ينطبق على العشرة ، الذي أصبح المعلوم بالتفصيل.

أمّا فيما نحن فيه ، فلا توجد هذه المسانخة ، لأنّ المعلوم بالإجمال أوّلاً هو «الوجوب النفسي» إذ تردّد بين الصّلاة والوضوء ، لكن المعلوم بالتفصيل في طرف الوضوء هو الجامع بين النفسيّة والغيريّة ، فهو غير المعلوم بالإجمال الأوّلي.

وفيه : إنّه ليس الملاك ذلك ، بل الملاك ما ذكرناه من كون أحد الطرفين موضوعاً للأصل دون الطرف الآخر.

وأورد عليه : بأنّ المفروض هو العلم الإجمالي بوجوب الوضوء ، مردّداً بين كونه نفسيّاً أو غيريّاً ، فإن كان في الواقع نفسيّاً استحقّ العقاب على تركه ، وأمّا إن كان وجوبه غيريّاً فلا يستحقّه ، لكنّ انحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي

٣٢

في طرف وشك بدوي في طرف آخر ، إنّما هو حيث يكون العلم التفصيلي متعلّقاً بتكليفٍ منجّز موجبٍ لاستحقاق العقاب ، وقد تقدّم أنّ الوضوء على تقدير كون وجوبه غيريّاً لا يستحق العقاب على تركه ، فالعلم الإجمالي المردّد بين النفسيّة والغيريّة باقٍ على حاله ، لعدم استلزام مخالفته لاستحقاق العقاب على كلّ تقدير.

وفيه : إنّه إن كان المقصود إثبات استحقاق العقاب على ترك الوضوء نفسه فالإشكال وارد ، للشك في كونه واجباً نفسيّاً ، والوجوب الغيري لا تستتبع مخالفته استحقاق العقاب. لكنّ المقصود من إجراء البراءة هو رفع التكليف والتوسعة على المكلّف ، وهذه التوسعة لا تكون في طرف الوضوء للعلم التفصيلي بوجوبه ، فلا يمكن الترخيص في تركه ، لكون وجوبه إمّا نفسيّاً فلا يجوز تركه ، وامّا غيريّاً فكذلك لأنّه يؤدي إلى ترك الصلاة ، أمّا في طرف الصّلاة فهي حاصلة بأصالة البراءة.

والحاصل : إنّ المهم كون المورد مجري لأصالة البراءة وترتّب أثر هذا الأصل ، أعني التوسعة والمرخصيّة للمكلّف ، وهذا حاصل ، لوجود مناط الانحلال الحكمي للعلم الإجمالي ، وهو جريان البراءة في طرف وهو الصّلاة ، لوجود المقتضي لجريانه وعدم المانع عنه ، دون الآخر وهو الوضوء للعلم التفصيلي المتعلّق به.

الإشكال الأخير :

إنّ هذا العلم الإجمالي لا ينحلّ ، لأنّه يلزم من انحلاله عدم الانحلال. وهو الإشكال الذي اعتمده الأُستاذ في الدّورة السابقة في ردّ رأي الميرزا في المقام.

وتوضيح ذلك : إنّ الغرض هو حلّ مشكلة دوران أمر الوضوء بين النفسيّة والغيريّة ، ونتيجة انحلال هذا العلم الإجمالي هو الاشتغال بالنسبة إلى الوضوء

٣٣

والبراءة عن الصّلاة. لكنّ البراءة إنّما تجري حيث يقطع بجريانها ـ وإلاّ فالظن بجريانها لا يفيد فضلاً عن الشك فيه ـ والقطع بجريان البراءة في الصّلاة يستلزم القطع بعدم المؤاخذة على ترك الوضوء ، لكونه مقدّمةً لها ، لأنّ القطع بعدم المؤاخذة على ترك ذي المقدّمة يستلزم القطع بعدمها على ترك مقدّمته ، وإذا حصل القطع بعدم المؤاخذة على ترك الوضوء ، حصل العلم بتعلّق التكليف به على تقدير ، والعلم بعدم المؤاخذة به على تقدير ، فلم يحصل العلم التفصيلي بالنسبة إليه ، فلا تجري قاعدة الاشتغال ، بل يكون الوضوء مجرى أصالة البراءة.

وفيه : إن كان المقصود من الانحلال هو الانحلال العقلي ، فالإشكال وارد ، لكن المقصود هو انحلال العلم الإجمالي بحكم الشارع ، والحكم العقلي هنا معلّق على عدم الانحلال الشرعي ، فإنّ العقل حاكمٌ بضرورة ترتيب الأثر على العلم الإجمالي بين الوضوء والصّلاة ما دام لم يصل مؤمّن من قبل الشارع ، ومع وصوله يرتفع موضوع حكم العقل ، والمؤمّن هنا حديث الرفع ، إذ المقتضي لجريانه موجود والمانع عنه مفقود ، وهذا المعنى متحقّق في طرف الصّلاة إذ شك في وجوبها النفسي ، فتمّ المقتضي لجريان أصل البراءة ، ومع وجود العلم التفصيلي في طرف الوضوء لا موضوع لجريان الأصل فيه ، فلا معارض لأصالة البراءة في الصّلاة.

أقول :

كان هذا ملخّص ما استفدناه من كلامه دام بقاه في الدّورة اللاّحقة. ولكنّ الاستدلال بحديث الرفع هنا يبتني على أن يكون المرفوع فيه هو المؤاخذة من جهة العمل نفسه أو من جهة غيره المترتّب عليه ، فإنّه على هذا المبنى يكون الوضوء مشمولاً لحديث الرفع ، إذ بتركه يترتّب العقابُ على ترك الصّلاة لكونه

٣٤

مقدمةً لها.

وأمّا على القول بأنّ المرفوع هو المؤاخذة على خصوص العمل ـ كما هو مختار السيد الأُستاذ ـ فلا يتم الاستدلال به ، فراجع (١).

رأي السيد الخوئي

وذكر السيد الخوئي في مقام الأصل العملي (٢) أربعة صور :

(الصورة الأُولى) ما إذا علم المكلّف بوجوب شيء إجمالاً في الشريعة وتردّد بين كونه نفسيّاً أو غيريّاً ، وهو يعلم بأنّه لو كان غيريّاً لم يكن وجوب ذلك الغير بفعلي ، كما إذا علمت الحائض بوجوب الوضوء عليها وشكّت في أنّ وجوبه عليها نفسي أو غيري ، وأنّه في حال الغيريّة للصّلاة فلا فعليّة لوجوبها لكونها حائض.

(الصورة الثانية) ما إذا علم المكلّف بوجوب شيء فعلاً وتردّد بين كون وجوبه نفسيّاً أو غيريّاً ، وهو يعلم أنّه لو كان غيريّاً ففعليّة وجوب الغير يتوقّف على تحقق ذلك الشيء خارجاً. كما إذا علم بتحقّق النذر ولكنْ تردّد بين الوضوء والصّلاة ... كما تقدّم.

وقد ذهب قدس‌سره إلى البراءة في كلتا الصورتين ، أمّا في الأولى ، فهي جارية في الشيء المشكوك فيه ، لعدم العلم بوجوبٍ فعلي على كلّ تقدير ، إذ على تقدير الغيريّة لا يكون فعليّاً لعدم فعليّة وجوب ذي المقدمة. وأمّا في الثانية ، فهي جارية في الصّلاة على ما تقدّم بيانه.

(الصورة الثالثة) ما إذا علم المكلّف بوجوب كلٍّ من الفعلين في الخارج ،

__________________

(١) منتقى الأُصول ٢ / ٢٢٦ ـ ٢٢٧.

(٢) محاضرات في أُصول الفقه ٢ / ٢٢٢.

٣٥

وشك في أنّ وجود أحدهما مقيّد بوجود الآخر مع علمه بتماثل وجوبيهما من حيث الاطلاق والاشتراط من بقية الجهات ، أي إنهما متساويان إطلاقاً وتقييداً ، كوجوب الوضوء والصّلاة مثلاً.

فذكر عن الميرزا القولَ بالبراءة ، واختار هو الاحتياط ، (قال) : قد أفاد شيخنا قدس‌سره : أنّ الشك حيث أنّه متمحّض في تقييد ما علم كونه واجباً نفسيّاً كالصلاة بواجب آخر وهو الوضوء ـ مثلاً ـ فلا مانع من الرجوع إلى البراءة عن ذلك التقييد ، لفرض أن وجوب الصّلاة والوضوء معلوم ، ومتعلّق الشك خصوص تقييد الصّلاة به أي خصوصيّة الغيريّة ، فالبراءة تجري عن التقييد.

(فأجاب) بأنّ أصالة البراءة عن التقييد المذكور معارضة بأصالة البراءة عن وجوب الوضوء بوجوب نفسي ، وذلك لأنّ المعلوم تفصيلاً وجوبه الجامع بين النفسي والغيري ، وأمّا الخصوصيّة فمشكوك فيها ، فلا مانع من جريان الأصل في الخصوصيّة في كلا الطرفين ، ويتعارض الأصلان ، ويكون المرجع قاعدة الاحتياط ، فيجب الإتيان بالوضوء أوّلاً ، ثمّ بالصّلاة.

أقول :

وقد قرّب الأُستاذ دام بقاه رأي السيد الخوئي في هذه الصّورة وأوضح الفرق بينها وبين الصّورة السابقة التي قال فيها بالبراءة عن الصّلاة ... بأنّ صورة المسألة السابقة هي : إمّا الصّلاة واجبة بالوجوب النفسي وامّا الوضوء ، ومعنى ذلك أنّه إن كان الواجب النفسي هو الصّلاة فالوضوء وجوبه غيري ، ولذا تحقّق العلم التفصيلي في وجوب الوضوء ، والشك البدوي في وجوب الصّلاة. أمّا الصّورة الثالثة هذه ، فلا شكّ في وجوب الصّلاة ـ ووجوبها نفسي ـ بل الشك في ناحية الوضوء ، وللعلم الإجمالي طرفان ، أحدهما : الوجوب النفسي للوضوء ،

٣٦

والآخر : الوجوب الغيري له ... ومقتضى العلم الإجمالي هو الاحتياط.

فالحقّ مع المحاضرات خلافاً للميرزا.

(الصّورة الرابعة) ما إذا علم المكلّف بوجوب كلٍّ من الفعلين وشكّ في تقييد أحدهما بالآخر ، مع عدم العلم بالتماثل بينهما من حيث الإطلاق والتقييد ، وذلك : كما إذا علم باشتراط الصّلاة بالوقت وشك في اشتراط الوضوء به من ناحية الشك في أنّ وجوبه نفسي أو غيري ، وأنّه على الأوّل غير مشروط وعلى الثاني مشروط ، لتبعيّة الوجوب الغيري للنفسي في الإطلاق والاشتراط.

(قال) : وقد أفاد شيخنا الأُستاذ أن البراءة جارية من جهات (الأُولى) : الشك في تقييد الصّلاة بالوضوء ، وهو مجرى البراءة ، فتصحّ بلا وضوء.(الثانية) : الشك في وجوب الوضوء قبل الوقت الذي هو شرط لوجوب الصّلاة ، والمرجع البراءة ، ونتيجة ذلك نتيجة الغيريّة من ناحية عدم ثبوت وجوبه قبل الوقت في المثال (الثالثة) : الشك في وجوب الوضوء بعد الوقت بالإضافة إلى من أتى به قبله ، ومرجع هذا الشك إلى أنّ وجوبه قبل الوقت مطلق أو مشروط بما إذا لم يؤت به قبله ، وبما أنّ ذلك مشكوك فيه بالإضافة إلى من أتى به قبله ، فلا مانع من الرجوع إلى البراءة ، والنتيجة تخيير المكلّف بين الإتيان بالوضوء قبل الوقت وبعده ، قبل الصّلاة وبعدها.

(قال) ولنأخذ بالنظر في هذه الجهات ، بيان ذلك : إن وجوب الوضوء في مفروض المثال ، المردّد بين النفسي والغيري ، إن كان نفسيّاً ، فلا يخلو من أنْ يكون مقيّداً بإيقاعه قبل الوقت أو يكون مطلقاً ، وإن كان غيريّاً ، فهو مقيَّد بما بعد الوقت على كلّ تقدير.

وعلى الأوّل ، فلا يمكن جريان البراءة عن تقييد الصّلاة بالوضوء ،

٣٧

لمعارضته بجريانها عن وجوبه النفسي قبل الوقت ، للعلم الإجمالي بأنّه إمّا واجب نفسي أو واجب غيري ، وجريان البراءة عن كليهما مستلزم للمخالفة القطعيّة العمليّة ؛ فلا بدّ من الاحتياط والوضوء قبل الوقت ، فإن بقي إلى ما بعده أجزأ عن الوضوء بعده ولا تجب الإعادة ، وإلاّ وجبت لحكم العقل بالاحتياط.

وعلى الثاني : فلا معنى لإجراء البراءة عن وجوب الوضوء قبل الوقت ، لعدم احتمال تقيّده به ، لأنّ مفاد أصالة البراءة رفع الضّيق عن المكلّف لا رفع السّعة ، وأمّا بعد الوقت فيحكم العقل بوجوب الوضوء ، للعلم الإجمالي بوجوبه إمّا نفسيّاً وامّا غيريّاً ، ولا يمكن إجراء البراءة عنهما معاً ، ومعه يكون العلم الإجمالي مؤثّراً ويجب الاحتياط.

نعم ، لو شككنا في وجوب إعادة الوضوء بعد الوقت على تقدير كونه غيريّاً ، أمكن رفعه بأصالة البراءة ، لأنّ تقييده بما بعد الوقت على تقدير كون وجوبه غيريّاً مجهول ، فلا مانع من الأصل ، لأنّ وجوبه إنْ كان نفسيّاً فهو غير مقيّد بذلك ، وإن كان غيريّاً ، فالقدر المعلوم تقيّد الصّلاة به وأمّا تقيّدها بخصوصيّة بعد الوقت فشيء زائد مجهول ، فيدفع بالأصل.

فالبراءة لا تجري إلاّ في الجهة الأخيرة.

رأي الشيخ الأُستاذ

وخالف الشيخ الأُستاذ الميرزا القائل بالبراءة في الصّورة ، والسيد الخوئي القائل بالتفصيل فيها كما تقدَّم ، واختار الاحتياط في الجهات الثلاثة ، أي : وجوب الإتيان بالوضوء قبل الصّلاة ... وخلاصة كلامه هو :

إنّ جريان أصالة البراءة في أطراف العلم الإجمالي موقوف على إخراج مورد الشّبهة عن الطرفيّة للعلم وكون الشك فيه بدويّاً ، وإلاّ لم يجر الأصل. هذا

٣٨

بناءً على مسلك العليّة. وأمّا بناءً على مسلك الاقتضاء ، فالانحلال لا يحصل إلاّ بخروج مورد الشّبهة عن الطرفيّة للمعارضة. ومن الواضح أنّ وقوع المعارضة فرع وجود المقتضي للجريان في كلّ طرفٍ ، فيكون الأصل جارياً فيهما ويسقطان بسبب المعارضة.

وعلى هذا ، فإنّ معنى الشك بتقيُّد أحدهما بالآخر ـ في عنوان الصورة الرابعة ـ بأن تكون الصّلاة مقيّدةً بالوضوء ، هو كون وجوب الصّلاة نفسيّاً ووجوب الوضوء غيريّاً ، فيحصل لنا علم إجمالي في الوضوء بين أن يكون وجوبه نفسيّاً أو غيريّاً ، لكنّ حصول العلم الإجمالي بالوجوب النفسي أو الغيري للوضوء مسبوق بعلم إجمالي مردّد بين الوجوب النفسي للوضوء والوجوب النفسي للصّلاة ، ـ والعلم الإجمالي المذكور في الوضوء تابع لهذا العلم الإجمالي السّابق ـ ومن المحال تحقّق العلم الإجمالي بين النفسيّة والغيريّة للوضوء بدون العلم الإجمالي بالوجوب النفسي للوضوء أو الوجوب النفسي للصّلاة ... وعليه ، فكما أنّ المقتضي لجريان الأصل موجود في طرف الوضوء ، كذلك هو موجود في طرف الصّلاة ، والأصلان يجريان ويتعارضان ، ويتنجّز العلم الإجمالي ويجب الاحتياط.

والحاصل : إنّ العلم الإجمالي في الوضوء ـ وأنّه إن كان نفسيّاً فكذا وإنْ كان غيريّاً فكذا ـ تابع للعلم الإجمالي بالوجوب النفسي للصّلاة أو الوضوء ـ سواء كان في الطول كما هو الصحيح أو في العرض ـ وإذا تساقط الأصلان في العلم المتبوع وجب الاحتياط.

٣٩

تذنيبٌ

وفيه أمران

الأمر الأول

في حكم الواجب الغيري من حيث الثواب والعقاب

إنّه هل يترتّب الثواب والعقاب على امتثال ومخالفة الواجب الغيري كما يترتّب ذلك على الواجب النفسي ، أو بين الواجبين فرق من هذه الجهة؟

أمّا الواجب النفسي ، فلا إشكال في ترتّبهما على امتثاله ومخالفته.

كلام المحقّق الأصفهاني في الواجب النفسي

وقد ذكر المحقق الأصفهاني لذلك وجوهاً ثلاثة :

أحدها : قاعدة اللطف ، فإنها تقتضي تكليف العباد لغرض إيصالهم إلى المصالح المترتّبة على التكاليف وإبعادهم عن المفاسد المترتّبة على تركها أو إتيان المحرّمات ، وهذا لطف عظيم ، إلاّ أنّ للوعد والوعيد دخلاً في تحقّق الامتثال وقبول البشارة والنذارة ، ولا ريب في وجوب الوفاء بالوعد ، فيكون ترتّب الثواب على الأعمال واجباً شرعاً ، وكذا استحقاق العقاب على المخالفة والمعصية.

والثاني : تجسّم العمل ، فإنّ هناك ملازمةً بين الأعمال وبين الصّور المناسبة لها ، فالعمل إن كان حسناً تحقّقت صورة حسنة مناسبة له ، وإن كان سيّئاً تحقّقت صورة مناسبة له ... وهذا وجه آخر لترتّب الثواب والعقاب على الإطاعة

٤٠