تحقيق الأصول - ج ٣

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 964-2501-39-2
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٣٩٩

لانتزاع لوازمها منها ، فيكون اللاّزم مجعولاً بتبع جعل الماهيّة ... وإذا كان قابلاً للجعل كان مجرى للاستصحاب (١).

قال الأُستاذ

إن أراد من الجعل التبعي أنّ وجوب المقدّمة مجعول بجعل مستقل غير أنّه لا ينفك عن وجوب ذيها ، فهو مجعولٌ بالجعل البسيط ، فهذا ينافي نفيه للجعل البسيط.

وإن أراد أنّ الجعل يتعلّق بوجوب المقدّمة بالعرض ، كما أنّ الزوجيّة مجعولة بجعل الأربعة ، والفوقيّة مجعولة بجعل الفوق ، ففيه : إنّه ليس كذلك ، لأنّ هناك إرادة متعلّقة بالمقدّمة وإرادة أُخرى متعلّقة بذي المقدّمة ، فتلك غيريّة وهذه نفسيّة ، ولكلٍّ جعل على حده ، وليس المقدّمة مجعولةً بجعل عرضي.

فالحق : إنّ المقدّمة قابلة لتعلّق الجعل بالجعل البسيط ، فلجريان الأصل فيها مجال ، بالبيان الذي ذكرناه.

وقال آخرون ـ منهم السيّد البروجردي (٢) ـ بعدم جريان الأصل ، من جهة أنّ وجوب المقدّمة في حال وجوب ذيها قهري ذاتي ، وما كان كذلك فلا يقبل الجعل ، وما لا يقبله فلا يجري فيه الأصل.

قال الأُستاذ

ما المراد من أنّ «وجوب المقدّمة ذاتي وقهري بالنسبة إلى ذي المقدّمة»؟ إن كان المراد أنّه إذا تحقّق الوجوب لذي المقدّمة ، ثبت للمقدّمة بصورةٍ قهريّة ، فإنّ هذا يتم في الإرادة دون الوجوب ، إذ الإرادة إذا تحقّقت بالنسبة إلى

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٢) نهاية الأُصول : ١٨١.

١٠١

ذي المقدّمة تتحقّق قهراً بالنسبة إلى مقدّمته ، لكنّ الإرادة من الصفات ، والوجوب من الأفعال ، فتلك الحالة بالنسبة إلى الإرادة متصوّرة وواقعة ، أمّا الوجوب فيحتاج إلى موجب ، وهو فعل اختياري للمولى ، يمكن أن يجعله وأن لا يجعله ، بخلاف الإرادة.

وأشكل على الاستصحاب هنا ـ واعتمده في المحاضرات (١) ـ بأنّه لا أثر له ، بعد استقلال العقل بلزوم الإتيان بالمقدّمة ، فلا معنى لجريانه.

وأجاب المحقّق الأصفهاني : بأنّ اعتبار الأثر للاستصحاب إنّما هو حيث لا يكون المستصحب نفسه حكماً مجعولاً شرعيّاً ، وإلاّ فلا حاجة إلى اشتراط الأثر.

قال الأُستاذ : لكنّ أثر جعل الحكم هو تحريك العبد ، فيجعل الوجوب مثلاً لأن يكون داعياً له للفعل ، ومع وجود الداعي ـ وهو اللاّبدية العقليّة ـ لا يبقى للوجوب داعويّة للعبد من أجل التعبّد ، فإنْ كان للوجوب أثر آخر فهو وإلاّ فلا حاجة إليه.

هذا تمام الكلام في الاستصحاب.

وأمّا البراءة :

فإنّ العقليّة غير جارية ، لأنّ مجراها هي الشبهات الحكميّة للتكاليف الإلزاميّة ، وعلى القول بوجوب المقدّمة ، فإنّ تركها لا يستتبع استحقاق العقاب ، فلا موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وأمّا الشرعيّة ، فإن قلنا : بأنّ وجوب المقدّمة من لوازم الماهيّة ، وهي غير قابلة للجعل ، فلا يجري حديث الرفع في المقدّمة ، إذ ما لا يقبل الجعل لا يقبل

__________________

(١) محاضراتٌ في أُصول الفقه : ٢ / ٢٧٨.

١٠٢

الرفع.

وإن قلنا : بقابليّته للجعل تبعاً ـ كما عليه المحقّق الخراساني ـ فيقبل الرفع ، إذ لا فرق بين الاستقلالية والتبعية هنا.

وعلى المختار من كون وجوب المقدّمة قابلاً للجعل البسيط الاستقلالي ، فالبراءة جارية.

هذا ، ولا تجري البراءة الشرعية ـ على القول بكون وجوب المقدّمة من لوازم وجوب ذيها ـ من جهةٍ أُخرى أيضاً ، وهي : أنّ لازم هذا القول أن يكون وضع وجوب المقدّمة بوضع وجوب ذي المقدّمة ، وما كان وضعه بوضع غيره فلا يقبل الرفع إلاّ برفع ذلك الغير ، ولذا قالوا بأن حديث الرفع لا يرفع الجزئيّة ـ مثلاً ـ لكونها مجعولةً بجعل الأمر المتعلّق بالمركّب الذي هو منشأ انتزاعها ، إذ ليس لها وضع استقلالي ، فلا رفع كذلك.

لكنّ التحقيق أنّه ليس وجوب المقدّمة من لوازم ماهيّة وجوب ذيها ، بل له وجود مستقل.

وأورد في المحاضرات : بأنّه لا أثر لأصالة البراءة الشرعيّة بعد حكم العقل بلابدّية الإتيان بالمقدّمة ، لتوقف الواجب النفسي عليها.

فأفاد الأُستاذ : بأنّ هذا الإشكال يبتني على عدم ترتّب ثمرةٍ من الثمرات المذكورة سابقاً على الإتيان بالمقدّمة ، لكنّ تصوير الثمرة ممكن ، فمثلاً : بناءً على عدم جواز أخذ الأُجرة على الواجب الشرعي ، فإنّه إنْ جرت البراءة الشرعيّة عن وجوب المقدّمة سقطت عن الوجوب ، ولا يبقى إشكال في جواز أخذ الأُجرة عليها ....

هذا تمام الكلام في مرحلة المقتضي لجريان الأصل في المقام.

١٠٣

وأمّا المانع ، فقد ذكر في الكفاية : إنّ استصحاب عدم الوجوب الشرعي للمقدّمة يستلزم التفكيك بين المتلازمين في صورة الشك ، قال رحمه‌الله : «نعم لو كانت الدعوى هي الملازمة المطلقة حتى في مرتبة الفعلية لما صح التمسّك بالأصل» (١) هكذا في نسخةٍ. وفي أُخرى «صحّ التمسّك» وعن بعض تلامذته أنّ «لما صحّ» كانت في الدّورة السابقة ، و «صحّ» في الدورة اللاّحقة.

وحاصل الكلام : وجود المانع عن جريان الأصل ـ بعد تماميّة المقتضي له ـ وهو لزوم التفكيك بين الوجوبين.

فأجاب رحمه‌الله عن الإشكال : أمّا بناءً على كلمة «لما صح» بأنّ الإشكال إنّما يرد لو كانت الملازمة بين الوجوبين ظاهراً وواقعاً ، أمّا لو قلنا بأنّها في الواقع فقط ، دون مقام جريان الأصل ، فلا ملازمة بين الوجوبين ، إذ للشارع أن يتصرّف في مرتبة الظاهر ويرخّص بالنسبة إلى المقدّمة بجريان أصالة عدم وجوبها فيها.

وأمّا بناءً على كلمة «صحّ» فتقريب الإشكال هو : إنّ إجراء البراءة عن وجوب المقدّمة يعني الشك في الملازمة ووقوع التفكيك بين المتلازمين احتمالاً ، وهذا محال كالتفكيك بينهما قطعاً.

فأجاب رحمه‌الله ـ فيما حكاه المحقّق القوچاني ـ بأنّه في كلّ موردٍ يوجد دليلٌ يستلزم الأخذ به محالاً من المحالات ، فإنّ ظهور ذلك الدليل يكون حجةً على أنْ لا موضوع لذلك اللازم المحال ... ويؤخذ بالدليل ... وهذا هو البيان الذي مشوا عليه في جواب شبهة ابن قبة في حجيّة خبر الواحد باحتمال لزوم تحليل الحرام وتحريم الحلال من العمل بخبر الواحد ، واحتمال لزوم اجتماع الضدّين أو النقيضين من جهة تعذّر الجمع بين الحكمين الظاهري والواقعي.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٢٦.

١٠٤

وقد استفاد المحقّق الخراساني من هذا المطلب ليعطي الجواب عن إشكال لزوم التفكيك في المقام ، فهو يقول بأنّ عمومات أدلّة الاستصحاب وأدلّة البراءة الشرعيّة حجّة على عدم الملازمة ، فلا موضوع للاّزم المحال وهو التفكيك بين المتلازمين ....

والحاصل : إنّ التعبّد بالأدلّة يثبت عدم وجود الملازمة ، فصحّ جريان الأصل وتمّ عدم وجوب المقدّمة.

هذا تمام الكلام في مقتضى الأصل في وجوب المقدّمة.

أدلّة الأقوال في مقدّمة الواجب

قد ذكرنا الأقوال ، ونتعرّض هنا لأدلّتها :

دليل القول بالوجوب مطلقاً :

وقد استدل للقول بالوجوب مطلقاً بوجوه :

الأوّل

إنّ الإرادة التشريعيّة على وزان الإرادة التكوينيّة ، فكما أنّ التكوينيّة إذا تعلّقت بشيء تعلّقت بمقدّمته المتوقّف عليها ، غير أنّ تلك إرادة نفسيّة وهذه غيريّة ، كذلك التشريعيّة ... وإن كان فرق بين الإرادتين من حيث أنّ التكوينيّة متعلّقها فعل النفس ، والتشريعيّة متعلّقها فعل الغير عن اختيار. وهذا ما اعتمده في (الكفاية) (١).

وهو أقوى الوجوه ، إذ لا ريب في شيء من مقدّماته. إلاّ أنّ تماميّة هذا الوجه متوقّفة على معرفة حقيقة الحكم ، لأنّ الدليل أفاد أنّه إن حصل الشوق الواصل إلى حدّ النصاب بالنسبة إلى المقدّمة تحقّق الوجوب الغيري لها ، فهل هذا

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٢٦.

١٠٥

صحيح؟

قيل : إنّ الحكم فعل اختياري.

وقيل : إنّه الإنشاء بداعي جعل الداعي.

وقيل : إنّه اعتبار لابدّية شيء أو حرمان المكلّف من شيء.

والقدر المشترك بين هذه الأقوال هو إنّ الحكم فعل اختياري.

وفي المقابل قول المحقّق العراقي من أنّ الحكم هو الإرادة المبرزة والكراهة المبرزة.

فعلى القول بأنّه فعل اختياري ، فلا محالة تكون الإرادة التشريعيّة ـ وهي الشوق البالغ حدّ النصاب ـ أجنبيّة عن الفعل. أمّا على القول بأنّه الإرادة المبرزة ، فلا تكون الإرادة التشريعيّة بلا إبراز حكماً ، اللهم إلاّ أن يبرز الإرادة بالنسبة إلى المقدّمة ، كأن يقول : ادخل السوق واشتر اللّحم.

نعم ، يتم الاستدلال لو قيل بأن حقيقة الحكم نفس الإرادة والكراهة.

الثاني

وقوع الأمر بالمقدّمة في القضايا التكوينيّة كقوله : ادخل السوق واشتر اللحم ، وفي القضايا الشرعيّة كما في الخبر : «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه ...» (١) والأصل في الاستعمال هو الحقيقة ، والأمر ظاهر في الوجوب. وهذا الوجوب الثابت للمقدّمة غيري بالاستقراء ، لأنّ الوجوب إمّا إرشادي وامّا مولوي طريقي وامّا مولوي نفسي وامّا غيري. أمّا الإرشادي ، فهو إرشاد إلى حكم العقل في المورد كما في (أَطيعُوا اللهَ وَأَطيعُوا الرَّسُولَ ...)(٢) فهنا يوجد الحكم العقلي

__________________

(١) وسائل الشيعة ٣ / ٤٠٥ الباب ٨ من أبواب النجاسات.

(٢) سورة النساء : ٥٩.

١٠٦

ولا يمكن أن يكون الأمر بالإطاعة حكماً شرعيّاً مولوياً ، فيحمل على الإرشادية ، لكنْ ليس في مقامنا حكم من العقل ، فهو لا يقول بلزوم الإتيان بالمقدّمة ، بل يقول بلابدّيته وهو غير اللزوم والوجوب ، وأيضاً ، ففيما نحن فيه يمكن الحكم المولوي.

وأمّا المولوي الطريقي ، فلا معنى له هنا ، إذ الحكم المولوي الطريقي ما يجعل للتحفّظ على الواقع ، وفيما نحن فيه لا جهل بالواقع حتّى يجعل حكم الوجوب للاحتفاظ عليه.

وأمّا المولوي النفسي ، فالمفروض أنّ بحثنا في المقدّمة.

فانحصر كون الوجوب هنا غيريّاً ... فيكون الأمر بغسل الثوب واجباً غيريّاً.

والجواب :

وقد أجاب الأكابر عن هذا الاستدلال : بأنّ هناك شقّاً آخر وهو : الإرشاديّة إلى الشرطيّة ، بأن يكون الأمر بغسل الثوب إرشاداً إلى شرطيّة الطهارة من الخبث في صحّة الصّلاة.

قال الأُستاذ

وهذا الجواب الذي ارتضاه في المحاضرات أيضاً (١) ، إنّما يتمّ فيما إذا كان الشيء شرطاً ، كاشتراط الصّلاة بطهارة اللباس ، وبالطهارة من الحدث كما في (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) (٢) ، أمّا في مثل : اذهب إلى السوق واشتر اللحم ، فليس دخول السّوق شرطاً ولا مقدّمةً لشراء اللحم ، وإنّما هو مقدّمة وجوديّة.

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ / ٢٨٠.

(٢) سورة المائدة : ٦.

(٢) سورة المائدة : ٦.

١٠٧

وكذا الحمل على الارشاد إلى المقدميّة ، ففيه : إنّه من الواضح في مثل : ادخل السّوق واشتر اللحم ، كون الدخول مقدمةً للشراء ، ولا حاجة إلى التنبيه والإرشاد إليه.

(قال) والذي يمكن أن يقال في الجواب : إنّ لابدّية الإتيان بمتعلّق الأمر هي لترتّب ذي المقدّمة عليه ، وهذه الخصوصيّة تمنع من انعقاد الظهور العرفي للأوامر الشرعيّة المتعلّقة بالمقدّمات في الطلب المولوي.

لا يقال : إنّه بعد ثبوت حكم العقل بلابديّة المقدّمة ، من باب الملازمة العقلية بين المقدمة وذيها ، يكون المقام من صغريات قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، فيتم الحكم الشرعي ، أعني وجوب المقدّمة شرعاً.

لأنّ الأصحاب قد نفوا الوجوب الشرعي هنا مع قولهم بقانون الملازمة. وبيان ذلك بحيث يكون نافعاً في سائر الموارد هو :

إن العقل ، سواء قلنا بأنه حاكم أو مدرك فقط ، إنما يحرّك المكلّف ويحمله على امتثال حكم المولى حتى يخرج عن عهدة التكليف ، فيما إذا لم يكن قبله حكم من الشرع ، لأنّ حكم الشرع السابق على حكم العقل يكون كافياً لداعويّة العبد ، وفي مثل هذه الحالة لا أثر للحكم العقلي ليكون مورداً لقاعدة الملازمة ، على أنّه يستلزم التسلسل ، لأنّ الحكم العقلي لو استتبع حكماً شرعيّاً ، كان الحكم الشرعي موضوعاً لوجوب الإطاعة عقلاً ، ووجوب الإطاعة لو استتبع حكماً شرعيّاً ، كان موضوعاً لوجوب الإطاعة كذلك ، وهكذا فيتسلسل. ومن هنا قالوا : الأحكام العقليّة التي هي في طول الأحكام الشرعيّة ليست مورداً لقاعدة كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع.

بل الأحكام العقليّة التي هي مورد القاعدة هي الأحكام العقليّة الواقعة في

١٠٨

سلسلة علل الأحكام الشرعيّة ، بمعنى أنّ العقل إذا أدرك المصلحة الملزمة غير المزاحمة بالمفسدة ، أو المفسدة الملزمة غير المزاحمة بالمصلحة ، فإنّ تلك المصلحة أو المفسدة تكون علّةً للوجوب أو الحرمة ، لكون الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد ، فمثل هذه الأحكام تكون مورداً للقاعدة.

والحاصل : إنّ الأحكام العقليّة على قسمين ، فما كان منها في طول الأحكام الشرعيّة فلا يكون مورداً للقاعدة ، وما كان منها في سلسلة العلل لها فهي مورد للقاعدة.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ مورد بحثنا خارج خروجاً موضوعيّاً عن مورد القاعدة ، لأنّه ليس في مقامنا إلاّ درك العقل التلازم في الإرادة والاشتياق بين المقدّمة وذي المقدّمة ، وهذا التلازم أمر تكويني وليس وظيفةً للعبد ، فالعقل يرى هذه اللاّبدّية لكن لا بعنوان كونها وظيفةً من وظائف العبوديّة ....

وتلخّص : عدم تماميّة القول بالوجوب الشرعي للمقدّمة عن طريق قانون الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.

الثالث

ما نقله في الكفاية عن أبي الحسين البصري (١) وهو أنّه : لو لم تجب المقدّمة لجاز تركها ، وإذا تحقّق الترك ، فلا يخلو حال ذي المقدّمة من أنْ يبقى على وجوبه فيلزم التكليف بما لا يطاق ، أو يخرج عن الوجوب المطلق ويكون مشروطاً بوجود المقدّمة ، وهذا خلف.

أجاب في الكفاية : بعدم لزوم شيء من المحذورين ، بعد حكم العقل

__________________

(١) مع اصلاح الاستدلال بأن يكون المراد من «جواز الترك» : عدم المنع لا الاباحة ، وإنّ الموجب للتكليف بما لا يطاق هو الترك لا جواز الترك.

١٠٩

بلابدّية الإتيان بالمقدّمة ، فلو ترك المقدّمة ـ مع ذلك ـ لزم سقوط الأمر بذي المقدّمة بالعصيان ، فالأمر غير باقٍ حتى يلزم التكليف بما لا يطاق.

وأشكل المحقّق الإيرواني (١) على الكفاية : بأنّ هذا الجواب يتم على القول بجواز خلوّ الواقعة عن الحكم الشرعي. وأمّا بناءً على أنّ لكل واقعة حكماً شرعياً ، فإنّه إن لم تجب المقدّمة فهي مباحة شرعاً ، ومع الإباحة تكون موضوعاً لحكم العقل بالرخصة ، وإذا جاء الترخيص بالنسبة إلى المقدّمة أمكن ترك ذي المقدّمة أيضاً ، فينقلب وجوبه عن الإطلاق إلى الاشتراط بالإتيان بالمقدّمة.

وهذا هو الخلف.

والحاصل : إنّ جواب الكفاية عن الاستدلال مبنائي.

والأُستاذ وافق على إشكال المحقّق الإيرواني ، لكنّه ذكر أنّ المبنى الصحيح ما ذهب إليه في الكفاية ، إذ لا دليل على ضرورة وجود حكم شرعي في كلّ واقعة ، بل الحكم العقلي أيضاً وظيفة مخرجة للعبد من الحيرة. وبعبارة أُخرى : لا بدّ من تعيين الوظيفة في كلّ واقعةٍ سواء كانت من ناحية العقل أو الشرع.

دليل القول بعدم وجوب المقدّمة

واستدلّ للقول بعدم وجوب المقدّمة شرعاً ، باستحالة الوجوب بلا ملاك ، وملاك جعل الوجوب في المقدّمة إمّا تحريك العبد نحو العمل ، وامّا إسناد العمل إلى أمر المولى إن كان العبد متحرّكاً ومنبعثاً (٢). وليس في وجوب المقدّمة شيء من الملاكين.

أمّا أن يكون لأجل تحريكه ، فقد تقدّم كفاية اللابدّية العقلية.

__________________

(١) نهاية النهاية ١ / ١٨٣.

(٢) إن كان العبد منبعثاً ومتحرّكاً نحو العمل ، فجعل الوجوب من أجل تحريكه تحصيل للحاصل وهو محال ، بل جعله لأجل إسناد العمل واضافته إلى المولى ليكون مقرّباً إليه.

١١٠

وأمّا أن يكون لأجل الإضافة إلى المولى فيكون مقرّباً ، فإنْ قلنا : بأن المقدّمة معنى حرفي وليس لها وجود مستقل ، فلا موضوع للوجوب ، وإن قلنا ـ كما هو الصحيح ـ بأنّها قابلة للنظر الاستقلالي وتوجّه الأمر إليها ، فإنّ مقربيّة الإتيان بالمقدّمة حاصلة بالإتيان بذي المقدّمة ، لأنّه إنّما يأتي بالمقدّمة بداعي التوصّل إلى ذيها ، فالمقربيّة حاصلة ولا أثر لجعل الوجوب للمقدّمة من هذه الجهة.

ومع انتفاء كلّ من الملاكين ، يكون جعل الوجوب للمقدّمة لغواً اللهمّ إلاّ أن يقال : بأنّ جعله لها يؤثّر أثر التأكيد ، بأن يأتي بها بداعيين ، أحدهما الوجوب الغيري والآخر التوصّل إلى ذي المقدّمة. فلا لغويّة. فيكون وجه عدم الوجوب للمقدّمة حينئذ عدم الدليل على وجوبها لا عدم الملاك ولزوم اللغويّة ، إذ لا دليل شرعي على وجوب المقدّمة ، وقد عرفت أنّ العقل غير كاشف هنا إلاّ عن التلازم بين المقدّمة وذيها في الشوق والإرادة ، أمّا أن يكشف عن حكم شرعي فلا ... وقانون الملازمة أيضاً لم يثبت حكماً شرعيّاً للمقدّمة.

فالحقّ : عدم وجوب مقدّمة الواجب شرعاً.

دليل التفصيل بين المقدّمات السببيّة وغيرها

فإن كانت سبباً فهي واجبة ، وإنْ كانت شرطاً فلا ، وذلك : لأنّ القدرة على المتعلّق شرط ، والمسبّب خارج عن القدرة ، فلا يتعلّق التكليف به ، لكنّ السبب المتوقّف عليه مقدور ، فلا بدّ من صرف الأمر المتعلّق بالمسبّب إلى السبب ، وعليه ، فلو أمر بالطّهارة من الحدث ، فإنّه يتوجّه إلى السبب المحصّل لها ، لأنّه المقدور دون نفس الطّهارة.

١١١

أجاب في الكفاية (١)

أوّلاً : إن هذا الذي ذكر ليس بدليلٍ على التفصيل ، بل إنّه دليل على أنّ الأمر النفسي إنّما يكون متعلّقاً بالسبب دون المسبّب ، فيكون السبب واجباً نفسيّاً. وهذا شيء خارج عن محلّ البحث ، وهو وجوب المقدّمة بالوجوب الغيري وعدمه.

وثانياً : إنّ ما ذكر من أنّ المسبّب غير مقدور غير صحيح ، لأنّ الشيء يكون مقدوراً بالقدرة على سببه ، والقدرة المعتبرة في التكاليف أعم من القدرة بالمباشرة أو بالتسبيب ، فلو أمر بالإحراق ـ وهو المسبّب ـ مع القدرة على الإلقاء في النار كان صحيحاً ، ولا وجه لصرفه إلى الإلقاء ، أي السبب.

وقال الميرزا (٢) :

إن كان وجود العلّة غير وجود المعلول صحّ وجوب العلّة بالوجوب الغيري ، وإن كانا موجودين بوجودٍ واحدٍ ـ كالإلقاء والإحراق ، والغسل والطهارة من الخبث ونحوهما ـ فلا معنى لأنْ يكون وجوب العلّة غيريّاً والمعلول نفسيّاً.

أشكل الأُستاذ

أوّلاً : بأنّه لا يعقل وجود العلّة والمعلول بوجودٍ واحدٍ ، إذ العلّة والمعلول متقابلان ، العلّة مؤثرة والمعلول أثر ، والمتقابلان لا يوجدان بوجود واحدٍ.

وثانياً : ما ذكره من تعدّد الوجود في الإلقاء والاحتراق غير صحيح ، لأنّ الإلقاء لا ينفك عن الإحراق ، لكنّ عدم الانفكاك أمرٌ ووجودهما بوجودٍ واحدٍ أمر آخر.

دليل التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره

فإنْ كانت المقدّمة شرطاً شرعيّاً كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة فهي واجبة ،

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٢٨.

(٢) أجود التقريرات ١ / ٢٥٣.

١١٢

وإنْ كانت شرطاً غير شرعي كنصب السلّم للصعود إلى السطح الواجب فلا ، وهو قول ابن الحاجب في (المختصر) وشارحه العضدي (١) ، فهو :

أنّه لو لا وجوب الشرط الشرعي شرعاً لما كان شرطاً ، حيث إنّه ليس ممّا لا بدّ منه عقلاً أو عادةً.

والحاصل : إنّ المقدّمة إن كانت عقليّة كطيّ الطريق للحج أو عاديّة كنصب السلّم للصعود ، فلا حاجة إلى جعل الوجوب الشرعي ، لأنّ جعله إنّما هو بداعي بعث المكلّف ، والمفروض انبعاثه عقلاً أو عادةً نحو المتعلّق ، وأمّا إن كانت المقدّميّة شرعيّة ، فإنّ العقل لا يدرك لابديّتها ، كلابدّية الوضوء للصّلاة ، وهذا معنى قوله : لو لا وجوبه شرعاً لما كان شرطاً.

جواب المحقّق الخراساني

وأجاب المحقّق الخراساني (٢) : أوّلاً : إنّ الشرط مطلقاً ـ شرعيّاً كان أو عقليّاً أو عاديّاً ـ هو ما ينتفي المشروط بانتفائه ، وعليه ، فالشروط الشرعيّة ترجع إلى العقليّة.

قال الأُستاذ

وفيه : إنّه فرقٌ بين الشروط الشرعيّة وغيرها ، لأنّ غير الشرعيّة واضحة لدى العقل ، بخلاف الشرعيّة ، إذ العقل لا يدرك لابدّيتها إلاّ بعد وجوبها شرعاً ، كما تقدّم.

وأجاب ثانياً : بأنّه لا يتعلّق الأمر الغيري إلاّ بما هو مقدّمة ، فلا بدّ من إثبات مقدميّة المقدّمة قبل تعلّق الأمر فلو كانت مقدميّته متوقّفة على تعلّق الأمر بها لزم الدور.

__________________

(١) شرح المختصر ١ / ٢٤٤.

(٢) كفاية الأُصول : ١٢٨.

١١٣

قال الأُستاذ

ويمكن الجواب : بأنّ الوضوء كما هو شرط وقيد للصّلاة بما هي واجبة ، كذلك هو قيد للصّلاة بما هي قربان كلّ تقي ـ مثلاً ـ فله دخلٌ في وجوبها وفي الغرض منها ، لكنّ دخله في الغرض منها غير موقوف على وجوبه الغيري ، بل الوجوب الغيري موقوف على ذلك ، إذ لو لم يكن الوضوء قيداً للغرض من الصّلاة لم يتعلّق به الوجوب الغيري. وعليه ، فقد أصبح الوجوب الغيري للوضوء موقوفاً على دخله في الغرض من الصّلاة ، وليس دخله فيه موقوفاً على وجوبه الغيري.

نعم ، مقدميّة الوضوء للصّلاة ـ من حيث أنّها واجبة ـ موقوفة على الوجوب الغيري. والحاصل : إنّه قد وقع الخلط بين مقدميّة الوضوء للواجب ومقدميّته للغرض من الواجب.

وعلى الجملة : فإن كون الوضوء شرطاً وقيداً للواجب موقوف على مصحّح انتزاع هذه الشرطيّة وهو الوجوب الغيري ، لكنّ الوجوب الغيري موقوف على شرطيّته للقربانيّة وغيرها من الأغراض ، فاختلف الموقوف والموقوف عليه ، فلا دور.

الحق في الجواب

ما ذكره المحقّق الخراساني بالتالي ، من أنّ المصحّح لاتّصاف المقدّمة الشرعيّة بالمقدميّة هو : الأمر النفسي المتعلّق بذي المقدّمة مقيّداً بالمقدّمة ، كقوله : صلّ مع الطّهارة ، فإنّ مثل هذا الخطاب يكون منشأً لانتزاع المقدميّة والشرطيّة للوضوء بالنسبة إلى الصّلاة ، فلا يكون واجباً غيريّاً شرعاً.

هذا تمام الكلام في مقدمة الواجب.

١١٤

ثمرة القول بوجوب المقدّمة

ذكر في الكفاية وغيرها (١) ثمرات للبحث عن وجوب المقدّمة :

(منها) إنّ نتيجة البحث عن ثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّماته هي الوجوب الشرعي للمقدّمة بناءً على ثبوتها ، قال المحقّق الخراساني رحمه‌الله : لو قيل بالملازمة في المسألة فإنّه بضميمة مقدّمة كون شيء مقدّمةً لواجب يستنتج أنّه واجب.

يعني : إذا علمنا مثلاً : أنّ الوضوء مقدّمة لواجبٍ ، فجعلنا ذلك مقدّمةً للكبرى الأُصوليّة بأنّ : كلّ ما هو مقدّمة لواجب فإنّه يلزم وجوب المقدّمة من وجوب ذي المقدّمة ، ويستنتج من هذا القياس وجوب الوضوء ، أمّا بناءً على عدم ثبوت الكبرى الأُصوليّة المذكورة ، فلا تتم هذه النتيجة ويبقى اللاّبدّية العقليّة.

وفي المحاضرات : إنّ ما ذكر لا يصلح لأن يكون ثمرةً فقهية للمسألة الأُصوليّة ، لعدم ترتّب أثر عملي بعد حكم العقل بلابدّية الإتيان بالمقدّمة.

فأجاب الأُستاذ : بأنّه يكفي لتحقّق الثمرة الفقهيّة جواز فتوى الفقيه بوجوب الوضوء في المثال ، فكان للقياس المزبور هذا الأثر الفقهي العملي لبعض المكلّفين وهم الفقهاء.

(ومنها) إنّ المقدّمة إذا كانت عبادةً ، فعلى القول بوجوبها فإنّه يؤتى بها بقصد التقرّب ، وإلاّ فلا كما هو واضح.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٢٣ ، محاضرات في أُصول الفقه ٢ / ٢٦٦.

١١٥

وفي المحاضرات : إنّ عباديّة المقدّمة لا تتوقّف على وجوبها ، فإنّ منشأ العباديّة لها أحد أمرين ، إمّا الإتيان بها بقصد التوصّل إلى الواجب النفسي وامتثال الأمر المتعلّق به ، وامّا الإتيان بها بداعي الأمر النفسي المتعلّق بها كما في الطهارات الثلاث ، فالوجوب الغيري لا يكون منشأ لعباديّتها أصلاً.

فأجاب الأُستاذ : بأنه اشكال مبنائي ، ولا يعتبر في الثمرة أن تكون مترتّبةً على جميع المباني ، فعلى القول بأنّ العمل بداعي الأمر الغيري غير مقرّب بل العباديّة إنّما تحصل بأحد الأمرين المذكورين ، فلا ثمرة. أمّا على القول بأنّ الإتيان به مضافاً إلى المولى كافٍ للعباديّة والمقربيّة ، فإنّ الإتيان به بداعي الأمر الغيري يكون مقرّباً وتترتّب الثمرة.

(ومنها) إنه إنْ كانت المقدّمة واجبةً بالوجوب الشرعي ، كانت موضوعاً للبحث عن أخذ الأُجرة على الواجبات ، وإلاّ فلا مانع من ذلك.

قال في المحاضرات : وفيه أوّلاً : إنّ الوجوب ـ بما هو وجوب ـ لا يكون مانعاً من أخذ الأُجرة على الواجب ، إلاّ إذا قام دليل على لزوم الإتيان به مجّاناً كدفن الميّت ، وإذ لا دليل على لزوم الإتيان بالمقدّمة مجّاناً ، فلا مانع من أخذ الأُجرة عليها وإنْ قلنا بوجوبها. وثانياً : إنّه لا ملازمة بين وجوب شيء وعدم جواز أخذ الأُجرة عليه ، بل النسبة بينهما عموم من وجه ، فقد يكون العمل واجباً وأخذ الأُجرة عليه جائز كما لو كان واجباً توصلياً ، وقد يكون غير واجب ولا يجوز أخذ الأُجرة عليه كالأذان ، فإنْ كان واجباً عبادياً حرم أخذ الأُجرة عليه على القول بالحرمة ... إذن ، لا بدّ من التفصيل في هذه الثمرة.

قال الأُستاذ : إنّه يكفي ترتّب الثمرة على بعض الأقوال في المسألة ، فعلى القول بأنّ كل واجب فهو لله ، وما كان لله فلا تؤخذ الأُجرة عليه ـ لأن وجوب

١١٦

العمل على العبد منافٍ لملكيّة العبد لعمله ـ فالثمرة مترتّبة.

(ومنها) برّ النذر بالإتيان بالمقدّمة على القول بوجوبها لو نذر الإتيان بفعل واجب ، وعدم حصول البرّ بذلك على القول بعدم وجوبها.

وقد أشكل في الكفاية والمحاضرات وغيرهما على هذه الثمرة : بأنّ الوفاء بالنذر يتبع قصد الناذر ، فإن كان قاصداً من لفظ «الواجب» خصوص الواجب النفسي ، لم يكف الإتيان بالمقدّمة ، لأن وجوبها غيري على القول بوجوبها ، وإن كان قاصداً منه ما يلزم الإتيان به ولو بحكم العقل ، وجب الإتيان بالمقدّمة ، حتّى على القول بعدم وجوبها شرعاً. نعم لو قصد من الوجوب الأعم من النفسي والغيري ، حصل البرّ بإتيان المقدّمة على القول بوجوبها دون القول بعدم وجوبها.

(ومنها) إنّه بناءً على وجوب المقدّمة شرعاً ، فقد يكون لواجب نفسي مقدّمات كثيرة ، وحينئذٍ ، فلو ترك الواجب النفسي مع مقدّماته حكم بفسقه ، أمّا بناءً على عدم وجوبها فلا ، لأنّه لم يفوّت إلاّ واجباً واحداً وهو النفسي ذو المقدّمة ، ولا يصدق عنوان الإصرار على المعصية بذلك إلاّ إذا كان ترك ذي المقدّمة كبيرةً من الكبائر.

وأشكل في المحاضرات بما حاصله : ترتّب الثمرة على بعض المباني في معنى «العدالة» وفي معنى «الإصرار على الصغيرة» على مسلك التفصيل بين الصغيرة والكبيرة.

قال : ولو تنزّلنا عن جميع ذلك ، فإنّه لا معصية في ترك المقدّمة بما هي مقدّمة حتى على القول بوجوبها كي يحصل الإصرار على المعصية ، لأنّ ما يحقّق عنوان المعصية هو مخالفة الأمر النفسي ، وأمّا مخالفة الأمر الغيري فلا تحقّق بها المعصية.

١١٧

وقد أورد عليه الأُستاذ :

أوّلاً : بكفاية ترتّب الثمرة على بعض المباني ، كما تقدّم.

وثانياً : إن عنوان «المعصية» يتحقّق بمخالفة الأمر ، سواء كان نفسيّاً أو غيريّاً ....

وثالثاً : إن قيل إنّ عنوان «الإصرار» على المعصية يتحقّق بكثرة المخالفة كما يتحقّق بتكرّر المخالفة للحكم الواحد ، فإنّه يتحقّق فيما نحن فيه بترك جميع المقدّمات.

(ومنها) إنّ المقدّمة إن كانت محرّمة ، فعلى القول بوجوب المقدّمة شرعاً يلزم اجتماع الأمر والنهي فيها ، وعلى القول بعدم وجوبها فلا يلزم.

أجاب في الكفاية

أوّلاً : إنّ المقدّمة المحرّمة على قسمين ، منحصرة وغير منحصرة ، فإن كانت منحصرةً فلا يلزم الاجتماع ، بل يترجّح أحد الأمرين ـ الوجوب والحرمة ـ على الآخر. وإن كانت غير منحصرة ، فإنّ مصب الوجوب ـ على القول به في بحث مقدّمة الواجب ـ هو المقدّمة المباحة ، لأنّ الحاكم بوجوب المقدّمة هو العقل ، عن طريق الملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة ، وهو لا يرى الملازمة إلاّ بين الواجب ومقدّمته المباحة ، فلا تكون المحرّمة محلّ الاجتماع.

فأشكل في المحاضرات في صورة عدم الانحصار : بعدم الدليل على اعتبار إباحة المقدّمة ، لأنّ الملاك في المقدّمية توقف ذي المقدّمة الواجب على المقدّمة ، وكما أنّ المقدّمة المباحة واجدة لهذا الملاك فكذلك المقدّمة المحرمة ، ومجرّد انطباق عنوان المحرّم عليها لا يخرجها عن واجديّتها للملاك ... فتكون

١١٨

محلاًّ للاجتماع.

وأجاب الأُستاذ دام ظلّه : بأنّ وجوب المقدّمة شرعاً ـ على القول به ـ إنّما اكتشف عن طريق حكم العقل بالملازمة بين وجوب ذي المقدّمة شرعاً ووجوب المقدّمة ، فالعقل لا يرى انفكاكاً بين مطلوبيّة ذي المقدّمة ومطلوبيّة المقدّمة ، لكنّ هذه المطلوبيّة من أوّل الأمر إنّما تكون بين ذي المقدّمة ومقدّمته المباحة لا مقدّمته المبغوضة للمولى ، فهو لا يرى الملازمة إذا كانت مبغوضة له ، وعليه ، فإنّ الوجوب يتوجّه إلى المقدّمة المباحة ، فلا يلزم الاجتماع.

وثانياً : إنّه ليس المورد من قبيل اجتماع الأمر والنهي ، بل من قبيل النهي عن العبادة ، لأنّ موضوع الوجوب هو «ذات المقدّمة» كالوضوء ، وموضوع الحرمة هو «الغصب» ، فتعلّق الأمر والنهي بما هو مصداق فعلاً للمقدّمة ، فيكون من مسائل النهي عن العبادة.

والجواب : صحيح أنّ عنوان «المقدّمة» خارج عن متعلّق الأمر ، إلاّ أنّ الأمر قد تعلّق بطبيعي الوضوء الجامع بين الفردين الحلال والحرام ، والنهي قد تعلّق بخصوص الفرد المغصوب ، فكان متعلّق الأمر غير متعلّق النهي ، ثمّ انطبقا على هذا الوضوء الغصبي فكان مجمعاً لهما.

وثالثاً : إنّ الغرض من المقدّمة هو التوصّل بها إلى ذي المقدّمة الواجب بالوجوب النفسي ، وهي لا تخلو إمّا أن تكون توصليّة أو تعبديّة ، فإن كانت توصليّة فهي توصل إلى ذي المقدّمة وإن كانت محرّمةً ، كالحج على الدابّة المغصوبة ، وإن كانت تعبديّة ـ كالوضوء مثلاً ـ وقع البحث في جواز اجتماع الأمر والنهي وعدم جوازه ، فإنْ قلنا بالجواز صحّت العبادة سواء قلنا بوجوب المقدّمة أم لم نقل ، وإن قلنا بالعدم وتقديم جانب النهي بطلت سواء قلنا بوجوب المقدّمة

١١٩

أم لم نقل ، فلا ثمرة للبحث.

وفيه :

إنّه بناءً على عدم الفرق في المقربيّة بين الواجب النفسي والواجب الغيري ، فإنّ المقدّمة إن كانت تعبّدية فإنّه يعتبر فيها قصد القربة ، فإنْ اتّفق كونها محرمةً كالوضوء الغصبي امتنع التقرّب بها إلاّ على القول بوجوب المقدّمة ، بناءً على جواز اجتماع الأمر والنهي ، فالثمرة مترتبة.

١٢٠