تحقيق الأصول - ج ٣

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-39-2
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٣٩٩

١ ـ عدم جريان الترتب مطلقاً.

٢ ـ الجريان مطلقاً.

٣ ـ التفصيل بما إذا كان اعتبار القدرة في الخطاب بحكم العقل كما عليه المحقق الثاني فلا يجري ، وأمّا بناءً على اعتبارها باقتضاء الخطاب كما عليه الميرزا النائيني فيجري.

ولا بدّ من النظر في أصل تحقّق التزاحم في هذه الصّورة ، فالميرزا على أنّ التزاحم موجود بين إطلاق الأمر بالموسّع وأصل الأمر بالمضيّق ـ بخلاف المضيّقين فهو بين أصل دليل كلٍّ من الواجبين ـ ولكنّ هذا إنما يتم على مسلكه ، أمّا على مسلك المحقق الثاني ، حيث اعتبرت القدرة في جواز التكليف بحكم العقل من باب قبح تكليف العاجز ، فلا تزاحم أصلاً ، إذ يكفي في صحّة التكليف عند العقل تمكّن المكلّف على فردٍ ما من أفراد الطبيعة ، وعلى هذا ، فإن الفرد المزاحم بالمضيّق غير مقدور ، أمّا غيره من الأفراد فمقدور ، وهذه القدرة تكفي لصحّة الخطاب المتعلّق بالطبيعة ، فلا موضوع للترتب ، لكونه فرع التزاحم ...

ونتيجة ذلك على مسلك المحقق الثاني اختصاص الترتب بالمضيّقين.

وأمّا على مبنى الميرزا ، فإنّ مقتضى نفس الخطاب توجّه التكليف إلى الفرد المقدور من الطبيعة ، لأنّ حقيقة التكليف هي البعث ، والبعث يقتضي الانبعاث ، وهو لا يتحقق إلاّ بالنسبة إلى الفرد المقدور ، فلا محالة يتقيّد المأمور به بذلك ، ويخرج غير المقدور عن دائرة اطلاق المأمور به ، ويتوقف شموله له على جواز الترتب ، فإن جوّزناه كان داخلاً في الإطلاق عند عصيان الأمر بالأهم ، وإلاّ كان خارجاً عنه. يعني : إن شمول الإطلاق للفرد المزاحم غير ممكن ، لكونه ممتنعاً شرعاً بسبب مزاحمة الأمر بالمضيّق له ، فينصرف الإطلاق عنه ، فلو أُريد جعله

٢٦١

مأموراً به فلا مناص من الالتزام بالترتب ، بأن يتقيّد الاطلاق بالعصيان كما لو قال :

أزل النجاسة عن المسجد فإن عصيت تجب عليك الصّلاة.

كلام المحاضرات

وجاء في المحاضرات ـ بعد الإيراد على الميرزا والمحقق الثاني ، بأن القدرة غير مأخوذة في متعلّق التكليف لا من جهة اقتضاء الخطاب ولا من جهة حكم العقل ، بل هي معتبرة في ظرف الامتثال والطاعة ـ إن جريان الترتب في المقام مبني على مسلك الميرزا من أن استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق ، وبما أنّ تقييد المهم في المقام بخصوص الفرد المزاحم محال ، لكون هذا الفرد ممتنعاً شرعاً ، والممتنع الشرعي كالممتنع العقلي ، فالإطلاق أيضاً محال ، لكون النسبة بينهما نسبة العدم والملكة.

ثم أورد عليه : بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل التضادّ ، فلا يستلزم استحالة أحدهما ـ في موردٍ ـ استحالة الآخر ولمّا كان التقييد بالفرد المزاحم غير معقول ، والإهمال كذلك ، كان الإطلاق ضروريّاً ، فيمكن الإتيان بالفرد بداعي امتثال الأمر المتعلّق بالطبيعة.

(قال) فجريان الترتب هنا مرتكز على أحد أمرين : الأوّل : دعوى اقتضاء نفس الخطاب اعتبار القدرة في المتعلّق ، وأنه يوجب تقييده بالحصّة المقدورة. والثاني : دعوى أن استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق. لكنّ الدعويين فاسدتان كما تقدّم.

فالصحيح : أن يقال بخروج المسألة عن كبرى التزاحم ، لتمكّن المكلّف فيها من الجمع بين التكليفين في مقام الامتثال (١).

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ / ٤٩١ ـ ٤٩٢.

٢٦٢

قال الأُستاذ

أمّا ما ذكره من النسبة بين الإطلاق والتقييد فتام ، إذ الصحيح كون الإطلاق رفض القيود لا جمعها ، فبناءً عليه وبالنظر إلى أنّ الحكم يستحيل أن يتجاوز عن متعلّقه ، يثبت وجوب الإطلاق ، ومجيء الحكم على طبيعي الصّلاة لا على أفرادها ، فليس الواجب هذا الفرد أو ذاك ، بل الفرد مصداق للواجب ... فما جاء في المحاضرات متينٌ ، إلاّ أنّ النظر في إيراده على الميرزا ، وذلك :

أوّلاً : إن الذي استند إليه الميرزا لاستحالة الإطلاق ، ليس كون النسبة بينه وبين التقييد هو العدم والملكة ، كما لا يخفى على من راجع (أجود التقريرات) و (فوائد الأُصول) (١) ، بل مستنده هو القصور الذاتي للخطاب ، ولذا جوّز الاطلاق على مسلك المحقق الثاني ، فلو كان وجه عدم جواز الإطلاق استحالة تقييد التكليف بالفرد المزاحم ، لما تعقّل الميرزا الإطلاق على ذاك المسلك ، لأن استحالة تقييده واضحة على كلا المسلكين.

وثانياً : لقد ذكر الميرزا في وجه نظره : إن البعث إنما يكون نحو الفرد المقدور فالإطلاق محال ، ولذا يقع التزاحم هنا بين إطلاق الواجب الموسّع وأصل وجوب الواجب المضيّق ، أمّا على مبنى المحقق الثاني فلا تزاحم.

وإذا كان الميرزا يعبّر بالتزاحم ، فلا بدّ وأن يكون وقوعه هنا معقولاً ، أمّا لو كان الاطلاق مستحيلاً ـ لكونه عدم ملكة ـ فكيف يصح التعبير بالتزاحم؟

فظهر : أن كلامه في المقام مستند إلى الضيق الذاتي للخطاب ، وليس مستنداً إلى تقابل العدم والملكة بين الاطلاق والتقييد ... فالإشكال عليه من هذه الناحية غير وارد.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ٩٧ فوائد الأُصول (١ ـ ٢) ٣٧٣ ـ ٣٧٤ ط جامعة المدرسين.

٢٦٣

بل الإشكال الوارد على الميرزا : أمّا من ناحية المبنى ، فالصحيح أن اعتبار القدرة في التكليف هو بحكم العقل وفاقاً للمحقق الثاني ، لأنّ التكليف ليس هو البعث ـ كما ذكر الميرزا ـ بل هو جعل الشيء في الذمّة ـ وفاقاً للسيد الخوئي ـ كما هو ظاهر الأدلّة اللفظيّة من قبيل (كُتِبَ عَلَيْكُمُ ...) ونحوه ، وهو المرتكز عند العرف ، والبعث والانبعاث من آثار جعله في الذمّة ....

وأمّا من ناحية البناء بعد فرض صحّة المبنى : فقد تقرّر أن متعلّق التكليف هو الطبيعة ، والأفراد خارجة ، فلو كان اعتبار القدرة بنفس الخطاب وكان حقيقة التكليف هو البعث ، فلا بدّ من إمكان الانبعاث نحو المتعلّق ، ومن المعلوم أن القدرة على المتعلّق ـ وهو الطبيعة ـ تحصل بالقدرة على فردٍ ما من أفرادها ، فما أمكن الانبعاث نحوه هو الفرد ، لكنّ الفرد غير متعلّق للتكليف ، وما تعلّق به التكليف هو الطبيعة ، وهي ملغى عنها الخصوصيات الفردية لا يمكن الانبعاث نحوها ، وإذا كان الامتثال يحصل بفردٍ ما من أفرادها فلا يتحقق التزاحم ، فلا مورد للترتب.

التنبيه الرابع

(في الترتب في التدريجيات)

هل تجري مسألة الترتب في الواجبين التدريجيين أو أحدهما تدريجي والآخر آنيّ أو لا؟

والكلام في ثلاث صور :

١ ـ أن يكونا تدريجيين.

٢ ـ أن يكون الأهم آنيّاً والمهم تدريجيّاً.

٢٦٤

٣ ـ أن يكون المهم آنيّاً والأهم تدريجيّاً.

فإن كان الأهمّ آنيّاً والمهم تدريجيّاً ، كان الجزء الأوّل من المهم التدريجي مزاحماً للأهم الآني ، فعلى الترتّب يكون وجوب هذا الجزء مشروطاً بمعصية الأمر بالأهم الآنيّ ، وتكون معصيته شرطاً مقارناً للوجوب الفعلي للمهم ، فإن عصى الأهم وأتى بالمهم صحّ ... ولا كلام.

وإن كان المهم والأهم تدريجيّين ، وقع الإشكال والبحث ـ بالإضافة إلى مسألة الترتب ـ من جهة لزوم الالتزام بالشرط المتأخّر أو بالواجب المعلّق. إذن ، يتوقّف الفتوى بصحّة العمل ـ علاوةً على القول بالترتب ـ بالالتزام بالشرط المتأخّر.

وذلك : لأنّ المفروض أن هنا واجبين تدريجيّين كإزالة النجاسة من المسجد في أوّل الوقت ـ وهي الأهم ـ والصّلاة وهي المهم ، ومن الواضح أنّ فعليّة الأمر بالصّلاة متوقفة على معصية الأمر بالإزالة ، لكن معصيتها تدريجيّة ، وتستمرّ إلى آخر الصّلاة ، بأن يُعصى الأمر بالإزالة في وقت التكبير والقيام والركوع والسجود ... وهكذا إلى التسليم ، ولو لا معصية الإزالة في وقت كلّ جزءٍ فلا فعليّة للجزء ... وعليه ، فإنّ فعليّة الأمر بالتكبيرة مشروطة بعِصيان الأمر بالإزالة في وقت الأجزاء اللاّحقة لتكبيرة الإحرام ، وهذا معناه الالتزام بالشرط المتأخّر.

كما يلزم الالتزام بالواجب المعلّق ، لأنّ فعليّة الوجوب للتكبيرة متوقفة على امكان الواجب المعلّق ، لأنّ وجوب الجزء الآخر للواجب التدريجي استقبالي ، ولو لا وجوبه لما ثبت وجوب لتكبيرة الإحرام.

فظهر أنّ تصوير الترتّب في هذه الصّورة يتوقّف على القول بالشرط المتأخّر والقول بالواجب المعلّق ، فمن قال بجوازها كلّها فهو في راحة ، ومن قال

٢٦٥

بالترتب وأنكر الشرط المتأخّر والواجب المعلّق ـ كالميرزا قدس‌سره ـ لم يمكنه إجراء الترتب ، وكان مورد الترتب المتزاحمين الآنيّين فقط ، كإنقاذ الغريقين وما شابه ذلك.

تفصّي الميرزا

لكن الميرزا قدس‌سره تفصّى عن هذه المشكلة (١) بأنّ مشكلة التزاحم كانت من ناحية عدم القدرة على امتثال كلا الأمرين ، فكان القول بالترتّب ـ بأن يكون شرط التكليف بالأمر بالمهم هو عصيان الأمر بالأهم ـ هو الطريق لحلّ المشكلة ، لأن اشتراط التكليف بالقدرة حكم عقلي ، وهو يرى أن بتحقّق هذا الشرط يتحقّق الامتثال ....

وعلى هذا ، فإنّ الشرط ـ في صورة التدريجيّين ـ هو القدرة على الجزء الأوّل من أجزاء الواجب التدريجي المتعقّبة بالقدرة على سائر أجزائه ، فشرط وجوب الصّلاة ـ مثلاً ـ هو القدرة على التكبيرة المتعقّبة بالقدرة على سائر أجزائها حتى التسليمة ، وهذا العنوان ـ عنوان التعقّب ـ حاصل بالفعل ، فيندفع بهذا البيان محذور الالتزام بالشرط المتأخّر ، فيكون شرط فعليّة وجوب الأمر بالمهم عصيان الأمر بالأهم في الآن الأوّل متعقّباً بعصيانه في بقيّة الآنات ، وقد فرض تحقّق عصيانه في آن أوّل امتثال الأمر بالمهم المتعقّب بعصيانه في سائر أزمنة امتثال المهم ، فيكون من الشرط المقارن لا من الشرط المتأخر.

اشكال السيد الخوئي

وقد أشكل عليه في (المحاضرات) : بأن لا محصّل لجعل عنوان التعقّب

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ٩٨ ـ ٩٩.

٢٦٦

هو الشرط ، لعدم الدليل عليه (١).

دفاع الأُستاذ عن الميرزا

فقال الأُستاذ : بأن كلام الميرزا دقيق ، وذلك ، لأن أساس حكم العقل هو استحالة تعلّق الأمر بالضدّين ، للزوم التكليف بالمحال أو التكليف المحال ، وأساس ذلك هو عجز المكلّف عن الامتثال ، فكان الحاصل عدم وجود القدرة على امتثال الأمر بالمهم ، أمّا مع عصيان الأمر بالأهم فالقدرة تحصل ، وإذا حصلت تحقق الشرط لوجوب المهم ، فيجب امتثاله ... وهذا هو الأساس في نظرية الترتب.

وعليه ، فإن العصيان للأهم إنما يكون شرطاً للمهم من جهة حصول القدرة على المهم بذلك ، وإلاّ فالمكلّف عاجز عن امتثاله ، ففي المورد الذي يستمرّ فيه الأمر بالأهم إلى آخر جزءٍ من أجزاء المهم ، ـ كما هو الفرض في الإزالة بالنسبة إلى الصّلاة ـ تتحقّق القدرة على المهم فيما إذا استمرت معصية الأهمّ إلى الآخر ، وإلاّ ، فلا تحصل القدرة التي هي شرط التكليف بالمهم بحكم العقل ، فيعتبر في فعليّة وجوب الصّلاة القدرة المستمرة ، وهي لا تتحقّق إلاّ بالعصيان المستمر للأمر بالإزالة ، ومع فرض تعقّب معصية الجزء الأوّل من الأهم ، أو المعصية في الآن الأول من آناته بالمعصية إلى الآن والجزء الأخير ، تكون القدرة على المهمّ حاصلةً على الصّلاة ، ويحكم العقل بوجوب الامتثال.

وإن كان الأهم تدريجياً والمهم آنيّاً ... فالإشكال على حاله ، لأنّ المفروض استمرار الأهم ، وبالاشتغال به من الآن الأوّل تنتفي القدرة على المهم الآني.

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ / ٤٠٦ في الدليل اللّمي على الترتّب.

٢٦٧

التنبيه الخامس

(في حكم الاطلاع على الأهم بعد الاشتغال بالمهم)

إنه تارةً : يطّلع على الأهم قبل الاشتغال بالمهم ، وأُخرى : بعده. فإن كان الأوّل فالترتّب جارٍ ، وإن كان الثاني فصورتان ، إحداهما : ما إذا لم يكن قطع المهم محرّماً ، فالترتب جارٍ كذلك. والثانية : ما إذا كان قطعه حراماً ، فالميرزا على أن لا ترتب بل الأمر بالمهم متوجّه والامتثال له متحقق.

والمثال الواضح هو الإزالة والصّلاة ... فلو التفت إلى النجاسة في المسجد وهو في الصّلاة ، فالصّلاة مأمور بها حتى بناءً على انكار الترتب ، فإن كان دليل وجوب الأهم هو الإجماع ، كان المورد خارجاً عن القدر المتيقّن ، وهو صورة الاشتغال بواجبٍ ، والمفروض كونه في الصّلاة. وإن كان دليله لفظيّاً وكان مطلقاً ، قطع الصّلاة وعمل بمقتضى الترتب.

إشكال السيد الخوئي

فأشكل عليه : بأن دليل حرمة قطع الصّلاة إن كان هو الأخبار في أن تحليلها التسليم ، فالأمر كما أفاد الميرزا ، لأن القدر المتيقّن من الإجماع على وجوب إزالة النجاسة عن المسجد فوراً ، إنما هو في غير ما دلّ الدليل اللّفظي بإطلاقه على وجوب المضيّ في الصّلاة ، المستلزم لتأخير الإزالة إلى زمان الفراغ منها. وأمّا إن كان دليل حرمة قطع الصّلاة هو الإجماع فقط ، لعدم دلالة تلك الأخبار إلاّ على الحكم الوضعي فلا تفيد الحرمة التكليفيّة ، فلا موجب لتقدّم وجوب المضيّ في الصّلاة على وجوب الإزالة ، بل مقتضى القاعدة هو الحكم بالتخيير. فقول الميرزا بوجوب المضيّ في الصّلاة لا دليل عليه (١).

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ١٠٠ الهامش.

٢٦٨

جواب الأُستاذ

وقد أجاب الأُستاذ عن ذلك : بمنافاته لما بنى عليه المستشكل في الفقه ، فقد ذهب إلى أن معنى كلمة «الحل» لغةً وعرفاً هو «الإرسال» كما أن «الحرمة» هي «الحرمان» ومقتضى ذلك : ظهور اللّفظتين في الإطلاق الشامل للحكم الوضعي والتكليفي معاً ، وتخصيصها بأحدهما يحتاج إلى قرينةٍ ، كأن لا يكون المورد قابلاً للحكم الوضعي كما في (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) (١) و (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) (٢) وأمّا مع عدم القرينة ، فمقتضى القاعدة هو الحمل على الجامع بين الحكمين كما هو مختاره في (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) (٣).

وعليه ، فإن المستفاد من الأخبار هو مبطليّة فعل المنافي للصّلاة وحرمة ذلك تكليفاً ، إلاّ في النّافلة لقيام الدليل على جواز قطعها فيكون مخصّصاً للأخبار المذكورة ، وأمّا الخدشة في أسانيدها فمردودة ، كما أوضحناه في محلّه.

وتلخّص : أن الحق مع الميرزا ... والله العالم.

وهذا تمام الكلام في مسألة الضدّ.

__________________

(١) سورة المائدة : ٤.

(٢) سورة المائدة : ٣.

(٣) سورة البقرة : ٢٧٥.

٢٦٩
٢٧٠

هل الأوامر والنواهي

متعلّقة بالطبائع أو الأفراد؟

٢٧١
٢٧٢

نظرية صاحب الكفاية :

قال : الحق أن الأوامر والنواهي تكون متعلّقة بالطبائع دون الأفراد. ولا يخفى أن المراد أن متعلّق الطلب في الأوامر هو صرف الإيجاد ، كما أنّ متعلّقه في النواهي هو محض الترك. ومتعلّقها هو نفس الطبيعة المحدودة بحدود والمقيّدة بقيود تكون بها موافقة للغرض والمقصود ، من دون تعلّق غرض بإحدى الخصوصيّات اللاّزمة للوجودات ، بحيث لو كان الانفكاك عنها بأسرها ممكناً لما كان ذلك ممّا يضرّ بالمقصود أصلاً ، كما هو الحال في القضيّة الطبيعيّة في غير الأحكام ، بل في المحصورة على ما حقق في غير هذا المقام.

وفي مراجعة الوجدان للإنسان غنىً وكفاية عن إقامة البرهان على ذلك ، حيث يرى إذا راجعه أنه لا غرض له في مطلوباته إلاّ نفس الطبائع ، ولا نظر له إليها من دون نظرٍ إلى خصوصيّاتها الخارجيّة وعوارضها العينيّة ، وإنّ نفس وجودها السّعي ـ بما هو وجودها ـ تمام المطلوب ، وإن كان ذاك الوجود لا يكاد ينفكّ في الخارج عن الخصوصيّة. فانقدح بذلك أن المراد بتعلّق الأوامر بالطبائع دون الأفراد أنها بوجودها السّعي بما هو وجودها قبالاً لخصوص الوجود متعلّقة للطلب ، لا أنها بما هي هي كانت متعلّقة له كما ربما يتوهّم ، فإنها كذلك ليست إلاّ

٢٧٣

هي ، نعم هي كذلك تكون متعلقة للأمر فإنه طلب الوجود. فافهم (١).

توضيحه

عند ما يتعلّق الأمر بالصّلاة ـ مثلاً ـ فإنّها إذا وجدت كان لها لوازم ، من المكان والزّمان الخاصّين بها ، ومن غير ذلك ، فعلى القول بتعلّق الأمر بالطّبيعة تكون هذه الخصوصيّات اللاّزمة للوجود خارجةً من تحت الطلب ، وعلى القول بتعلّقه بالفرد داخلة تحته ... هذا ما ذكره أوّلاً. لكنّه غيّر التعبير فقال : إن الغرض متعلّق بنفس الطبيعة ، وإن نفس وجودها السعي ـ بما هو وجودها ـ تمام المطلوب ، من دون نظرٍ إلى خصوصيّاتها الخارجيّة وعوارضها العينيّة ، وإن كان ذاك الوجود لا يكاد ينفكّ في الخارج عن الخصوصيّة.

والحاصل : تارةً : ننظر إلى الطبيعة بما هي موجودة فنقول : المطلوب في ب (أَقِمِ الصَّلاةَ) (٢) مثلاً هو وجود طبيعة الصّلاة ، لا هذا الوجود منها أو ذاك من الوجودات الخاصة ، وأُخرى : ننظر إليها مجرّدةً عن لوازم وجودها وأمارات تشخّصها ونقول بأن المطلوب هو وجود الطبيعة ، وتلك العوارض واللوازم غير داخلة في الطلب ... وعلى كلّ تقديرٍ ، فإنّ تمام المطلوب هو الطبيعة ـ لا هذا الفرد أو ذاك ـ تلك الطبيعة التي هي ملزوم اللّوازم والمشخّصات ، أمّا هي ، فخارجة عن تحت الطلب وإن كانت الطبيعة غير منفكّة عنها.

هذا ، وقد أشار بأمره بالفهم إلى أنه لا يمكن أن يكون الأمر طلب الوجود ، بل الأمر نفس الطلب ، فالوجود خارج من الأمر.

وأمّا دليله على ما ذهب إليه من أن متعلّق الأمر هو الطبيعة ، فالوجدان ، يعني

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٣٨.

(٢) سورة الإسراء : ٧٨.

٢٧٤

أنّا لمّا نراجع الوجدان ـ في المرادات التكوينيّة ، كإرادتنا للأكل والشرب والضرب ، والتشريعيّة ، كإرادتنا صدور تلك الأفعال من الغير ـ نرى أن متعلّق الطلب والإرادة ليس إلاّ وجود الطبيعة ولا دخل للزمان والمكان ... غير أنّ الفرق بين الأمر والنّهي هو أنّ متعلّق الطلب في الأولى هو صرف الإيجاد وفي الثاني محض الترك ، ولا يخفى وجود الخلاف في حقيقة الأمر والنهي ، فقيل : الأمر هو البعث نحو المادّة والنهي هو الزجر عنها ... وعلى هذا لا دخل للوجود والعدم في المتعلّق. وقيل ـ وهو مسلك الكفاية ـ أن المدلول في الأمر والنهي ليس إلاّ الطلب ، غير أن متعلّقه في طرف الأمر هو الوجود وفي طرف النهى هو الترك والعدم.

أمّا صاحب الفصول والمحقق القمي ، فقد استدلاّ للمدّعى بالتبادر ، وبأن مادّة المتعلّق ـ مثل الصّلاة ـ ليست إلاّ الصّلاة ، والخصوصيّات الزائدة عليها لا دخل لها في المادّة.

فظهر أنّ الأدلّة للمدعى ثلاثة :

١ ـ تبادر الطبيعة إلى الذهن.

٢ ـ مادّة متعلّق الأمر.

٣ ـ الوجدان.

الإشكال على المحقق الخراساني

ثم إنّ الأُستاذ أورد على ما تقدّم عن الكفاية بما يلي :

أوّلاً : إنه جعل مدلول الأمر طلب الفعل ، ومدلول النهي طلب الترك. فيرد عليه الإشكال في الأوامر التي هي هيئات عارضة على المواد ـ وهي الأكثر في الأوامر ـ بأنّ الهيئات معاني حرفيّة ، و «الطلب» معنى اسمي ، فكيف يصير المعنى الاسمي مدلولاً للهيئة؟

٢٧٥

فإن قيل : إن المحقق الخراساني لا يفرّق بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي.

قلنا : نعم ، لكنّه يرى الاختلاف بينهما باللّحاظ ، وهذا يتمّ في مثل الابتداء والانتهاء ونحوهما ، أمّا الطلب فلا يقبل اللّحاظين.

وثانياً : إنه جعل الاختلاف بين الأمر والنّهي في ناحية المتعلّق ، فكلّ منهما طلب ، لكن الأمر طلب الفعل والنهي طلب الترك. وفيه : إن هذا خلاف الارتكاز العرفي ، إذ العرف العام على أنهما متغايران بالذات.

وثالثاً : إنه أدخل الوجود والعدم في مدلولي الأمر والنهي ، لكنّ كلاًّ من الأمر والنهي مركّب من المادّة والهيئة ، ولا دلالة لشيءٍ منهما على الوجود في طرف الأمر ، والعدم في طرف النهي ، وقد عرفت أنّ المعنى الاسمي لا يمكن أن يكون مدلولاً للهيئة التي هي معنى حرفي ، ولا يعقل وجود مدلولٍ بلا دالٍّ ، فلا يدلّ الأمر على طلب الوجود والنهي على طلب الترك والعدم.

ورابعاً : قوله : بأن متعلّق الطلب هو وجود الطبيعة ، لأن الطبيعة من حيث هي ليست إلاّ هي ، لا مطلوبة ولا لا مطلوبة. وفيه : إن الطلب على مسلكه هو طلب الوجود ، وقد طرأ على الطبيعة ـ وهو أمر زائد على ذاتها ـ فلما ذا لا يطرأ على الطلب؟ وعلى الجملة ، فإنّ المناط لصحّة تعلّق الطلب بوجود الطبيعة هو المناط لتعلّقه بها ، وإذا كانت الطبيعة من حيث هي ليست متعلّقة للأمر ، فهي غير متعلّقة للطلب أيضاً.

وخامساً : ما أورده المحقّقان الأصفهاني والعراقي ، وهو يرتبط بجوابه عن الوهم. وتوضيح ذلك :

إنه قد ذكر تحت عنوان «دفع وهم» ما حاصله : إن الأمر طلب وجود

٢٧٦

الطبيعة ، فيرد عليه : أنّه إنْ كان المراد وجودها الذهني ، ففيه : أن الوجود الذهني ليس بحاملٍ للغرض حتى يطلب. وأيضاً : يرد عليه ما يرد على الوجود الخارجي إن كان المراد ، وهو : إن الطلب من المفاهيم ذات التعلّق ، كسائر الصفات النفسانية من الحبّ والبغض ونحوهما ، فلو تعلّق بالوجود الخارجي ، يلزم أن يصير هو ـ أي الطلب ـ خارجيّاً ، أو يصير المتعلّق الخارجي نفسانيّاً ، وكلاهما محال. وأيضاً : فإنّ الخارج ظرف سقوط الطلب ، فكون الوجود الخارجي مقوّماً للطلب محال.

فأجاب في الكفاية : بأن كون وجود الطبيعة أو الفرد متعلّقاً للطلب هو أن يريد المولى صدور الوجود من العبد وإفاضته بالمعنى الذي هو مفاد كان التامّة ، لا أنه يريد ما هو صادر وثابت في الخارج كي يلزم طلب الحاصل كما توهّم ... فليس متعلّق الطلب هو الوجود الخارجي ، لأنه مسقط للطلب ولأنّه تحصيل للحاصل ، بل المتعلّق هو الإفاضة.

والإشكال على هذا الجواب هو : إن الإفاضة عين المفاض ، والصدور عين الصادر ، والإيجاد عين الوجود ، لأنّ اسم المصدر والمصدر واحد حقيقةً والاختلاف بالاعتبار ، فرجع الأمر إلى الوجود الخارجي ، فالإشكال باق على حاله.

نظرية الميرزا

وأمّا الميرزا النائيني (١) ، فقد جعل البحث في المقام من صغريات مبحث أنّ الكلّي الطبيعي موجود في الخارج أو لا؟ فعلى القول بعدم وجوده خارجاً ، يكون متعلّق الطلب هو الفرد ، إذ المفروض أنه موجود غيره ، فهو المطلوب والغرض

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٣٠٥.

٢٧٧

قائم به. أمّا على القول بوجود الكلّي الطبيعي ، فهو متعلّق الغرض بقطع النظر عن مشخّصاته ، بحيث لو تمكّن المكلّف من إيجاده خارجاً بدونها لحصل الغرض.

وعلى هذا ، فتظهر الثمرة بين القولين في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، ففي الصّلاة في الدار المغصوبة ـ مثلاً ـ يبقى الطلب على القول بتعلّقه بالطبيعة على الصّلاة ولا يتجاوزه إلى متعلّق النهي وهو الغصب ، لكونهما طبيعتين مستقلتين ، غاية الأمر ، أن كلّ واحدةٍ منهما قد أصبحت مشخّصةً للأُخرى في مورد الاجتماع ، والمفروض خروج المشخّصات عن دائرة المتعلّق ، وعليه ، فيقال بجواز اجتماع الأمر والنهي. وأمّا على القول بتعلّق الطلب بالفرد ، وهو الصّلاة مع المشخّصات في المثال ، فقد أصبح الفرد ـ وهو هذه الصّلاة في الدار المغصوبة ـ هو المطلوب ، فيلزم اجتماع الأمر والنهي في الشيء الواحد ، وهو محال ... وهذه ثمرة مهمّة.

والمختار عند الميرزا هو : تعلّق الأمر بالطبيعة ، وأنّ المشخّصات لها إنما توجد في عرض وجودها خارجاً ، وليست من ذات الطبيعة وماهيّتها قبل وجودها ، لتدخل في دائرة المتعلّق.

اشكال السيد الخوئي

وقد أشكل عليه في (المحاضرات) : بأن هذه النظرية خاطئة ، لأنّ كلّ وجود ـ سواء كان جوهراً أو عرضاً ـ يتشخّص في الخارج بذاته ، فلا يعقل أن يكون متشخّصاً بوجود آخر ، لأن الوجود هو التشخص وتشخّص كلّ شيء بالوجود ، فلا يعقل أن يكون تشخّصه بشيء آخر أو بوجود ثان وإلاّ لدار أو تسلسل ، وعليه ، فتشخّصه ـ بمقتضى قانون كلّ ما بالغير وجب أن ينتهي إلى ما بالذات ـ يكون بنفس ذاته ، وهذا بخلاف الماهيّة فتشخّصها يكون بالوجود. وعليه ، فإنّ الأمور المتلازمة مع الطبيعة خارجاً من الكم والكيف وغيرها ،

٢٧٨

موجودات أُخرى في عرض وجود الطبيعة ومتشخّصات بنفس وجوداتها ، وهي أفراد لطبائع مختلفة ، فلا يعقل أن تكون مشخّصات لوجود الطبيعة ، وعليه ، ففي إطلاق المشخّصات للطبيعة عليها مسامحة واضحة.

(قال) وبعد بيان ذلك نقول : إن تلك اللّوازم والأعراض كما أنها خارجة عن متعلّق الأمر على القول بتعلّقه بالطبيعة ، كذلك هي خارجة عن متعلّقه على القول بتعلّقه بالفرد ، بداهة أنه لم يقصد من القول بتعلّقه بالفرد تعلّقه بفردٍ ما من هذه الطبيعة وفردٍ ما من الطبائع الأُخرى الملازمة لها في الوجود الخارجي كالغصب مثلاً.

(قال) وكيف كان ، فالعجب منه قدس‌سره كيف غفل عن هذه النقطة الواضحة وهي : أن الأعراض واللوازم ليست متعلّقة للأمر على كلا القولين ، ولكنك قد عرفت أن هذا مجرّد خيال لا واقع له ، وإن مثل هذا الخيال من مثله غريب ، لما سبق من أن تلك الأعراض لا تعقل أن تكون مشخّصات الوجود خارجاً ، فإن تشخّص الوجود بنفسه لا بشيء آخر ، بل إنها وجودات أُخرى في قبال ذلك الوجود وملازمة له في الخارج (١).

جواب الأُستاذ عن الاشكال

وأجاب الشيخ الأُستاذ : بأن السيّد قد اشتبه في تقريب كلام الميرزا فقال ما لا ينبغي أن يقول ، فإنّ الميرزا يصوّر النزاع على أساس أن التشخّص بالوجود : بأنّه إن كانت المشخّصات عارضةً على الطبيعة قبل عروض الوجود ، فالوجود لا محالة يكون طارياً على الماهيّة المشخّصة ، وتكون العوارض موجودة بعين وجود الفرد ، وإن كانت غير عارضة على الطبيعة قبل وجود الفرد ، بل في نفس

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٣ / ١٩٨.

٢٧٩

تلك المرتبة التي طرأ فيها الوجود على الفرد ، فالماهيّة حينئذٍ غير متشخصة بالعوارض بل يكون تشخّصها بالوجود.

فالقائلون بتعلّق الأمر بالفرد يقولون بأن الماهيّة تتشخّص بالعوارض من الكم والكيف والأين ، فتكون موجودة. والقائلون بتعلّقه بالطبيعة يقولون بأن متعلّق الأمر هو الماهيّة والتشخّص غير داخل فيه.

وبهذا تظهر الثمرة في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فعلى القول بخروج التشخصات عن المتعلّق يكون متعلق النهى غير متعلق الأمر ، وأمّا على القول بدخولها كان الأمر والنهي واردين على الشيء الواحد ، ويلزم الاجتماع ولا بدّ من القول بالامتناع.

ومختار الميرزا هو أن العوارض المشخّصة ليست عارضةً من قبل ، بل إنها تشخّص الماهيّة في عرض الوجود ، فالمتعلّق هو الطبيعة.

والحاصل : إن الميرزا يصرّح بأن التشخّص ليس إلاّ بالوجود ، ونسبة تشخّص الماهيّة بالعوارض إليه هو الأمر الغريب.

إلاّ أن يشكل على المبنى ، فينكر أن تكون العوارض والمشخّصات في عرض الوجود ... وهذا أمر آخر.

نظريّة المحقّق العراقي

وقال المحقق العراقي قدس‌سره : إن الطلب على كلّ تقدير يحتاج إلى متعلّق ، وهو مورد النزاع.

والطبيعة تلحظ : تارةً بما هي هي ، ففي الانسان ـ مثلاً ـ لا يلحظ إلاّ الحيوان والناطق. وأُخرى : تلحظ موجودةً بالوجود الذهني كقولنا : الإنسان نوع. وثالثةً : تلحظ بما هي خارجيّة.

٢٨٠