تحقيق الأصول - ج ٣

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-39-2
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٣٩٩

تتمّة

مقدّمة المستحب

قال المحقّق الخراساني :

مقدّمة المستحب كمقدّمة الواجب فتكون مستحبةً لو قيل بالملازمة.

أقول :

إنّه بناءً على الملازمة بين المقدّمة وذيها ، لا يرى العقل فرقاً بين الطلب الإلزامي والطلب غير الإلزامي ، فبمجرّد وجود المقدميّة وتوقّف ذي المقدّمة عليها ، يكون مقدّمة المستحب مستحبّاً ، كما يكون مقدّمة الواجب واجباً.

مقدّمة الحرام والمكروه

قال المحقّق الخراساني :

وأمّا مقدّمة الحرام والمكروه ، فلا تكاد تتّصف بالحرمة أو الكراهة ، إذ منها ما يتمكّن معه من ترك الحرام أو المكروه اختياراً ... (١).

أقول :

حاصل كلامه قدس‌سره هو التفصيل ، لأنّ المقدّمة على قسمين :

أحدهما : المقدّمة التي يتمكّن المكلّف مع فعلها من ترك الحرام أو المكروه ، لعدم كونها علّةً تامّةً ولا جزءاً أخيراً للعلّة التامّة.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٢٨.

١٢١

الثاني : المقدّمة التي لا يتمكّن المكلّف معها من ذلك ، لكونها علّةً تامّة أو جزءاً أخيراً لها.

ففي القسم الأول لا تكون المقدّمة حراماً أو مكروهاً ، إذ مع الفرض المذكور لا وجه لذلك ، لعدم كونها واجدةً لملاك المقدّميّة وهو التوقّف ، بل يكون إتيانه لذي المقدّمة المحرَّم مستنداً إلى سوء اختياره ، بخلاف القسم الثاني.

وبعبارة أُخرى : إنّه في كلّ موردٍ تتوسّط الإرادة بين المقدّمة وذيها ، فلا تترشّح الحرمة أو الكراهة إلى المقدّمة ، وفي كلّ موردٍ لا توسط للإرادة بينهما ، كما في الأفعال التوليديّة ، حيث النسبة بين المقدّمة وذيها نسبة العلّة التامّة والمعلول ، فالمقدّمة تكون محرّمة أو مكروهةً كذلك.

وقال المحقّق النائيني (١)

بأنّ المكلّف تارةً : عنده صارف يصرفه عن ارتكاب الحرام وأُخرى :

لا صارف عنده. فإنْ كان عنده صارف عن الحرام ، فلا تتّصف المقدّمة بالحرمة ، لعدم ترتّب أثر عليها.

وأمّا إن لم يكن عنده صارف فهنا صور :

(الصورة الأُولى): أن يتعدّد المقدّمة وذو المقدّمة عنواناً ويتّحدا وجوداً ، كصبّ الماء للوضوء حالكون الماء مغصوباً ، فقد تحقّق عنوانان أحدهما : صبّ الماء وحكمه الوجوب والآخر : الغصب وحكمه الحرمة ، لكنّهما متّحدان وجوداً ، فالمورد من صغريات اجتماع الأمر والنهي ، وتكون المقدّمة محرّمةً بالحرمة النفسيّة ـ لا الغيريّة ـ لأنّ النهي حينئذٍ يتوجّه إلى نفس الفعل التوليدي.

(الصورة الثانية) أن يتعدّد المقدّمة وذو المقدّمة عنواناً ووجوداً :

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٣٦١.

١٢٢

فإنْ كانت النسبة بين المقدّمة وذيها نسبة العلّة التامّة إلى المعلول ولا توسّط للإرادة ، فالمقدّمة محرّمة حرمةً نفسيّة ـ مع كونها مقدّمة ـ لأنّها هي متعلّق القدرة والاختيار من المكلّف ، وأمّا ذو المقدّمة فلا قدرة على تركه فلا تتعلّق به حرمة.

وإنْ لم تكن النسبة بينهما كذلك ، فهنا صورتان :

١ ـ أن يأتي بالمقدّمة بقصد التوصّل بها إلى الحرام ، فيكون القول بحرمتها مبنيّاً على القول بحرمة التجرّي ، فعلى القول بذلك تكون المقدّمة محرّمةً بالحرمة النفسيّة ، وإلاّ فهي حرام بالحرمة الغيريّة.

٢ ـ أن يأتي بها لا بقصد ذلك ، فلا تكون صغرى للتجرّي ، ولا وجه للحرمة حينئذٍ ، لبقاء الاختيار والقدرة على ترك الحرام كما هو المفروض.

تحقيق الأُستاذ في هذا المقام

فقال الأُستاذ دام بقاه : إنّ مقتضى القاعدة ـ قبل كلّ شيء ـ تعيين المبنى في حقيقة النهي ، وأنّه هل طلب الترك أو أنّه الزجر عن الفعل؟

فعلى القول بوحدة الحقيقة في الأمر والنهي ، وأن كليهما طلب ، غير أنّ الأوّل طلب للفعل والثاني طلب للترك ـ كما هو مختار صاحب الكفاية ـ يتم التفصيل الذي ذهب إليه ، لأنّ ما ليس علّةً تامّةً ولا جزءاً أخيراً لها لا يتعلّق به طلب الترك ، فلا يكون محرّماً بالحرمة الغيريّة ، لأنّه غير واجد للملاك وهو المقدمية والتوقّف ، لأنّ ما له دخل في ترك الحرام هو الجزء الأخير من العلّة التامّة ، أمّا غيره من الأجزاء فلا دخل له في تحقّق الحرام.

وبهذا البيان يظهر الفرق بين مقدّمة الواجب ومقدّمة الحرام ـ مع كون كليهما طلباً على المبنى ـ فإن مقدّمات الواجب كلّ واحدة منها دخيل في تحقّق الواجب ، فكلّ خطوة خطوة من طي الطريق للحج واجب ، بخلاف مقدّمات الحرام إذ الدخيل ليس إلاّ الجزء الأخير.

١٢٣

وهنا يواجه المحقّق الخراساني مشكلةً يتعرّض لها بعنوان «إن قلت» وحاصلها : إنّ الإرادة علّة تامّة للحرام ، فلا بدّ وأن تكون منهيّةً عنها فهي محرمة. ثمّ يجيب بأنّ الإرادة غير إرادية ، فلا يتعلّق بها التكليف لا النفسي ولا الغيري ، وإلاّ لتسلسل.

فهذا توضيح مختار الكفاية.

فأشكل عليه الأُستاذ بإشكالين :

أحدهما : إنّ حقيقة النهي هو الزجر وليس طلب الترك.

والثاني : إنّ الإرادة يتعلّق بها التكليف ، لكون أفعالنا اختياريّةً بالعرض.

أقول :

لكنّهما اشكالان مبنائيّان كما لا يخفى.

هذا بالنسبة إلى كلام المحقّق الخراساني.

وأمّا بالنسبة إلى كلام الميرزا ، فقد أفاد الأُستاذ :

أمّا ما ذكره في الصّورة الأُولى ـ وهي ما إذا كان للمكلّف صارف عن الحرام ـ ففيه نظر ، لأنّ مقتضى قانون الملازمة ـ بناءً على القول به ـ هو الحكم بحرمة المقدّمة الموقوف عليها فعل الحرام حرمةً غيريّة ، سواء وجد الصّارف عن الحرام أو لا.

وأمّا ما ذكره في الصّورة الثانية ـ من سراية الحرمة إلى متعلّق الأمر فيما إذا كان العنوانان موجودين بوجودٍ واحد ـ فتامٌّ من حيث الكبرى ، إلاّ أنّ المورد ليس من صغرياتها ، لأنّ إجراء الماء على اليد غير متّحد وجوداً مع جريانه على الأرض المغصوبة ، بل الجريان عليها أثر لإراقة الماء على اليد بعنوان الغسل.

وأمّا ما ذكره في الصّورة الثالثة ـ من عدم سراية الحرمة من ذي المقدّمة إلى المقدّمة ، لكون ذي المقدّمة خارجاً عن القدرة في حال عدم توسط الإرادة بينهما ـ

١٢٤

ففيه : بعد غضّ النظر عن اختلاف كلماته في هذا المورد ، إنّ القدرة على المسبّب موجودة ، لوجود القدرة على سببها الذي هو مقدّمة وجوديّة لذي المقدّمة ، وحينئذ ، فالذي يحرم بالحرمة النفسيّة هو ذو المقدّمة ، أمّا المقدّمة فلا مفسدة ذاتية لها وإنْ كانت جزءاً أخيراً للعلّة التامّة ، فتكون محرّمةً حرمة غيريّة.

وأمّا ما ذكره في الصّورة الرابعة ـ وهي المورد الذي لا تكون المقدّمة فيه علّةً تامّةً ، وقد أتى بها بقصد التوصّل إلى الحرام فهي على القول بحرمة التجرّي حرام نفسي ، وعلى القول بعدم حرمته فهي حرامٌ حرمةً غيرية ـ ففيه :

أمّا التجرّي ، فلا حرمة شرعيّة له ، وإنّما يستتبع استحقاق العقاب بمناط أنّه خروج على المولى. وأمّا القول بالحرمة الغيريّة بناءً على عدم حرمة التجرّي ، فالمفروض هنا هو القدرة على ترك الحرام مع الإتيان بالمقدّمة ، فلا يتحقّق مناط الحرمة الغيريّة وهو التوقّف أو المقدميّة.

وأمّا ما ذكره في الصّورة الخامسة ـ من عدم حرمة المقدّمة ، إنْ لم تكن علةً تامةً ولم يؤت بها بقصد التوصّل للحرام ـ فتام بلا كلام.

فالحق في المسألة

هو التفصيل بين مقدّمة الواجب ـ بناءً على القول بوجوبها ـ ومقدّمة الحرام ، فإن مقدّمات الواجب تتّصف كلّها بالوجوب ، لواجدية كلّ واحدة منها لملاك الوجوب الغيري ، وهو توقف ذي المقدّمة عليها ، بخلاف مقدّمة الحرام ، فإنّ ذا المقدّمة إنّما يتحقّق بتحقّق المقدّمة الأخيرة ، وأمّا غيرها من المقدّمات فلا أثر لها ، لأنّ ملاك المقدمية غير متوفّر إلاّ في الأخيرة ، فتكون هي وحدها المحرّمة بالحرمة الغيريّة ، بناءً على ثبوت الملازمة.

هذا تمام الكلام في مبحث المقدّمة بجميع أقسامها.

ويقع الكلام في مبحث الضد.

١٢٥
١٢٦

مبحثُ الضدّ

١٢٧
١٢٨

. مقدّمة في بيان المراد من ألفاظ العنوان

إنّ عنوان البحث هو : الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه أو لا؟

في هذا العنوان ألفاظ ، فما المراد منها :

(الأمر) ليس المراد به مادّة الأمر ولا صيغته ، بل المراد هو الطلب المبرز ، بأيّ مبرز لفظي أو فعلي كالتحريك عملاً ، أو الإشارة باليد وغيرها ....

فهذا هو المراد ، لأنّه إنْ أريد خصوص مادّة الأمر أو صيغته ، كان البحث لفظيّاً ، وتكون دلالة الأمر على النهي لفظيّة ، مطابقية أو تضمّنيّة أو التزاميّة ، ولكنّ البحث أعم ، ويدخل فيه الدلالة العقليّة أيضاً ، فيكون المراد من الأمر هو الأعمّ من الطلب اللّفظي وغيره.

و (الاقتضاء) لفظي تارةً وعقلي أُخرى ، والعقلي ينشأ تارةً : من مقدميّة ترك أحد الضدّين لوجود الآخر ، وأُخرى : من الملازمة بين وجود أحدهما وعدم الآخر ... والاقتضاء اللفظي هو الدلالة اللفظيّة بأقسامها الثلاثة.

والمراد من الاقتضاء هو الأعمّ من اللفظي والعقلي بأقسامهما.

وسيأتي توضيحٌ لهذا قريباً.

و (النهي) ما يقابل الأمر ، فإذا كان المراد من الأمر هو الطلب المبرز الأعمّ من اللفظي وغيره ، فكذلك النّهي يكون أعم ، سواء كان حقيقته طلب الترك أو

١٢٩

الزجر عن الفعل.

و (الضد) اصطلاحان ، فلسفي وأُصولي ، أمّا في الفلسفة ، فالمراد منه الأمران الوجوديان اللذان لا يقبلان الاجتماع ، فبينهما تقابل التضاد. توضيحه : كلّ شيئين إن اشتركا في النوع القريب فهما متماثلان ، وإلاّ فإنْ لم يكونا آبيين عن الاجتماع في الوجود فهما متخالفان ، وإنْ أبيا فهما متقابلان ، فإنْ كانا وجوديين فهما ضدّان ، وإنْ كان أحدهما وجوديّاً والآخر عدميّاً فهما متناقضان. والحاصل : إنْ كان المتقابلان وجوديين ولا تلازم بينهما في التصوّر ، فهما ضدّان فلسفةً.

وأمّا في الاصطلاح الأُصولي ، فلا يشترط أن يكونا وجوديين ، ولذا يقسّم الضدّ إلى الخاص والعام وهو عبارة عن الترك.

فالمراد من «الضد» هنا هو المصطلح الأُصولي كما عرفت.

بقي أن نوضّح المراد من «الاقتضاء» بالنظر إلى المراد من «الضد» :

وذلك لأنّ ما تقدّم من أعميّة الاقتضاء من اللفظي والعقلي ، إنّما هو فيما إذا كان الأمر بالشيء مقتضياً للنهي عن الضدّ العام ، فإنّه في هذه الحالة يعقل أن يكون الاقتضاء لفظيّاً ، فقيل : بأنّ الأمر بالشيء يدلّ بالمطابقة على النهي عن تركه ، وقيل : بالتضمّن ، وقيل : بالالتزام من جهة الملازمة بينهما باللزوم البيّن بالمعنى الأخص ـ أيْ صورة عدم انفكاك تصوّر الملزوم عن تصوّر الملازم ـ فإنّه متى كان اللزوم كذلك فالدلالة التزاميّة لفظيّة.

أمّا إذا كان الأمر بالشيء مقتضياً للنهي عن ضدّه الخاص ، فلا وجه للدلالة اللفظيّة بل هي عقليّة ، لأنّ القول بأنّ الأمر بالشيء يدلّ على النهي عن ضدّه بالدلالة المطابقيّة أو التضمّنيّة أو الالتزاميّة ، مبني على أنّ الأمر عبارة عن طلب الشيء مع المنع عن تركه ، ومن الواضح أنّ الترك ضدّ عام ، لكنّ الأمر بالإزالة ليس

١٣٠

دالاًّ على النهي عن الصّلاة ـ التي هي ضدّها الخاص ـ بإحدى الدلالات المذكورة ، إذ ليس الأمر بالإزالة عين النهي عن الصّلاة ، ولا أنّ النهي عن الصّلاة جزء للأمر بالإزالة ، ولا أن بينهما ـ أي مطلوبيّة الازالة ومبغوضيّة الصّلاة ـ اللزوم البيّن بالمعنى الأخص ، لوضوح انفكاك تصوّر الصّلاة عن تصوّر الإزالة.

وتلخّص ، أن لا مجال لشيء من الدلالات اللفظيّة في الضدّ الخاص.

فقد يقال باقتضاء الأمر بالشيء على النهي عن ضدّه الخاص اقتضاء عقليّاً ، عن طريق كون ترك الضدّ الخاص مقدّمةً لوجود المأمور به ، بأن يكون وجود الإزالة موقوفاً على عدم الصّلاة ، بناءً على وجوب مقدّمة الواجب ، بمعنى : أنّ الشارع لمّا أمر بإزالة النجاسة عن المسجد ، فإن أمره بذلك يقتضي وجوب عدم الصّلاة ، ووجوب عدم الصّلاة يقتضي النهي عنها.

فهذا طريقٌ لاقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه الخاص عقلاً.

وطريق آخر هو : دعوى الملازمة بين وجود الإزالة وعدم الصّلاة ، ببيان : أنّه إذا وجبت الإزالة كان عدم الصّلاة ملازماً لوجود الإزالة ، ولمّا كان المتلازمان متّفقين حكماً كان عدم الصّلاة واجباً.

وتفصيل الكلام في مقامين :

الأوّل :

١ ـ في اقتضاء الأمر للنّهي عن الضد الخاص

١ ـ عن طريق المقدميّة

والبحث الآن في الطريق الأوّل ... وفيه أقوال خمسة :

١ ـ المقدميّة مطلقاً ، أي : أنّ وجود أحد الضدّين مقدّمة لعدم الآخر ، وعدمه

١٣١

مقدّمة لوجوده.

٢ ـ عدم المقدميّة مطلقاً ، فليس وجود أحدهما مقدّمة لعدم الآخر ولا عدمه مقدّمة لوجوده.

٣ ـ وجود أحدهما مقدّمة لعدم الآخر.

٤ ـ عدم الضدّ مقدّمة لوجود الآخر.

٥ ـ العدم مقدّمة دون الوجود ، فلا مقدميّة للوجود ، إلاّ أنّ الضدّ إن كان موجوداً فهو مقدّمة ، وإن كان معدوماً فليس بمقدّمة.

والمهم من هذه الأقوال ثلاثة :

الأول : قول المشهور بمقدميّة عدم أحد الضدّين لوجود الآخر.

والثاني : قول المتأخّرين بعدم المقدميّة مطلقاً.

والثالث : تفصيل المحقّق الخونساري بين الضدّ الموجود والضدّ المعدوم.

دليل قول المشهور

إنّ الإزالة والصّلاة ضدّان متمانعان في الوجود.

والعلّة التامّة مركّبة من وجود المقتضي ووجود الشرط وعدم المانع.

فكان عدم الصّلاة ـ المانع ـ مقدمةً لوجود الإزالة.

أجاب في الكفاية

وأجاب المحقّق الخراساني (١) : بأنّ بين الضدّين معاندة تامّة ، لكنْ بين الضدّ وعدم الضدّ الآخر كمال الملاءمة ، فالسواد والبياض متنافران ، لكنْ بين البياض وعدم السواد تلاءم ، وعليه ، فكما أنّ الضدّين في مرتبةٍ واحدة ، كذلك

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٢٩.

١٣٢

وجود أحدهما وعدم الآخر في مرتبةٍ واحدة ، وإذا ثبت الاتحاد في المرتبة ، انتفى تقدّم أحدهما على الآخر ، والحال أنّ المقدّميّة لا تكون إلاّ مع الاختلاف في المرتبة.

وفيه : إنّه قد يكون بين الشيء والآخر كمال الملاءمة ولا اتّحاد في المرتبة ، كما بين العلّة والمعلول ، فإن بين وجودهما كمال الملاءمة وهما مختلفان في المرتبة.

والحاصل : إنّ مجرّد الملاءمة بين وجود الضد وعدم الضدّ الآخر لا يوجب اتّحاد المرتبة حتى تنتفي المقدميّة.

ثمّ قال :

فكما أنّ المنافاة بين المتناقضين لا تقتضي تقدّم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر ، كذلك في المتضادّين.

أقول :

يحتمل أن يكون تكميلاً للوجه المذكور : بأنّه كما أنّ عدم السواد ـ المنافي للسّواد ـ في مرتبةٍ واحدة معه ، كذلك السواد والبياض.

أو يكون كما هو ظاهر السيد الأُستاذ (١) برهاناً آخر على عدم التمانع ، بأنْ يكون جواباً نقضيّاً ، من حيث أنّ المعاندة بين الضدّين ليست بأكثر من المعاندة بين النقيضين ، فكما لا يعقل أن يكون الوجود مقدّمةً للعدم ـ مع كمال المنافرة بينهما ـ كذلك السواد والبياض. فلو كان مجرّد المنافرة موجباً لمقدميّة أحد الشيئين للآخر ، كان وجود الشيء مقدمةً لعدم الشيء الآخر. وعلى الجملة : إنّه لو كان ملاك المقدميّة كمال المنافرة ، فإنّ وجوده في المتناقضين أقوى منه في

__________________

(١) منتقى الأُصول ٢ / ٣٤١.

١٣٣

الضدّين ، والحال أنّ المقدميّة بين المتناقضين مستحيلة.

ثمّ قال :

كيف؟ ولو اقتضى التضادّ توقّف وجود الشيء على عدم ضدّه ـ توقّف الشيء على عدم مانعة ـ لاقتضى توقّف عدم الضدّ على وجود الشيء توقّف عدم الشيء على مانعة ، بداهة ثبوت المانعيّة في الطرفين والمطاردة من الجانبين ، وهو دور واضح.

أقول

وهذا ـ مع كونه جواباً عن دليل المشهور ـ برهانٌ على عدم المقدميّة بين الضدّين كما هو مختار المحقّقين المتأخّرين. وتوضيحه : لا ريب أنّ عدم المانع مقدّمة من مقدّمات الممنوع ، فلو كان عدم أحد الضدّين من مقدّمات وجود الضدّ الآخر ، كان وجود الضدّ موقوفاً وعدم الضدّ الآخر موقوفاً عليه ، لكنّ هذه الحالة موجودة من الطرف الآخر أيضاً ، لأنّ التمانع من الطرفين ، فيكون وجود الضدّ مانعاً من عدم الضدّ الآخر ، فعدم الضدّ الآخر موقوفٌ ، ووجود الضدّ موقوف عليه ... فكان عدم الضدّ الآخر موقوفاً وموقوفاً عليه ، غير أنّ العدم شرط لوجود الضد ، ووجود الضدّ سبب للعدم ، وكون أحد الطرفين شرطاً والآخر سبباً غير مانع من لزوم الدور ، لأنّ ملاكه التوقّف ، وهو حاصل سواء كان على سبيل الشرطيّة أو السببيّة.

جواب المحقّق الخونساري

وعن المحقق الخونساري أنه أجاب عن هذا الدور : بأنّ التوقّف من طرف الوجود فعلي ، بخلاف التوقّف من طرف العدم ، فإنّه يتوقّف على فرض ثبوت المقتضي له مع شراشر شرائطه غير عدم وجود ضدّه ، ولعلّه كان محالاً ، لأجل

١٣٤

انتهاء عدم وجود أحد الضدّين مع وجود الآخر إلى عدم تعلّق الإرادة الأزليّة به وتعلّقها بالآخر حسب ما اقتضته الحكمة البالغة ، فيكون العدم دائماً مستنداً إلى عدم المقتضي ، فلا يكاد يكون مستنداً إلى وجود المانع كي يلزم الدور ... ذكره صاحب الكفاية (١) ، وتوضيحه :

إنّه لا يلزم الدور ، لكون التوقّف من أحد الطرفين فعليّاً ومن الطرف الآخر تقديريّاً ، وهذا الاختلاف كافٍ لعدم لزومه ، لأنّ الوجود الفعلي للمعلول متوقّف دائماً على فعليّة العلّة التامّة بجميع أجزائها ، من المقتضي والشرط وعدم المانع ، فإذا تحقّقت تحقّق المعلول واستند وجوده إليها ... هذا من جهةٍ. ومن جهة أُخرى : يعتبر وجود أجزاء العلّة جميعاً مع وجود المعلول وإن كانت الأجزاء مختلفةً في المرتبة ، لكنّ وجود المعلول مستند إلى جميعها ، فإذا وجدت وجد. أمّا عدم المعلول فيستند في الدرجة الأُولى إلى عدم المقتضي ثمّ إلى عدم الشرط ثمّ إلى وجود المانع ، لأنّ المراد من الشرط ما يتمّم فاعليّة الفاعل أي المقتضي ، ومن المانع ما يزاحم المقتضي في التأثير ، فلا بدّ من وجود المقتضي أوّلاً ثمّ الشرط ثمّ عدم المانع ، فلو فقد المقتضي لاستند عدم المعلول إلى عدم الشرط أو وجود المانع ، ولو فقد الشرط ـ مع وجود المقتضي ـ استند عدم المعلول إلى عدم الشرط لا إلى وجود المانع.

فالمراد من فعليّة التوقّف في طرف وجود الضدّ هو أنّ العلّة التامّة لوجوده متحقّقة ، إذ المقتضي والشّرط متحقّقان ، فهو متوقّف على عدم الضدّ.

لكنّ التوقف من طرف العدم تقديري ، لأنّ عدم الضدّ لا يسند إلى وجود الضدّ الآخر ، إلاّ إذا تحقّق المقتضي والشرط للعدم ، فكان توقّف عدم الضدّ على

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٣٠.

١٣٥

وجود الضدّ الآخر تقديريّاً ، وذلك ، لأنّ الإرادة إن تعلّقت بالصّلاة استحال تعلّقها بالإزالة ، فكان عدم الإزالة مستنداً إلى عدم المقتضي لها وهو الإرادة ، وليس مستنداً إلى وجود الصّلاة المانع عن تحقّق الإزالة ... ولو كانت هناك إرادتان تعلّقت احداهما بضدّ والأُخرى بالضدّ الآخر ، كان عدم تحقّق الضدّ الذي تعلّقت به الإرادة المغلوبة غير مستندٍ إلى وجود المانع أي الإرادة الغالبة ، بل إلى عدم قدرة الإرادة المغلوبة ، فرجع عدم الضدّ إلى عدم المقتضي.

وتلخّص : عدم لزوم الدور واندفاع الإشكال عن استدلال المشهور للقول بالمقدميّة.

رأي صاحب الكفاية

وقد سلّم المحقّق الخراساني للجواب المذكور ووافق على أنّه رافع للدور ، لكنّه قال : بأنّ هذا الجواب غير سديد ، لبقاء مشكلة لزوم توقّف الشيء على ما يصلح أن يتوقّف عليه ، قال : «لاستحالة أن يكون الشيء الصالح لأنْ يكون موقوفاً عليه الشيء موقوفاً عليه ، ضرورة أنّه لو كان في مرتبةٍ يصلح لأنْ يستند إليه ، لما كاد يصح أن يستند فعلاً إليه» (١).

وحاصله : إنّ مجرّد صلاحيّة عدم الضدّ للمانعيّة عن وجود الضدّ الآخر كافٍ للاستحالة ، لأنّه لمّا كان صالحاً لذلك كان متقدّماً رتبةً ، تقدّم المانع على الممنوع ، لكنّه في نفس الوقت متأخّر عن الضدّ الموجود لكونه معلولاً له ، فيلزم في طرف الوجود اجتماع التقدّم والتأخّر ، واجتماع المتقابلين في الشيء الواحد محال ، فالقول بتوقّف وجود الضدّ على عدم ضدّه ـ توقّف الشيء على مقدّمته ـ باطل.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٣١.

١٣٦

فظهر : إنّ صاحب الكفاية مخالفٌ للمشهور ، وأنّ جوابه عن استدلالهم يرجع إلى أنّه يستلزم اجتماع المتقابلين في الشيء الواحد ، وهو محال ، فالدور وإن اندفع بما ذكر ، لكن ملاك الاستحالة موجود.

أدلّة المحقّق النائيني على عدم المقدميّة

وأورد الميرزا على المشهور بوجهٍ آخر هو في الحقيقة أوّل أدلّته على عدم المقدميّة فقال كما في (أجود التقريرات) (١) ما حاصله : إنّ استدلالهم يستلزم انقلاب المحال إلى الممكن ، وهو محال ، فالمقدميّة محال ... وتوضيح كلامه :

إنّه لا ريب في اختلاف المرتبة بين العلّة والمعلول ، وكذا بين أجزاء العلّة ، وأنّ استناد عدم المعلول إلى كلّ جزءٍ منها مقدّم رتبةً على استناده إلى الجزء المتأخّر عنه ... كما ذكرنا من قبل. فهذه مقدّمة.

ومقدّمة أُخرى هي : إنّ المحال وجوداً محالٌ اقتضاءً أيضاً ، فلا فرق في الاستحالة بين الفعليّة والاقتضاء ، لأنّه إنْ كان المقتضي للضدّين موجوداً حصل لهما إمكان الوجود ، والمفروض أنّه محال.

وعلى هذا ، فإنّ عدم الضدّ ـ كالسّواد ـ لو كان مقدّمةً لوجود الضدّ الآخر كالبياض ، فإنّ هذه المقدميّة ليست إلاّ لمانعيّة وجود السّواد ، فكان عدمه شرطاً لوجود البياض ، وهو شرط عدمي ، لكنّ هذه المانعيّة موقوفة على أن يكون هناك ما يقتضي وجود البياض ، فيلزم اقتضاء وجود الضدّين في آنٍ واحد ، وهو محال بحكم المقدمة الثانية ، وإلاّ يلزم انقلاب المحال إلى الممكن ....

فظهر أنّ القول بالمقدميّة مستلزم للمحال ، وكلّ ما يستلزم المحال محالٌ.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ / ١٦ ـ ١٧.

١٣٧

مناقشة الدليل الأوّل

وقد ناقشه شيخنا الأُستاذ دام بقاه نقضاً وحلاًّ :

أمّا نقضاً : فبأن لازم ما ذكره انكار المانعيّة وإبطال الجزء الأخير من العلّة التامّة.

وتوضيحه : إنّه لا تتحقّق المانعيّة إلاّ مع التضادّ بين المانع والممنوع ، بأنْ يكون المانع نفسه أو أثره ضدّاً للممنوع ، وأمّا حيث لا مضادّة بينهما أصلاً فالمنع محال ، فإنْ كان نفس المانع ضدّاً فالمانعيّة متحقّقة لا محالة ، وقد تقدّم مراراً أنّ عدم المانع مقدّمة لوجود الممنوع ، لكونه الجزء الأخير للعلّة التامّة ، وإنْ كانت المانعيّة بسبب التضاد بين الممنوع وأثر المانع ، كان عدم المانع الذي هو المنشأ للأثر مقدّمة لوجود الممنوع ... وسواء كان الضدّ للممنوع هو المانع نفسه أو أثره ، فلا بدّ وأنْ يكون هناك مقتضٍ لوجوده وإلاّ لما وجد ولما تحقّقت المانعيّة ، وقد تقدّم أنّ إسناد عدم الضدّ إلى وجود المانع منوط بتماميّة المقتضي ، فثبت تحقّق المقتضي للضدّين ، وإلاّ يلزم إنكار كون عدم المانع من مقدّمات وجود الضدّ ، وهو خلاف الضرورة العلميّة.

وأمّا حلاًّ ، فإنّ كبرى استدلاله مسلّمة ، فاقتضاء المحال ـ وهو هنا اجتماع الضدّين في الوجود ـ محال بلا ريب ، لأنّه لو كان المحال قابلاً للوجود خرج عن المحاليّة الذاتية ، وهذا محال. إنّما الكلام في الصغرى وهي : أنّه لو كان عدم أحد الضدّين مقدّمة لوجود الآخر ، لزم اقتضاء المحال ... لأنّ الاستحالة الذاتية إنّما هي في اجتماع الضدّين في الوجود ، فوجود هذا مع وجود ذاك محال ، أمّا وجود كلٍّ منهما فليس بمحال ، والوجود يحتاج إلى مقتضٍ ، ووجود المقتضيين للضدّين ليس بمحال ... وتوضيحه :

١٣٨

إنّ لكلّ معلولٍ وأثر ومقتضى وجوداً فعليّاً ووجوداً بالقوّة ، فإنْ وجد المؤثّر والعلّة والمقتضي حصل له الوجود الفعلي ، والتمانع بين الضدّين إنّما يكون في الوجود الفعلي لهما لا بالوجود بالقوّة ، إذ التضادّ هو بين البياض والسّواد لا بين المقتضي للبياض والمقتضي للسّواد ، وهذه الحقيقة جارية في جميع العلل والمعاليل الطبيعيّة ، أي : إنّ الآثار والمعاليل كلّها موجودة بوجود العلل والمؤثرات الطبيعية ، مترشّحة عنها ، اللهم إلاّ المخلوق بالإرادة ، إذ يقول تعالى (إِذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١).

وتلخّص : إنّه إذا تحقّق المقتضيان كان الضدّان موجودين بالقوّة ، ولا تضادّ بين الضدّين الموجودين بالقوّة ... فثبت إمكان وجود المقتضي للضدّين ... وتطبيق الميرزا الكبرى على الصغرى غير صحيح ، فالدليل الأوّل من أدلّته ساقط.

مناقشة الدليل الثاني

والدليل الثاني : ما تقدّم سابقاً عن المحقّق الخراساني : من أنّ ملاك مقدميّة أحد الضدّين للضدّ الآخر هو التمانع في الوجود ، وإذا كان الضدّان لا يجتمعان لما ذكر ، فالنقيضان كذلك ، فيلزم أن لا يكون النقيض مقدّمة للنقيض الآخر ، لكنّ التالي باطل فالمقدّم مثله.

وأجاب عنه الأُستاذ : بأنّ المقدميّة لا تكون إلاّ مع التعدّد في الوجود ، ولذا قلنا بأنّ أجزاء الماهيّة ليست مقدمةً لوجودها ، لأنّ الأجزاء عين الكلّ ، لكنّ المهم هو أنّه لا تعدّد في الوجود في النقيضين ، إذ العدم نقيض الوجود لكنّه عدم نفس ذلك الوجود ، وكذا العكس ، فلا يعقل أنْ يكون أحد النقيضين وهو الوجود مقدمةً لنقيضه وهو عدم الوجود ، لأنّه يستلزم صيرورة الشيء مقدّمةً لنفسه ، إذ لا تعدّد

__________________

(١) سورة يس : ٨٢.

١٣٩

هناك لا مفهوماً ولا واقعاً ، وهذا هو الملاك.

وأمّا توقف الوجود على عدم العدم فكذلك ، لأنّه وإنْ كان الوجود مغايراً لعدم العدم مفهوماً ، لكنّهما في الواقع شيء واحد ، لتحقّق عدم العدم بالوجود ... فالمقدميّة ممنوعة.

والحاصل : إنّ قياس النقيضين على الضدّين مع الفارق ، لوجود التعدّد في الضدّين ، فالمقدميّة متصوّرة بينهما ، دون النقيضين ، لأنّهما إمّا واحد مفهوماً ومصداقاً وامّا واحد مصداقاً وإنْ تعدّدا مفهوماً.

مناقشة الدليل الثالث

وأقام الميرزا دليلاً ثالثاً على امتناع مقدميّة الضدّ للضدّ الآخر ، وهو يبتني على أُمور :

الأوّل : إنّ الضدّين في مرتبةٍ واحدة ، إذ لا عليّة ومعلوليّة بينهما ولا شرطية ومشروطيّة ، حتى يختلفا في المرتبة.

والثاني : إن نقيض الشيء في مرتبة الشيء ، لأنّ نقيض الوجود هو عدم ذاك الوجود لا مطلق العدم.

والثالث : إنّ النقيضين والضدّين لمّا كانا في رتبةٍ واحدة ، كان العدم المتّحد رتبةً مع وجود الضدّ ، متّحداً رتبةً مع وجود الضدّ الآخر ، فهذا العدم في رتبة ذلك الضدّ وعدم ذاك الضدّ في رتبة هذا الضد.

ونتيجة ذلك : استحالة مقدميّة عدم الضدّ لوجود الآخر ، لتوقّف ذلك على الاختلاف في المرتبة ، وقد تبيّن عدمه.

قال الأُستاذ دام ظله : وفي هذه الأُمور نظر :

أمّا الأمر الأوّل ، فدعوى بلا دليل.

١٤٠