تحقيق الأصول - ج ٣

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-39-2
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٣٩٩

المطلوب فيه هو الفعل لا الترك. وبعبارة أُخرى : إن بحثنا في الواجب لا الحرام ، ومن المعلوم أنّ العقاب في الواجبات يكون على ترك الفعل ، ولا بدّ وأن يكون الفعل مقدوراً حتى يجوز على تركه ، لكنّ المقدور فعل واحد ، فليس إلاّ عقاب واحد.

وتلخّص : إن العقاب يتبع كيفيّة التكليف ، فإذا كان مناطه ترك الفعل المقدور ـ لا الترك المقدور ـ فإنّ الفعل المقدور واحد وليس بمتعدّد ، وتركه يستتبع عقاباً واحداً ، فكيف يلتزم الميرزا وغيره باستحقاق العقابين؟

ويؤكّد ذلك : إن لازم كلامهم عدم الفرق بين القادر على امتثال كلا الأمرين التارك لهما ، كما لو قدر على إنقاذ الفريقان فلم يفعل لهما ، والقادر على امتثال أحدهما التارك له ، كما لو تمكّن من إنقاذ أحدهما وترك ، فهل يفتي الميرزا وأتباعه بتساويهما في استحقاق العقاب؟

الإشكال الثاني

إنه لا ريب في استحالة تعلّق الإرادتين التكوينيّتين العرضيين بالضدّين ، وكذا الطوليّتان ، بأن تكون احداهما مطلقة والأُخرى مشروطة ، ووزان الإرادة التشريعيّة وزان الإرادة التكوينيّة ، فإذا استحال الترتّب في التكوينيّة فهو في التشريعيّة كذلك.

والجواب : هو إنّ الإشكال يبتني على عدم الفرق بين الإرادتين في جميع الأحكام ، لكن لا برهان على ذلك ، بل هو على خلافه ، لأن النسبة بين الإرادة والفعل في التكوينيّات نسبة العلّة التامّة إلى المعلول ، ولا يعقل تصوير الترتّب هناك ، بأن تكون علّة مطلقة وأُخرى مترتبة عليها ، للزوم الخلف. أمّا في التشريعيّات ، فإنّ الإرادة بالنسبة إلى الفعل من العبد ليست بعلّةٍ تامّة بل هي

٢٤١

مقتضيةٌ له ، وأين الاقتضاء من العليّة التامّة؟ إن العلّة التامّة لا حالة منتظرة لها ، بخلاف المقتضي فإنّ شرط تأثيره اختيار العبد للامتثال ، فلو لم يتحقّق بقيت الإرادة التشريعيّة في مرحلة الاقتضاء ، وعليه ، يصحّ وجود مقتضيين يكون مؤثريّة أحدهما في تحقّق الفعل متوقّفة على عدم مؤثريّة الآخر ، كما تقدّم في تصوير المحقق الحائري للترتب ، أو يكون أصل فعليّة أحدهما متوقفاً على عدم مؤثريّة الآخر ، كما تقدّم في تصوير الترتب على مسلك الميرزا وهو المختار ...

فقياس الإرادة التشريعيّة على التكوينيّة قياس مع الفارق.

الإشكال الثالث

إن المتلازمين يستحيل اختلافهما في الحكم ، كأنْ يكون أحدهما واجباً والآخر حراماً مثلاً ، لأنه يلزم التكليف بالمحال ، إذ فعل الفرد الواجب يستلزم فعل الآخر الحرام ، وترك الحرام يستلزم ترك الفرد الواجب.

وعلى هذا ، فإن القول بالترتب يستلزم القول بالتكليف بالمحال ، لأنّ الأمر بالأهمّ يستلزم النهي عن ضدّه العام وهو تركه ، فيكون تركه حراماً ، لكنّ ترك الأهمّ ملازم لفعل المهم وهو واجب ، فكان المتلازمان مختلفين في الحكم ، وهو محال كما تقدّم.

والجواب : صحيحٌ أنّ الأمر بالأهم يستلزم النهي عن ضدّه العام وهو الترك ، ووجوب المهم مشروط بترك الأهم ، وبينهما تلازم ، لكن حرمة الترك حكم استلزامي ، فوجوب الأهم قد استلزم حرمة تركه وكانت هذه الحرمة نتيجة لوجوبه ، فإن كان وجوبه بنحو الاقتضاء قابلاً للاجتماع مع وجوب المهم ، كانت الحرمة ـ التي هي حكم ترك الأهم ـ قابلةً للاجتماع مع المهم بنحو الاقتضاء ، ولا محذور في هذا الاجتماع.

٢٤٢

وعلى الجملة ، فإن اجتماع حرمة ترك الأهم مع وجود المهم ، فرعٌ لإمكان اجتماع وجوب الأهمّ مع وجوب المهم ، فإن أمكن الاجتماع بين وجوبهما أمكن بين حرمة ترك ذاك ووجوب هذا ... لكنّ إمكانه في الأصل تام بالترتّب ، فلا محذور فيه بين الحرمة والوجوب كما تقدّم.

الإشكال الرابع

إن الفرد المهمّ من المتزاحمين ـ كالصّلاة مثلاً ـ إذا وجب بالترتّب حرم تركه بناءً على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ العام ، ولا أقلّ من مبغوضيّة الترك ، لكنّ هذا الترك تارةً : هو خصوص ما لا ينتهي إلى فعل الأهم ـ وهو الإزالة ـ وتارةً : يكون أعمّ من الموصل إلى فعل الأهم وغير الموصل إليه.

فإن كان المحرّم هو مطلق الترك ففيه :

أوّلاً : إن ذلك ينافي أهميّة الأهم ، لأن حرمة ترك المهم مطلقاً ـ حتى المنتهى إلى فعل الأهمّ ـ معناه رفع اليد عن الأهم حتى لا يقع في ترك الحرام ، وهذا ينافي أهميّة الأهم.

وثانياً : إنه بناءً على الترتّب ، يكون فعل المهم في فرض ترك الأهمّ ، فكيف يكون الحرام هو ترك المهم المجامع لفعل الأهم؟ إذن ... بناءً على الترتب لا يمكن أن يكون الترك المحرّم للمهمّ هو الترك المطلق.

وإن كان الترك المحرّم هو الترك الذي لا يوصل إلى فعل الأهم ، فهذا أيضاً محال ، لأنّ ترك المهمّ غير الموصل إلى فعل الأهم إن كان حراماً كان نقيضه واجباً ، ونقيض الترك غير الموصل هو «ترك الترك غير الموصل» ، وهذا له لازمان ، أحدهما : فعل المهمّ. وثانيهما : الترك الموصل لفعل الأهم ، (قال) وإنما قلنا بكونهما لازمين ولم نقل بكونهما فردين ، لأنّ «ترك الترك غير الموصل» أمر

٢٤٣

عدمي ، وفعل المهم وجودي ، والوجودي لا يكون مصداقاً للعدم والعدمي ، وإذا كانا من اللّوازم ، فقد ثبت أن حكم الملازم لا يسري إلى الملازم ، فإنّ «ترك الترك غير الموصل» لمّا كان واجباً ، فإنّ هذا الحكم ـ وهو الوجوب ـ لا يسري إلى ملازمه ـ وهو المهم ـ فمن المحال أن يكون المهم واجباً. وإذا استحال وجوب المهم بطل الترتب من الأساس.

(قال) ولو تنزّلنا وقلنا بجواز أن يكون فعل المهمّ مصداقاً «لترك الترك غير الموصل» فالإشكال موجود كذلك ، لأنّه كما كان فعل المهم مصداقاً فيكون واجباً ، كذلك تركه الموصل لفعل الأهم مصداق فيكون واجباً ، وإذا تعدّد فرد الواجب كان الوجوب تخييريّاً ، والمفروض في الترتب كون وجوب المهم تعييناً لا تخييريّاً.

جواب المحقق الأصفهاني

أجاب بأنا نختار كلا الشقّين ولكلٍّ جواب.

أمّا الشق الأوّل ، فنسلّم بحرمة نقيض الواجب ووجوب نقيض الحرام ، إلاّ أن الواجب هو فعل المهم ، لكن لا فعله على كلّ تقدير ، بل على أحد التقادير وهو ترك الأهم ، فلا يكون نقيضه الترك المطلق ليشمل الترك المنتهى إلى فعل الأهم ، فكان الحرام هو خصوص ترك المهم الذي هو في تقدير ترك الأهم.

جواب الأُستاذ

هذا الذي أفاده المحقق الأصفهاني ناظرٌ إلى الشق الثاني من كلام الميرزا الكبير ، والصحيح أن يقال في الجواب عنه :

أولاً : إنّ الأصل هو وجوب المهم وليس حرمة النقيض ـ وإن عكس الميرزا وجعل حرمة النقيض هي الأصل ـ ووجوبه على ما تقدّم بالتفصيل مشروط بترك

٢٤٤

الأهم ، فيقتضي ـ بناءً على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن النقيض ـ حرمة ترك المهم على تقدير حرمة الأهم ، ولا يمكن أن يقتضي حرمة الترك المطلق ، لأنّ المفروض كون الواجب خاصّاً غير مطلق ، وكما كان الأصل ـ وهو وجوب المهم ـ ترتّبياً فحرمة ضدّه أيضاً ترتبيّة لكونها متفرعةً عليه ... فلا يبقى محذور.

وثانياً : لو تنزّلنا ، وجعلنا الأصل حرمة ترك المهم ، ويتفرّع عليه وجوب المهم ، فإنّ الأمر لا ينتهي إلى الوجوب التخييري ، لأنّ الحرام على القول بالترتّب ليس ترك المهم حتى الترك الموصل لفعل الأهم ـ لأن هذا خلف فرض الترتّب ـ بل إن الحرام هو تركه غير الموصل لفعل الأهم ، وإذا كان كذلك ، فإنّ نقيضه هو ترك الترك غير الموصل ، وهذا لا يتحقق إلاّ بفعل المهم ، ولا يقبل الاجتماع مع الترك الموصل لفعل الأهم ، فتبيّن أن ليس للاّزم أو النقيض فردان ، ليرجع الأمر إلى الوجوب التخييري.

فالصحيح أن نختار هذا الشق ونجيب عنه بما ذكرناه ، فإشكاله غير وارد حتى لو قلنا باقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ العام.

الإشكال الخامس

إذا كان شرط وجوب المهم هو عصيان الأمر بالأهم ، فما المقصود من هذا العصيان؟ إن كان الشرط هو عصيان الأمر بالأهم بنحو الشرط المقارن ، فهو خلف فرض الترتّب ، وإن كان بنحو الشرط المتأخّر ، فهو يستلزم طلب الضدّين ، وإن كان بالعزم ، فيستلزم طلب الضدّين كذلك ، فالترتّب على جميع الاحتمالات غير معقول.

فإن كان المقصود من الشرط هو الشرط المقارن ففيه :

إن الإطاعة والمعصية لا يكونان إلا مع فرض الأمر ، فلولا الأمر فلا طاعة

٢٤٥

ولا معصية.

فقال الميرزا وغيره : بكون العصيان بنحو الشرط المقارن ، فالأمر موجود وإنّما يسقط بعد العصيان.

لكن المشكلة هي : إن الأمر تابع للملاك ، وهو لا يسقط إلاّ إذا سقط وتحقق الغرض أو امتنع حصوله فيستحيل وجود الأمر كذلك ، وعليه ، ففي ظرف العصيان لا يعقل تحصيل الغرض ، إذ لا يعقل وجود الأمر حينئذٍ.

لا يقال : إنّ امتناع الأمر في هذا الفرض امتناع بالاختيار ، وهو لا ينافي وجود الأمر ، لأن المنافي لوجوده هو الامتناع الذاتي والوقوعي ، أمّا الامتناع بالغير الناشئ من عصيان المكلّف للأمر فلا ينافيه.

لأنا نقول : إن الامتناع بالاختيار لا ينافي العقاب ، أمّا الخطاب والأمر فإنّه ينافيه ، ومع تعذّر الخطاب الناشئ من اختيار العبد ، فالأمر لغو ، لكونه معلولاً للملاك ، وأن الغرض من الأمر هو تحصيله.

وتحصّل : إن الإشكال على تقدير كون العصيان شرطاً مقارناً باقٍ على حاله.

وإن كان المقصود من الشرط هو العزم أو العصيان بنحو الشرط المتأخّر ، بناءً على وجود الأمر مع العصيان ، فالتحقيق أن يقال :

إن أساس الإشكال في الترتّب هو مؤثّرية كلا الأمرين معاً ، فإن أمكن تصوير عدم كونهما مؤثّرين فكان المؤثر أحدهما دون الآخر ، ارتفع الإشكال ، فبأيّ طريق أمكن حلّ العقدة يثبت الترتّب ، وعلى هذا ، فمن عزم على معصية الأمر بالأهم بعد الأمر به ، سقط في حقّه مؤثريّته ووجب عليه الإتيان بالمهم ، وكذا الحال في تعقّبه بالعصيان بنحو الشرط المتأخّر.

٢٤٦

وعلى الجملة : فإن العمدة سقوط الأمرين عن التأثير في عرض واحد ، وهذا يتحقق بالعزم على عصيان الأمر بالأهم أو اشتراط تعقّبه بالعصيان ، بل ويسقط باشتراط العصيان بنحو الشرط المقارن.

وتلخّص : إن الإشكال في الترتّب ثبوتاً وسقوطاً يدور مدار مؤثّرية كلا الأمرين ، فلو انتفت بأيّ طريقٍ من الطرق فلا إشكال ، والمختار عند الأُستاذ تصوير الترتّب باشتراط العزم على العصيان ، فمن كان مستطيعاً واستقرّ الحج على ذمّته فعزم على العصيان وترك الحج ، يسقط الحج عن ذمته بإتيان النائب عنه به ، وإن كان في أُجرة النائب إشكال ، وبيانه موكول إلى محلّه.

هذا ، فأمّا أن أساس مشكلة الترتّب هو باعثيّة كلا الأمرين وعدم إمكان الانبعاثين ـ وليس طلب الضدّين ـ فإن سقط أحدهما عن الباعثيّة ارتفعت ... فهذا مذكور في كلام الميرزا والمحقق الأصفهاني وليس ممّا انفرد به السيد البروجردي كما جاء في تقرير بحثه وفي حاشيته على الكفاية.

ثم إنّ هناك بحثاً حول كون الشرط هو «العزم» وقد طرحه الاستاذ في الدرس وبيّن وجهة نظره فيه ، تركنا التعرّض له اختصاراً.

٢٤٧

تنبيهات الترتب

التنبيه الأول

(في تسرية كاشف الغطاء الترتّب إلى الجهر والإخفات)

وقبل الورود في البحث نذكّر بمطلبين :

الأول : إنه بعد الفراغ من إمكان الترتّب لا تبقى حاجة إلى بيان وقوعه ، لكفاية الإمكان ، لأنه بعد رفع اليد عن إطلاق أحد الدليلين وهو المهم وتقييده بعصيان الآخر وهو الأهم ، يكون المقتضي لوجوب المهم موجوداً والمانع مفقوداً ، كسائر الموارد.

والثاني : إن التضاد الواقع بين متعلّقي الدليلين في سائر موارد الترتّب هو تضاد اتّفاقي وليس بدائمي ، لأنه يكون ـ مثلاً ـ على أثر العجز عن امتثال الأمرين كإنقاذ الغريقين حيث لا قدرة ـ غالباً ـ إلاّ على أحدهما ... ولكنّ مسألة الجهر والإخفات ليست من هذا القبيل ، فالتضادّ بينهما دائمي ، فيقع البحث عن معقوليّة الترتّب في مثلها ... وتصوير ذلك هو :

إن الجاهل المقصّر يستحق العقاب بلا كلام ، وعباداته محكومة بالبطلان ، فإن انكشف وقوع العمل على خلاف الواقع فهو غير مجزٍ ، وعدم الإجزاء حينئذٍ واقعي ، وإن لم ينكشف ذلك كان غير مجزٍ ظاهراً ، حتى يتبيّن مطابقة عمله للواقع وعدمها ، إن تمشّى منه قصد القربة في هذه الحالة.

لكنهم حكموا بالإجزاء في موردين ، أحدهما : الجهر والإخفات ، والآخر : القصر والتمام ، لوجود النصوص بإجزاء الإخفات فيما ينبغي الجهر فيه وبالعكس ، ومع ذلك حكموا باستحقاقه العقاب للتقصير ، فوقع البحث بينهم في كيفية الجمع بين الإجزاء واستحقاق العقاب ، وذكروا لذلك وجوهاً.

٢٤٨

منها : ما جاء في (كشف الغطاء) (١) على أساس قانون الترتّب ، فقال :

إن الخطاب المتوجّه أوّلاً إلى هذا الجاهل المقصّر في تعلّم الحكم ، هو الجهر في القراءة في الصّلاة الجهريّة ، فإن عصى فالواجب عليه هو القراءة إخفاتاً ... وكذا بالعكس في الصّلاة الإخفاتية.

وكذا الكلام في مسألة القصر والإتمام.

فالصّلاة صحيحة ، لكنه عاصٍ يستحق العقاب ، لأنه قد ترك المأمور به الأهمّ.

قال كاشف الغطاء : بل لا بدّ من تطبيق ذلك على سائر الفروع في مختلف الأبواب الفقهيّة ، وإلاّ لزم الحكم ببطلان أكثر عبادات المكلّفين. مثلاً : لو كان في ماله الخمس أو الزكاة ، فلم يؤدّ عصياناً وصلّى ، صحّت صلاته من باب الترتّب. وكذا في الحج وغيره ، وتصوير ذلك هو : إن الواجب عليه أداء الدّين أو دفع الخمس أو الزكاة أو الذهاب للحج أو النفقة ، فإن عزم على المعصية فالصّلاة واجبة عليه ومجزية. وكذا أمثالها. هذا كلامه رحمه‌الله ....

وقد نقله الشيخ في خاتمة البراءة والاشتغال ، في أحكام الجاهل المقصّر ، ثم قال : بأنا لا نعقل الترتّب في هذه المسائل ، إذ كيف يصدر من المولى الأمر بشيء مشروط بمعصية أمرٍ آخر ، والمكلّف بعد غير عاصٍ للأمر الأول؟

فقال الميرزا رحمه‌الله : نحن نعقل الترتّب ... غير أنّ الإشكال على كاشف الغطاء في الصغرى.

قال الأُستاذ : الظاهر من الشيخ هو الموافقة على الصغرى ، غير أنه ينكر هنا الترتّب كبرويّاً.

__________________

(١) البحث رقم (١٨) من مباحث مقدمة كشف الغطاء.

٢٤٩

إشكالات الميرزا على كاشف الغطاء

وقد أشكل الميرزا من الناحية الصغرويّة بوجوه (١) :

الأول : إنه قد وقع الخلط على كاشف الغطاء بين التزاحم والتعارض ، لأنّ بحث الترتب من صغريات التزاحم ، ومسألة الجهر والإخفات من صغريات التعارض.

تشييد الأُستاذ الإشكال الأوّل

توضيحه : إن قوام باب التزاحم هو أن يكون كلّ من المتعلّقين ذا ملاك وتكون المصلحة تامّةً فيهما ، فلا مشكلة في مقام الجعل ، وإنما هي في مقام الامتثال ، من جهة العجز عن تحصيل كلا الملاكين ، فإن كان أحدهما أهم من الآخر تقدّم من باب الترتب. بخلاف باب التعارض ، فإنّه لا يوجد ملاك لأحد الخطابين ... ومسألة الجهر والإخفات من هذا القبيل ، إذ لا ملاك لإحدى الصّلاتين ـ القصريّة والتامّة ـ في اليوم الواحد ، فإذا انتفى الملاك عن أحد الفردين ، خرجت المسألة عن باب التزاحم وكانت من باب التعارض.

هذا معنى كلام الميرزا. فلا يرد عليه الإشكال (٢) : بأن محذور الترتب هو طلب الضدّين ، وكما يرتفع هذا المحذور في المتضادّين اتفاقاً ، كذلك يرتفع في المتضادّين دائماً ، عن طريق الترتّب ....

وجه الاندفاع هو : أن في كلام الميرزا نكتةً غفل عنها ، وهي أنه قد نصّ على قيام الضّرورة على عدم وجوب صلاتين في يوم واحدٍ ووقت واحدٍ إحداهما قصر والأُخرى تمام. هذا من جهةٍ. ومن جهةٍ أُخرى : فقد ثبت في باب

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ٩١.

(٢) أجود التقريرات ٢ / ٩١ الهامش ، محاضرات في أُصول الفقه ٢ / ٤٦٨.

٢٥٠

التعارض : أنه قد يكون بالذات وقد يكون بالعرض ، كأن يقوم دليلٌ على وجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة ويقوم آخر على وجوب صلاة الجمعة ، فتجب صلاتان ، ولكن قد قام الإجماع على عدم وجوب الصّلاتين في ظهر يوم الجمعة ، فيقع التعارض بين الدليلين بالعرض ، ويحصل اليقين ببطلان أحدهما ، ومسألة الجهر والإخفات من هذا القبيل ، فهي من باب التعارض.

ثم ذكر في (المحاضرات) ما حاصله :

إنه كما يتعقّل الترتب في مقام الامتثال ، كذلك يتعقّل في مقام الجعل ، ويرتفع المشكل في مقام الإثبات بالتقييد ، وأمّا في مقام الثبوت فالنصوص الواردة في المسألة هي الدليل على جعل الحكم بنحو الترتّب ، كصحيحة زرارة في من جهر فيما لا ينبغي الإخفات فيه أو أخفت فيما ينبغي الجهر فيه (١).

فأشكل الأُستاذ :

بأن الترتّب في مقام الجعل في الضدّين اللذين لهما ثالث معقول ، كأن يقول المولى : تجب عليك الإزالة فإن عصيت وجبت عليك الصّلاة ، إلاّ أن مورد البحث من الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، فلا يعقل التقييد ـ مع توقف الترتّب على التقييد ـ كأن يقيّد وجوب الحركة بترك السكون. هذا ثبوتاً.

وأمّا إثباتاً ، فإن نصوص المسألة لا تفي بدعوى كون الجعل بنحو الترتّب ، لأنّ معنى الترتّب في مرحلة الجعل هو أن يجعل الشارع ـ بنحو القضيّة الحقيقيّة ـ وجوب الإخفات لمن وجب عليه الجهر فعصى ، والنصوص وإن احتمل دلالتها على هذا المعنى ، يحتمل دلالتها على جعل البدل في مقام الامتثال كما هو الحال في قاعدتي الفراغ والتجاوز ، ومن الواضح الفرق بين جعل الحكم على نحو

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ / ٤٨٢.

٢٥١

الترتّب مشروطاً بالعصيان ، وجعله من باب بدليّة العمل الناقص عن التكليف ؛ ولعلّ في النصوص ما هو ظاهر في جعل البدل كما في صحيحة زرارة عن أبي جعفر المذكورة وهذا نصّها : «في رجل جهر فيما لا ينبغي الجهر فيه أو أخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه. فقال : أيّ ذلك فعل متعمّداً فقد نقض صلاته وعليه الإعادة ، وإن فعل ذلك ناسياً أو ساهياً فلا شيء عليه وقد تمّت صلاته» (١) فإنّ ظاهر قوله عليه‌السلام : تمّت صلاته ، هو جعل البدل في مرحلة الامتثال ، أي لا نقص في صلاته.

وفي رواية أُخرى عن أحدهما عليهما‌السلام : «إن الله تبارك وتعالى فرض الركوع والسجود والقراءة سنّةً ، فمن ترك القراءة متعمّداً أعاد الصّلاة ومن نسي فلا شيء عليه» (٢).

وهذه ظاهرة في جعل البدل كذلك ، وإلاّ لزم المستشكل القول بجريان الترتّب في مورد النسيان أيضاً.

وعلى أيّ حالٍ ، فالإشكال من المحقّق السيد الخوئي على الميرزا غير وارد.

وهذا تمام الكلام على الإشكال الأوّل.

الوجه الثاني : إن مورد الخطاب الترتبي هو ما إذا كان خطاب المهم مترتّباً على عصيان الأمر بالأهم ، وهذا لا يكون إلاّ فيما إذا لم يكن المهم ضروريّ الوجود عند عصيان الأمر بالأهم ، كما هو الحال في الضدّين اللذين لهما ثالث. وأمّا الضدّان اللّذان لا ثالث لهما ، ففرض عصيان الأمر بأحدهما هو فرض وجود

__________________

(١) وسائل الشيعة ٦ / ٨٦ الباب ٢٦ من أبواب القراءة في الصّلاة.

(٢) وسائل الشيعة ٦ / ٨٧ الباب ٢٧ من أبواب القراءة في الصّلاة.

٢٥٢

الآخر لا محالة ، فيكون البعث نحوه تحصيلاً للحاصل.

إشكال السيد الخوئي

فأشكل في التعليقة : بأنّ إدراج محلّ الكلام في الضدّين اللذين ليس لهما ثالث ، غير مطابق للواقع ، لأن المأمور به في الصّلاة إنما هي القراءة الجهريّة أو الإخفاتيّة ، ومن الواضح أن لهما ثالثاً وهو ترك القراءة رأساً ، فلا مانع من الأمر بهما في زمانٍ واحدٍ مشروطاً أحدهما بعصيان الآخر.

أجاب الأُستاذ

بأنّ ما ذكره خلاف ظواهر النصوص (١) :

«عن أبي جعفر عليه‌السلام : لا يكتب من القراءة والدعاء إلاّ ما أسمع نفسه».

«سألته عن قول الله : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ...) المخافتة ما دون سمعك والجهر أن ترفع صوتك شديداً».

«قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : على الإمام أن يُسمع من خلفه وإنْ كثروا؟ قال : ليقرأ قراءةً وسطاً».

«الجهر بها رفع الصوت والتخافت ما لم تسمع نفسك».

«الاجهار أن ترفع صوتك تسمعه من بُعد عنك ، والإخفات أن لا تسمع من معك إلاّ يسيراً».

فالمستفاد من النصوص ليس هو القراءة الجهريّة والإخفاتيّة ، بل الواجب في الصّلاة هو الإجهار في القراءة والإخفات فيها ... فالإشكال مندفع.

الوجه الثالث : إنّ الخطاب المترتّب على عصيان خطابٍ آخر ، إنما يكون

__________________

(١) وسائل الشيعة ٦ / ٩٦ ـ ٩٨ ، الباب ٣٣ من أبواب القراءة في الصّلاة.

٢٥٣

فعليّاً عند تنجّز الخطاب المرتّب عليه وعصيانه ، وبما أنّ المفروض فيما نحن فيه توقف صحّة العبادة الجهريّة ـ مثلاً ـ على الجهل بوجوب الإخفات ، لا يتحقق هناك عصيان للتكليف بالإخفات ليتحقق موضوع الخطاب بالجهر ، لأن التكليف الواقعي لا يتنجّز مع الجهل به ، وبدونه لا يتحقق العصيان الذي فرض اشتراط وجوب الجهر به أيضاً.

هذه عبارته.

وبعبارة أُخرى : إن شرط التكليف هو الوصول ، وما لم يصل لم يصر فعليّاً ، والجاهل المقصّر لا يتحقّق في حقّه هذا الشرط ، فلو كان الخطاب الترتّبي إليه كأنْ يقول : يجب عليك الإخفات فإن عصيت فعليك الجهر ، كان وجوب الإخفات عليه في صورة التفاته إلى العصيان ، وإلاّ فالشرط غير واصل فلا يعقل فعليّة التكليف ، وبمجرّد الالتفات منه إلى العصيان صار متعمّداً ، فينعدم موضوع الخطاب الترتّبي.

إشكال السيد الخوئي

أجاب السيد الخوئي : بأن المدار في الترتّب على ترك الأهمّ لا على عصيانه ، وخطاب الإخفات مشروطاً بترك الجهر قابل للوصول ، إذ الجاهل المقصّر ملتفت إلى كونه تاركاً للجهر.

أجاب الأُستاذ

بأن ما ذكر صحيح كبرويّاً ، فالترتب لا يتوقف على العصيان ، لكنّ كاشف الغطاء عبّر بالعصيان قال : «كل مولى مطاع يمكنه القول : يجب عليك الجهر فإن عزمت على المعصية وجب عليك الإخفات» فإشكال الميرزا وارد من هذه الناحية ، لأن العزم على المعصية يستحيل وصوله ولو التفت صار متعمّداً.

٢٥٤

لكن لا يخفى أن الميرزا يقول ب «العصيان» وكاشف الغطاء يقول «بالعزم» فنقول :

إنّ القول باشتراط العزم وإن كان هو الصحيح المختار في الترتّب ـ كما تقدّم ـ لكنّ كاشف الغطاء لا يمكنه إجراء الترتب ، لأنه يقول أيضاً باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن جميع الأضداد الوجوديّة للشيء ، فإذا أُمر بالإزالة فقد نهي عن الصّلاة ، ومع النهي عنها كيف تكون مأموراً بها بالعزم على معصية الأمر بالإزالة؟ فتصحيح العبادة عن طريق الترتّب ـ كما ذكر كاشف الغطاء ـ موقوف على أن يرفع اليد عن المبنى المذكور ، لأنه لا يتمشّى الترتّب معه ، وهذا هو الإشكال الوارد عليه قدس‌سره بناءً على مبناه في اشتراط العزم على المعصية في الترتّب.

وهذا تمام الكلام على التنبيه الأوّل.

التنبيه الثاني

(لو اختلف اعتبار القدرة في الواجبين)

لا يخفى أن القدرة على الامتثال في مثل إزالة النجاسة والصّلاة ونحو ذلك هي القدرة العقليّة ، وقد أُجري الترتب في هذه الموارد على القول به ، كما في البحوث السابقة.

أمّا إذا كانت القدرة المعتبرة في الامتثال مختلفة ، بأن يكون أحد الواجبين مشروطاً بالقدرة العقليّة والآخر بالقدرة الشرعيّة ، كما لو كان عند المكلّف ماء يكفي إمّا للوضوء وامّا لرفع العطش عن نفس محترمة ، إذ الأوّل مشروط الشرعيّة ، والثاني العقلية ، كما هو معلوم ، فهل يجري الترتّب كذلك أو لا؟

فعن الميرزا الشيرازي ـ القائل بالترتّب ـ الفتوى ببطلان الوضوء إنْ توضّأ

٢٥٥

بالماء بعد عصيان الأمر بصرفه في رفع العطش ، ونسب البطلان كذلك إلى الشيخ ، مع أنه غير قائل بالترتب. قال الميرزا : وأمّا ذهاب السيد المحقق الطباطبائي اليزدي قدس‌سره إلى الصحة في مفروض الكلام ، فهو ناشئ من الغفلة عن حقيقة الأمر.

والحاصل : إن المسألة خلافيّة ، ولا بدّ لتحقيق الحال فيها من ذكر مقدّمات.

الأُولى : تارةً : تؤخذ القدرة في لسان الدليل كما في دليل الحج والوضوء ، وأُخرى : لا تؤخذ كما في دليل الصّلاة مثلاً ، فإن أُخذت ، كان مقتضى التطابق بين مقامي الثبوت والإثبات دخل القدرة في الملاك والغرض ، وإن لم تؤخذ فمقتضى ذلك قيام الغرض بنفس ذات المتعلّق.

الثانية : إنه بمجرّد حصول القدرة العقليّة بالتمكن من الإتيان بالمادّة كالصّلاة ، يكون المتعلّق واجباً فعليّاً ، إذ الحاكم هو العقل ، وهو يرى كفاية التمكّن من الشيء في صحّة طلبه ، وحينئذٍ ، فلا يبقى موضوع للواجب الآخر الذي أخذ الشارع القدرة في لسان الدليل عليه ... لأن المرجع في القدرة الشرعيّة هو العرف ـ لكون الخطابات الشرعية ملقاةً إليه ـ ومع فعليّة الواجب الآخر ينتفي القدرة العرفيّة العقلائية.

الثالثة : أخذ القدرة في الواجب تارة : يكون بالمطابقة مثل آية الحج ، وأُخرى : بالالتزام مثل آية التيمّم ، ولمّا كان التيمم في عرض الوضوء ، إذ المكلّف إمّا يكون متيمّماً أو متوضّأً ، فإنه بأخذ العجز عن الماء في التيمّم يثبت بالالتزام أخذ القدرة في الوضوء ... وهذه القدرة شرعيّة لا تكوينيّة ، لسقوط الوضوء عن المريض مع قدرته تكويناً عليه.

الرابعة : إن تصحيح العبادة بالأمر الترتّبي موقوف على أن يكون الأمر ذا

٢٥٦

ملاك ، لتبعيّة الأحكام الشرعيّة للملاكات عند العدليّة ، فلولا الملاك فلا أمر. أمّا المنكرون للترتّب فلهم تصحيحها بالإتيان بها بقصد الملاك ، كما عليه صاحب الكفاية قدس‌سره.

وإذا عرفت هذه المقدّمات ، ظهر الدليل على القول ببطلان الوضوء بكلّ وضوح ، وذلك :

لأنّ وجوب صرف الماء في رفع العطش عقلي ، وشرط وجوبه هو القدرة التكوينيّة ، بخلاف وجوب الوضوء ، فالقدرة المأخوذة على الماء فيه شرعيّة ، وإذا صرف في رفع العطش انتفت القدرة المعتبرة في الوضوء وتبدّل الحكم إلى التيمّم ، لأنه بمجرّد صرفه في رفع العطش يكون الوضوء بلا ملاك لانتفاء شرطه وهو القدرة الشرعيّة ، وإذا انتفى الملاك انتفى الأمر ، وبذلك ينتفي الترتّب.

فظهر أنّ وجه فتوى الميرزا القائل بالترتب ، هو عدم الأمر الترتّبي ، لعدم الملاك ، والشيخ يقول بالبطلان ، مع إنكار الترتب ، لعدم الملاك حتى يصحّح بقصده.

ولا يبقى وجه للقول بصحة هذا الوضوء ، لأنّ طريق تصحيحه إمّا الترتب وامّا قصد الملاك ، وقد علم أن لا ملاك فيقصد أو يثبت الأمر الترتبي تبعاً له ، وقد نسب الميرزا هذا القول إلى السيّد في (العروة) ، وكلامه فيها ـ في السبب السادس من أسباب التيمّم ـ واضحٌ في البطلان لا الصحّة ، إذ قال : لو دار الأمر بين الوضوء وبين واجب أهمّ ، يقدّم صرف الماء في الأهم ، لأنه لا بدل له والوضوء له بدل (١). وفي حاشيته على نجاة العباد وافق الماتن في القول بالبطلان.

هذا ، وذهب السيّدان الحكيم والخوئي إلى الصحّة من باب الترتّب ، في

__________________

(١) العروة الوثقى ٢ / ١٧٨ ـ ١٧٩ ط جامعة المدرسين.

٢٥٧

مثال دوران الأمر بين رفع العطش والوضوء مع عدم كفاية الماء إلاّ لواحدٍ منهما.

قال في (المحاضرات) ما ملخّصه بلفظه تقريباً :

إنه لا مانع من الترتّب إلاّ توهّم أنّه لا ملاك للوضوء ، فلا يمكن تعلّق الأمر به على نحو الترتّب ، لاستحالة وجود الأمر بلا ملاك ، لكنه يندفع : بأن القول بجواز تعلّق الأمر بالضدّين على نحو الترتّب ، لا يتوقّف على إحراز الملاك في الواجب المهم ، إذ لا يمكن إحرازه فيه إلاّ بتعلّق الأمر به ، فلو توقف تعلّق الأمر به على إحرازه لدار ، سواء كان الواجب المهم مشروطاً بالقدرة عقلاً أو شرعاً ، لأنّ ملاك الترتّب مشترك بين التقديرين ، فإذا لم يكن الأمر بالأهمّ مانعاً عن الأمر بالمهم لا عقلاً ولا شرعاً إذا كان في طوله ، فلا مانع من الالتزام بتعلّق الأمر به على نحو الترتب ولو كانت القدرة المأخوذة فيه شرعيّة ، وعليه ، فإذا لم يصرف المكلّف الماء في الواجب الأهم وعصى الأمر به ، فلا مانع من تعلّق الأمر بالوضوء ، لكونه حينئذٍ واجداً للماء ومتمكّناً من صرفه فيه عقلاً وشرعاً.

وقد تحصّل من ذلك : إن دعوى عدم جريان الترتب فيما إذا كانت القدرة المأخوذة في الواجب المهم شرعاً ، تبتني على الالتزام بأمرين :

الأوّل : دعوى أن الترتّب يتوقّف على أن يكون الواجب المهم واجداً للملاك مطلقاً حتى في حال المزاحمة ، وإحرازه إنما يكون إذا كانت القدرة المعتبرة عقليّة ، وأمّا إذا كانت شرعيّةً ، فبانتفاء القدرة ـ كما في المثال ـ ينتفي الملاك ، ومعه لا يجري الترتب.

والثاني : دعوى أن الأمر بالأهمّ مانع عن الأمر بالمهم ومعجّز عنه شرعاً ، حتى في حال عصيانه وعدم الإتيان بمتعلّقه.

ولكن قد عرفت فساد كلتا الدعويين.

٢٥٨

أمّا الأُولى ، فلما سبق من أن الترتّب لا يتوقّف على إحراز الملاك في الواجب المهم ، فإن إحرازه غير ممكنٍ مع سقوط الأمر حتى فيما إذا كانت القدرة عقليّة فضلاً عن كونها شرعيّة ، فلو كان الترتّب متوقفاً على إحراز الملاك في المهم لم يمكن الالتزام به على كلا التقديرين.

وأمّا الثانية ، فقد عرفت عدم التنافي بين الأمرين ، إذا كان الأمر بالمهم مشروطاً بعصيان الأمر بالأهم (١).

جواب الأُستاذ

وقد أجاب الأُستاذ عن ذلك : بأنه كلام غير مناسب لشأنه ، لأنّ الميرزا إنما يستكشف الملاك عن طريق إطلاق المادّة لا عن طريق الأمر كما عليه المستشكل ، فالميرزا يقول : بأنه إذا تعلّق الأمر بشيء ولم تؤخذ القدرة فيه في لسان الدليل الشّرعي ، فإنّ نفس إطلاق الواجب يكشف عن قيام الملاك بذات المادّة ... فالإشكال أجنبي عن مسلك الميرزا. هذا أوّلاً.

وثانياً : لو سلّمنا أنّ الترتّب لا يتوقّف على إحراز الملاك في الواجب المهم ـ كما قال ـ فإنّ الواقع في المسألة هو إحراز عدم الملاك ، فما ذكره خلط بين عدم إحراز الملاك وإحراز عدم الملاك ، وذلك لأن القدرة المأخوذة في الواجب قيد للواجب ، وكلّ ما يكون قيداً له فهو قيد للملاك ، لاستحالة تقيّد الواجب من دون تقيّد الملاك ، وعليه ، فإنه يستحيل أن تقيّد الصّلاة بالطهارة مع عدم تقيّد المصلحة المترتبة عليها والغرض منها بالطهارة ، والمفروض اعتبار القدرة الشرعيّة على الطهارة ، فإذا انتفت هذه القدرة عليها حصل القطع بعدم الملاك ، والقطع بعدمه في المهم يبطل الترتب ... وقد اعترف المستشكل في مباحث الضدّ بأنه متى

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ / ٣٩٤ ـ ٣٩٥.

٢٥٩

أُخذت القدرة في المتعلّق وكانت قيداً للواجب ، فإنّه ينتفي الملاك بانتفاء هذا القيد ... ومع قطعاً يستحيل جريان الترتب.

وثالثاً : كيف الجمع بين قوله هنا في المحاضرات بعدم لزوم إحراز الملاك وأنّ عدمه لا ينافي الترتّب بين الواجبين ، وقوله في كتاب الحج بشرح (العروة) (١) «لعدم جريان الترتب في أمثال المقام» وهذا نصّ عبارته :

«الظاهر عدم وجوب متعلّق النذر حتى في مثل الفرض ، لعدم جريان الترتب في أمثال المقام ، لأن الترتب إنما يجري في الواجبين اللذين يشتمل كلّ منهما على ملاك ملزم ، غاية الأمر لا يتمكن المكلّف من الجمع بينهما في مقام الامتثال» (٢)؟

فالحق مع الميرزا ، لأنّه قد أُخذ في لسان أدلّة التيمّم عدم التمكّن من استعمال الماء ، فكان وجوب التيمّم والتكليف به رافعاً لموضوع حكم الوضوء ، فلو توضّأ ـ والحال هذه ـ بطل.

التنبيه الثالث

(في ما لو كان أحد الواجبين موسّعاً والآخر مضيّقاً)

هل يجري الترتب فيما لو كان أحد الواجبين موسّعاً والآخر مضيّقاً ، كما لو وجب عليه إزالة النجاسة عن المسجد ووجبت الصّلاة في سعة الوقت ، بعد العلم بأنهما لو كانا مضيّقين فهما داخلان في البحث ، ولو كانا موسّعين فخارجان يقيناً؟ وجوه :

__________________

(١) العروة الوثقى ٤ / ٣٩٣ المسألة ٣٢ شرائط وجوب الحج : إذا نذر قبل حصول الاستطاعة أن يزور الحسين عليه‌السلام في كلّ عرفة ثم حصلت ، لم يجب عليه الحج ...

(٢) شرح العروة ٢٦ / ١١٩ كتاب الحج ، مسألة تزاحم الحج والنذر.

٢٦٠