تحقيق الأصول - ج ٣

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-39-2
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٣٩٩

تارةً نقول : الضدّان في مرتبةٍ واحدة ، وأُخرى نقول : ليس بين الضدّين اختلاف في المرتبة. وكلّ واحدٍ من القولين دعوى تحتاج إلى إثبات.

إنّ ملاك الاتحاد في المرتبة هو كون الشيئين معلولين لعلّةٍ واحدةٍ ، والضدّان ليسا كذلك ، بل لكل علّته. وملاك الاختلاف في المرتبة كون أحدهما علّةً أو شرطاً للآخر ، والضدّان ليس بينهما نسبة العليّة أو الشرطيّة. فالقدر المسلّم هو عدم وجود الاختلاف في المرتبة بين الضدّين ، لكنّ هذا لا يكفي لاتّحاد المرتبة بينهما ، لأنّ الاتّحاد يحتاج إلى ملاك.

فدعوى أنّ الضدّين في مرتبةٍ واحدة أوّل الكلام.

وأمّا الأمر الثاني ، فكذلك ، لأنّ التناقض هو بين الوجود والعدم ، فالعدم يرتفع بالوجود ويكون الوجود مرفوعاً به ، والوجود يرتفع بالعدم ، فيكون العدم رافعاً ، فالنقيض هو الرافع أو المرفوع به ... وعليه ، فإنّ النقيض للوجود رفع الوجود لا الرفع الواقع في مرتبة الوجود ، ولو كان كذلك لاعتبر وحدة المرتبة من شرائط التناقض وليس كذلك ، على أنّ المرتبة من خواص الوجود ومن آثار العليّة والمعلوليّة ، والعدم ليس ذا مرتبة أصلاً.

والحاصل : إنّ دعوى وحدة المرتبة بين النقيضين غير صحيحة.

وأمّا الأمر الثالث ، فكذلك ... لأنّا لو سلّمنا كون الضدّين في مرتبة واحدة ، وكذا النقيضان ، لكنّ كون نقيض هذا الضدّ متّحداً في المرتبة مع وجود الضدّ الآخر يحتاج إلى دليلٍ ... إذ لا يكفي أن يقال : لمّا كان الضدّان في مرتبةٍ ، وعدم كلّ ضدٍّ في مرتبته ، فعدم هذا الضدّ في مرتبة وجود ذاك ... لأنّ المفروض وجود الملاك لكون الضدّين في مرتبةٍ واحدة وكذا النقيضان ، أمّا ضرورة كون نقيض أحدهما في رتبة وجود الآخر فبأيّ ملاك؟

١٤١

وتلخّص : إنّ الأُمور التي ذكرها مقدّمةً لدليله كلّها دعاوى بلا برهان.

رأي المحقّق الاصفهاني

واختلفت كلمات المحقّق الأصفهاني في هذا المقام (١) ، ففي أوّل البحث اختار المقدميّة ، وفي آخره قال : والتحقيق يقتضي طوراً آخر من الكلام ، وانتهى إلى القول بالعدم ... والبرهان الذي ذكره لنفي المقدميّة هو :

إنّ في الماديّات أربع علل وشرطين ، بخلاف في المجرّدات فليس إلاّ العلّة الفاعليّة والعلّة الغائيّة ـ :

العلّة الفاعليّة ، وهي التي يكون منها الوجود.

والعلّة الغائيّة ، وهي التي من أجلها تحقّق الوجود.

والعلّة الماديّة ، وهي الجنس.

والعلّة الصّوريّة ، وهي الفصل.

والشرطان هما : ما يتمّم فاعليّة الفاعل ، وما يتمّم قابليّة القابل ، وذلك : لأنّ الوجود في الأُمور الماديّة بحاجة إلى الفاعل والقابل ، فلو وجد الفاعل وكان ناقصاً لم يؤثّر أثره ، ولو وجد القابل وابتلي بمانع فالأثر لا يتحقّق ، وبتوفّر الشرط في الطرفين يتحقّق الأثر.

وحينئذ ، ننظر في الأمر ونقول :

إنّ العلّة الماديّة هي الجنس ، والعلّة الصوريّة هي الفصل ، وعدم الضدّ الآخر لا هو جنس للضدّ الآخر ولا هو فصل له.

والعلّة الغائية أيضاً غير متصوّرة للعدم ، لأنّ العلّة الغائيّة هي المنشأ للفاعليّة ، ولا يعقل أن يكون عدم الضدّ فاعلاً للضدّ الآخر ، لأنّ الفاعل والعلّة

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ١٨٦ ـ ١٨٧.

١٤٢

الفاعليّة للضدّ الآخر هو مقتضي وجود ذاك الضدّ ، فلا يكون عدم أحد الضدّين فاعلاً للضدّ الآخر.

على أنّ الفاعليّة ـ أو تتميم الفاعليّة ـ منوطة بأنْ يكون هناك أثر ومنشأ للأثر ، والعدم لا يمكن أن يكون مؤثّراً.

وتلخّص : أنّه لا توجد أيّة نسبة عليّةٍ ومعلوليّة بين الضدّ كالبياض وعدم الضدّ كعدم السّواد.

فانحصر أنْ تكون النّسبة بينهما نسبة الاشتراط ، فعدم السّواد شرط لوجود البياض ... وقد ظهر أنّ الشرط إمّا هو متمّم لفاعليّة الفاعل أو متمّم لقابليّة القابل ... أي : إمّا يجعل الفاعل المقتضي مؤثّراً ، أو يجعل القابل قابلاً للأثر ، لكنّ عدم الضدّ لا يمكن أن يكون متمّماً لفاعليّة الضدّ الآخر ، لما تقدّم من أنّ الضدّ الآخر ليس فاعلاً للضدّ ، على أنّ العدم لا يكون مؤثراً كما تقدّم أيضاً.

بقي صورة أن يكون عدم الضدّ متمّماً لقابليّة المحلّ لوجود الضدّ الآخر ، وهذا أيضاً محال ، لأنّه إن أُريد من قابليّة المحلّ أن يكون قابلاً لوجود كلا الضدّين معاً ، فهذا محال ، وإنْ أُريد أن يكون قابلاً لأحدهما ، فإنّ هذه القابليّة موجودة بالذات ومن غير حاجةٍ إلى المتمّم.

إشكال الأُستاذ

وقد أورد عليه الأُستاذ في ما ذكر في الشقّ الأخير ، من أن عدم أحد الضدّين متمّم لقابليّة المحلّ للآخر وكونه قابلاً لأحدهما قابليّةً ذاتيةً : بأنّه إن كان المراد من «أحدهما» هو الأحد المردّد ، فهذا غير معقول ، لأنّ المردّد لا ذات له ولا وجود ، فالمراد هو «الأحد» الواقعي. أي : إنّ الجدار قابلٌ للبياض وقابل للسّواد ، لكنّ الإهمال في الواقعيّات محال ، إذن ، يكون قابلاً للبياض ـ مثلاً ـ إمّا بشرط وجود

١٤٣

السّواد ، وهذا محالٌ لاستلزامه اجتماع الضدّين ، وامّا لا بشرط وجود السّواد ، وهذا أيضاً محالٌ ، لأنّه يجتمع مع وجود السّواد فيلزم اجتماع الضدّين ، ويبقى صورة بشرط لا عن وجود السواد ، فكان عدم الضدّ شرطاً لوجود الضدّ ومقدمةً له.

وقد أجاب طاب ثراه في التعليقة : بأنّه لا يمكن أن تكون قابليّة المحلّ للبياض المشروط بعدم السّواد ، لأنّ عدمه حين يكون شرطاً يكون مفروض الوجود ـ لأن كلّ شرط فهو مفروض الوجود للمشروط ـ فيكون المحلّ قابلاً للبياض المقيّد بعدم السواد ، والحال أنّه قابل بالذات للبياض لا البياض المقيّد بعدم السّواد.

فقال الأُستاذ : وهذا لا يحلّ المشكلة ، لأنّ عدم السّواد دخيلٌ في وجود البياض على كلّ حالٍ ، لأنّ البياض إمّا يكون مع وجود السّواد أو مع عدمه ، فإن كان المحلّ قابلاً لكليهما فهذا محال ، لأنّ القابليّة للمحال محال ، وإن كان قابلاً للحصّة الكائنة مع عدم السّواد من البياض ، لزم دخل عدم السّواد في تحصّص البياض وقابليّة المحلّ لتلك الحصّة ، ودخله في ذلك ـ سواء قال بتقيّد البياض بعدم السّواد أو بأنّه مع عدم السواد ـ هي المشكلة ....

فالبرهان المذكور لا يدلّ على عدم مقدميّة أو دخل عدم الضدّ في وجود الضدّ الآخر.

البرهان الأخير

والبرهان الأخير على عدم مقدميّة عدم أحد الضدّين لوجود الضدّ الآخر هو : ما أشار إليه صاحب الكفاية (١) في قوله : «والمانع الذي يكون موقوفاً على

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٣٢.

١٤٤

عدم الوجود هو ما كان ينافي ويزاحم المقتضي في تأثيره ، لا ما يعاند الشيء ويزاحمه في وجوده».

وقد قرّبه المحقّق النائيني (١) وهو أقوى البراهين في الردّ على المشهور. وهذا كلام الميرزا بإيضاح أكثر :

إنّ الضدّين قد لا يكون لهما مقتضٍ وقد يكون لكليهما وقد يكون لأحدهما دون الآخر ، فالصّلاة والإزالة ، قد تتعلّق الإرادة بكليهما ـ من شخصين ـ وقد لا تتعلّق بشيء منهما ، وقد تتعلّق بأحدهما فقط ، والسواد والبياض كذلك ، فقد يكون لوجودهما في المحل مقتضٍ وقد لا يكون وقد يكون لأحدهما.

هذه هي الصور المتصوّرة.

فإن لم يكن لشيء منهما مقتضٍ فلا مانعيّة ، لما تقدّم من أنّ المانعيّة تأتي في مرتبةٍ متأخّرة عن المقتضي ، وعدم المعلول يستند حينئذٍ إلى عدم المقتضي لا وجود المانع.

وإن كان لأحدهما مقتضٍ دون الآخر ، فكذلك ، إذ مع عدم وجود المقتضي يستحيل استناد عدم الضدّ إلى وجود المانع.

وإنْ كان كلٌّ منهما ذا مقتضٍ ، قال الميرزا : هذا محال ، لما تقدّم من استحالة وجود المقتضي للضدّين ، لأنّه يستلزم إمكان المحال ، والمحال بالذات يستحيل انقلابه إلى الإمكان.

وإذا ظهر استلزام كلّ صورةٍ للمحال ، فمقدّميّة عدم الضدّ للضدّ الآخر محال.

قال الأُستاذ : لكنْ قد تقدّم تحقيق أنّ وجود المقتضي للضدّين ليس

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ١٢ ـ ١٣.

١٤٥

بمحال ، إذ المقتضي للضدّين غير المقتضي للجمع بينهما ، فالصّورة الثالثة باقية ... والطريق الصحيح هو أن نقول :

إنّه في هذه الصّورة ، لا يخلو الحال من أن يكون المقتضيان متساويين أو يكون أحدهما أقوى من الآخر.

فإن كانا متساويين ، استند عدم الضدّ إلى عدم تماميّة المقتضي في الأثر ، لا إلى وجود المانع ، لأنّ المؤثر ليس مجرّد وجود المقتضي ، بل هو المقتضي الفعلي في المؤثريّة ، لما تقدّم من تقسيم المقتضي إلى الشأني والفعلي ، وأنّ الأثر يكون للمقتضي التام في المؤثريّة ، فكان عدم الضدّ ـ في صورة تساوي المقتضيين ـ مستنداً إلى عدم الشرط للمقتضي وهو الفعليّة ، لا إلى وجود المانع ... وعليه ، فيستحيل أن يكون وجود الضدّ مانعاً عن الضدّ الآخر ، بل عدم الضدّ الآخر مستند إلى عدم توفّر شرط المقتضي للتأثير ، لأنّ المفروض تساويه مع المقتضي الآخر وكونهما متزاحمين في الوجود ... فيكون المانع عن وجود الضدّ هو المقتضي للضدّ الآخر ، لا نفس الضدّ الآخر.

وإن كان أحد المقتضيين أقوى من الآخر ، فإنّ عدم الضدّ يكون مستنداً إلى ضعف المقتضي لوجوده ، لا إلى وجود الضدّ المقابل.

وهذا شرح قول المحقّق الخراساني من أنّه ليس كلّ معاندة منشأً للمانعيّة.

قال الأُستاذ : وهذا البرهان تام بلا كلام.

وأقول :

في هذا البرهان في صورة تساوي المقتضيين نظر ، فإنّه في هذه الصّورة ما البرهان على استناد العدم إلى شأنيّة المقتضي لا إلى وجود الضدّ الآخر؟

وتلخص : بطلان مبنى المشهور ، لما ذكره صاحب الكفاية في الكلام على

١٤٦

الدور ، من أنّه وإن اندفع لزومه بما ذكره المحقّق الخونساري ، لكنّ ملاك الاستحالة موجود.

وبه يبطل التفصيل ، وهو أنّ عدم ذلك الضدّ متوقّف على وجود الضدّ الآخر ، إذ قد ظهر أنّ عدم الضدّ مستند إلى عدم المقتضي لوجوده لا إلى المانع وهو وجود الضدّ الآخر.

وكذا التفصيل : بأنّ وجود هذا الضدّ متوقّف على عدم الضدّ الآخر وعدم ذاك موقوف على وجود هذا.

وبقي :

تفصيل المحقّق الخونساري

وتعرّض صاحب الكفاية لرأي المحقّق الخونساري والجواب عنه ، وهو القول بالتفصيل بين الضدّ الموجود والضدّ المعدوم ، وأن عدم الضدّ الموجود مقدّمة لوجود الضدّ غير الموجود ، بخلاف العكس ، فإنّ عدم الضدّ غير الموجود ليس بمقدمةٍ للضدّ الموجود.

وتوضيحه : إنّ المحلّ حين يكون خالياً عن الضدّين قابلٌ لكلٍّ منهما ، وهذه القابليّة ذاتية لا تحتاج إلى شيء ، ولكنْ عند ما يوجد فيه أحد الضدّين تنتفي قابليّته للضدّ الآخر ، فلو أُريد للضدّ الآخر غير الموجود أنْ يتواجد في هذا المحلّ ، فإنّ رفع الضدّ الموجود فيه يكون مقدمةً لذلك ... فكان عدم الضدّ الموجود مقدّمةً لوجود الضدّ غير الموجود.

الجواب على مبنى الميرزا

وجواب هذا التفصيل على مبنى المحقّق النائيني واضح ، لأنّه ـ بناءً على أنّ مناط الحاجة إلى العلّة في الممكنات هو الحدوث لا الإمكان ـ يلزم اجتماع

١٤٧

المقتضيين للضدّين ، وهو عند الميرزا محال ، لأنّه مع وجود أحدهما في المحلّ وانتفاء قابليّته للآخر يكون للموجود مقتضٍ ، فإذا كان هذا الموجود مانعاً عن وجود الضدّ الآخر ـ كما يقول المحقّق الخونساري ـ فإنّ مانعيّته عنه هي بعد تماميّة المقتضي لوجود ذلك الضدّ ، فيكون الضدّ الآخر أيضاً ذا مقتضٍ ، فيلزم اجتماع المقتضيين للضدّين.

لكنّ المبنى المذكور غير مقبول ، فلا بدّ من جوابٍ آخر عن هذا التفصيل.

قال الأُستاذ :

والتحقيق هو النظر في مناط حاجة الشيء الممكن إلى العلّة ، وأنّ الحق في ذلك هو الإمكان لا الحدوث ، وحينئذٍ يبطل التفصيل ، وتوضيح ذلك :

إنّه قد ذهب جماعة إلى أنّ مناط حاجة الممكن إلى العلّة هو الحدوث ، فإذا تحقق له الحدوث استغنى عن العلّة لبقائه. وذهب آخرون إلى أنّ المناط هو الإمكان ، فإذا وجد فالمناط أيضاً ـ وهو الامكان ـ موجود ، فهو بحاجةٍ إلى العلّة بقاءً كاحتياجه إليها حدوثاً.

أمّا على الأوّل فيتمّ التفصيل ، لأنّ الضدّ الذي وجد في المحلّ يزول مقتضيه بمجرّد وجوده وحدوثه ، والضدّ الآخر غير الموجود قد فرض له مقتضي الوجود ، فيكون عدم وجوده مستنداً إلى وجود الضدّ الموجود في المحلّ ، ويكون عدم الموجود مقدمةً لوجود الضدّ غير الموجود.

وأمّا على مبنى التحقيق فلا يتم ، لأنّ المقتضي بعد حدوث الشيء موجود ، وهو مؤثّر في وجوده في كلّ آن ، فمقتضى الضدّ الموجود في المحلّ غير منعدم أصلاً ، وحينئذٍ ، تقع الممانعة بين مقتضي هذا الضدّ ومقتضى الضدّ غير الموجود ، فليس نفس وجود الضدّ هو المانع ليكون عدمه مقدّمةً.

١٤٨

وبهذا ظهر : إنّه على القول باستحالة تحقّق المقتضي للضدّين يسقط التفصيل ، سواء كان مناط الحاجة هو الإمكان أو الحدوث ، أمّا على القول بعدم الاستحالة فينحصر الجواب عن التفصيل بكون المناط هو الإمكان.

هذا ، ولا يتوهّم أنّ المانعيّة إنّما هي للضدّ الموجود ، لأنّه هو السبب في ارتفاع قابليّة المحلّ للضدّ الآخر ، ولولاه لشغل ذاك هذا المحلّ ... لأنّ ذلك ـ وإنْ كان كذلك بنظر العرف ـ خلاف الواقع بحكم العقل وهو الحاكم في مثل هذه الأُمور دون العرف ، لأنّ قابليّة المحلّ مقدّمة رتبةً على وجود الضدّ غير الموجود ، ولمّا كان الضدّ الموجود هو الرافع للقابليّة هذه ، كان الضدّ الموجود مقدّماً برتبتين على الضدّ غير الموجود ، فلا تمانع بينهما.

وأيضاً : فإنّ الضدّ غير الموجود فعلاً له شأنيّة الوجود ، فهو قابلٌ لأنْ يكون علّةً لزوال الضدّ الموجود ، فيكون كلّ واحدٍ منهما قابلاً للعليّة وقابلاً للمعلوليّة ، فيكون أحدهما متقدّماً بالقوّة والآخر متأخّراً بالقوّة ، وأحياناً متقدّماً بالفعل ومتأخّراً بالفعل. فلا يتحقّق التضاد بينهما أبداً.

وقال السيّد الأُستاذ ـ بعد قوله : الذي يقتضيه الإنصاف هو تسليم القول بالتفصيل ـ ما ملخّصه : هذا التفصيل لا ينفع فيما نحن فيه من متعلّقات الأحكام الشرعيّة ، لكونه من الأفعال التدريجيّة الحصول بلا أنْ يكون لها وجود قار ، فهي دائماً تكون من الضدّ المعدوم ، ولا مقدميّة في الضدّ المعدوم. فلا يكون للتفصيل ثمرة عمليّة (١).

__________________

(١) منتقى الأُصول ٢ / ٣٥٥.

١٤٩

٢ ـ عن طريق الملازمة

وبعد الفراغ عن بحث مقدميّة عدم الضدّ لوجود الضدّ الآخر ، تصل النوبة إلى البحث عن الطريق الآخر لدلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضدّه الخاص ، وهو طريق الملازمة ، وتوضيحه :

إنّ وجود كلّ ضدٍّ من الضدّين ملازم لعدم الضدّ الآخر ، فوجود الحركة ملازم لعدم السكون ، ووجود البياض ملازم لعدم السّواد ، وهذه هي الصغرى وتنطبق عليها كبرى أنّ المتلازمين يستحيل اختلافهما في الحكم ، فإذا كانت الحركة واجبةً كان عدم السكون واجباً.

أمّا أنّ وجود الضدّ ملازم لعدم الضدّ الآخر ، فلأنّه لو جاز وجود الضدّ الآخر لزم اجتماع الضدّين ، وهو محال. وأيضاً : لو جاز ـ مع وجود أحدهما ـ عدم انعدام الآخر ، لزم اجتماع النقيضين ، وهو محال.

وأمّا أنّهما متوافقان في الحكم ، فلأنّ المفروض أنْ يكون لكل من المتلازمين حكم ، فلو كان أحدهما واجباً وخالفه الآخر في الحكم ، فإمّا أنْ يكون حكمه هو الحرمة فيلزم طلب المتناقضين ، والتكليف المحال ـ فضلاً عن التكليف بالمحال ـ ، وامّا أن يكون حكمه الاستحباب أو الكراهة أو الإباحة ، وهذا محال كذلك ، لأنّه لمّا كان حكم أحدهما الوجوب فالشارع غير مرخّص في تركه ، والعقل حاكم بلابدّيته ، لكنّ الآخر الذي فرض حكمه أحد الأحكام الثلاثة المذكورة ، فهو مرخّص شرعاً في تركه والعقل حاكم بجواز الترك ، فيلزم التناقض في حكم العقل ، بأنْ يحكم بلابدّية الحركة ويجوّز السكون في نفس الوقت ، وهذا محال ... إذن ... لا بدّ وأن يكون المتلازمان متوافقين في الحكم.

١٥٠

قال الأُستاذ :

لكنّ الإشكال في الكبرى. أمّا نقضاً : فلا شكّ أن الأمر لمّا يتعلّق بالطبيعة كالصّلاة مثلاً ، فإنّ الطبيعي لا يتحقّق خارجاً إلاّ ملازماً لخصوصيّاتٍ من الزمان والمكان وغيرهما ، لكن متعلّق الحكم ـ بضرورة الفقه ـ هو الطبيعي ، وليس لتلك الخصوصيّات حكم أصلاً ، إذ الواجب على المكلّف هو صلاة الظهر مثلاً ، لا خصوصيّة هذا الفرد منها الذي أتى به في الدار في أوّل الوقت مثلاً.

وأمّا حلاًّ ، فصحيحٌ أنّه ما من واقعةٍ إلاّ وفيها حكم شرعي ، لكن هذه الكبرى ليست بلا ملاك ، وملاكها لا يخلو : إمّا هو تبعيّة الأحكام الشرعيّة للمصالح والمفاسد غير المزاحمة ، على مسلك العدليّة ، من جهة أنّه إذا رأى العقل المصلحة التامّة يستكشف الحكم الشرعي في الواقعة بقانون الملازمة. وامّا هو ضرورة جعل الشارع الدّاعي لتحقّق غرضه ، والداعي هو الحكم. وامّا هو لزوم خروج المكلّف من الحيرة في كلّ واقعة.

لكنْ لا شيء من هذه الأُمور في المتلازمين.

أمّا الأوّل : فلأنّه لا دليل على أنّه لو كان للملازم ملاك فلا بدّ وأن يكون لملازمه ملاك كذلك ، فلو كان القعود واجباً ، فما هو المصلحة لجعل الوجوب لترك القيام؟

وأمّا الثاني : فلأنّ جعل الحكم للملازم كافٍ للداعويّة إلى تحقّق غرض المولى ، ولا حاجة لجعل الملازم الآخر من هذه الجهة.

وأمّا الثالث : فلأنّه لا حيرة للمكلّف في مورد المتلازمين في فرض جعل الحكم لأحدهما ، فإنّه مع جعل الوجوب للقعود ، لا يبقى المكلّف متحيّراً في حكم القيام حتّى يُحتاج إلى جعل حكم الوجوب لتركه.

١٥١

وتلخّص : أنّه لا ملاك ـ بعد جعل الحكم لأحد المتلازمين ـ لجعله للملازم الآخر ... فالكبرى غير منطبقة هنا ... فالاستدلال ساقط.

وبذلك يظهر سقوط الطريق الثاني لإثبات أنّ الأمر بالشيء نهي عن الضدّ الخاص.

تتمّة

مسألة الضد من مسائل أيّ علم من العلوم؟

وقد وقع الكلام في أنّ مسألة الضدّ كلاميّة؟ أو فقهيّة؟ أو أُصوليّة؟ أو هي من المبادئ الأحكاميّة؟ وجوه.

رأي الأُستاذ

ومختار الأُستاذ : هو أنّها من المسائل الأُصوليّة ، وليست من مسائل الفقه أو الكلام ، كما أنّها ليست من مبادئ الأحكام.

أمّا عدم كونها من المسائل الكلاميّة ، فلأنّ علم الكلام هو ما يبحث فيه عن أحوال المبدا والمعاد بالأدلّة العقليّة والنقليّة ، والبحث عن اقتضاء الأمر للنهي عن الضدّ الخاص لا يختص بالأوامر الإلهيّة ـ لتكون المسألة كلاميّة من جهة كونها بحثاً عن عوارض التكليف وهو فعل الله ـ بل هو أعمّ من أوامر الله وأوامر سائر الناس.

وأمّا عدم كونها من المسائل الفقهيّة ، فلأن البحث في هذه المسألة ليس عن حرمة الضدّ الخاص وعدم حرمته ، بل هو بحث عن أصل استلزام الأمر للنهي عن الضدّ الخاص ، وهو ليس بمسألةٍ فقهيّة.

وأمّا عدم كونها من المبادئ الأحكاميّة ، فلأنّ مختار القائل بذلك ـ وهو

١٥٢

السيد البروجردي (١) ـ في موضوع علم الأُصول أنّه الحجّة في الفقه (٢) ، وعليه ، يكون البحث فيه عن عوارض هذا الموضوع يعدّ من المسائل الأُصوليّة ، والبحث عن اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ الخاص ليس بحثاً عن عوارض الحجة في الفقه ، فليس من المسائل الأُصوليّة فيكون من المبادي.

وفيه : ـ بعد غضّ النظر عن المبنى في موضوع علم الأُصول ، وعن القول بأنّ لكلّ علم مبادئ أحكاميّة علاوةً على المبادئ التصوريّة والتصديقيّة ـ إن كون المسألة من مسائل علم الأُصول يدور مدار انطباق تعريفه عليها ، فإنْ وقعت نتيجة البحث في طريق استنباط الحكم الشرعي ، فالمسألة أُصوليّة وإلاّ فلا ، وهنا عند ما نبحث عن الاستلزام وعدمه ، فإنّ نتيجته حرمة الضدّ بناءً على الاستلزام وعدم حرمته بناءً على عدمه ... وإذا ترتّبت هذه الثمرة الفقهيّة فالمسألة أُصوليّة ، لأنّها نتيجة فقهيّة ترتّبت على البحث مباشرةً.

وأيضاً ، فللبحث ثمرة أُخرى لكن مع الواسطة ، وهي فساد العمل إن كان عباديّاً بناءً على الحرمة.

ولا يخفى أنّ الحرمة المترتّبة إنّما هي حرمة تبعيّة ، لعدم كون المفسدة في متعلّقها وهو الصّلاة مثلاً ، بل لأنّ الصّلاة ـ إذا اقتضى وجوب الإزالة النهي عنها ـ تكون حينئذ مفوّتة لمصلحة الإزالة ، فكانت حرمة الصّلاة تبعيّة ، وإلاّ فلا ريب في وجود المصلحة فيها نفسها.

__________________

(١) نهاية الأُصول : ١٨٩.

(٢) نهاية الأُصول : ١١.

١٥٣

المقام الثاني :

في اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه العام

والمراد من «الضدّ العام» هو «الترك» أي عدم المأمور به ، وهل يتعلّق التكليف بالعدم حتى يبحث عن دلالة الأمر بالشيء على النهي عن عدمه وتركه؟

إنّ هذا العدم ليس بالعدم المطلق ، بل هو عدم مضافٌ إلى الوجود ، وقد جرى على الألسنة أنّ للعدم المضاف إلى الوجود حظّاً من الوجود ، وعليه ، فهو قابل لأنْ يتعلّق التكليف به ... لكنّ الأُستاذ دام بقاه لا يوافق على ذلك ، ومختاره أنّ العدم لا يقبل الاتّصاف بالوجود عقلاً مطلقاً ... إلاّ أنّه يرى جريان البحث بالنظر العرفي ، والخطابات الشرعيّة ملقاة إلى العرف ، لأنّ أهل العرف يرون للعدم القابليّة لتعلّق التكليف ، ومن هنا كانت تروك الإحرام ـ وهي أُمور عدميّة ـ موضوعات للأحكام الشرعيّة ، وكذا غيرها من الأُمور العدميّة ، ولا وجه لرفع اليد عن أصالة الظهور فيها وتأويلها إلى أُمور وجوديّة.

هذا ، وفي المسألة قولان ، ثم اختلف القائلون بالاقتضاء ، بين قائل بأن الأمر بالشيء عين النهي عن نقيضه ، وهو المستفاد من كلام صاحب (الفصول) وقائل بأنه يقتضيه ويدلّ عليه بالدلالة التضمّنيّة ، وهو المستفاد من كلام صاحب (المعالم) وقائل بدلالته عليه بالدلالة الالتزاميّة العقليّة ، وعليه صاحب (الكفاية).

أدلّة الأقوال :

ويتلخّص مستند صاحب (المعالم) (١) في : أن الوجوب مركّب من طلب الفعل والمنع من الترك ، وإذا كان مركّباً من الجزءين فدلالة الأمر على المنع من الترك دلالة لفظيّة تضمّنيّة.

__________________

(١) معالم الدين : ٦٣.

١٥٤

فردّ عليه صاحب الكفاية (١) : بأنّ الوجوب ليس إلاّ مرتبةً واحدةً من الطلب ، فالطلب بسيط وليس بمركّب ، غير أنّها مرتبة أكيدة في قبال الاستحباب ، لأنّ الوجوب إمّا هو أمر اعتباري وامّا هو الإرادة ، فإنْ كان هو الإرادة ، فإنّها وإنْ كانت تشكيكيّة لكنّها بسيطة لا تركيب فيها ، وإن كان أمراً اعتباريّاً ، فالأُمور الاعتباريّة كلّها بسائط. وكيفما كان ، فإنّ المبنى باطل ، فما بنى عليه باطل كذلك.

ثم قال : وإذا كان حقيقة الوجوب هي المرتبة الشديدة من الطلب ، فإنّ الآمر إذا التفت إلى نقيض متعلَّق طلبه ، فلا ريب في كونه مبغوضاً له ومورداً للنهي منه ... فكان النهي عن النقيض ـ وهو الترك ـ من لوازم المرتبة الأكيدة. وقد أشار بكلمة «الالتفات» إلى أنّ هذا اللزوم عقلي ، وليس لزوماً بيّناً بالمعنى الأخص.

وهذا دليل صاحب (الكفاية) على دلالة الأمر بالشيء على مطلوبيّة ترك تركه بالملازمة العقليّة.

ثمّ تعرّض لرأي صاحب (الفصول) وأفاد بأنّه إذا ثبتت الملازمة ثبت الاثنينيّة ، فالقول بكون الأمر بالشيء عين النهي عن تركه باطل.

اعتراض المحقّق الاصفهاني

وللمحقّق الأصفهاني تعليقة مطوّلة في هذا الموضع ، وحاصل كلامه (٢) هو : إنّ بحثنا في الإرادة التشريعيّة ، ووزانها وزان الإرادة التكوينيّة ، فإن كان المراد من قوله : الشوق في مورد الوجوب أشدّ منه في مورد الاستحباب ، أنّه يعتبر في الوجوب وصول المصلحة إلى حدّ اللّزوم ، فهذا صحيح ، سواء في المراد التكويني أو التشريعي. وإنْ كان المراد : إنّ الإرادة المؤثرة في تحقّق المراد هي في

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٣٣.

(٢) نهاية الدراية ٢ / ٢٠٥.

١٥٥

مورد الواجبات أشدُّ وأقوى منها في مورد المستحبات ، فهذا باطل ، لأنّ ما به التفاوت بين الواجب والمستحب هو الغرض وليس الإرادة ... ولا اختلاف في مرتبة الإرادة.

وعلى الجملة ، فإنّه ليس الوجوب المرتبة الشديدة من الإرادة والمستحب المرتبة الضعيفة منها ، بل إنّ إرادة المريد إن تعلّقت بأمرٍ جائز الترك عنده فهو المستحب ، وإنْ تعلّقت بأمرٍ غير جائز الترك عنده فهو الواجب ... ومن الواضح أنّ جواز ترك الشيء وعدم جوازه يتبع الغرض منه ... وإلاّ ، فالإرادة كيفيّة نفسانيّة ، والكيفيّات النفسانيّة ليس لها مراتب.

مناقشة الأُستاذ

وأورد عليه الأُستاذ : بأنّ الوجوب إن كان من الأُمور الاعتباريّة ، فالمراد أنّ المعتبر في الوجوب هو المرتبة الأكيدة من الطلب ، كما أنّ المعتبر في الاستحباب هو المرتبة الضعيفة منه ، فالشدّة والضعف يرجعان إلى المعتبر لا الاعتبار حتّى يقال بأنّه لا حركة في الاعتباريات. وإن كان هو الإرادة والكيف النفساني ، فالشدّة والضعف في الإرادة واختلاف المرتبة فيها أمر واضح ... فاعتراضه على صاحب (الكفاية) غير وجيه.

وأمّا دعواه : بأنّ الاختلاف بين الوجوب والاستحباب ناشئ من اختلاف الغرض منهما لا من اختلاف المرتبة في الإرادة ، فمندفعة : بأنّه يستحيل تخلّف الإرادة عن الغرض ، سواء في أصله وفي مرتبته ، إذ النسبة بينهما نسبة المعلول إلى العلّة ، وعلى هذا ، فإذا كان الغرض في الواجب آكد كانت الإرادة فيه كذلك لا محالة ، فقوله : بأنّ الاختلاف بين الاستحباب والوجوب هو بالغرض لا باختلاف المرتبة في الإرادة ، مردود. اللهمّ إلاّ بأن يقال بعدم تبعيّة الإرادات

١٥٦

للأغراض ، أو يقال بتبعيّتها لها في الأصل دون المرتبة ، وكلاهما باطل.

التحقيق في حقيقة الوجوب

ثمّ قال الأُستاذ : لكنّ التحقيق في حقيقة الوجوب والاستحباب هو عدم كونهما مرتبة من الإرادة ، بل هما عنوانان اعتباريان انتزاعيّان ، فصحيح أنّه يوجد في الوجوب شوق أكيد ، إلاّ أنّه ليس الوجوب ، وإنّما ينتزع عرفاً منه الوجوب ، وفي الاستحباب يوجد الشوق الضّعيف ، لكنّه المنشأ لانتزاع العرف الاستحباب ، وكذا الحال في الحرمة والكراهة ، ففي الحرمة مثلاً توجد المبغوضيّة الشديدة وليست هي الحرمة ، بل إنّها منتزعة منها عرفاً.

فما ذهبوا إليه من أنّ الوجوب هو المرتبة الأكيدة من الإرادة ، غير صحيح ، ويؤكّد ذلك أنّه لو كان كذلك لجاز حمل الوجوب على الإرادة ، وهو غير جائز كما هو واضح.

النظر في اشكال الكفاية على الفصول

ثمّ إنّ إيراد المحقّق الخراساني على نظريّة العينيّة بين الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه العام ، بأنّ بينهما ملازمة والملازمة تقتضي المغايرة ، فيه :

أوّلاً : إنّه منقوض باعترافه بالعينيّة في بحوثه المتقدّمة ، وذلك حيث قال ما نصّه :

«نعم ، لا بدّ أن لا يكون الملازم محكوماً فعلاً بحكم آخر على خلاف حكمه ، لا أن يكون محكوماً بحكمه ، وهذا بخلاف الفعل الثاني ، فإنّه بنفسه يعاند الترك المطلق وينافيه لا ملازم لمعانده ومنافيه ، فلو لم يكن عين ما يناقضه بحسب الاصطلاح مفهوماً لكنّه متّحد معه عيناً وخارجاً ، فإذا كان الترك واجباً فلا محالة

١٥٧

يكون الفعل منهيّاً عنه قطعاً» (١).

فهو هناك يعترف بأنّ الوجوب عين ترك الترك مصداقاً وإنْ اختلفا مفهوماً ، فكيف ينفي ذلك هنا؟ والعصمة لأهلها.

وثانياً : إنّ بحثنا هو في المغايرة المصداقيّة لا المفهوميّة ، وإثبات الملازمة لا ينتج المغايرة والاثنينيّة الواقعيّة ، فيصحّ القول بأنّ الأمر بالشيء يلازم النهي عن الضدّ وهما وجوداً واحد ... وهذا الإشكال من المحقّق الاصفهاني.

مختار الميرزا في المقام

وتعرّض الميرزا للآراء في المقام ، ففصّل في القول بالعينيّة ، وردّ على القول بالدلالة التضمّنيّة ، ولم يستبعد القول بالدلالة بالالتزام بنحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخص ، ثمّ نصّ على أنّها باللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ ممّا لا إشكال فيه ولا كلام.

أمّا التفصيل في العينيّة فقد قال : ربّما يدّعى أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه ، بتقريب : إنّ عدم العدم وإنْ كان مغايراً للوجود مفهوماً إلاّ أنّه عينه خارجاً ، لأن نقيض العدم هو الوجود ، وعدم العدم عنوان ومرآة له ، لا أنّه أمر يلازمه ، فطلب ترك الترك عين طلب الفعل ، والفرق بينهما إنّما هو بحسب المفهوم فقط.

قال : وفيه إنّ محلّ الكلام هو أنّه إذا تعلّق الأمر بشيء فهل هو بعينه نهي عن الترك أو لا ، لا أنّه إذا كان هناك أمر بالفعل ونهى عن الترك فهل هما متّحدان أو لا؟ والدليل إنّما يثبت الاتّحاد في الفرض الثاني لا الأوّل ، بداهة أنّ الآمر بالشيء ربّما يغفل عن ترك تركه فضلاً عن أن يأمر به ، فلا يبقى لدعوى الاتّحاد فيما هو محلّ الكلام مجال أصلاً.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٢١.

١٥٨

وأمّا القول بالدّلالة التضمّنيّة ، فقد ردّ عليه ببساطة الوجوب وعدم تركّبه.

وأمّا القول بالدلالة الالتزاميّة ، فذكر أنّها بنحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخص ، بأنْ يكون نفس تصوّر الوجوب كافياً في تصوّر المنع عن الترك ، ليست ببعيدة ، وعلى تقدير التنزّل عنها فالدلالة الالتزاميّة باللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ ممّا لا إشكال فيه ولا كلام (١).

النظر فيه

وقد أشكل عليه : بأنّ عدم استبعاد الدلالة بنحو اللّزوم البيّن بالمعنى الأخصّ ، والقول بأنّ الآمر قد يغفل عن ترك ترك أمره فضلاً عن أن يأمر به ، تناقض ، لأنّه لو كانت الدلالة كذلك لم يتصوّر غفلة الآمر.

قال الأُستاذ :

وعمدة الإشكال هو التفصيل في العينيّة ، بأنْ وافق عليها إن وجد أمر بالفعل ونهى عن الترك وإلاّ فالملازمة ، وذلك : لأنّه إن كان ترك الترك عين الفعل وطلبه عين طلبه فهو كذلك دائماً ، وإن كان ملازماً له فهو دائماً كذلك ، إذ حقيقة المعنى الواحد ـ وهو ترك الترك ـ لا تختلف ، ولا يعقل أن يكون المعنى الواحد عين المعنى الآخر في تقديرٍ وملازماً له في تقدير آخر.

مختار السيد الخوئي والشيخ الأُستاذ :

وذهب السيّد الخوئي إلى عدم الاقتضاء ، وهو مختار الشيخ الأُستاذ ، وإنْ خالفه في بعض كلماته في ردّ العينيّة.

قال الأُستاذ بالنسبة إلى نظرية العينيّة : أمّا بناءً على أنّ الأمر هو الإرادة المبرزة والنهي هو الكراهة المبرزة ، كما عليه المحقّق العراقي ، فبطلان العينيّة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ٦ ـ ٧.

١٥٩

واضح ، إذ الإرادة لا تكون عين الكراهة. وكذا بناءً على أنّ الأمر هو البعث والنهي هو الزجر ، إذ الاتّحاد بينهما غير معقول.

وأمّا أن يكون طلب الفعل عين طلب ترك الترك ، فالتحقيق : أنّ ترك الترك من المفاهيم التي يصنعها الذهن وليس لها ما بإزاء في الخارج ولا منشأ انتزاع ، فقول المحقّق الخوئي : بأنّه عنوان انتزاعي منطبق على الوجود ، غير صحيح ، لأنّ الصدق دائماً يكون في عالم الخارج ، ومن هنا قسّموا الحمل إلى الأوّلي المفهومي وإلى الشائع بلحاظ الوجود ، فترك الترك لا مصداقيّة له ، ولو قال بأنّ مصداقه الوجود ، فمن المحال كون المعنى الوجودي مصداقاً للمعنى العدمي ، ودعوى انتزاعيّته أيضاً باطلة ، لأنّ الانتزاع بلا منشأ له محال ، بل لا بدّ للأمر الانتزاعي من منشأ للانتزاع يكون متّحداً معه وجوداً ، كما في الفوقيّة والسقف ، وقد تقدّم أنّ ترك الترك لا حظّ له من الوجود الخارجي ، بل إنّه من صنع الذهن فقط ... والعجب أنّه قد أشار إلى هذا المعنى في كلماته حيث قال : «وليس له واقع في قبالهما وإلاّ لأمكن أن يكون في الواقع أعدام غير متناهية ، فإنّ لكلّ شيء عدماً ولعدمه عدم وهكذا إلى أن يذهب إلى ما لا نهاية له».

فظهر : أن ترك الترك ليس إلاّ من صنع الذهن ، فما ذهب إليه الميرزا والسيد الخوئي غير تام ، وكذا كلام الكفاية من أنّ بينهما اتّحاداً مصداقيّاً.

وأمّا قول (المحاضرات) بعد ما تقدّم : «فالقول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه في قوّة القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي الأمر بذلك الشيء ، وهو قول لا معنى له أصلاً» ففيه : إنّه لا يكون كذلك ، لأنّهما ـ وإن اتّحدا مصداقاً ـ مختلفان مفهوماً ، والقائل بالعينيّة لا يدّعي العينيّة المفهوميّة ، والسيد الخوئي أيضاً يرى تعدّد المفهوم ، فلا معنى لكلامه المذكور.

١٦٠