تحقيق الأصول - ج ٣

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-39-2
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٣٩٩

توهّم ـ فإنه إنما يترتب على إطلاق الخطابين دون فعليّتهما. وبيان ذلك :

إن الشرط الذي يترتّب عليه الخطاب ، إمّا أن لا يكون قابلاً للتصرّف الشرعي ، لخروجه عن اختيار المكلّف بالكليّة ، كالزّوال بالنسبة إلى الصّلاة ، وامّا أن يكون قابلاً لذلك ، كالاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ ، فإن للشارع أن يتصرّف فيه بأن يوجب ـ مثلاً ـ أداء الدين ، فيرتفع الاستطاعة بحكم الشارع ويسقط وجوب الحج.

ثم إن الشرط يكون تارةً : شرطاً للحكم بحدوثه وأُخرى : ببقائه وثالثةً : بوجوده في برهةٍ من الزمان. مثلاً : في باب الحضر والسفر قولان ، فقيل : الشرط للقصر هو السّفر ، ويكفي حدوثه في أوّل الوقت ، فمن كان مسافراً في أول وقت الصّلاة وجب عليه القصر ، وإن كان حاضراً في بلده في آخره. وقيل : لا يكفي الحدوث بل الشرط كونه مسافراً حتى آخر الوقت.

ثم إنّ الموارد تقبل التقسيم إلى قسمين بلحاظ حال المكلّف واختياره وينقلب الحكم بتبع ذلك ، كما لو كان حاضراً فسافر أو العكس ، فإنّ الحكم الشّرعي ينقلب قصراً أو تماماً ، أمّا في مثل الاستطاعة فلا خيار للمكلّف ، فإنه إذا حصل استقرّ الحج شاء أو أبى.

والخطاب الشرعي أيضاً ينقسم تارةً : إلى الخطاب الرافع للموضوع بنفسه ، فلا دخل لإطاعة الخطاب ، وأُخرى : يكون الرافع له امتثال الخطاب وإطاعته ، كما في مسألة أرباح المكاسب ، فإن الربح موضوع لوجوب الخمس ، فإن أوجب الشارع على المكلّف أداء ديون تلك السنة من الأموال الحاصلة فيها ـ لا السنين الماضية ـ فإنّ نفس هذا الخطاب يرفع موضوع الخمس.

هذا ، والمهم في موارد الترتّب أن يكون رفع الموضوع بامتثال الخطاب ،

٢٢١

لا أن يكون أصل وجود الخطاب رافعاً ـ كما تقدّم ـ فإن التزاحم ينتفي حينئذٍ ولا يبقى موضوع للترتب ، لأنه فرع التزاحم بين الخطابين ، فلا بدّ من وجوده حتى نرى هل يرتفع باشتراط أحدهما بعصيان الآخر أو لا؟

ثم إن هنا قاعدةً وهي : إنه لو حصل خطاب في موضوع خطابٍ آخر ، فإمّا أن يمكن اجتماع متعلّقي الخطابين ، فلا بحث ، كما لو جاء في موضوع وجوب الصّلاة ، ـ وهو أوّل الفجر ـ وجوب الصّوم أيضاً ، فيكون أوّل الفجر موضوعاً لكليهما ولا تمانع بينهما ، وامّا لا يمكن ويقع التمانع ، فعلى الحاكم لحاظ الملاكين وتقديم الأهم وإلاّ فالتخيير.

فإن كان لكلٍّ من المتعلّقين ملاك تام ووقع الإشكال في مرحلة الخطاب ، من حيث القدرة وعدمها عند المكلّف على الامتثال ، كان أحد الحكمين رافعاً لموضوع الآخر بامتثاله ، لفرض عدم القدرة على امتثالهما معاً ، وبقطع النظر عن الامتثال يكون الموضوع باقياً ، إلاّ أن القدرة الواحدة لا تفي لامتثال الحكمين. فإن لزم من الجمع بينهما طلب الجمع بين الضدين ، فلا مناص من الأخذ بالأهم وينعدم الخطاب بالمهم ، أما إن كانا متساويين ولا أهم في البين ، فالخطابان كلاهما ينعدمان ويستكشف خطاب واحد تخييري ، وإن لم يلزم منهما طلب الجمع بين الضدّين ـ والمفروض وجود الملاك التام لكلّ منهما ـ وجب وجودهما ... وهذا معنى قولهم : إن إمكان الترتّب مساوق لوجوبه.

إنما الكلام ـ كلّ الكلام ـ في إثبات عدم لزوم الجمع. وقد أقام الميرزا ثلاثة براهين على ذلك.

وقد ذكر قبل الورود في المطلب ما هو المنشأ للزوم الجمع بين الضدّين ، فقال : بأنّ المنشأ لهذا المحذور هو أحد أُمورٍ ثلاثة :

٢٢٢

١ ـ أن يقيّد كلّ من الخطابين بوجود الآخر ، بتقييد المطلوبين أحدهما بالآخر ، كأن يقول : تجب عليك القراءة المقيّدة بالصّوم ، ويجب عليك الصّوم المقيّد بالقراءة ، أو بتقييد طلب كلٍّ بطلب الآخر ، فوجوب القراءة في فرض وجود الصّوم ووجوب الصّوم في فرض وجود القراءة.

فمن الواضح أن تقييد كلٍّ منهما بالآخر يستلزم الجمع بينهما.

٢ ـ أن يقيّد أحدهما بالآخر دون العكس ، كأن يقول : صم. ثم يقول : صلّ إن كنت صائماً. فيلزم الجمع.

٣ ـ أن لا يقيّد شيئاً منهما بل يجعلهما مطلقين ، فيقول : صم ، صلّ ، فكلّ منهما واجب سواء كان الآخر موجوداً أو لا ، فيلزم الجمع في فرض وجودهما.

ومن الواضح استحالة لزوم الجمع لو قيّد أحدهما بعدم الآخر ، كما لو قال : صم إن لم تقرأ.

وحينئذٍ ، فإن الإشكال على الترتّب يندفع بإقامة البرهان على عدم لزوم الجمع ، لأن لزومه يكون إمّا بإيجاب الجمع بعنوانه كأن يقول : اجمع بين كذا وكذا ، وامّا بإيجاب واقع الجمع ، وذلك يكون بالأمر بكليهما على نحو الإطلاق ، فيلزم الجمع ، أمّا إذا لم يكن هذا ولا ذاك فلا وجه للاستحالة ، والبرهان هو :

أولاً : إنّ المفروض في الترتب تقييد أحد الخطابين بعصيان الآخر ، فيكون وقوع أحدهما على صفة المطلوبيّة بنحو القضيّة المنفصلة الحقيقيّة ، لأن الأمر بالأهم إمّا أن يمتثل في الخارج أو لا؟ فإن امتثل استحال وقوع المهم على صفة المطلوبيّة ، وإن لم يمتثل فبما أن متعلّقه لم يوجد في الخارج ، يستحيل كونه مصداقاً للمطلوب ومعنوناً بعنوانه.

وبعبارة أُخرى : إن حال الأهم لا يخلو عن أن يوجد خارجاً أو لا يوجد ، فإن

٢٢٣

وجد ، كان هو الواقع على صفة المطلوبيّة ولا خطاب بالمهم لانتفاء شرطه أعني عصيان الأهم ، وإن لم يوجد الأهم ووجد المهم ، كان هو الواقع على صفة المطلوبيّة ، وإن لم يوجد المهمّ كذلك لم يقع شيء منهما على صفة المطلوبية من باب السّالبة بانتفاء الموضوع ... وعلى كلّ حال ، يستحيل وقوعهما معاً في الخارج على صفة المطلوبيّة ، فيستكشف من ذلك عدم استلزام فعليّة طلبهما لطلب الجمع.

وتوضيحه : إن خطاب المولى ب «صلّ» مشتمل على نسبتين : نسبة طلبيّة بين المولى والصّلاة ، ونسبة تلبّسية هي بين المكلّف والصّلاة ، ولا تنافي بين هاتين النسبتين ، فكأنه يقول للمكلّف : كن فاعلاً للإزالة أو تجب عليك الصّلاة ، فالمولى آمر بالمهم ـ وهو الصّلاة ـ والمكلّف فاعل للأهم ـ وهو الإزالة ـ فأين الاجتماع بين النسبتين؟ بل الاجتماع ضروري الامتناع! لأنّ واقع الجمع هو في مطلوبيّة الأهم والمهم ـ المتضادّين ـ في زمانٍ واحد ، لكنّ المفروض في الترتّب عدم اجتماع فاعليّة الأهم مع وجوب المهم ، لأنّه لمّا يكون فاعلاً للأهم لا يكون مخاطباً بالمهم ، وعند ما يكون مخاطباً بالمهم ويجب عليه ، لا يكون للأهم فاعليّة ، فهما ليسا مطلوبين في وقت واحد ليلزم طلب الجمع بين الضدّين.

وثانياً : إن القيد يكون تارةً : قيداً للمطلوب كالطهارة بالنسبة إلى الصّلاة ويكون تحصيله واجباً. وأُخرى : قيداً للطلب وتحصيله غير واجب كالاستطاعة فإنه قيد لطلب الحجّ لا لنفس الحج.

وقيد الطلب لا يكون قيداً للمطلوب.

وهنا : ترك الأهم قيد لطلب المهم ـ وليس قيداً للمهم نفسه ـ إذ كان عصيان الأمر بالأهم شرطاً لوجوب المهم وهو الصّلاة ، فهي ليست بواجبة إلاّ عند ترك

٢٢٤

الإزالة ، فالنتيجة ضد إيجاب الجمع ... لأن إيجاب الجمع عبارة عن أن يكون المتضادّان متّصفين بالمطلوبيّة ، ومع الالتفات إلى ما تقدّم يستحيل تحقق المطلوبيّة لهما معاً ، لأن المفروض توقّف اتّصاف المهم بالمطلوبيّة على ترك الأهم لا على وجوده ، فشرط مطلوبيّة الصّلاة عدم الإزالة لا وجودها ... وإلاّ لزم خلف الشرط ، كما أنه لا يتصف المهم بالمطلوبيّة إلاّ مع عدم الأهم ، فلو اتّصف بها مع وجوده ، لزم وجود الأهم وعدمه وهو اجتماع للنقيضين ... فإيجاب الجمع يستلزم الاستحالة من وجهين أحدهما : لزوم الخلف ، والآخر : لزوم اجتماع النقيضين. وكلّما استلزم المحال فهو محال.

قال الأُستاذ :

في كلامه نقص لا بدّ من تتميمه ، إذ للمنكر للترتب أن يقول : حاصل البرهان عدم مطلوبيّة المهم مع وجود الأهم ، لكنّ الأهمّ مع وجود المهم مطلوبٌ ، وما ذكرتموه لا يثبت استحالة مطلوبيّته. وبعبارة أُخرى : إن إطلاق الأهم يقتضي مطلوبيّته مع وجود المهم ، فيلزم اجتماع الضدّين ويعود الإشكال ، وإن كان مندفعاً بالنظر إلى تقيّد المهم بعدم الأهم.

وتتميم البرهان يكون بالاستفادة ممّا ذكره الميرزا في المقدمات السابقة ، من أن مطلوبيّة المهم إنّما هي في حال ترك الأهم ، إذ أصبح تركه موضوعاً لمطلوبيّة المهم ، وإذا تحقق ترك الأهم تحقق مطلوبيّة المهم في ظرف عدم الأهم.

هذا تمام الكلام في مطالب الميرزا في هذا المقام.

الترتّب ببيان الشيخ الحائري :

والشيخ عبد الكريم الحائري ذكر في (الدرر) (١) مستفيداً من المحقق السيّد

__________________

(١) درر الفوائد (١ ـ ٢) ١٤٠ ط جامعة المدرسين.

٢٢٥

الفشاركي أربع مقدّماتٍ ، وقد شارك الميرزا في بعض الخصوصيّات ، كقولهما بكون الأمر بالمهم مقيّداً ـ خلافاً للمحقّق العراقي القائل بأنّه مطلق ، كما سيأتي ـ ونحن نتعرّض للمقدّمتين الأولى والثانية ، وحاصل كلامه فيهما :

إن الإرادة المتعلّقة بالعناوين تنقسم إلى قسمين ، فقد تكون مطلقةً لم يؤخذ فيها أيّ تقدير ، بل الشيء يجب إيجاده بجميع مقدّماته ، كأن يريد إكرام زيد بلا قيدٍ ، فهذه إرادة مطلقة تقتضي تحقّق الموضوع وهو مجيء زيد ليترتب عليه إكرامه. وقد تكون الإرادة على تقديرٍ ، وجودي أو عدمي ، فتكون منوطةً بذلك التقدير ، فلو لم يتحقّق التقدير فلا إرادة بالنسبة إليه ... وتنقسم هذه الإرادة إلى ثلاثة أقسام بحسب حصول التقدير الذي أُنيطت به:

فتارةً : تتعلّق بالشيء بعد حصول التقدير ، كتعلّقها بإكرام زيد على تقدير مجيئه. وثانيةً : تتعلّق به عند حصوله ، كتعلّقها بالصوم عند الفجر. وثالثةً : تتعلّق به قبله ، كتعلّقها بالخروج إلى استقبال زيد الذي سيصل إلى البلد بعد ساعات مثلاً.

ففي هذه الأقسام تكون الإرادة منوطة بالتقدير ، فإذا علم به كان لها الفاعليّة ، كما لو علم بوقت قدوم المسافر خرج إلى استقباله ، ولو علم بالفجر صام ، ولو علم بالمجيء أكرم ... فكان للعلم بالتقدير دخل في فاعلية الإرادة وتأثيرها.

وهذه هي المقدمة الأولى ... ونتيجتها في الترتب هو :

إنّ الإرادة المتعلّقة بالأهم مطلقة وليس فيها تقدير ، والمتعلّقة بالمهم منوطة غير منوطة بتقدير ترك الأهم ، وموجودة قبل حصول التقدير المذكور ، غير أنّ فاعليّتها متوقّفة على حصوله. وعلى هذا ، فمورد الترتب في طرف الأهم من قبيل الإرادة المطلقة ، ومن طرف المهم من قبيل الإرادة المنوطة ، فكما لا فاعليّة لإرادة الصّوم قبل طلوع الفجر ، كذلك لا فاعليّة لإرادة الصّلاة قبل ترك إزالة النجاسة من

٢٢٦

المسجد ، بل عند تحقق تركها تتحقّق الفاعليّة بالنسبة إلى الأمر بالمهم.

قال الأُستاذ :

وهذا بيانٌ آخر لمطلب الميرزا ، غير أنه قال : بأنّ الأمر بالمهم لا تحقّق له ما لم يتحقق الشرط ـ وهو ترك الأهم ـ فلا فعليّة له ولا فاعلية ، والحائري يقول بوجود الفعليّة له ، وإنما الفاعليّة منوطة بترك الأهم.

وقد خالفا صاحب الكفاية ، إذ جعل الترك شرطاً متأخّراً ، وقد جعلاه مقارناً ، غير أنّه عند الميرزا هو شرط مقارن للفعليّة فما لم يتحقق فلا فعليّة ، وعند الحائري هو شرط مقارن للفاعليّة فما لم يتحقق فلا فاعليّة ، أمّا الفعليّة فهي محققة قبل الشرط للأمر بالمهم كما هي محقّقه للأمر بالأهم.

ثم ذكر الشيخ الحائري في المقدّمة الثانية : إنه لمّا كانت الإرادة في المهم منوطةً بالتقدير ، فإنه يستحيل تحقق الفاعليّة لها قبل تحقّقه ، فليس لها أي تأثير في تحرّك العبد إلا بعد تحقق التقدير ، إذ لو فرض لها فاعليّة قبله للزم الخلف وهو محال.

قال :

قد توافق الشيخ الحائري والمحقق العراقي على أن حقيقة الواجب المشروط هي الإرادة المنوطة ، وقد أخذا هذا من فكر السيد المحقّق الفشاركي ، والسرّ في الالتزام بذلك في الواجب المشروط هو : إنه إذا قال : إذا زالت الشمس فصلّ ، فهل قبل الزوال يوجد إيجابٌ ووجوبٌ أو كلاهما يحصلان عند الزوال ، أو يحصل الإيجاب بهذا الإنشاء والوجوب عند الزوال؟

فإن قلنا : بحصولهما عند الزوال ، فالإنشاء قبله لغو. وإن قلنا : بحصول الإيجاب عند الإنشاء والوجوب عند الزوال ، لزم التفكيك بين الإيجاب

٢٢٧

والوجوب.

فتعيّن القول بحصولهما عند الانشاء ... وهذا هو الواجب المشروط. لكن يرد عليه :

أوّلاً : إن هنا إرادة قد أُنيطت بقيدٍ وتقديرٍ ، ومعنى الإناطة هو الابتناء والاشتراط ، فإن لم يكن للقيد دخلٌ في الإرادة فهي مطلقة ولا إناطة ، وإن جعل دخل القيد في الفاعلية فقط ، لزم أن تكون الإرادة مطلقةً كذلك. فليس الواجب مشروطاً بل هو مطلق ... نعم ، للمحقق الحائري أن يقسّم الواجب المطلق إلى قسمين ، أحدهما : ما كانت للإرادة فيه فعليّة بلا فاعليّة ، والآخر : ما كانت للإرادة فيه فعليّة وفاعليّة.

وثانياً : إنّ شروط الوجوب تختلف عن شروط الواجب ، لأنّ شروط الوجوب لها دخل في الغرض من الحكم ، فما لم يتحقق الشرط فلا غرض ، كالزوال بالنسبة إلى الصّلاة ، وشروط الواجب لها دخل في فعليّة الغرض ، كالطهارة بالنسبة إلى الصّلاة ، إذ الغرض من الصّلاة موجود سواء وجدت الطهارة أو لا ، لكنّ فعليّة الغرض موقوفة عليها.

وعلى ما ذكره من تحقّق الإرادة وفعليتها في الواجبات المشروطة قبل حصول الشرط ، يلزم تخلّف الإرادة عن الغرض ، فكيف تتحقّق الإرادة والغرض غير حاصل لكونه مشروطاً بشرط غير حاصل ... وبعبارة أُخرى : كيف تتحقّق الإرادة مع العلم بعدم تحقق الغرض والحال أنّ الإرادة تابعة للغرض؟

إيراد المحقق الأصفهاني وجوابه :

وأمّا إيراد المحقق الأصفهاني : بأن تخلّف الإرادة عن المراد محال ، سواء كانت الإرادة تكوينيّة أو تشريعيّة ، لأنّ الإرادة التكوينيّة هي الجزء الأخير للعلّة

٢٢٨

التامّة ، والتشريعيّة هي الجزء الأخير لإمكان البعث ، ولا يتخلّف إمكان البعث عن امكان الانبعاث.

فقد أجاب الأُستاذ عنه : بأنه يبتني على إنكار الواجب المعلّق وعدم تخلّف البعث التشريعي عن الانبعاث ، وقد تقدّم في محلّه إثبات الواجب المعلّق وإمكان التخلّف في التشريعيّات ... فمن الممكن أن يكون الوجوب حاليّاً والواجب استقباليّاً.

الترتّب ببيان المحقق العراقي :

وقد جوّز المحقق العراقي (١) طلب الضدّين بنحو العرضيّة مضافاً إلى جواز ذلك بنحو الترتب ، خلافاً للمحققين الآخرين ، إذ خصّوا ذلك بالترتب فقط ، ونحن نذكر محصّل كلامه في كلتا الجهتين كما في (نهاية الأفكار) :

أمّا تصويره طلب الضدّين على نحو العرضيّة ، فقد ذكر أنّ الأهم والمهم يُطلبان في عرض واحدٍ ـ وبلا تقييد لا في الطلب ولا في المطلوب ـ إلاّ أنّ إيجاب الأهمّ تام ، وإيجاب المهمّ ناقص.

والأصل في هذه النظريّة هو المحقق صاحب الحاشية في تعريف الواجب (٢) التخييري ، فقد ذهب إلى أنّه أمر بالشيء مع النهي عن بعض أنحاء التروك ، في قبال الواجب التعييني فهو الأمر بالشيء مع اقتضائه للنهي عن جميع أنحاء التروك ، وذلك : لأن لكلّ وجوب تروكاً متعددةً بالنظر إلى مقدّماته وأضداده ، فالصّلاة تنتفي بانتفاء الطهارة التي هي من شروطها ، وبوجود المزاحم ، فيكون وجود الصّلاة موقوفاً على وجود شرائطها وعدم جميع الموانع لها ،

__________________

(١) نهاية الأفكار (١ ـ ٢) ٣٧٥ ط جامعة المدرّسين.

(٢) هداية المسترشدين : ٢٤٧ ط حجري.

٢٢٩

ويتعدّد عدمها بعدد كلّ مقدمةٍ مقدمةٍ إذا عدمت ، وبعدد كلّ مزاحم مزاحم إذا وجد ... وعلى هذا ، فالواجب المطلق ما انسدّ فيه جميع الأعدام ، ومقتضى تعلّق الطلب به هو سدّ أبواب الأعدام كلّها. وكذلك الواجب التعييني ، فهو يقتضي سدّ التروك ، لأنّ ترك العتق يتحقّق بترك الصوم وبفعل الصوم ، فإذا وجب العتق على نحو التعيين ، كان وجوبه مقتضياً لانتفاء تركه مع فعل الصوم وانتفائه مع ترك الصوم. لكنه إذا وجب على نحو التخييرية يسدّ باب تركه مع ترك الصوم لا مع فعله ، إذ له أن يصوم ولا يعتق ... فهذا معنى أنّ الواجب التخييري هو الأمر بالشيء مع النهي عن بعض أنحاء تركه.

ونتيجة هذا التحقيق في حقيقة الوجوب التخييري هو أن متعلّق الطلب فيه هو الحصّة الملازمة لترك العدل ، فمتعلّق الطلب في العتق مثلاً هو الحصة الملازمة لترك الصوم والإطعام ، دون الحصّة الملازمة لفعلهما. ومن هنا اتّخذ المحقق العراقي مصطلح الحصّة التوأمة.

وعلى ضوء ما تقدم ، قال هنا :

إنّ الضدّين إمّا لا ثالث لهما كالحركة والسكون ، وامّا لهما ثالث كالصّلاة والإزالة.

فإن كانا من قبيل الأول ، فالتخيير الشرعي مستحيل بل هو تخيير عقلي من باب لابديّة أحد الأمرين ، إذ التخيير الشرعي إنما يكون حيث يمكن ترك كلا الطرفين ولا يكون أحدهما قهري الحصول ، فليس الحركة والسكون من موارده.

وإن كانا من قبيل الثاني ، فالمجموع مقدور على تركه وليس شيء منه بقهريّ الحصول ، وحينئذ ، فالحكم هو التخيير شرعاً ، لأن المفروض إمكان استيفاء الملاك بكلٍّ من الطرفين ، فمع أن ملاك الصّوم يغاير ملاك العتق ، وبينهما

٢٣٠

تضاد ، لكن مجموع الملاكات يمكن استيفاؤه كما يمكن تفويته ، فلو لم يجعل الشارع خطاباً تخييرياً لزم انتفاء المجموع ، وجعل الخطاب التعييني غير ممكن ، لفرض التضادّ بين الملاكات ، فيجب وجود الخطاب التخييري ... ومن هنا يقول هذا المحقق : إن المجعول في الواجبات التخييرية متمّم الوجود والوجوب ، لأنّ الوجوب في كلّ فردٍ من التخييري ناقص ـ بخلاف الوجوب في الواجب التعييني ـ إذ ينسد باب العدم عن أحد الفردين حيث يترك الفرد الآخر ، أمّا مع فعله فلا يلزم سدّ باب العدم.

والمهم أن نفهم كيفية الوجوب التخييري ، وأنه كيف يكون أحد الوجوبين في الأهم والمهم ناقصاً ، ويكون كلاهما تامّاً في المتساويين؟

يقول : إن الضدّين إمّا متساويان في الملاك وامّا مختلفان ، والواجبان إمّا مضيّقان وامّا موسّعان ، وامّا أحدهما مضيّق والآخر موسّع.

فإن كانا مضيّقين وتساويا في الملاك ـ ولا أهم ومهم ـ احتمل اشتراط الطلب في كلّ منهما بترك الآخر ، واحتمل اشتراط المطلوب في كلّ منهما بترك الآخر ، لكنّ كليهما مستحيل ، وينحصر الأمر بكون وجوبهما وجوباً ناقصاً.

ووجه الاستحالة هو : أنه لو كان الغريقان متساويين في الملاك ولا يمكن انقاذهما معاً ، فإن اشتراط طلب انقاذ هذا بترك انقاذ ذاك محال ، لأنه إن ترك انقاذ كليهما تحققت المطاردة بين الطلبين ، لحصول شرط وجوب كلٍّ من الطلبين بترك كليهما ، ويصبح الطلبان فعليين ، والطلبان الفعليّان مع وحدة القدرة محال. واشتراط طلب انقاذ كلٍّ منهما بمعصية الأمر بإنقاذ الآخر محال كذلك ، للزوم تأخّر المتقدّم بمرتبتين ، لأن المفروض كون طلب انقاذ هذا مشروطاً بمعصية طلب إنقاذ الآخر ، والمعصية متأخّرة عن الطلب ، والمشروط متأخّر عن الشرط ،

٢٣١

فكلّ طلبٍ متأخّر بمرتبتين ومتقدّم بمرتبتين ، وهذا محال.

فتحصّل : استحالة اشتراط طلب أحد الضدّين المتساويين ملاكاً بترك الآخر أو بمعصية الأمر المتعلّق بالآخر.

فلا يمكن أن يكون الطلب مشروطاً.

وأمّا المطلوب فكذلك ، لأن المطلوب ـ وهو الواجب ـ متأخّر عن الشرط ، فلو اشترط المطلوب الواجب ـ وهو إنقاذ هذا الغريق ـ بترك إنقاذ الآخر ، كان المطلوب متأخّراً عن الترك ، والترك يتقدّم على وجود الإنقاذ تقدّم الشرط على المشروط ، لكن وجود إنقاذ هذا متّحد رتبةً مع ترك إنقاذ الآخر وكذا العكس ، لكون النقيضين في مرتبةٍ واحدة.

فتكون النتيجة تأخّر وجود هذا الإنقاذ عن وجود انقاذ الآخر ، وقد عرفت تأخّر وجود الآخر عن وجود هذا كذلك ... فيستحيل اشتراط الواجب بترك الواجب الآخر.

وهكذا الحال لو اشتراط الواجب المطلوب بمعصية الأمر المتعلّق بالمطلوب الآخر ، لما ذكرناه في اشتراط الطلب بمعصية طلب الآخر.

وإذا استحال اشتراط الطلب واشتراط المطلوب ، فلا مناص من الالتزام ـ في المضيّقين المتّحدي الملاك ـ بوجوبين ناقصين ، والمقصود هو : إن كلاًّ من الإنقاذين واجب ، بحيث يطرد هذا الوجوب عدم نفسه إلاّ من جهة وجود انقاذ الآخر ، فلو أنقذ الغريق الآخر لم يجب انقاذ هذا ، وكذا العكس.

قال : إنّ وجوب شيء على تقدير وجود شيء آخر ، ـ كما لو وجب إكرام زيد على تقدير مجيئه ـ هو في الحقيقة إلزام من جهةٍ وترخيص من جهة أُخرى ، إذ الإكرام يكون واجباً إن جاء ، ويكون مرخّصاً فيه في فرض عدم مجيئه ، فاجتمع

٢٣٢

الإلزام مع الترخيص في الترك ، وكذلك يمكن أن يجتمع الإلزام بفعل شيء مع الإلزام بترك نفس الشيء ، لأنّ كلّ شيء له أضداد وموانع عن وجوده ، فيصح الإلزام بفعل شيء على تقدير وجود ضدٍّ من أضداده ، والإلزام بترك الشيء نفسه على تقدير وجود ضدٍّ آخر ، كأن يلزم بإتيان الصّلاة على تقدير النوم ، بمعنى أن النوم لا يرفع وجوب الصّلاة ، وأن يلزم بترك الصّلاة على تقدير ضدّ آخر وهو الإزالة ، بمعنى أنه مع الإتيان بالإزالة مأمور بترك الصّلاة.

فظهر إمكان الأمر بالضدّين المتساويين في الملاك بالوجود والوجوب الناقص.

وأمّا إنْ كانا غير متساويين ، بل كان أحدهما أهم من الآخر فكذلك ... لما تقدّم من أن للشيء أنحاء من العدم بأنحاء الإضافات والأضداد والمقدّمات ، فلو حصل التمانع بين طلب الإزالة وطلب الصّلاة ، وكانت الإزالة أهم ، تحقق للصّلاة عدم من ناحية وجود الإزالة ، وعدم من ناحية وجود غير الإزالة كالأكل والنوم وغيرهما.

إلاّ أنه لمّا كان المفروض كون طلب الصّلاة ناقصاً ، كان المقصود هو عدم مطلوبيّة الصلاة في حال تحقق الإزالة ، لكنّها مطلوبة من ناحية وجود غير الإزالة من الأضداد ، فاجتمع في طلب الصّلاة جهة الإلزام بفعلها والإلزام بتركها. أمّا الإلزام بفعل الصّلاة فمن غير ناحية وجود الإزالة ، وأمّا الإلزام بتركها فمن ناحية وجود الإزالة ... هذا بالنسبة إلى طلب الصّلاة.

وأمّا الإزالة ـ وهي الأهم ـ فإن طلبها تام وليس بناقص ، فهو يريدها من جميع النواحي ، أي يريد الأعدام كلّها ، عدم الصّلاة ، عدم الأكل ، عدم النوم ... فقد توجّه الأمر بالإزالة بهذا الشكل ....

٢٣٣

وبهذا البيان لا يلزم أيّ محذور من أن يجتمع الأمر بالضدّين ـ الإزالة والصّلاة ـ ويكونا في عرضٍ واحد ... لأن المحذور لا يكون إلاّ في مرحلة الاقتضاء أو في مرحلة الامتثال والطاعة ، ومع كون أحد الطلبين تامّاً والآخر ناقصاً فلا يلزم أيّ محذور ، لأنّ مقتضى الأمر بالأهم إعدام المهم بلحاظ وجود الأهمّ لتماميّة اقتضاء وجوده من هذه الناحية ، بخلاف الأمر بالمهم فليس له هذا الاقتضاء بالنسبة إلى الأهم ، وإنما يقتضي إعدام الأضداد الأُخرى ... فلا مطاردة بين الطلبين ... في مرحلة الاقتضاء. وكذلك في مرحلة الامتثال ، لأنّه مع امتثال الأمر بالأهمّ لا يبقى الموضوع للأمر بالمهمّ حتى تصل النوبة إلى امتثاله ، لأنّ الأهمّ يقتضي سدّ باب عدمه من ناحية المهم ، أمّا الأمر بالمهم فقد كان ناقصاً ، لفرض كونه محفوظاً بالنسبة إلى غير الإزالة من الأضداد ، أمّا بالإضافة إلى الإزالة فلا ... اللهم إلاّ أن تصل النوبة إلى إطاعته بالتمرّد والمعصية للأمر بالأهمّ ، وهذا شيء آخر غير المطاردة بين الأمرين.

فظهر : أن الأمر بالأهمّ لا يطرد إطاعة الأمر بالمهمّ ، بل إنه مع إطاعة الأمر بالأهم لا يبقى موضوع لطاعة الأمر بالمهم ، وإن الأمر بالمهم لا يطرد إطاعة الأمر بالأهم ، لأن الأهم إن لم تتحقّق إطاعته فذلك على أثر العصيان لا على أثر الأمر بالمهم ....

فلا مطاردة بين الأمرين ، لا اقتضاءً ولا امتثالاً.

إشكال المحقق الأصفهاني

وأورد المحقق الأصفهاني (١) على نظرية المحقق العراقي بما توضيحه :

إنه إن كان المراد من «التام» و «الناقص» أنّ إمكان الترتّب غير موقوفٍ على

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٢٢٢ ـ ٢٢٣.

٢٣٤

اشتراط وجوب المهم وترك الأهم وعصيانه ، وأنه يمكن بنحو الواجب المعلّق ، فلا حاجة إلى هذا التقريب الغريب ، حيث صوّرتم الحصص للعدم وأنّ للشيء ـ الذي له وجود واحد ـ أعداماً عديدة ، بل نقول : إنه من المعقول أن يكون الوجوب فعليّاً ويكون الواجب مقيّداً بظرف معصية الأهم ، كما هو الحال في كلّ واجب معلّق ، حيث الوجوب مطلق والواجب حصّة خاصة. هذا أولاً. وثانياً : إن كان المقصود أن المهمّ غير مشروط بمعصية الأهم ، وأنه يصوّر وجوب المهم بنحو الواجب المعلّق ، فيرد عليكم لزوم التفكيك بين فعليّة الوجوب وفاعليّته ، وهذا باطل ، إذ الطلب الفعلي يتقوّم بأن يجعل المولى ما يمكن أن يكون محرّكاً وباعثاً للعبد ، فهذا معنى إمكان الباعثيّة ، لأن العبد لو خلّي عن الموانع يكون للطلب إمكان الباعثيّة له ، فقولكم بوجود الأمر والطلب وبفعليّته لكن بلا فاعلية ، يستلزم التفكيك بين البعث والانبعاث ، وهذا غير معقول.

وإن كان المراد من تصوير «التام» و «الناقص» رفع المطاردة والتمانع بين الأهم والمهم ، فهذا غير متحقّق ، لأن المفروض إطلاق الأمر بالأهم ، فهو موجود في حال وجود المهم وفي حال عدمه ، وحينئذٍ ، فالحصّة من عدم الأهم الملازمة مع وجود المهم مطرودة من قبل الأهم ولا يبقى الاقتضاء للمهم ، وأمّا الحصّة من عدم الأهم الملازمة لعدم المهم ، فيتحقّق فيها المطاردة. مثلاً : لو ترك الأهم مع عدم المهم لوجود بعض الأضداد الأُخرى ، كان الأمر بالمهم مقتضياً لطرد عدمه من ناحية غير وجود الأهم ، لأنه يدعو إلى نفسه من غير ناحية الأهم من سائر الأضداد ، لكن الأمر بالأهم موجود بإطلاقه ، فهو يقتضي عدم نفسه ، فالطّرد يحصل من طرف الأهم والمهم كليهما ، إذ الأهم يقول بطرد عدم نفسه والمهم يقول مع وجود بعض الأضداد الأُخرى بطرد عدم نفسه ، والمفروض أن القدرة

٢٣٥

واحدة والوقت ضيّق.

دفاع الأُستاذ عن المحقق العراقي

وقد أجاب شيخنا الأُستاذ ، أمّا عن الإشكال الأوّل : فبأنّ المحقق العراقي لا يقصد إثبات المطلب عن طريق الواجب المعلّق ، بل يريد أن هنا طلبين بلا اشتراط من طرف المهم ، وأحدهما تام والآخر ناقص ، فلا علاقة للبحث بالواجب المعلّق. وبعبارة أُخرى : إنه لو أنكرنا الواجب المعلّق فما الإيراد على نظريّة المحقق العراقي؟

إنه يقول : بأن أحد الطلبين ناقص والآخر تام ، أمّا في الواجب المعلّق فالطلب تام وليس بناقص ، وإنما المتعلّق له هو الحصّة ... فكم الفرق؟

هذا أوّلاً. وثانياً : إن المحقق العراقي من القائلين بالواجب المعلّق ، فالإشكال عليه من هذا الحيث مبنائي.

وأمّا عن الإشكال الثاني : فبأن معنى «المطاردة» هو «التمانع» وقد بيّن المحقق العراقي عدم حصوله في مرحلة الاقتضاء وفي مرحلة الامتثال ، فهو يقول باقتضاء الأهم إعدام المهم دون بقيّة أضداد المهم ، إذ لا نظر للأهم إلى الأكل والشرب والنوم وأمثالها ، وإنما يدعو إلى نفسه وترك المهم ، والمهم يقتضي الاتيان به من ناحية بقيّة الأضداد لا من ناحية وجود الأهم ، فلا تمانع بين الاقتضائين. وكذلك يقول في مرحلة الإطاعة بمعنى : أن الأهم يدعو إلى نفسه ويريد الإطاعة له ، لكنّ المهمّ لا اقتضاء له للإطاعة مع وجود الأهم ، لأنه مع تأثير الأهم في الإطاعة لا يبقى موضوع للأمر بالمهم ، حتى يمكنه طرد الأهم ... ولو فرض سقوط الأمر بالأهمّ على أثر التمرّد والعصيان له ، فلا فاعليّة له ليكون طارداً للأمر بالمهم ، لفرض كون الأمر بالأهم منطرداً حينئذٍ ـ حسب تعبيره ـ فأين

٢٣٦

المطاردة؟

اشكال الأُستاذ

هذا ، وأورد الاستاذ على المحقق العراقي : بأنّ العمدة في الفرق بين نظريّته وأنظار المحققين الآخرين هو عدم الاشتراط والتقييد بين الطلبين ، بل إنّ كلاً منهما بالنسبة إلى الآخر مطلق ، غير أنّ أحد الطلبين تام والآخر ناقص فالإشكال هو : إنّ الإطلاق وعدم التقييد في الطلب يرجع إلى المولى ، كما أنّ أصل الطلب يرجع إليه ، وكما يعتبر في أصل الخطاب والطلب أن لا يكون لغواً ـ لفرض كون المولى حكيماً لا يفعل اللغو ـ كذلك يعتبر في الاطلاق وجود الأثر وعدم اللّغوية ، لكنّ وجود الأمر بالمهم مع امتثال الأمر بالأهم لغو ، فلا يمكن أن يكون مطلقاً ، إذ لا أثر لطلبه مع امتثال الأمر بالأهم ، فإمّا يكون الأمر بالمهم مهملاً ، لكن الإهمال أيضاً محال ، وامّا أن يكون مشروطاً ومقيّداً بترك الأهم ، وهذا هو المعقول والمتعيّن ، فعاد الأمر إلى الترتّب وانتهى الاشتراط الذي هو مبنى الميرزا.

وقد فرغنا ـ حتى الآن ـ من طرح نظريّات الميرزا ، والحائري تبعاً للفشاركي ، والعراقي ... وقد عرفت أن أمتن البيانات هو بيان الميرزا ، وبقي :

الترتب ببيان المحقق الأصفهاني

وقد ذكر تحت عنوان (والتحقيق الحقيق بالتصديق) (١) مقدمتين :

إحداهما : إن ثبوت المقتضيين للضدّين جائز ، وإنما المحال وجود الضدّين ، بل يجب تحقق المقتضيين لهما ، فلو فرض عدم المقتضي لأحدهما لم تصل النوبة في عدم الضدّ إلى وجود الضدّ الآخر ومانعيّته له ... مضافاً : إلى أن ذلك كذلك في الوجدان ، إذ الشيء الواحد يمكن أن تتعلّق به إرادة زيد وإرادة عمرو

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٢٤١.

٢٣٧

في وقت واحد ، والجسم الواحد يصلح لأن يكون لونه أسود أو أبيض ....

وعلى الجملة ، فإنه لا تمانع بين المقتضيين ، بل هو بين مقتضى هذا وذاك.

الثانية : إن النسبة بين الأمر وإطاعته هي نسبة المقتضي إلى المقتضى ، لا العلّة إلى المعلول ، لأنه لو كان من قبيل العلّة والمعلول لكان منافياً للاختيار ، والحال أن اختيار المكلّف محفوظ ، وأمر المولى إنما هو جعلٌ لما يمكن أن يكون داعياً ومحرّكاً للمكلّف نحو الامتثال ، ولذا تتوقّف فعليّة الامتثال وتحقّقه على خلوّ نفس العبد من موانع العبوديّة.

وبعد المقدمتين :

فإن أمر المولى بأمرين ، ولم يكن لأحدهما قيد ، تحقّق المقتضي التامّ للفعليّة لإيجاد الدّاعي في نفس العبد ، فإذا كان العبد مستعدّاً للامتثال صلح كلّ من الأمرين لأن يصل إلى مرحلة الفعليّة ، وحينئذٍ ، تقع المطاردة بينهما ... أمّا لو كان أحد الأمرين غير مطلقٍ. بل على تقدير ، ـ والمقصود هو التقدير في مرحلة الاقتضاء لا مرحلة الفعليّة ـ فيكون الأمر بالمهم مقدّراً ومقيّداً بسقوط الأمر بالأهم عن المؤثّرية ، بمعنى أن أصل الإنشاء بداعي جعل الدّاعي في طرف المهم مقيّد بأن لا يكون الأمر بالأهم مؤثّراً ، وحينئذٍ ، يكون الاقتضاء في أحد الأمرين معلّقاً ، وعلى هذا تستحيل المطاردة بينهما ، لأن اقتضاء الأمر بالأهم تنجيزي واقتضاء الأمر بالمهم تعليقي ... ففي حال تحقّق الأمر بالمهم يكون الأمر بالأهم منطرداً مطروداً ، فلا تصل النوبة لأن يكون الأمر بالمهم طارداً له.

أقول :

إن هذا الوجه هو عين الوجه الذي ذكره المحقق العراقي ، وقد عرفت ما فيه ، فالصحيح ما ذهب إليه الميرزا.

٢٣٨

الكلام في ما أُشكل به على الترتّب

والكلام الآن فيما أُشكل به على القول بالترتّب :

الإشكال الأوّل

فقد قال في (الكفاية) : ثم إنه لا أظن أن يلتزم القائل بالترتّب بما هو لازمه من الاستحقاق في صورة مخالفة الأمرين لعقوبتين ، ضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد ، ولذا كان سيدنا الأُستاذ ـ قدس‌سره ـ لا يلتزم به على ما هو ببالي ، وكنّا نورد به على الترتّب وكان بصدد تصحيحه (١).

وتوضيحه : إنه على القول بالترتّب ، يكون هناك تكليفان وجوبيّان ، أحدهما بالأهم والآخر بالمهم ، وكلّ تكليف يستتبع استحقاق العقاب على تركه ، ففي صورة مخالفة التكليفين وترك الواجبين يستحق العقوبتين ، والحال أن المكلّف لم يكن له القدرة على امتثال كليهما ، فكيف يستحق العقاب على ترك ما لا يقدر عليه؟

الجواب

وقد أُجيب عن هذا الاشكال بجوابين : أما نقضاً : فبموردين ، أحدهما : في الواجب الكفائي ، حيث أنه لو تُرك الواجب كفايةً ، يستحق كلّ المكلّفين به العقاب عليه ، مع أن القيام به لم يكن مقدوراً إلاّ لواحدٍ منهم. والمورد الآخر : هو صورة تعاقب الأيدي على مال الغير ، فلو أنّ أحداً غصب مالاً ثم انتقل المال إلى

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٣٥.

٢٣٩

غيره ومنه إلى ثالثٍ وهكذا ، فإن الأيدي المتعاقبة هذه تستحق العقاب على الغصب ، مع أن الغاصب هو واحد منهم وليس كلّهم ....

وأمّا حلاًّ : فإنّ تعدّد العقاب لا محذور فيه ، إذ العقاب ليس على الفعل كي يقال بأن الجمع بين الأهم والمهم في الإتيان غير مقدور ـ لكون القدرة على أحدهما فقط ـ بل العقاب هو على الترك للتكليف ، والجمع بين التكليفين ـ الأهم والمهم ـ في الترك مقدور ، فكان العقاب على أمرٍ مقدورٍ صادر عن اختيار. وكذلك الحال في الواجب الكفائي.

وببيانٍ آخر : إنّه لمّا ترك الأهم واستحق العقاب على تركه ، كان بإمكانه الإتيان بالمهم ، فلمّا تركه استحق عقاباً آخر غير استحقاقه له على تركه للأهم.

وتلخص : اندفاع الإشكال ، وحاصله الالتزام بتعدّد العقاب.

قال الأُستاذ

إن ملاك استحقاق العقاب يكون تارةً هو «ترك الفعل المقدور» وأُخرى :

«الترك المقدور» ففي الواجب الكفائي يستحق المكلّفون العقاب لتحقّق «ترك فعلٍ مقدور» كدفن الميت أو الصّلاة عليه مثلاً ، فقد كان فعلاً مقدوراً لم يقم به أحد منهم ، فاستحقّوا العقاب على تركهم له.

أمّا فيما نحن فيه ، فإن المقدور ليس الفعل ، أي امتثال الأمرين ، بل هو الترك ، فإنّ ترك هذا وذاك مقدور ، فهما تركان مقدوران ....

وعليه ، فإن كان مناط استحقاق العقاب هو الجمع بين التركين المقدورين ، فالجواب صحيح ، ويتمّ الالتزام باستحقاق العقابين. وأمّا إن كان المناط في استحقاق العقاب هو ترك ما هو المقدور ، فالمفروض عدم كون كليهما مقدوراً ليتحقق التركان ويُستحق العقابان ... لكن ما نحن فيه من قبيل الثاني ، لأن

٢٤٠