تحقيق الأصول - ج ٣

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-39-2
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٣٩٩

وفيما نحن فيه : كلّ طلبٍ مشروط بالقدرة على متعلّقه ـ على مبنى المشهور أو الميرزا ـ وإذ لا قدرة على الضدّين فطلبهما محال.

يقول : «ما هو ملاك استحالة طلب الضدّين في عرضٍ واحدٍ آتٍ في طلبهما كذلك ، فإنه وإن لم يكن في مرتبة طلب الأهم اجتماع طلبهما. إلاّ أنّه كان في مرتبة الأمر بغيره اجتماعهما ، بداهة فعليّة الأمر بالأهم في هذه المرتبة وعدم سقوطه بعدُ بمجرد المعصية فيما بعد ما لم يعص أو العزم عليها مع فعليّة الأمر بغيره أيضاً ، لتحقّق ما هو شرط فعليّته فرضاً».

يعني : إنّه في صورة التضادّ بالذات ، يطارد كلٌّ من الضدّين الآخر ، وفي صورة التضادّ بالعرض ـ وهو صورة الاشتراط ـ تكون المطاردة من طرفٍ واحد ، لأنّ الأمر بالأهم مطلقٌ ، أي إنّه لا بشرط بالنسبة إلى المهم ، وهذا الأمر مقدَّم على متعلّقه ـ تقدّم العلّة على المعلول ـ فهو مقدّم على عصيانه ، لأنّ الإطاعة والعصيان في مرتبةٍ واحدة ، فكان الأمر بالأهمّ مقدّماً على إطاعة الأهم وعصيانه ، لكن العصيان شرط للأمر بالمهمّ ، وكلّ شرط متقدّم على المشروط ، فيكون الأمر بالأهمّ وعصيانه مقدّماً على الأمر بالمهمّ بمرتبتين ، وعليه ، فلا يمكن للأمر بالمهمّ أن يطارد الأمر بالأهم ، فيكون الأمر بالأهم موجوداً بلا مانع.

وهو أيضاً موجود في مرتبة إطاعة الأمر بالأهم وعصيانه ، لعدم الاقتضاء للأمر بالمهم في هذه المرتبة حتى يطارد الأمر بالأهم ، لأنّ المفروض أنّ الأمر بالمهمّ ينشأ بعد مرتبة عصيان الأمر بالأهم.

فإن عصي الأمر بالأهم ، يصير الأمر بالمهم فعليّاً ، لتحقّق شرطه ، لكنّ المفروض أنّ الأمر بالأهم مطلق ، فهو بإطلاقه يشمل هذه المرتبة ، فله اقتضاء الامتثال ، والمهمُّ له اقتضاء الامتثال ، فتقع المطاردة في هذه المرتبة.

٢٠١

الترتّب ببيان الميرزا

وتصدّى الميرزا لتصحيح الترتّب والردّ على إشكال الكفاية ، وذكر لذلك مقدّمات(١):

المقدّمة الأُولى(في التحقيق عن منشأ الإشكال)

ففي المقدّمة الأُولى حاول التحقيق عن منشأ الإشكال والمحذور في الأمرين المتضادّين بالعرض ، وأنّه هل هو في أصل وجودهما أو في إطلاقهما؟

إن كان منشأ الاستحالة وجود الأمرين فهو صحيح ، وأمّا إن كان المنشأ هو الإطلاق فيهما ، فالمحذور مرتفع والترتّب ضروري. وبيان ذلك :

إنّه لو يكن بين الواجبين تضادّ ، كما لو أمر بالصّلاة بنحو الاطلاق وأمر بالصوم كذلك ، كان نتيجة الإطلاقين هو مطلوبية كليهما ، والجمع بينهما ممكن ولا تضاد. أمّا لو قُيد أحدهما بأنْ قيل : صلّ فإن لم تصلّ فصُم ، كان نتيجة التقييد عدم مطلوبيّة كليهما ، فلو صلّى وصام لم يكن ممتثلاً لأمرين ... هذا لو لم يكن تضادّ بين الواجبين.

فإن كانا متضادّين كالصّلاة في أوّل الوقت وإزالة النجاسة عن المسجد ، فإنّ الإطلاق فيهما يقتضي أن يكون كلاهما مطلوبين. أمّا لو تقيّد أحدهما بترك الآخر وعصيانه ، فوقوعهما على وجه المطلوبية محال.

والحاصل : إن كلّ دليلٍ يشتمل على أصل الطلب وعلى إطلاق الطلب ، والاستحالة إنّما تتحقّق من إطلاق الدليلين لا من أصل وجودهما ، فلو حصل تقييد في أحد الطرفين لا يكونان مطلوبين ، فلا يتحقّق طلب الضدّين وهو غير مقدور.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ٥٥.

٢٠٢

نتائج هذه المقدمة

ونتيجة هذا المطلب أُمور :

١ ـ إنّه إذا كان المحذور في إطلاق الدليلين ، كان مقتضى القاعدة في سائر موارد التضاد سقوط الإطلاقين ـ بأن يقيّد الوجوب في كلّ من الدليلين بعدم الآخر ، إن لم يكن أحدهما أهم من الآخر ـ وبقاء أصل الدليلين ، لأنّ الضرورات تتقدّر بقدرها ، وحينئذٍ ، يكون المكلّف مخيّراً بينهما تخييراً عقليّاً. أمّا في صورة كون الدليلين بوجودهما منشأً للمحذور ، كان مقتضى القاعدة سقوط كليهما من أصلهما ، وحينئذٍ ، يستكشف العقل خطاباً شرعيّاً تخييرياً بين الأمرين.

٢ ـ إنّه عند ما يكون المحذور في إطلاق كليهما ، فلا محالة يتقيّدان ويكون شرط كلّ منهما ترك الآخر ، فيجب إنقاذ هذا الغريق في حال ترك الآخر وكذلك العكس ، وحينئذ ، فلو ترك كليهما فقد تحقّق الشرط لوجوبهما معاً ، فيكون قد ارتكب معصيتين ويستحق عقابين ، لأنّه قد خالف خطابين فعليين ، إذ الخطاب المشروط يكون فعليّاً بفعليّة شرطه ، وقد كان الشرط في كلّ من الخطابين هنا ترك الآخر ، والقدرة على الجمع بين التركين حاصلة ، بخلاف ما لو كان المحذور في أصل وجود الدليلين وفرض سقوطهما وتحقّق حكم تخييري كما تقدّم ، فإنّه لو ترك كليهما فقد ترك واجباً واحداً ، فالمعصية واحدة والعقاب واحد.

اشكال الميرزا على الشيخ

٣ ـ إنّه بعد تصوّر ما ذكر ، يصير الأصل عبارةً عن أنّه في كلّ متزاحمين لا بدّ من رفع اليد عن منشأ المحذور ، وقد ظهر أنّه الإطلاق ، وعليه ، فالأصل في الخبرين المتعارضين ـ بناءً على السببيّة ـ هو التخيير ، لأنّهما خطابان مشروط كلٌ

٢٠٣

منهما بترك الآخر. فيرد الإشكال على الشّيخ : بأنّه كان عليه الالتزام بسقوط الإطلاقين ـ لا أصل الخطابين ـ إن لم يكن بينهما أهم ، وإن كان أحدهما أهم من الآخر سقط الإطلاق في طرف.

نقد الدفاع عن الشيخ

قال الأُستاذ

والحق : ورود هذا الإشكال على الشيخ. وما قد يقال في الدفاع عنه : من أنّ كلامه ـ حيث قال بصرف القدرة في أحد الضدّين في حال عدم صرفها في الآخر ـ إنّما هو في مرحلة الامتثال ، وكلامنا ـ في الترتّب ـ يتعلّق بمرحلة الجعل والتشريع ، فقد اختلط الأمر على الميرزا ، لأن الشيخ قائل بالتزاحم والترتّب هناك لكونه في مقام الامتثال ، ولا يقول به هنا لأنّه مقام الجعل. ففيه نظر من وجوه :

الأوّل : إنّ الشيخ وإن ذكر ذلك في مرحلة الامتثال ، لكنّه أضاف : بأنّ المطلب كذلك في كلّ متزاحمين شرعيّين ، فالميرزا قد تدبّر في كلام الشيخ ، والمستشكل قد غفل عن هذه النكتة.

والثاني : إنّ مرحلة الامتثال ظلّ مقام الجعل والتشريع ، والامتثال فرع التكليف ، فيستحيل أن يتحقّق الترتّب في مرحلة الامتثال ولا يتحقّق في مرحلة الجعل ، فلو لم يكن التكليف ترتّبياً ، فالامتثال الترتّبي محال.

والثالث : إنّ القواعد العقليّة غير قابلة للتخصيص ، فإذا حكم العقل بالترتّب في مرحلة الامتثال فهو حاكم به في مرحلة الجعل.

٤ ـ قد ظهر أنّ إشكال المحقّق الخراساني ناشئ من مطلوبيّة الجمع بين الضدّين من جهة إطلاق الخطابين ، لكنّ الميرزا يقول : بأنّ الترتّب رافع لهذا الإشكال ، لأنّه ضد الجمع ، بل يستحيل الجمع بناءً عليه ، لأنّه مع حصول الإزالة

٢٠٤

فالصّلاة غير مطلوبة ، وإنّما تكون مطلوبةً لو ترك الإزالة ، فتركها بشرط وجوب الصّلاة ، فأين مطلوبيتهما في آنٍ واحد حتى يلزم التكليف بالمحال.

نعم ، مع إطلاق الأمر بالأهم يكون الأمر به موجوداً في ظرف عصيانه ، وهو ظرف وجود الأمر بالمهم ، لكنّ اجتماع الطلبين غير اجتماع المطلوبين ، وقد كان الإشكال هو لزوم اجتماع المطلوبين لا الطلبين ، وبالترتّب ينتفي لزومه.

هذا تمام الكلام في المقدّمة الأُولى.

المقدّمة الثانية (في الجواب عن المطاردة)

إنّه يجاب عن إشكال المطاردة بين إطلاق الأمر بالأهمّ والأمر بالمهمّ بعد تحقّق شرطه وصيرورته مطلقاً بذلك ، بناءً على ما صرّح به الميرزا من أنّ كلّ موضوع شرط وكلّ شرط موضوع ، فإنّه يكون للشرط ما كان للموضوع من الأثر ، وكما تتحقّق الفعليّة للحكم بوجود الموضوع ، فإنّ فعليّة الشرط فعليّة الحكم ، فلا فرق بين «المستطيع يجب عليه الحج» و «المكلّف إذا استطاع يجب عليه الحج» وعلى هذا ، فكما لا يخرج الموضوع عن الموضوعيّة قبل وجوده وبعد وجوده ، كذلك الشرط لا ينسلخ عن كونه شرطاً بعد تحقّقه ، وعليه ، لا يخرج المشروط عن الإناطة بالشرط ليكون مطلقاً بعد تحقّقه ، وإذ لا يكون مطلقاً فلا تتحقّق المطاردة بين الحكمين.

الإشكال على الميرزا

وقد أشكل على الميرزا هنا بوجوه بعضها ناش من عدم التدبّر في كلامه وبعضها خارج عن البحث ، إلاّ أن الإشكال الوارد من الأُستاذ يرجع إلى المناقشة في المبنى ، إذ يقول : بأنّ الشرط إمّا متمّم لاقتضاء المقتضي وامّا متمّم لقابليّة القابل ، فيستحيل كون الشرط موضوعاً للحكم ورجوع الموضوع إلى الشرط ،

٢٠٥

وعلى الجملة ، فإنّ المقتضي ـ وهو الموضوع ـ منشأ للأثر ، والشرط هو ما يساعد على تأثير المقتضي أثره ، فكلّ من الموضوع والشرط جزء للعلّة التامّة ، ويستحيل رجوع أحد الأجزاء إلى الجزء الآخر ... فهذا هو الإشكال على الميرزا رحمه‌الله.

لكن الميرزا يصرّح : بأنّه ليس حكم الموضوع والشرط حكم أجزاء العلّة التكوينيّة ، بل الموضوع في الأحكام الشرعية هو المكلّف ، وشرط التكليف هو البلوغ والعقل ، والحكم إرادة المولى بحسب الملاكات. فليس البلوغ ـ مثلاً ـ متمّماً للاقتضاء أو لقابليّة المحلّ القابل ، بل الملاكات هي التي تؤثر في إرادة المولى ، وهو يجعل الحكم ويعتبره عند تحقّق الشرط ... فالإناطة التي كانت قبل تحقق الشرط موجودة بعد تحققه ، ولا يصير الواجب المشروط بعد تحقق الشرط واجباً مطلقاً ، بل الحكم المشروط بعصيان الأهم يبقى مشروطاً بعد تحقق العصيان أيضاً ... فالإشكال مندفع.

نعم ، لو كان مراده أنّ كلّ شرط موضوع وكلّ موضوع شرط في جميع الآثار ، فهذا غير تام ، ففي باب المفاهيم ـ مثلاً ـ لو كان كلّ شرط موضوعاً بلا فرق ، كان معنى قولك : «إن جاءك زيد فأكرمه» : زيد الجائي إليك أكرمه ، ومعنى الآية : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) : الفاسق الجائي إليكم تبيّنوا عنه ، وحينئذٍ ، ينتفي مفهوم الشرط ويرجع الكلام إلى مفهوم اللقب ، وهذا ليس بمرادٍ للميرزا. بل المراد هو : إنّ الشرط والموضوع بمنزلة واحدةٍ في إناطة الحكم وتعليقه عليهما ، فكلّ حكم منوط بالموضوع حدوثاً وبقاءً ، ومنوط بشرطه حدوثاً وبقاءً كذلك.

المقدمة الثالثة (في دفع الإشكال على الميرزا)

والغرض منها دفع ما يرد على الميرزا بناءً على مبنى الترتب وذلك :

إنه في الواجب المضيّق يعتبر وجود الحكم قبل زمان امتثاله ، فوجوب

٢٠٦

الصّوم لا بدّ من تحقّقه قبل طلوع الفجر ، لأنه لو لم يكن الخطاب متقدّماً على الإمساك في أول الفجر آناً ما ، فإمّا أن يكون المكلّف حين توجّه الخطاب إليه أوّل الفجر متلبّساً بالإمساك أو غير متلبّس به ، وعلى كلا التقديرين يستحيل توجّهه إليه ، لأن طلب الإمساك ممّن هو متحقّق منه طلب للحاصل ، كما أنّ طلبه من المتلبس بعدمه طلب للجمع بين النقيضين ، وكلاهما محال. فلا بدّ من تقدّم الخطاب ـ ولو بآنٍ ما ـ على زمان الامتثال والانبعاث ، ليكون الانبعاث عن ذلك الخطاب المقدّم عليه وامتثالاً له ... فتكون النتيجة في بحثنا : إن وجوب المهم لا بدّ من حصوله قبل امتثال الأمر بالمهم ، لكن امتثال الأمر بالمهم في مرتبةٍ واحدة مع عصيان الأمر الأهمّ ، فوجود الأمر بالمهم لا بدّ وأن يكون في رتبة قبل عصيان الأهم.

وتوضيح أساس هذا الإشكال هو :

إن البعث لا بدّ وأن يكون مقدّماً على الانبعاث ، والأمر لا بدّ من تقدّمه على الامتثال ، والدليل على ذلك أمران : أحدهما : إن منشأ الامتثال وموجب الانبعاث هو تصوّر ما يترتّب على مخالفته ثم التصديق بما تصوّره ، فهنالك يحصل الامتثال ، ولو لا تقدّم الأمر على الامتثال كيف تتحقّق هذه القضايا؟ إذن : لا بدّ من تقدّم الأمر على الامتثال زماناً ... وقد اعتمد على هذا البيان المحقق الخراساني.

والثاني : لو كان الأمر مقارناً في الزمان للامتثال ولم يكن قبله ، فالمكلّف إمّا تارك وامّا فاعل ، فإن كان فاعلاً ـ كما في مثال الإمساك ـ كان الأمر طلباً للحاصل ، وإن كان تاركاً ، كان طلباً للفعل في آن الترك ، وهو طلب النقيض مع وجود النقيض له ، فهو طلب اجتماع النقيضين.

فتلخّص : ضرورة تقدّم الأمر زماناً على الانبعاث.

٢٠٧

ونتيجة ذلك :

أولاً : إذا كان الأمر متقدّماً زماناً على الانبعاث ، كان زمان الوجوب مقدّماً على زمان الواجب ، فيلزم الالتزام بالواجب المعلّق. والحال أنّ الميرزا ينكر الواجب المعلّق.

وثانياً : إن امتثال الأمر بالمهم متأخّر عن الأمر بالمهم ، وعصيان الأمر الأهم هو في آن امتثال الأمر بالمهم ـ لأن عصيان الأهم يتحقق بامتثال المهم ، فهو يعصي الأمر بالإزالة بالإتيان بالصّلاة ـ وإذا كان كذلك ، لزم الالتزام بالشرط المتأخّر ، والميرزا ينكر الشرط المتأخّر.

وتلخّص : إن على الميرزا أنْ يرفع اليد ، إمّا عن الترتب وامّا عن إنكار الواجب المعلّق والشرط المتأخّر.

جواب الميرزا

وقد أجاب الميرزا عن الإشكال بوجوه :

أولاً : بالنقض ، فقال : لو صحّ ذلك لصحّ في نظيره ، أعني به العلّة والمعلول التكوينيين ، بتقريب إن المعلول لو كان موجوداً حين علّته لزم عليّتها للحاصل ، وإلاّ لزم كونها علةً للمستحيل ، لأن تأثير العلّة في الشيء في ظرف عدمه اجتماع للنقيضين ، وكلاهما مستحيل ، فالقول بلزوم تقدّم الخطاب على الامتثال زماناً يستلزم القول بلزوم تقدّم العلّة التكوينية على معلولها زماناً أيضاً ، وهو واضح البطلان.

وثانياً : بالحلّ في المقامين : فإن المعلول أو الامتثال ، إنْ كان مفروض الوجود في نفسه حين وجود العلّة أو الخطاب فيلزم ما ذكر من المحذور ، وأمّا إنْ كان فرض وجوده لا مع قطع النظر عنهما ، بل لفرض وجود علّته أو لتحريك

٢٠٨

الخطاب إليه ، فلا يلزم من المقارنة الزمانيّة محذور أصلاً. وبالجملة : الامتثال بالإضافة إلى الخطاب كالمعلول بالإضافة إلى علّته ، فلا مانع من مقارنته إيّاه زماناً ، فلا موجب لفرض وجود الخطاب قبلاً ولو آناً ما.

هذا ، وقد نصّ السيد الخوئي على متانة هذا الجواب.

وثالثاً : إن المكلّف إن كان عالماً قبل الفجر بوجوب الإمساك عليه عند الفجر ، كفى ذلك في إمكان تحقق الامتثال منه حين الفجر ، فوجوده قبله لغو محض ، إذ المحرّك له حينئذٍ هو الخطاب المقارن لتحقق متعلّقه ، لا الخطاب المفروض وجوده قبله ، إذ لا يترتب عليه أثر في تحقق الامتثال أصلاً. وأمّا إذا لم يكن المكلّف عالماً به قبل الفجر ، فوجود الخطاب في نفس الأمر لا أثر له في تحقق الامتثال في ظرف العلم ، فيكون وجوده لغواً أيضاً. ولأجل ما ذكرناه ـ من عدم كفاية وجود التكليف واقعاً في تحقق الامتثال من المكلّف في ظرفه ، بل لا بدّ فيه من وصول التكليف إليه ـ ذهبنا إلى وجوب تعلّم الأحكام قبل حصول شرائطها الدخيلة في فعليّتها ، فالقائل بلزوم تقدّم الخطاب على الامتثال قد التبس عليه لزوم تقدّم العلم على الامتثال بلزوم تقدّم الخطاب عليه.

رابعاً : إن تقدّم الخطاب على الامتثال ـ ولو آناً ما ـ يستلزم فعليّة الخطاب قبل وجود شرطه ، فلا بدّ من الالتزام بالواجب المعلّق ، وكون الفعل المقيّد بالزمان المتأخّر متعلّقاً للخطاب المتقدّم. وقد عرفت استحالته في محلّه.

خامساً : النقض بالواجبات الموسّعة ، فإنه لا إشكال في صحّة العبادات الموسّعة كالصّلاة مثلاً إذا وقعت في أول وقتها تحقيقاً. والقول بلزوم تقدّم الخطاب على زمان الامتثال آناً ما في المضيّقات ، يستلزم القول بلزوم تقدّمه عليه في الموسّعات أيضاً ، إذ لا فرق في لزوم ذلك بين وجوب مقارنة الامتثال لأوّل

٢٠٩

الوقت كما في المضيّقات وجوازها كما في الموسّعات ، مع أنهم لا يقولون بلزوم التقدّم فيها ، فيكشف ذلك عن بطلان الالتزام به في المضيّقات أيضاً.

(قال) والغرض من هذه المقدمة وإبطال القول بلزوم التقدّم المزبور هو : إثبات أن زمان شرط الأمر بالأهمّ وزمان فعليّة خطابه وزمان امتثاله أو عصيانه ـ الذي هو شرط الأمر بالمهم ـ كلّها متّحدة ، كما أنه الشأن في ذلك بالقياس إلى الأمر بالمهمّ وشرط فعليّته وامتثاله أو عصيانه ، ولا تقدّم ولا تأخّر في جميع ما تقدّم بالزمان ، بل التقدّم والتأخر بينها في الرتبة. وعليه يتفرّع دفع جملة من الإشكالات.

اشكال المحقق الأصفهاني

وقد أشكل عليه المحقق الأصفهاني (١) : بأنّ ترتّب السقوط على فعليّة التكليف وتوجّهه لا يعقل أن يكون بالرتبة ، لمناقضة الثبوت السقوط ، وأن الإطاعة ليست علةً للسقوط وكذلك المعصية ، وإلاّ لزم عليّة الشيء لعدم نفسه في الأولى وتوقف تأثير الشيء على تأثيره في الثانية ، بل بالإطاعة ينتهي أمد اقتضاء الأمر ، وبالمعصية في الجزء الأول من الزمان يسقط الباقي عن القابليّة للفعل ، فلا يبقى مجال لتأثيره فيسقط بسقوط علّته الباعثة على جعله.

دفاع الأُستاذ

وقد دفع الأُستاذ هذا الإشكال : بأنّا لم نجد في كلام الميرزا ما يفيد أنّ ثبوت الأمر متقدّم رتبةً على السقوط ، نعم ، قال : ثبوته متقدّم رتبةً على عصيانه ، ومن الواضح أنّ العصيان غير السقوط ، لأن الأمر حال العصيان موجود وهو متقدّم عليه رتبةً كما ذكر ، أمّا سقوطه فهو بعد العصيان.

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٢١٣ ـ ٢١٥.

٢١٠

المقدمة الرابعة

(قال : وهي أهمّ المقدّمات) :

إن انحفاظ الخطاب في تقديرٍ ما إنما يكون بأحد وجوهٍ ثلاثة ... وحاصل كلامه :

إن الإطلاق ـ وكذا التقييد ـ ينقسم إلى قسمين : فالأول : ما كان الانقسام فيه سابقاً على الخطاب ، كالانقسام إلى البالغ وغير البالغ ، فإنه محفوظ قبل وجود الخطاب. والقسم الثاني : ما كان الانقسام فيه متفرّعاً على الخطاب ، كالانقسام إلى العالم به والجاهل به. ولمّا كان الانقسام الأول يقبل اللّحاظ ، ـ وأنّ الحاكم في ظرف الحكم يلحظه ، فإمّا يعتبر البلوغ وامّا لا يعتبر فيطلق ـ فيسمّى بالإطلاق اللحاظي ، وأمّا الانقسام الثاني فليس كذلك ، غير أنّ ملاك الحكم يمكن فيه التقييد بالعلم ـ مثلاً ـ وإلاّ فالإطلاق ، فيسمّى بالإطلاق الذاتي والملاكي ، ولمّا كان الخطاب فيه غير قابل للإطلاق والتقييد احتاج إلى دليل آخر ، وهذا ما يعبّر عنه بنتيجة الإطلاق ، بخلاف الانقسام الأوّل ، فإن الإطلاق فيه بنفس الدليل الأوّل.

فهذان وجهان لانحفاظ الخطاب ... وقد وقع الخلاف بين الأكابر هنا ، فالميرزا يقول بهذين الوجهين ، ومنهم من يقول : بأنّ الإطلاق في جميع الموارد لحاظي.

والوجه الثالث : ما كان الخطاب فيه محفوظاً ـ لا بالإطلاق اللّحاظي ولا بالإطلاق الملاكي ـ باقتضاء نفس الخطاب ، مثل : وجود الوجوب في مرتبة الإطاعة والمعصية ، فإنّه موجود مع فعل الواجب ومع تركه ، وهذا مقتضى نفس الخطاب.

ولا بدّ هنا من الالتفات إلى أن فعل الواجب أو تركه ، يلحظ تارةً : بعنوان الفعل والترك وأُخرى : بعنوان الطاعة والمعصية ، فإن كان بالعنوان الثاني فهو من

٢١١

الانقسامات اللاّحقة ، وإن كان بالأوّل فلا ، لأن الفعل والترك غير متفرّعين على وجود الواجب ، ولذا نبّه الميرزا على أن لا يتوهّم قابليّة الإطاعة والمعصية للإطلاق الملاكي ، لكونهما من الانقسامات اللاّحقة ، فأفاد أنّه ليس كلّ ما كان من الانقسامات اللاّحقة فهو قابل للإطلاق الملاكي ، بل لا بدّ من التفصيل ...

قال : إن الإطلاق والتقييد بقسميهما ـ أعني بهما الملاكي واللّحاظي ـ مستحيلان في باب الإطاعة والمعصية.

أمّا استحالة التقييد : فلأن وجوب فعل لو كان مشروطاً بوجوده ، لاختصّ طلبه بتقدير وجوده خارجاً ، وهو طلب الحاصل ، ولو كان مشروطاً بعدمه ، لاختصّ طلبه بتقدير تركه ، وهو طلب الجمع بين النقيضين ، فعلى كلا التقديرين يكون طلبه محالاً ، فلا يصح له أن يقول : إن صلّيت وجبت عليك ، أو يقول : إن تركت الصّلاة وجبت عليك ، فلا الطلب أي الوجوب يمكن تقييده ولا المطلوب وهو الواجب. هذا كلامه. لكنّ المحقق الاصفهاني جعل البحث في تقييد المطلوب ... إلاّ أنّ تقييد الطلب فيه محذور ثالث أيضاً ، كما سنوضّحه فيما بعد.

وأمّا استحالة الإطلاق ، فقد ذكر له وجهين ، أحدهما : ما ذهب إليه من أن التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة. والثاني : ما ذكره من أنّ الإطلاق في قوّة التصريح بكلا التقديرين ، فإن قوله : اعتق رقبةً وإن لم يكن معناه : اعتق رقبةً مؤمنة أو كافرة ، لكنّه في قوّة ذلك ، فلو كان الوجوب مطلقاً بالنسبة إلى الفعل والترك لزم محذور تحصيل الحاصل أو محذور اجتماع النقيضين.

قال الأُستاذ :

فمن قال بأن التقابل من قبيل التضاد لا يمكنه إثبات الاطلاق ، وكذا بناءً على أن الاطلاق ليس في قوّة الجمع بين القيود والخصوصيات ... فظهر أن أساس هذه

٢١٢

المقدمة مبني على هذه المباني ... وإلاّ فلا يتم الإطلاق ، وهذا هو إشكال السيد الخوئي في (التعليقة) آخذاً من المحقق الأصفهاني.

ثم قال الميرزا :

والفرق بين انحفاظ الخطاب في هذا القسم وانحفاظه في القسمين السابقين ، إنما هو من جهة أن انحفاظه في هذا القسم لأجل أنه من لوازم ذاته ، حيث أن تعلّق الخطاب بشيء بذاته يقتضي وضع تقديرٍ وهدم تقدير آخر ، سواء كان الخطاب وجوبيّاً أو تحريميّاً ، لأن الأول يقتضي وضع تقدير الوجود وهدم تقدير العدم ، كما أن الثاني يقتضي وضع تقدير العدم وهدم تقدير الوجود.

وهذا بخلاف انحفاظ الخطاب في القسمين السابقين ، فإنه من جهة التقييد بذلك التقدير أو الإطلاق بالإضافة إليه ، وإلاّ فذات الخطاب بالحجّ أو الصّلاة مثلاً لا يقتضي انحفاظه في تقدير الاستطاعة بنفسه.

قال :

ويترتب على الفرق من هذه الجهة أمران :

الأول : إن نسبة التقدير المحفوظ فيه الخطاب بالإضافة إليه في القسمين الأوّلين ، نسبة العلّة إلى معلولها. أما في موارد التقييد فهو واضح ، لما ذكرناه من أن مرجع كلّ تقدير كان الخطاب مشروطاً به إلى كونه مأخوذاً في موضوعه ، وقد عرفت أنّ رتبة الموضوع من حكمه نظير رتبة العلّة من معلولها. وأمّا في موارد الإطلاق ، فلما ذكرناه من اتّحاد مرتبة الإطلاق والتقييد ، إذ الإطلاق عبارة عن عدم التقييد في موردٍ قابل له ، فإذا كانت مرتبة التقييد سابقة على مرتبة الحكم المقيّد به ، كانت مرتبة الإطلاق أيضاً كذلك. وأمّا في هذا القسم ، فنسبة التقدير المحفوظ فيه الخطاب بالإضافة إليه نسبة المعلول إلى العلّة ، وذلك : لما مرّ من أن الخطاب

٢١٣

له نحو عليّة بالإضافة إلى الامتثال ، فإذا كانت نسبة الحكم إلى الامتثال نسبة العلّة إلى معلولها ، كان الحال ذلك بالإضافة إلى العصيان أيضاً ، لأن مرتبة العصيان هي بعينها مرتبة الامتثال.

الثاني : إن نسبة التقدير المحفوظ فيه الخطاب في القسمين الأوّلين بما أنها نسبة الموضوع إلى حكمه ، فلا محالة لا يكون الخطاب متعرّضاً لحاله أصلاً وضعاً ورفعاً ، مثلاً : خطاب الحج لا يكون متعرّضاً لحال الاستطاعة ، بأن يكون مقتضياً لوجودها أو عدمها ، وإنما هو يتعرّض لحال الحجّ باقتضاء وجوده على تقدير وجود الاستطاعة بأسبابها المقتضية لها ، فلا نظر له إلى إيجادها وعدم إيجادها ، وهذا بخلاف التقدير المحفوظ فيه الخطاب في هذا القسم ، فإنه بنفسه متعرّض لحال ذلك التقدير وضعاً ورفعاً ، إذ المفروض أنه هو المقتضي لوضع أحد التقديرين ورفع الآخر.

فتحصل : إن انحفاظ الخطاب في هذا القسم وفي القسمين الأوّلين من الجهتين المذكورتين على طرفي النقيض.

نتيجة المقدمة

وتكون نتيجة هذه المقدمة ـ التي هي أهمّ المقدّمات كما قال ـ : أنّ انحفاظ خطاب الأهم في ظرف العصيان ، إنما هو من جهة اقتضائه لرفع هذا التقدير وهدمه ، من دون أن يكون له نظر إلى شيء آخر على هذا التقدير ، بخلاف خطاب المهم ، فإنه لا نظر له إلى وضع هذا التقدير ورفعه ، لأنه شرطه وموضوعه ، وقد عرفت أنه يستحيل أن يقتضي الحكمُ وجودَ موضوعه أو عدمه ، وإنما هو يقتضي وجود متعلّقه على تقدير عصيان خطاب الأهمّ ، فلا الخطاب بالمهم يعقل أن يترقّى ويصعد إلى مرتبة الأهم ويكون فيه اقتضاء لموضوعه ، ولا الخطاب بالأهمّ

٢١٤

يعقل أن يتنزل ويقتضي شيئاً آخر غير رفع موضوع خطاب المهم ، فكلا الخطابين وإن كانا محفوظين في ظرف العصيان ومتّحدين زماناً إلاّ أنهما في مرتبتين طوليّتين.

توضيحه :

إن الأمر بالأهمّ مطلقٌ بالنسبة إلى الأمر بالمهمّ ، لكن الأمر بالمهمّ مقيّد بعصيان الأمر بالأهم ، فليس للأمر بالأهمّ إلاّ الاقتضاء الذاتي لمتعلّقه أعني الإزالة ، لأنّ كلّ أمرٍ إنّما يدعو إلى متعلّقه ، فهو يقتضي الطاعة بفعل الإزالة وهدم عصيان الأمر بها ، ولا يخفى أنّ الاقتضاء غير التقييد ، فهو يقتضي الفعل والطاعة لا أنّه مقيّد بالفعل والطاعة ، لأنّ تقييد الخطاب بالفعل أو المعصية محال ، لكونهما متفرّعين على الخطاب.

أمّا الأمر بالمهم ، فهو مقيّد بعصيان الأمر بالأهم ، فكان عصيانه موضوع الأمر بالمهم ، وقد تقرّر أن الحكم لا يتكفّل موضوعه ، بل يترتّب عليه عند تحقّقه ، فلا اقتضاء للأمر بالمهم لتحقق موضوعه وهو عصيان الأمر بالأهم ، أمّا الأمر بالأهمّ فكان له اقتضاء الطاعة وعدم العصيان ... وبعبارةٍ أُخرى :

إن الأمر بالمهم يدعو إلى متعلّقه ـ وهو الصّلاة ـ عند تحقق شرطه وهو عصيان الأهم أي الإزالة ، وإذا كان مشروطاً بذلك فهو في مرتبةٍ متأخرةٍ عن الشرط ، لكنّ الأمر بالأهمّ في مرتبة متقدّمة ويقتضي عدم العصيان ، ....

فكان الحاصل : وجود الاختلاف الرتبي بين الأمرين وأنّ الأمر بالأهمّ متقدّم ، ووجود الاختلاف بينهما من حيث المقتضى ، إذ الأمر بالأهم له اقتضاء بالنسبة إلى العصيان ويريد هدمه ، والأمر بالمهم لا اقتضاء له بالنسبة إليه ، وإنما هو شرط له ويتحقق ـ الأمر بالمهم ـ عند تحقّقه ....

٢١٥

وبعد هذا ... أين يكون التمانع؟

تلخّص :

إن المحقق الخراساني يرى بأنّ محذور اجتماع الضدّين لا يرتفع بكون أحد الخطابين مطلقاً والآخر مقيّداً ، فمع التنزّل عن كون عصيان الأمر بالأهم شرطاً للأمر بالمهم بنحو الشرط المتأخّر ، اللاّزم منه تحقق التمانع من الطرفين ، يكون الطّرد من طرف الأمر بالأهم كافياً للزوم المحذور ....

فأجاب المحقق النائيني : بجعل الشرط شرطاً مقارناً لا متأخّراً ، وذكر أنّ الأمر بالأهم يدعو إلى امتثال متعلّقه مطلقاً ، أي سواء كان في قباله أمر بالمهم أو لا ، لكن الأمر بالمهم جاء مقارناً لعصيان الأمر بالأهم ومشروطاً به ، ولا تعرّض له لهذا الشرط لا وضعاً ولا رفعاً ، فالأمر بالمهم غير طارد للأمر بالأهم ، كما أن الأمر بالأهم لا تعرّض له للمهمّ أصلاً ، وإنما يدعو إلى متعلّقه كما تقدّم.

والحاصل : إنّ الأمر بالمهمّ لا يتكفّل شرطه ـ وهو عصيان الأمر بالأهمّ ـ فلا اقتضاء له بالنسبة إليه ، والأمر بالأهم لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه ، فلا اقتضاء له بالنسبة إلى متعلّق الأمر بالمهم ، ولا نظر له إليه أبداً ، نعم ، لو كان مفاده أنك إن عصيت الأمر بالأهمّ فلا تأت بمقتضى الأمر بالمهم ، لزم طلب الضدّين ... ولذا قال الميرزا : لا الأمر بالمهم يترقى إلى الأمر بالأهم ، ولا الأمر بالأهم يتنزل إلى الأمر بالمهم.

وبعبارة أُخرى : التمانع ليس في مرتبة الملاك والغرض من الخطابين ، وليس في مرتبة الإرادة والشوق إليهما ـ فإن الإرادة تابعة للملاك والغرض ـ وليس في مرتبة الإنشاء ، لأنه ـ سواء كان الاعتبار والإبراز أو إيجاد الطلب ـ لا محذور في الإنشاءين ، وتبقى مرحلة اقتضاء الخطابين ، ووجود التمانع في هذه المرحلة ليس

٢١٦

بين نفس الاقتضاءين ، بل هو ـ إن كان ـ في المقتضَيَين ، فإن قال «صلّ» وقال «أزل النجاسة عن المسجد» وطلب تحقّقهما في آن واحد بلا اشتراطٍ ، لزم محذور الجمع بين الضدّين ، والتكليف بما لا يطاق ، أمّا لو قال : «أزل النجاسة» ثم قال : «صلّ إن عصيت الإزالة» كان المقتضى للأمر الأوّل إطاعته وعدم معصيته ، والمقتضى للثاني : وجوب الصّلاة على تقدير عصيان الأوّل ، ولا تمانع بين هذين المقتضَيَين ، لأن الأمر بالإزالة إنما ينهى عن عصيانه ولا تعرّض له للصّلاة ، والأمر بالصّلاة مفاده : وجوب إطاعته على تقدير عصيان الأمر بالإزالة ....

إذن : لا تمانع بينهما في مرحلةٍ من المراحل.

وببيان آخر : إن المفروض أن القدرة واحدة ، والقدرة الواحدة لا تكفي لامتثال الخطابين معاً إن كانا مطلقين ، أمّا لو كان أحدهما مشروطاً ، فلا تمانع بين المتعلّقين في جلب القدرة ، لأنّ الأمر بالأهم يطالب بصرف القدرة فيه ، لكنّه ساكت عمّا لو عصي ، والأمر بالمهم يطالب بصرف القدرة فيه في حال عصيان الأمر بالأهم ... فلا مشكلة.

والشيخ الأعظم لمّا جعل المشكلة في القدرة ، وأنه لا توجد قدرتان في المتزاحمين بناءً على السببيّة ، فمع تقييد كلٍّ منهما بعدم صرفها في الآخر يتم التخيير. فأشكل عليه الميرزا بأنه : مع عدم صرف القدرة في الأهم لا بدّ من صرفها في المهم ، وإلاّ يلزم تفويت مصلحة ملزمة مع القدرة على استيفائها ، وهذا هو الترتب.

إشكال المحقق الأصفهاني

وقد أورد المحقق الأصفهاني (١) على المقدمة الرابعة بأُمور ، نتعرّض لما

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٢٣٩.

٢١٧

يتعلّق منها بالموضوع ، وهو اشكالان :

الإشكال الأول وهو ذو جهتين :

إحداهما : إن الميرزا جعل محذور الترتب لزوم تحصيل الحاصل ، ولزوم الجمع بين النقيضين في مورد تقييد المطلوب ، والحال أن البحث في الترتب هو في تقييد الطلب لا المطلوب.

قال الأُستاذ :

هذا الإشكال وارد على الميرزا بالنظر إلى كلامه في الدورة الأولى كما في (فوائد الأُصول) تقرير المحقق الكاظمي (١). أمّا في الثانية ـ كما في (أجود التقريرات) ـ فقد طرح البحث في تقييد الطلب.

الثانية : إن المحذور ليس الأمرين المذكورين ، بل هو استلزام الترتّب عليّة الشيء لنفسه ، وتقييد العلّة بعدم معلولها ، فهذان هما المحذوران ، لا ما ذكرهما الميرزا. وتوضيحه :

إن الميرزا يقول : بأنّ الطلب إنْ تقيّد بوجود متعلّقه لزم تحصيل الحاصل ، وإن تقيّد بعدمه وتركه ، كان الطلب مع التقييد بترك المتعلّق جمعاً بين النقيضين.

فقال الأصفهاني : بأنّ القيد وجود ناشئ من الطلب نفسه ، فالمحذور هو كون الشيء علّةً لنفسه ، لأنّ كلّ قيدٍ وشرط فهو علّة للمقيّد والمشروط ، فلو كان وجود الصّلاة شرطاً لوجوبها ـ والوجوب علّة وجودها وتحققها في الخارج ـ كان وجودها معلولاً ، من جهة أن العلّة وجوبها ، وعلّةً ، لفرض كونها شرطاً لوجوبها.

إذن ، قد أصبح الشيء علّةً لنفسه ، وهذا محذور التقييد ، لا تحصيل الحاصل. هذا من جهة أخذ الوجود.

__________________

(١) فوائد الأُصول (١ ـ ٢) ٣٤٨ ط جامعة المدرسين.

٢١٨

ولو كان ترك الصّلاة شرطاً للوجوب ـ والوجوب علّة لوجودها ـ كان عدم الصّلاة عدم المعلول ، لكنّ هذا العدم قد فرض جعله شرطاً للأمر والوجوب الذي هو علّة لوجود الصّلاة ، فاللاّزم أن يكون عدم المعلول علّة وشرطاً لوجود علّة هذا المعلول. ثم أمر المحقق الأصفهاني بالتدبّر فإنه حقيق به.

قال الأُستاذ

لم يكن الميرزا في مقام استقصاء جميع المحاذير ، هذا أوّلاً. وثانياً : إن ما ذكره ـ من عدم لزوم تحصيل الحاصل هنا ، بل المحذور عليّة الشيء لنفسه ، لأنّ الوجود المأخوذ شرطاً أو قيداً وجود معلول لنفس هذا الوجوب لا وجوب آخر ، ليلزم محذور تحصيل الحاصل ـ في غير محلّه ، لأن الميرزا لم يقل بأنّ قيد الوجوب ناشئ من نفس هذا الوجوب ، بل قال : بأنّ تقييد الوجوب واشتراطه بوجود المتعلّق تحصيل للحاصل ... فلا وجه لحصر الإشكال بما ذكر المحقق الأصفهاني.

وعلى الجملة ، فإن مقصود الميرزا هو أن تقييد وجوب الأهم بفعله محال ، وإذا استحال التقييد استحال الإطلاق ، لكون النسبة بينهما عنده نسبة العدم والملكة. والمحقق الأصفهاني يرى النسبة بينهما نسبة السلب والإيجاب بوجهٍ والعدم والملكة بوجه.

وتلخّص عدم ورود هذا الإشكال.

الإشكال الثاني وقد تبعه المحقق الخوئي :

إن محذور لزوم تحصيل الحاصل أو طلب النقيضين موجود في طرف التقييد بالوجود أو العدم ، أما في طرف الإطلاق فلا ... لأنّ التقييد لحاظ الخصوصيّة وأخذها ، والإطلاق عبارة عن لحاظ الخصوصيّة وعدم أخذها ، نعم ،

٢١٩

لو كان أخذ الخصوصيّات وجمعها كان اللازم أحد المحذورين المذكورين ... وعليه ، فالإطلاق ممكن ، بل هو واجب ، لكون النسبة بينه وبين التقييد نسبة السلب والإيجاب.

وعليه ، فإن اقتضاء الأمر بالأهم لفعل الأهم يكون بإطلاقه عند المحقق الأصفهاني ، لا باقتضاء ذاته كما هو عند الميرزا ، ولا يخفى الفرق ، إذ على الأوّل يكون الاقتضاء مجعولاً للشّارع ، وعلى الثاني فهو غير مستند إلى الشارع بل هو اقتضاء العليّة والمعلوليّة.

قال الأُستاذ

إن الفعل والترك إن كانا من الانقسامات المتفرّعة على الخطاب ، أمكن التقييد بهما أو لحاظهما وجعل الخطاب لا بشرط بالنسبة إليهما ، وهذا معنى الإطلاق ، وإن لم يكونا من الانقسامات المتفرّعة عليه ، فلا يمكن التقييد بأحدهما ، فالإطلاق ضروري على مبنى المحقق الأصفهاني ، لكون النسبة هي السلب والإيجاب.

ولمّا كان حقيقة الإطلاق هو عدم الأخذ للخصوصيّة ، وجعل نفس الذات مركباً للحكم ، فلا محذور في الإطلاق هنا ، وفاقاً للمحقق الأصفهاني وخلافاً للميرزا ....

وينبغي الالتفات إلى أن الميرزا قد ذكر أن الأمر بالأهم موجود في حال العصيان إلاّ أنه بلا اقتضاءٍ وداعويّة ، والمحقق الأصفهاني لم يتطرّق إلى هذه النكتة وكأنه موافق عليها.

المقدمة الخامسة (في تشخيص محلّ الكلام في بحث الترتّب)

إن القول بالترتب لا يترتب عليه محذور طلب الجمع بين الضدّين ـ كما

٢٢٠