تحقيق الأصول - ج ٣

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-39-2
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٣٩٩

كاشف عن الإطلاق وإلاّ يلزم نقض الغرض ... فالمورد ليس من موارد التمسّك بإطلاق المتعلّق.

الرابع : إنّ أوّل مقدّمات الإطلاق هو كون المتكلّم في مقام البيان من تلك الجهة التي يراد التمسّك بالإطلاق فيها ، وبدون ذلك فلا يتم الإطلاق ... مثلاً : الآية المباركة : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عليه) في مقام بيان حليّة أكل هذا الصيد ، وليست في مقام البيان من جهة الطهارة والنجاسة حتى يُتمسّك بإطلاقها فيقال بطهارة هذا الحيوان الذي اصطاده الكلب.

وفيما نحن فيه : المولى في مقام بيان متعلّق حكمه ، وليس في مقام بيان ملاك الحكم ، حتّى يقال بأنّه لم يقيّد بالقدرة ، فالملاك مطلق والمتعلّق للحكم مطلق.

والجواب :

أمّا عن الإشكال الأوّل ، فبأنّ تقييد المتعلّق عقلاً يكون إمّا باقتضاء الخطاب كما هو مسلك الميرزا ، وامّا بحكم العقل ، ولا ثالث لهما. والأوّل تقييد عقلي ذاتي والثاني تقييد عرضي. وأيضاً : فإنّ الأوّل متحقّق في كلّ خطابٍ لأنّه باقتضاء نفس الخطاب ، بخلاف الثاني ، فهو يختص بالخطاب الصادر من الحكيم ، لكون خطاباته تابعة للحسن والقبح العقليين ، فالأوّل يرجع إلى اقتضاء العقل النظري ، والثاني إلى اقتضاء العقل العملي وهو قبح تكليف العاجز.

وحينئذ : فإنْ كان المدّعى تقييد متعلّق الحكم ـ وهو المادّة ـ باقتضاء نفس الخطاب ، فمن الواضح أنّ التقييد متأخّر عن الحكم المتأخّر عن المتعلّق ، فهو متأخّر عن المتعلّق بمرتبتين ، ولا يمكنه أنْ يؤثر في إطلاقه في مرحلة قيام الغرض تام بلا كلام.

١٨١

وإن كان المدّعى تقييد المتعلّق بحكم العقل ، فإن حكم العقل متأخّر عن حكم الشرع ، تأخّر الحكم عن موضوعه ، وحكم الشرع في مرتبةٍ متأخّرةٍ عن المتعلّق ، فالتقييد متأخّر عن المتعلّق بمرتبتين كذلك.

فاندفع الإشكال الأوّل.

وبذلك يندفع الإشكال الثاني ، فإنّه إذا ثبت استحالة التقييد ، لا يبقى احتمالٌ حتى يكون صالحاً للقرينيّة.

وأمّا عن الإشكال الثالث ، فقد ذكر جوابين :

أحدهما : إن هذا إنّما يتم فيما إذا كان الشك في اعتبار القدرة التكوينيّة في الملاك ، لاستحالة صدور غير المقدور ، فلا يلزم من عدم البيان نقض الغرض أصلاً. وأمّا إذا كان الشك في كون القدرة ـ ولو كانت شرعيّة ـ دخيلةً في الملاك كما هو المفروض في المقام ، فيلزم نقض الغرض من عدم التقييد ، إذ للمكلّف الإتيان بالواجب الموسّع مع التزاحم بينه وبين المضيّق تمسّكاً بالإطلاق ، إذن ، لا بدّ من البيان ، ومع عدمه يستكشف عدم الدخل ويتم الإطلاق.

والثاني : إن لزوم نقض الغرض ليس من مقدّمات الإطلاق ، بل إنّ من مقدّماته تبعيّة مقام الإثبات لمقام الثبوت ، فكون المتكلّم في مقام بيان جميع ما له دخل في غرضه يستلزم بيان ذلك كلّه وإلاّ لزم الخلف ، فمن الإطلاق وعدم التقييد بقيدٍ يستكشف عدم دخله في مقام الثبوت ، بلا حاجة إلى ضمّ مقدّمة لزوم نقض الغرض.

وأمّا عن الإشكال الرابع فأجاب :

بأنّه ليس المراد الكشف عن الملاك من جهة كون المولى في مقام البيان له ، بل المراد هو : إنّه لمّا كان في مقام بيان متعلّق حكمه ، والأحكام تابعة للملاكات

١٨٢

ومعلولة لها ، فتوجّه التكليف إلى ذات المتعلّق بلا أخذ القيد فيه ، يكشف عن كون العلّة ـ وهو الملاك ـ مطلقاً كذلك ، فيصحّ حينئذٍ التمسّك بالإطلاق للكشف عن الملاك المطلق.

وإذا اندفعت الإشكالات ، فلا مانع من التمسك بإطلاق المادّة للكشف عن الملاك ، فيؤتى بالصّلاة بقصده.

قال الأُستاذ

وتنظّر الأُستاذ فيما أجاب به الميرزا عن الإشكالات ... فوافق على الجواب الأول عن الإشكال الثالث. وأبطل الثاني : بأنه وإنْ كان المعروف عدم كون لزوم نقض الغرض من مقدّمات الإطلاق ، لكنّ الحق هو كون المولى في مقام بيان الغرض ، لأنّ الأمر معلول له ولحاظ المولى له عرضي ، ولكنّ لحاظه للغرض ذاتي ، لأنه هو العلّة للأمر.

وأمّا جوابه عن الإشكالين ـ الأوّل والثاني ـ وملخّصه : استحالة تقييد ما هو المتأخّر رتبةً لما هو متقدّم في الرتبة ، ففيه :

إنّ المقيّد هو المولى إنْ أخذ القيد في المتعلّق ، وهو المطلق إنْ رفضه ، وانقسام الصّلاة إلى المقدورة وغير المقدورة ، أمر واقعي طارئ على الصّلاة قبل حكم المولى ـ لا في مرتبته ولا بعده ـ سواء وجد الحكم أو لا ... فإنْ كان القيد دخيلاً في غرض المولى الملتفت إلى الانقسام أخذه في متعلّق حكمه وإلاّ رفضه ، فالإطلاق والتقييد بالنسبة إلى القدرة ليس من الانقسامات الحاصلة من ناحية الخطاب ، بل هو القرينة على أخذ المولى للقيد في المتعلّق ، والتقييد حاصل في رتبة المتعلّق ، غير أنّ القرينة عليه ـ وهو الخطاب ـ متأخّر عن ذي القرينة بالتأخّر الطبعي كما حقّق في محلّه ، وإذا كان التقييد في مرتبة المتعلّق فلا إطلاق.

١٨٣

وبما ذكر يسقط الجواب عن الإشكال الثاني.

وأمّا جوابه عن الإشكال الرابع ففيه :

إنّه قد ورد الأمر بالصّلاة في مرتبة الاستعمال على طبيعي الصّلاة ، لكنّه مقيّد عقلاً ـ باقتضاء الخطاب عند الميرزا ـ بالحصّة المقدورة ، فالمراد الجدّي من الصّلاة أخصّ من المراد الاستعمالي ، والكاشف عن الملاك هو المراد الجدّي لا الاستعمالي ، وإذا كان المراد الجدّي هو الحصّة المقدورة من الصّلاة ، فكيف يكون كاشفاً عن وجود الملاك في الحصّة غير المقدورة؟

وبتعبير السيد الأُستاذ : «إنّ الدليل الدال على تبعيّة الأحكام للمصالح من إجماعٍ أو عدم اللغوية والحكمة لا يقتضي سوى توفّر الملاك فيما انبسط عليه الأمر وبعث نحوه ، وإن كان قد تعلّق في ظاهر الخطاب بالمطلق ، ولا ملازمة بين وجود الملاك وأخذ الشيء في متعلّق الأمر خطاباً ، والمفروض فيما نحن فيه أن الأمر وإنْ كان يرد على المطلق لا على المقيّد ، ولكنْ إنما ينبسط في مرحلة عروضه على الحصّة المقدورة دون الأعم» (١).

فالحق : امتناع التمسّك بالإطلاق ، لوجود القرينة العقليّة ، بحكم العقل بقبح تكليف العاجز أو باقتضاء نفس الخطاب لأنْ يتوجّه التكليف إلى الحصّة المقدورة ، فإنّ هذه القرينة مانعة من انعقاد الإطلاق في المادّة ، وحينئذٍ ، فلا كاشف عن الغرض.

رأي السيد الخوئي

وجوّز السيّد الخوئي التمسّك بالإطلاق بناءً على مسلكه من أنّ القدرة لم تعتبر في متعلّق التكليف ، لا من جهة حكم العقل ولا من جهة اقتضاء التكليف ،

__________________

(١) منتقى الأُصول ٢ / ٣٨٠.

١٨٤

فلا موجب لاعتبارها فيه ، إلاّ أنّ الإشكال في المقتضي لهذا الإطلاق ، لأنّ المتكلّم غالباً بل دائماً ليس في مقام بيان ما يقوم به ملاك حكمه ، حتى يمكن التمسك بالإطلاق فيما إذا شك في فردٍ أنّه واجد للملاك أم لا ، ومع قطع النظر عن ذلك وفرض أنّه في مقام البيان حتى من تلك الجهة ، فلا مانع من التمسّك بالإطلاق ، إذ قد عرفت أنّه لا حكم للعقل ولا اقتضاء للتكليف لاعتبار القدرة في المتعلّق ، ليكونا صالحين للبيان ومانعين عن ظهور اللّفظ في الإطلاق.

وحاصل كلامه : إنّه لا حكم للعقل باشتراط التكليف بالقدرة ، ولا اقتضاء للتكليف لذلك ، فلا مانع من التمسّك بالاطلاق ، لأنّه لا يكون الاشتراط إلاّ بأحد الأمرين المذكورين ، بل القدرة شرط لتنجّز التكليف. لكنّ الكلام في تماميته الإطلاق ، لأن المولى في مقام بيان متعلّق الحكم لا ما يقوم به الملاك ، فلا مقتضي لانعقاده. وهذا هو الصحيح في الإشكال على الإطلاق.

قال الأُستاذ

وفيه :

أوّلاً : إنّ الكلام في حكم المولى الحكيم الملتفت وليس حول غيره ، ولذا قيّد ما ذكره بالموالي العرفيّة حيث قال «بل الغالب في الموالي العرفيّة غفلتهم عن ذلك فضلاً عن كونهم في مقام بيانه» (١) ... فالكلام في الخطابات الشرعيّة الصادرة من الشارع ، وقد تقرّر أنّ تكاليفه معلولة للأغراض ، فكيف لا يكون في مقام بيان غرضه؟

وثانياً : إن ما ذهب إليه من أنّ القدرة من شرائط التنجيز ، فلها الدّخل في استحقاق العقاب فقط ، لا يجتمع مع ما ذهب إليه من أنّ التكليف اعتبار مبرَز ، وأنّ

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ٣٠ الهامش.

١٨٥

الأمر مصداق للبعث والنهي مصداق للزجر. وتوضيح ذلك :

إنه لا يخفى الفرق بين المفهوم والمصداق ، فكلّما كان الاتّحاد بين الشيئين مفهوميّاً كان الحمل بينهما أوّليّاً ، وكلّما كان الاتحاد بينهما في الوجود كان الحمل شائعاً. فالمفهوم ـ أي الصّورة الذهنيّة ـ من «زيد» غير ما هو المفهوم من «الإنسان» إلاّ أنّهما في الوجود واحد ، وهذا معنى المصداقيّة. فهذا مطلب. ومطلب آخر هو : إنّ مفهوم «البعث» لا يستلزم «الانبعاث» لكن مصداقه يستلزمه.

فإذا كان الأمر مصداقاً للبعث ، فللبعث وجودٌ ، ويستلزم وجود الانبعاث ، ووجوده يستلزم القدرة ... وعليه ، فالبعث الإمكاني ـ بمعنى وجود المقتضي وعدم موانع الطاعة ـ يستلزم الانبعاث الإمكاني ... ولو لا القدرة لما تحقّق الانبعاث ... فانفكاك الانبعاث عن القدرة غير معقول ... فتكون من شرائط التكليف ، إمّا بحكم العقل وامّا باقتضاء نفس الخطاب.

فظهر سقوط ما ذهب إليه السيّد المحقّق الخوئي.

المختار

وأنّ الحق عدم تماميّة التمسّك بإطلاق المادّة ومتعلّق الأمر ، لكون المتعلّق مقيّداً عقلاً بالقدرة ، إذ الحكم العقلي هنا ـ سواء على مبنى المحقّق الثاني أو المحقّق النائيني ـ يصلح لأن يعتمد عليه المولى ويكتفي به إن كان غرضه هو المقيّد ، فلا كاشف عن الملاك.

أقول : وهذا الذي ذكر ـ أعني صلاحيّة ذلك لأن يعتمد عليه المولى ـ موجود في كلمات السيّد الخوئي أيضاً في (تعاليقه) (١).

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ٣٠. الهامش.

١٨٦

الطريق الثاني للكشف عن الملاك

وأمّا الطريق الثاني للكشف عن الملاك ، الذي جاء به صاحب الكفاية ، فهذا توضيحه :

إنّ الشيء قد يكون متعلّقاً للأمر بنفسه وقد يكون متعلّقاً له لكونه مصداقاً للطبيعة المأمور بها ، فالأوّل : كالصّلاة في المسجد ، فيما لو أُمر بالصّلاة فيه ، والثاني : كالصّلاة فيما لو قال : «صل».

وفي المقابل : ما لا يكون متعلّقاً للأمر لا بنفسه ولا بكونه مصداقاً ، وهذا يكون على ثلاثة أنحاء :

الأوّل : ما خرج عن المصداقيّة للطبيعة المأمور بها بالتخصيص اللفظي ، كقوله لا تكرم الفساق ، المخرج لهم عن عموم أكرم العلماء.

والثاني : ما خرج عن المصداقيّة للطبيعة المأمور بها بالتخصيص العقلي ، كموارد اجتماع الأمر والنهي ، حيث تخرج الصّلاة في الدار المغصوبة عن الطبيعة المأمور بها ، بحكم العقل بعدم صلاحيّتها للمقربيّة.

والثالث : ما خرج عن المصداقيّة للطبيعة المأمور بها مع تماميّة المقتضي ، لوجود المانع والمزاحم من الفرديّة والمصداقيّة ، كالصّلاة في وقت الإزالة ، فإنّها تخرج عن الفرديّة للصّلاة المأمور بها ، والمخرج ليس المخصّص اللفظي أو العقلي حتى يكشف عن عدم الملاك ، بل الملاك موجود والمخرج هو عدم القدرة ، فإنّ القدرة دخيلة في توجّه الخطاب ، وبدونها لا يتوجّه إلى المكلّف ، وعلى الجملة ، فإنّ المزاحمة مع الإزالة الواجبة توجب سلب القدرة عن المكلّف ، فيمتنع تكليفه بالصّلاة مع وجود المقتضي لذلك ، بحيث لو لم يكن النهي الغيري مانعاً عن التكليف ، وكان الأمر بالشيء غير مقتضٍ للنهي عن ضدّه

١٨٧

الخاص ، جاز الإتيان بالصّلاة بقصد الملاك.

إشكالات المحقّق الإيرواني

وقد أورد عليه المحقّق الإيرواني بوجوه :

الأوّل : إنّ المفروض سقوط الأمر على أثر المزاحمة مع الواجب الآخر ، فلو كانت المصلحة في نفس الأمر ، فلا تبقى بعد سقوطه مصلحة حتى يُؤتى بالعمل بقصدها ، فلا يتم ما ذكره من أنّ الشيء قد يكون متعلّقاً للأمر بنفسه.

والثاني : إن ما ذكره إنما يتم بناءً على مسلك العدليّة من تبعيّة الأحكام للملاكات في الواقعيات.

والثالث : إنّه مع المزاحمة لا تبقى مصلحة للأمر ، فلو كان هناك مصلحة لما انتفى الأمر من الشارع.

جواب الأُستاذ عن هذه الإشكالات :

أمّا الأوّل ، ففيه : إنّ مورد الكلام هو الضدّ العبادي كالأمر بالصّلاة والأمر بالإزالة ، فلو سقط الأمر بالصّلاة على أثر المزاحمة ما انتفت مصلحة الصّلاة. فغاية ما يرد على المحقّق الخراساني أن كلامه أخصّ من المدّعى.

وأمّا الثاني ، ففيه : إنّ صاحب الكفاية يتكلّم هنا على مبنى العدليّة.

وأمّا الثالث ، ففيه : إنّ المقصود هو وجود المصلحة في متعلّق الأمر ، وكون الأمر ذا مصلحة هو لوجود المصلحة في متعلّقه ، إلاّ أنّ عدم القدرة هو المانع عن الأمر.

فظهر ، اندفاع هذه الإشكالات إلاّ الأوّل كما ذكرنا.

١٨٨

تقرير آخر للإشكال والجواب عنه

وقد يقرّر الإشكال على (الكفاية) بوجهٍ آخر (١) وهو : إنّ الأمر هو الكاشف عن الملاك كشف المعلول على العلّة ، فإذا سقط على أثر المزاحمة انتفى الكاشف عن الملاك ، وحينئذٍ ، كما يحتمل أن يكون سقوط الأمر بسبب وجود المانع وهو عدم القدرة ، كذلك يحتمل أن يكون بسبب عدم المقتضي وهو الملاك ، ومع هذا الاحتمال كيف يقطع بوجود الملاك حتى يُقصد في العبادة؟

لكنّه يندفع : بأنّ مفروض الكلام عدم وجود المخصّص اللفظي والعقلي في المقام ، وعليه ، فإنّه لا مانع من عموم الأمر إلاّ الأمر بالأهمّ المزاحم له ... فكان المانع هو المزاحم الموجب لعدم القدرة على الامتثال ، مع العلم بعدم دخل القدرة في الملاك ، فمع لحاظ جميع هذه الجهات ، ينحصر المانع بعدم القدرة على الامتثال مع وجود الملاك ، فلا مجال لهذا الإشكال.

الطريق الثالث للكشف عن الملاك

وأمّا الطريق الثالث ، فهو طريق الدلالة الالتزامية ، وتقريب ذلك ضمن أُمور :

الأوّل : إنّ الأحكام تابعة للملاكات ومعلولة لها ، كما هو مسلك العدليّة.

والثاني : إنّ الأمر إذا تعلّق بشيء كان له مدلولان ، أحدهما : المدلول المطابقي وهو وجوب ذلك الشيء. والآخر : المدلول الالتزامي ، وهو كون الوجوب ذا ملاك.

والثالث : إنّه إذا سقط المدلول المطابقي على أثر وقوع المزاحمة بين هذا الأمر وأمرٍ آخر أهم منه ، فالمدلول الالتزامي ـ وهو الدلالة على وجود الملاك ـ باقٍ.

أمّا الأمر الأوّل ، فهو واضح.

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ / ٣٦٠.

١٨٩

وأمّا الأمر الثاني ، فكذلك.

هل تبقى الدلالة الالتزامية بعد سقوط المطابقية؟

إنّما الكلام في الأمر الثالث ، وهو بقاء الدلالة الالتزاميّة بعد سقوط المطابقيّة ، باقتضاء الخطاب كما عليه الميرزا ، أو بحكم العقل من قبح تكليف العاجز كما عليه المشهور ، وقد ذكروا في بيان بقائها ما حاصله : إنّ ذلك مقتضى التفكيك في الحجية وأنّ الضرورات تتقدّر بقدرها ، فأمّا الدلالة المطابقيّة فقد سقطت لأن امتثالها كان مشروطاً بالقدرة فإذا انتفت سقطت ، وأمّا الملاك فغير مقيّد بالقدرة ولا دخل لها فيه ، فلا موجب لسقوط الدلالة الالتزاميّة ....

هذا ، وقد نصّ على بقاء الدلالة الالتزاميّة مع سقوط المطابقيّة عدّة من الأكابر كصاحب الكفاية والميرزا والعراقي ، وبنوا على هذا المبنى واستنتجوا منه في موارد ... كما في باب التعارض بين الخبرين حيث قال الميرزا بدلالتهما على نفي الثالث بالالتزام ، فلو دلّ أحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة ، ثبت عدم الاستحباب.

وقال آخرون : بعدم معقوليّة بقاء الدلالة الالتزاميّة بعد سقوط المطابقيّة ، وعليه فلا كشف عن الملاك بهذا الطريق ... وقد أورد على المبنى الأوّل بعدّة نقوض :

نقوض المحاضرات والجواب عنها

النقض الأوّل : إنّه لو قامت البيّنة على ملاقاة الشيء للبول مثلاً ، فهنا دلالتان : الملاقاة للبول وهي الدلالة المطابقيّة ، ونجاسة الملاقي وهي الدلالة الالتزاميّة. فإن انكشف كذب البيّنة سقطت الدلالة المطابقيّة كما هو واضح ، فهل تبقى الدلالة الالتزاميّة؟ مقتضى القول بعدم التبعيّة بقاؤها ، وهو باطل بالضرورة

١٩٠

من الفقه.

لكنْ يمكن دفع النقض ، بأنّ الشرط لبقاء الدلالة الالتزاميّة ـ عند القائلين به ـ هو بقاء الموضوع لهذه الدّلالة ، والموضوع فيها في المثال هو النجاسة وانتفاؤها مقطوع به عندهم ، فمثل هذا المورد خارج عن البحث.

النقض الثاني : لو كانت الدار ـ مثلاً ـ في يد زيد ، فقامت بيّنة على أنّها لعمرو وأُخرى على أنّها لبكر ، وقع التعارض بينهما ، لكنهما متّفقتان على أنّها ليست لزيد ذي اليد ، فإن قلنا بالتبعيّة ، سقطت الدلالتان وبقيت الدار لزيد ذي اليد ، وإن قلنا بعدم التبعيّة ، كانت النتيجة عدم كونها لزيد ، فهي مجهولة المالك. وهذا ما لا يلتزم به أحد.

وفيه : إنّه لا بدّ هنا من مراجعة النصوص الواردة في المسألة ، وعليه مشى صاحب النقض في كتابه مباني تكملة المنهاج. والحاصل : إنّ المرجع هنا خبر إسحاق بن عمار وخبر غياث بن إبراهيم ، ومقتضى الجمع بينهما : إنّ زيداً ذا اليد ، إن اعترف لأحدهما المعيّن ، دار أمر الملكيّة بينه ـ المعترف له ـ وبين طرفه ، ويقع النزاع بينهما ، وإن اعترف لكليهما خرج هو عن الملكيّة وتقاسما الدار ، وإن لم يعترف لأحدهما ، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر انتقلت الدار إلى الحالف ، وإن حلفا أو نكلا تناصفاها (١).

وتلخّص : عدم ورود النقض.

النقض الثالث : لو شهد شاهد واحد على أنّ الدار التي بيد زيدٍ هي لعمرو ، وشهد آخر على أنّها لبكر ، فإنّ الشهادتين ساقطتان على الحجيّة في مدلولهما

__________________

(١) وراجع كتاب : القضاء والشهادات ٢ / ٦٤٥ ـ ٦٥١ الطبعة المحقّقة للمؤلّف ، وهو تقرير أبحاث السيد الأُستاذ آية الله العظمى الگلپايگاني طاب ثراه.

١٩١

المطابقي ، بغض النظر عن التعارض بينهما ، فهل يلتزم بمدلولهما الالتزامي وهو عدم كون الدار لزيد ـ لكونهما متوافقين في ذلك ـ؟ كلاّ لا يمكن.

وفيه : إنّ أصل المدلول المطابقي هنا ليس بحجّةٍ ، لأن شهادة الواحد في الأملاك ليس بحجّةٍ بل لا بدّ من ضمّ اليمين إليها. وعليه ، فلمّا كان أصل المدلول المطابقي بلا مقتضٍ ، فلا تصل النوبة إلى البحث عن وجود أو عدم المدلول الالتزامي.

النقض الرابع : لو قامت البيّنة على أنّ الدار التي في يد زيدٍ هي لعمرو ، فأقرّ عمرو بأنّها ليست له ، فالبيّنة تسقط من جهة إقرار عمرو ، وبذلك تسقط الدلالة المطابقيّة ، فهل يمكن الأخذ بالدلالة الالتزاميّة وهو القول بعدم ملكية زيد؟ كلاّ.

وفيه : إنّ اليد أمارة الملكيّة ، وسقوطها يحتاج إلى دليل ، والبيّنة دليل تسقط بها أماريّة اليد ، وبعبارة أُخرى : فإنّ دليل حجيّة البيّنة يخصّص دليل حجيّة اليد ويتقدّم عليه بالتخصيص ، ولكنْ هل هذا التخصيص والتقدّم مطلق يعمّ صورة تكذيب ذي اليد؟ كلاّ. وعليه ، فلا أثر لهذه البيّنة ولا يثبت بها شيء من الأساس ، فلا تصل النوبة إلى البحث عن مدلولها الالتزامي.

الجواب الحلّي

وذهب الأُستاذ إلى القول بتبعيّة الدلالة الالتزاميّة للدلالة المطابقيّة في الثبوت والسقوط ، وذكر في مقام حلّ المسألة بعد الإجابة عن النقوض : إنّ لكلّ كلامٍ ثلاث دلالات :

فالدلالة الأُولى : هي الدلالة التصوّرية ، والمقصود منها دلالة اللفظ على معناه الموضوع له ، سواء التفت المتكلّم إلى ذلك وقصده أو لا.

والدلالة الثانية : هي الدلالة التصديقيّة الأُولى ، وهي دلالة اللفظ على

١٩٢

الإرادة الاستعماليّة ، بأن يصدّق بأنّ المتكلّم قد استعمل اللفظ في معناه.

والدلالة الثالثة : هي الدلالة التصديقيّة الثانية ، وهي دلالة اللفظ على الإرادة الجديّة ، بأن يكون المعنى مقصوداً للمتكلّم جدّاً.

أمّا الدلالة الأُولى ، فواضحة.

وأمّا الدلالة الثانية ، فدليلها تعهّد المتكلّم باستعمال الألفاظ في معانيها الموضوعة لها في اللغة.

وأمّا الدلالة الثالثة ، وهي حمل الكلام على معناه الجدّي ونسبة ذلك إلى المتكلّم ، فدليلها السيرة العقلائيّة القائمة على كاشفية اللّفظ المستعمل في معناه عن المراد الجدّي للمتكلّم. ولكنّ الكلام في حدّ هذه السّيرة ، فهل هي قائمة على كاشفيّة الدلالة الالتزاميّة عن المراد الجدّي حتّى مع سقوط الدلالة المطابقيّة؟

الظاهر عدم تحقّق هذا البناء من العقلاء ، ولا أقل من الشك ، ومقتضى القاعدة الأخذ بالقدر المتيقن من السيرة ـ لكونها دليلاً لبيّاً ـ وهو صورة عدم سقوط الدلالة المطابقيّة عن الحجيّة.

وتلخّص : عدم تماميّة هذا الطريق للكشف عن الملاك.

ويقع الكلام في :

١٩٣

الترتّب

فبعد الفراغ عن سقوط الأمر بالصّلاة مع وجود الأمر بالإزالة ، لاستحالة الأمر بالضّدين ، وعن عدم إمكان إحراز الملاك بأحد الطرق الثلاثة كي يُقصد وتتمُّ به عباديّة العمل ، تصل النوبة إلى البحث عن الترتّب ، وأنّه لو عصى الأمر الأهمّ ـ وهو الأمر بالإزالة ـ هل يثبت الأمر بالمهمّ وهو الأمر بالصّلاة ، فيؤتى بها بقصده ويكون عبادةً أو لا يثبت؟

والكلام تارةً : في الواجبين الموسّعين ، ولا تزاحم بينهما ، لا في مقام الجعل ولا في مقام الامتثال ، لأنّ الوقت يسع كلا الأمرين ويتحقّق امتثالهما معاً ، وأُخرى :

في الواجبين المضيّقين ، كوجوب إنقاذ هذا الغريق وذاك ، وهو مورد التزاحم ، وثالثةً : فيما إذا كان أحدهما موسّعاً والآخر مضيّق ، فهل هما كالمضيّقين ، كما دار أمر المكلّف بين أداء الصّلاة في أوّل الوقت وإزالة النجاسة عن المسجد؟

قال في الكفاية (١) بعد كلامٍ له :

فقد ظهر أنّه لا وجه لصحّة العبادة مع مضادّتها لما هو أهمّ منها إلاّ ملاك الأمر. نعم ، فيما إذا كانت موسّعةً وكانت مزاحمة بالأهمّ ببعض الوقت ـ لا في تمامه ـ يمكن أن يقال : إنّه حيث كان الأمر بها على حاله وإن صارت مضيّقةً بخروج ما زاحمه الأهم من أفرادها من تحتها ، أمكن أن يؤتى بما زوحم منها بداعي ذاك الأمر ، فإنّه وإن كان خارجاً عن تحتها بما هي مأمور بها ، إلاّ أنّه لما كان

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٣٦.

١٩٤

وافياً بغرضها كالباقي تحتها ، كان عقلاً مثله في الإتيان به في مقام الامتثال والإتيان به بداعي ذاك الأمر ، بلا تفاوت في نظره بينهما أصلاً.

ودعوى : إنّ الأمر لا يكاد يدعو إلاّ إلى ما هو من أفراد الطبيعة المأمور بها ، وما زوحم منها بالأهم وإن كان من أفراد الطبيعة لكنّه ليس من أفرادها بما هي مأمور بها. فاسدة ، فإنّه إنّما يوجب ذلك إذا كان خروجه عنها بما هي كذلك تخصيصاً لا مزاحمة ، فإنّه معها وإن كان لا تعمّه الطبيعة المأمور بها إلاّ أنّه ليس لقصور فيه ، بل لعدم إمكان تعلّق الأمر بما تعمّه عقلاً. وعلى كلّ حال ، فالعقل لا يرى تفاوتاً في مقام الامتثال وإطاعة الأمر بها بين هذا الفرد وسائر الأفراد أصلاً.

هذا على القول بكون الأوامر متعلّقة بالطبائع.

وأمّا بناءً على تعلّقها بالأفراد فكذلك ، وإن كان جريانه عليه أخفى ، كما لا يخفى. فتأمّل.

وحاصل كلامه هو : إنّ الأمر بالصّلاة مثلاً قد تعلّق بالطبيعة ، والفرد المزاحَم بالأمر بالإزالة خارج من تحت هذا الإطلاق ، لكنّ هذا الخروج تزاحمي وليس تخصيصيّاً ، فلو كان خروجه كذلك لم يمكن الإتيان به بقصد الأمر بالطبيعة أو بقصد الملاك ، أمّا مع الخروج التزاحمي فالإتيان به بقصد الأمر أو الملاك لا مانع منه ، إذ العقل لا يرى تفاوتاً بينه وبين غيره من أفراد الطبيعة في الوفاء بالغرض.

فالفرد المزاحم خارج عن الطبيعة بما هي مأمور بها ، إلاّ أنّ ذلك غير ضارٍّ ، لأنّه كغيره من الأفراد وافٍ بالغرض من الأمر عند العقل بلا تفاوت.

أشكل الأُستاذ : بأنّه إذا كان الفرد المزاحَم خارجاً من تحت الطبيعة ـ كما صرّح بذلك ـ فإنّ الإطلاق غير شامل له ، بل يتحدّد بما سواه من الأفراد ، وحينئذٍ ، لا يمكن الإتيان بالفرد المزاحم بقصد الأمر المتعلّق بالطبيعة ، والمفروض أنّ الفرد

١٩٥

بنفسه لا أمر له ، فبأيّ أمر يؤتى به في مقام الامتثال؟

وبالجملة ، فإنّ نتيجة كلامه أنّ الفرد المزاحم غير مأمور به حتّى يمكن الإتيان به بقصد الأمر. نعم ، على القول بانطباق الطبيعة المأمور بها على الفرد المزاحم ، كما عليه المحقّق الثاني ومن تبعه ، يكون مورداً للأمر فيمكن الإتيان به بقصده.

والمحقّق الخراساني لم يذكر برهاناً على خروج الفرد المزاحم من تحت الطبيعة.

وأمّا الميرزا ،

فيرى التزاحم كذلك ، لكنْ ببيان آخر ، وهو :

إن تقييد خطاب الواجب الموسّع بالفرد المزاحم غير معقول ، لأنّه يستلزم طلب الضدّين في آنٍ واحد ، وإذا استحال التقييد استحال الإطلاق كذلك ، لأنّ النسبة بين الإطلاق والتقييد عنده نسبة العدم والملكة ، فلا يعقل الأمر بالصّلاة في أوّل الوقت مع وجود الأمر بالإزالة ، فيقع بينهما التزاحم. هكذا في (المحاضرات) (١).

وببيان آخر ـ وهو الأقرب إلى ما ذهب إليه من أنّ الإطلاق يتوجّه باقتضاء الخطاب إلى الحصّة المقدورة ، وأنّ اعتبار القدرة باقتضاء نفس الخطاب وليس بحكم العقل ـ إنّ الأمر بالصّلاة متوجّه من أصله إلى الحصّة المقدورة منها ، فإطلاق «صلّ» من أوّل الأمر غير شامل للفرد المزاحم منها للإزالة ، فسواء كانت النسبة بين الإطلاق والتقييد هي العدم والملكة أو التضاد ، يكون هناك تزاحم بين «صلّ» و «أزل النجاسة عن المسجد». فإنْ صحّت الصّلاة المزاحمة عن طريق قصد الملاك ـ المنكشف بإطلاق المادّة أو الدلالة الالتزاميّة ـ كما ذهب هو إلى ذلك ـ

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ / ٣٤٤.

١٩٦

فهو وإلاّ وصلت النوبة إلى بحث الترتّب.

وكيف كان ، فلا بدّ قبل الورود في البحث من ذكر ما يلي :

الأصل في الترتب هو المحقق الثاني

إنّ مبتكر بحث الترتّب هو المحقّق الثاني في (جامع المقاصد) ، ثمّ تبعه الشيخ جعفر في كشف الغطاء ثمّ حقّقه الميرزا الشيرازي ، ثمّ شيّد أركانه الأعلام الثلاثة.

وذهب المحقّق الخراساني إلى استحالة الترتّب ، ونسبه في المحاضرات إلى الشيخ الأعظم ، إلاّ أنّ الأُستاذ ذكر أنّ كلمات الشيخ مختلفة ، وسيأتي.

ثمّ إنّ هذا البحث عقلي محض ، ولا دخل للّفظ فيه ، وهو يدور بين الإمكان والاستحالة ، ومجرّد الإمكان كافٍ للوقوع بلا حاجةٍ إلى دليلٍ آخر.

كلام المحقّق الثاني

ذكر العلاّمة في (القواعد) : أنّه إن كان مديناً بدينٍ ، وكان الدّائن يطالبه به وهو في أوّل الوقت ، فلو صلّى بطلت صلاته. وكذا المدين بالخمس والزكاة.

فقال المحقّق الثاني بشرحه : مبنى المسألة أنّ أداء الدين بعد الطلب واجب فوري ، وكذا أداء الخمس والزكاة ، وحينئذٍ ، يكون الأمر بأداء الدّين ناهياً عن الضدّ وهو الصّلاة ، والنهي عن العبادة موجب للفساد.

ثمّ أشكل : بأن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن الضدّ الخاص ، والصّلاة ضدّ خاصٌ لأداء الدّين. قال :

فإن قيل : إن الترك ضدّ عامٌّ يتحقّق بالصّلاة التي هي ضد خاصّ. فأجاب عن ذلك ، ثمّ أشكل بإشكال آخر وأجاب عنه ، إلى أن قال :

إن قيل : إنّ الأمر بالصّلاة مع فرض فوريّة أداء الدّين يستلزم التكليف بما

١٩٧

لا يطاق ، لكونهما ضدّين.

فأجاب : بعدم لزوم ذلك ، لأنّ الصّلاة واجب موسّع ، والأمر بأداء الدين أو الخمس والزكاة فوري ، وله الأمر بهما معاً ، بأن يكون مأموراً بأداء الدين ، فإن عصى أتى بالصّلاة.

ثمّ نقض بما لو كانت الصّلاة في آخر الوقت ، فيقع التزاحم بين المضيّقين لكنّ الحكم صحّة الصلاة ، لأن أحد الواجبين مشروط بمعصية الواجب الآخر.

ونقض على العلاّمة بمن خالف الترتيب في واجبات الحج ، حيث يحكم بصحّة العمل ، ولا وجه لذلك إلاّ الترتّب.

قال : وإنّ هذا الأصل إن لم يتم يبطل كثير من أعمال الناس ، وإن كان مقتضى الاحتياط ما ذكره العلاّمة من البطلان (١).

كلام كاشف الغطاء

وتعرّض الشيخ الكبير في (كاشف الغطاء) للترتّب فقال : إنّه يمكن للشارع وللمولى المطاع أنْ يأمر بواجب ، ثمّ يأمر بآخر على فرض عصيان الأوّل.

قال : إنّه في مسألة الجهر والإخفات ، لو جهر في موضع الإخفات أو بالعكس ، يصحّ العمل. للقاعدة. قال : ومع عدم الالتزام بهذه القاعدة يلزم بطلان عبادات الناس كثيراً ... (٢).

كلام الشيخ الأعظم

واختلفت كلمات الشيخ الأعظم ، فالمستفاد من كلامه في بعض المباحث استحالة الترتّب ، وظاهر كلامه في رسالة التعادل والتراجيح من (فرائد الأُصول) ،

__________________

(١) جامع المقاصد في شرح القواعد ٥ / ١٤ ط مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) كشف الغطاء : ٢٧.

١٩٨

عند البحث عن الأصل في الخبرين المتعارضين بناءً على السببيّة هو الإمكان ، فأفاد ما حاصله (١) : أنّه لمّا كان نتيجة القول بالسببيّة تحقّق المصلحة فيما قامت عليه الأمارة ، فإنّه يكون حال الخبرين المتعارضين حال الواجبين المتزاحمين ، فيكونان مجرى قاعدة الترتّب حتّى في صورة أهميّة أحدهما من الآخر ، قال : إنّ التكليف واقع بكليهما ولكلٍّ منهما ملاك الوجوب ، لكنّ القدرة على امتثال كلٍّ منهما تحقّق في ظرف ترك الآخر ، وإذا تحقّقت القدرة حكم العقل بالامتثال.

هذا محصّل كلامه ، ومن وجود لفظة «القدرة» في عبارته يستكشف أنّ المانع عن الواجب الآخر هو العجز ، فالعقل حاكم بلزوم الامتثال في كلّ فردٍ قد تحقّقت القدرة عليه منهما.

ثمّ ذكر : إنّ هذه القاعدة جارية في جميع موارد الواجبين المتزاحمين.

ومن الواضح : إنّ مقتضى تعليقه الأمر على القدرة ، فإنّه مع ترك الأهمّ تكون القدرة موجودة بالنسبة إلى المهم ، هو الالتزام بالترتّب.

ومن هنا قال الميرزا : ومن الغريب أنّ العلاّمة الأنصاري قدس‌سره مع إنكاره الترتب وبنائه على سقوط أصل خطاب المهم دون إطلاقه ، ذهب في تعارض الخبرين ـ بناءً على السببيّة ـ إلى سقوط إطلاق وجوب العمل على طبق كلٍّ من الخبرين ... (٢).

استحالة الترتّب ببيان الكفاية

وذكر في (الكفاية) نظرية القائلين بالترتّب بنحوين فقال : «إنّه تصدّى جماعة من الأفاضل لتصحيح الأمر بالضدّ بنحو الترتّب على العصيان وعدم إطاعة

__________________

(١) فرائد الأُصول ٤ / ٣٦ ـ ٣٧ ط مجمع الفكر الاسلامي.

(٢) أجود التقريرات ٢ / ٥٧.

١٩٩

الأمر بالشيء بنحو الشرط المتأخّر أو البناء على معصيته بنحو الشرط المتقدّم أو المقارن ، بدعوى أنّه لا مانع عقلاً عن تعلّق الأمر بالضدين كذلك ، أي : بأنْ يكون الأمر بالأهمّ مطلقاً والأمر بغيره معلّقاً على عصيان ذاك الأمر أو البناء والعزم عليه ، بل هو واقع كثيراً عرفاً» (١).

لكنّه يرى أن لا طريق إلاّ على نحو الشرط المتأخّر ، بأن يكون المعصية على هذا النحو ، لأنّ العبادة لا بدّ وأن تنشأ من الأمر ، فلو اشترط معصية الأهم بنحو الشرط المتقارن ، فلا بدّ وأن تتحقّق بفعل المهم ، فلم ينشأ فعل المهم من الأمر به ، لأن المفروض أن لا أمر به قبل معصية الأهم ، أمّا لو تأخّرت المعصية عن الأمر ، كان فعل المهمّ ناشئاً عن الأمر به ، وأمّا العزم فلا تتحقّق به المعصية.

فقد قرّب صاحب الكفاية النظريّة بأنّه : لو كان الشرط هو العزم على المعصية فالمفروض عدم تحقّق المعصية ، فالأمر بالأهم على حاله بنحو الإطلاق ، والأمر بالمهمّ موجود مشروطاً ، ومع اشتراط العزم على المعصية وتأخّرها ، يكون فعل الضدّ ـ وهو المهم ـ ناشئاً من الأمر المتعلّق به والعزم على ترك الأهم. أمّا مع الاشتراط بالعصيان ، فيعتبر أن يكون بنحو الشرط المتأخّر ، لأنّه ترك الأهم وتركه في مرتبةٍ واحدةٍ مع فعل المهم ، فلمّا كان العصيان شرطاً للأمر بالمهم ، وقع فعل المهم في مرتبةٍ متقدّمة على الأمر به ، فيكون فرض العصيان بنحو الشرط المتأخّر.

وعلى أيّ حالٍ ، فقد أجاب عن هذا التقريب : بأنّ الأمر بالضدّين وطلبهما محال ، سواء كان التضادّ بالذات أو بالعرض ، لأنّ الطلب هو الإنشاء بداعي جعل الدّاعي ، ومع وجود التضادّ بين الشيئين كيف يتحقّق الداعي بجعل الداعي؟

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٣٤.

٢٠٠