تحقيق الأصول - ج ٢

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٢
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٠٠

للواقع ، وعلى هذا ، فإنّ القضيّة ـ كما في الآية المباركة ـ تؤول إلى قضيّة شرطيّة مفادها : إذا تحقق عقد وحصل في الخارج فالوفاء به واجب ... فأصبح الموضوع شرطاً ، والشرط موضوعاً.

وعلى هذا الأساس ، فإنّ الصّلاة بقصد الأمر هي متعلَّق الأمر ، والأمر متعلَّق المتعلَّق ، فهو الموضوع ، وإذا كان موضوعاً ، لزم فرض وجوده بفرضٍ مطابقٍ للواقع كي يتوجَّه الحكم عليه ، بأن يكون قبل الحكم ، فيلزم أنْ يكون وجود الأمر مفروغاً عنه ثم جعل الحكم عليه ، وكون وجود الشيء مفروغاً عنه قبل وجوده محال.

وعلى الجملة ، فمن الناحية الكبرويّة : لا يكون في متن الواقع وجودٌ مفروغاً عنه قبل وجوده ، ونحن في القضايا الحقيقيّة لا بدّ وأن نرى الموضوع ومتعلَّق المتعلَّق مفروغاً عنه وجوده ، حتى يأتي الحكم والتكليف عليه.

وهنا ، فإنّ الشارع يريد الأمر بالصّلاة مع قصد الأمر ، بأن يكون قصد الأمر جزءاً للصّلاة أو شرطاً ، فنفس الأمر متعلَّق هذا المتعلَّق للتكليف ، فيجب أن يكون وجود الأمر مفروغاً عنه عند الشارع حتى يجعل الأمر ، وهذا يستلزم أن يكون الشيء قبل وجوده مفروغاً عن وجوده ، وهو محال.

جواب المحاضرات

وأجاب في (المحاضرات) (١) عمّا ذكره الميرزا ـ رحمه‌الله ـ بما حاصله إنكار الكبرى ، وتوضيح ذلك :

إن ملاك أخذ الموضوع مفروض الوجود في القضيّة الحقيقية ، المستلزم لكونه شرطاً لفعليّة التكليف ، إمّا هو الظهور العرفي وامّا هو حكم العقل بذلك.

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ٢ : ١٥٨.

٨١

أمّا الظهور العرفي فبأنْ يفهم العرف من القضيّة أن الموضوع قد اخذ مفروض الوجود، كما في (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) حيث يفهم أن العقد موضوع للحكم الذي رتّبه الشارع على فرض وجوده ، وهو وجوب الوفاء به ، لا أنه قد ترتّب الحكم على موضوع يجب على المكلّف تحصيله.

وأمّا الحكم العقلي ، فهو حيث يكون القيد المأخوذ في الواجب غير اختياري ، وبما أنه لا يعقل تعلّق التكليف بغير المقدور ، فلا محالة يكون مأخوذاً على نحو مفروض الوجود.

ففي الموردين المذكورين يوجد الملاك لأخذ الموضوع مفروض الوجود.

وأمّا فيما عداهما ، فلا دليل على أن التكليف لا يكون فعليّاً إلاّ بعد فرض وجود الموضوع ، ولذا قلنا بفعليّة الأحكام التحريمية قبل وجود موضوعاتها ، بمجرّد تمكّن العبد على الإيجاد ، كالتحريم الوارد على شرب الخمر ، فإنه فعلي وإنْ لم يوجد الخمر خارجاً ، إنْ كان المكلّف قادراً على إيجاده بإيجاد مقدماته ، ولذا يتوجّه التكليف عليه ، بخلاف الزوال في «صلّ صلاة الظهر» مثلاً ، فإن المكلّف لا يتمكّن من إيجاده ولا بالشروع بمقدّماته.

(قال) : وما نحن فيه من القسم الثالث الذي لا دليل على ضرورة فرض الموضوع ، لأنّه لا ربط للعرف بهذه الناحية ، ولا ملزم من العقل بذلك ، فإنّ الأمر الذي كان متعلّقاً للداعي يحصل بمجرّد إنشاء المولى تكليفه ، وإذا حصل أمكن الامتثال بداعيه ولا حاجة بعد ذلك إلى أخذه مفروض الوجود ، وعليه ، فالمكلَّف حين الامتثال يجد أمراً موجوداً قد حصل من إنشاء التكليف ، فيأتي بالفعل بداعي ذلك الأمر ، ولا داعي إلى فرض وجود الأمر حين الإنشاء ، كما

٨٢

كان الأمر كذلك في سائر القيود غير الاختيارية.

وعلى هذا ، فلا يلزم من أخذ قصد الأمر في متعلَّق الأمر المحذور الذي ذكره الميرزارحمه‌الله.

نقد الاستاذ هذا الجواب

وقد تكلّم الاستاذ دام بقاه على هذا الجواب :

فأجاب عنه في الدّورة اللاّحقة : بأنه إنما يتمشّى مع إنكار رجوع القضيّة الحقيقيّة إلى القضيّة الشّرطية ، وعليه يمكن للمولى أن يأمر بالصّلاة بقصد الأمر مع عدم وجود الأمر الذي كان جزءاً للموضوع أو شرطاً ، ولكنّ التسليم بذلك ، ثم القول بعدم لزوم المحذور ، جمعٌ بين المتنافيين ، وقد جاء في (المحاضرات) (١) التصريح بكون القضيّة الحقيقيّة قضيّة شرطيّة ، وأن الموضوع مقدَّم والحكم تال ، ويستحيل أن يتكفّل الجزاء الشرطَ وضعاً ورفعاً ، وليس التالي إلاّ مترتّباً على المقدَّم ، وعلى هذا الأساس رفع ـ رحمه‌الله التنافي بين الدليل الحاكم والدليل المحكوم ، بمناط أنّ الحاكم ناظرٌ للموضوع في المحكوم ، ويستحيل أن يكون المحكوم ناظراً لموضوع نفسه ، لوقوع المحكوم في رتبة الجزاء ، وهي متأخرة عن رتبة الشرط والمقدَّم.

فإذا كانت القضيّة الحقيقية شرطيّةً ، والموضوع في القضية شرط ، فكيف يعقل وجود المشروط وفعليّته قبل وجود الشرط ، وفعلية الجزاء قبل فعليّة المقدَّم؟

إن المفروض ـ هنا ـ وقوع الأمر موضوعاً في الأمر بالصّلاة بقصد الأمر ، والمفروض أن الأمر المتعلّق مشروط ، فكيف يعقل وجود الشرط والمشروط

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ٣ / ١١٩ بحث الترتب.

٨٣

بوجود واحد؟

وأمّا في مرحلة الفعليّة ، فإشكال الميرزا وارد ، فلا يمكن أن يكون الأمر فعليّاً مع أخذ قصد الأمر في المتعلّق ، لأن نسبة الموضوع إلى الحكم نسبة الشرط إلى المشروط ، ويستحيل تحقق الفعليّة للحكم بدون تحقق الفعليّة للموضوع ، وفعليّة الموضوع ـ بما أنه شرط ـ مقدّمة على فعليّة المشروط ، فيلزم من أخذ قصد الأمر في المتعلَّق وجود الشيء قبل وجود الشيء ، وفعليّته قبل فعليّته ، وهذا وإنْ لم يكن دوراً ، لكنْ فيه ملاك الدور ... وجواب (المحاضرات) عنه قد عرفت ما فيه.

وأجاب عنه في الدورة السّابقة : بأنّ هناك ملاكاً ثالثاً لجعل الموضوع مفروض الوجود ... وتوضيحه :

إن الحكم يترتب في مقام الجعل على الوجود التقديري للمتعلَّق ، لا على وجوده الخارجي ، ونسبة الحكم إلى المتعلَّق هي نسبة المحمول إلى الموضوع ، ومن غير الممكن أن يلحظ الحاكم الحكمَ في ظرف لحاظه للموضوع ، فهو في قوله «زيد قائم» قد لحظ زيداً مجرّداً عن القيام ، وبلا لحاظٍ للقيام في تلك المرتبة ، ثم حمل عليه القيام بعد لحاظه في المرتبة التالية ، إذن ، الحاكم يرى الصّلاة مجرّدةً عن الحكم ، ثم يرتّب الحكم عليها ويقول : الصّلاة واجبة.

وعلى الجملة ، فإنه يستحيل وجود الحكم في مرتبة المتعلَّق ... فإذا كان الحكم متعلّق المتعلَّق ، فلا محالة يستحيل وجوده في مرتبة المتعلَّق ، فلو أخذ في المتعلّق كان مفروض الوجود لا محالة ... فلمّا نقول : الصّلاة بقصد الأمر مأمور بها ، كان قولنا «مأمور بها» هو المحمول في القضيّة ، وهو ليس في

٨٤

مرتبة «الصّلاة بقصد الأمر» فإنّه لا بد وأنْ يكون مفروض الوجود ، فالمناط في فرض الوجود غير منحصر بما ذكره ، بل له مناط ثالث.

وبعبارة أخرى : عند ما يأمر بالصّلاة بقصد الأمر ، فإنّ «الصلاة بقصد الأمر» هو المتعلّق ، فيلزم أن يراه ويلحظه المولى قبل ترتيب الحكم عليه ، ولكنّه لمّا يلحظ المتعلَّق «الصلاة» يلحظ معه متعلَّقه «الأمر» ، مع أنّ الأمر لم يرتَّب بعدُ ، فلا بدّ وأنْ يكون الملحوظ هو وجوده الفرضي التقديري.

فالمناط لفرض الوجود :

١ ـ الفهم العرفي

٢ ـ الحكم العقلي

٣ ـ إن في كلّ موردٍ يكون القيد المأخوذ في الموضوع غير موجودٍ حقيقةً في رتبة الموضوع ، وكان أخذه في الموضوع لازماً ، فلا يكون أخذه إلاّ بنحو فرض الوجود ...

وما نحن فيه من القسم الثالث ... فالإشكال يعود.

وتلخّص : عدم تماميّة جواب (المحاضرات).

جواب المحقق الأصفهاني عن تقريب الميرزا

وأجاب المحقق الأصفهاني رحمه‌الله (١) عن تقريب الميرزا ، بأن الأمر المأخوذ في المتعلّق أي الصَّلاة ، المعبَّر عنه ب «متعلَّق المتعلَّق» ليس هو الأمر والحكم المترتّب على المتعلَّق ، بل الذي اخذ في المتعلَّق هو الصّورة العلميّة للأمر ، والمترتب على المتعلَّق هو نفس الأمر ، ولا محذور في حصول العلم بالأمر قبل حصول الأمر.

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٣٢٤.

٨٥

نقد هذا الجواب

وممّا ذكرنا سابقاً من ضرورة المطابقة بين الصّورة العلميّة وبين الواقع ، يظهر سقوط هذا الجواب ، لأنّ الصّورة العلميّة للأمر إن طابقت الواقع ـ وهو الأمر الخارجي ـ لزم تقدّم الأمر الخارجي الواقعي على الصّورة العلميّة ، والمفروض عدم ترتّبه بعدُ ، فيعود إشكال اجتماع التقدّم والتأخر بالطبع في الشيء الواحد.

المقام الثالث

وفي مرحلة الفعليّة أيضاً يوجد المحذور :

فأوّلاً : ما ذكره الميرزا

من أنّ فعليّة كلّ حكم تتوقّف على فعليّة موضوعه «متعلَّق المتعلَّق» وما لم يصر فعليّاً فلا يصير الحكم فعليّاً ، والحاصل : إن فعليّة الموضوع شرط لفعليّة الحكم ، فلو قال : يجب شرب الماء ، توقّف فعليّة التكليف بالشرب على فعلية الماء ووجوده.

فلو أخذ الحكم في الموضوع لزم كون الشيء شرطاً لفعلية نفسه ، فتوقّف فعليّة الشيء على فعليّة نفسه.

جواب المحقق الأصفهاني عن كلام الميرزا غير مفيد

وكان محصّل جواب المحقق الأصفهاني : إن المأخوذ في المتعلّق هو الوجود العلمي ...

وقد ظهر عدم تماميّة هذا الجواب.

إلاّ أنْ يقال : بأنَّ فعليّة الحكم موقوفة على فعليّة موضوعه في جميع الموارد إلاّ إذا كان الموضوع نفس الحكم ، مثل ما نحن فيه ، فإنّه في هذه

٨٦

الصّورة لا ضرورة لفعليّة الموضوع قبل الحكم كي يلزم فعليّته قبل فعليّة نفسه.

وثانياً : ما يستفاد من كلام المحقّق الخراساني

وأوضحه المحقّق الأصفهاني : إن العلّة إنّما تكون علّةً للمعلول ، ويستحيل أن تكون علّةً لعليّة نفسها ، فلو أخذ قصد الأمر في متعلَّقه لزم المحذور المذكور. توضيح الملازمة : إن تعلّق الأمر بالصّلاة مع قصد القربة معناه : تعلّقه بها وبداعويّة الأمر إليها ، وذلك ، لأنّ كلّ أمرٍ يدعو إلى متعلّقه ، فلو ترتّب الأمر والحكم على الصّلاة مع داعويّة الأمر إلى الصّلاة ، فقد تعلّق الأمر بداعويّة نفسه ويلزم أن يكون علّةً لعليّة نفسه.

وقد ذكر المحقق الأصفهاني هذا المحذور في المقام الثاني ، وأشار إلى تعرّض صاحب الكفاية له في المقام الثالث. فهو يرد على كلا المقامين.

جواب المحقق الأصفهاني عن كلام الكفاية

ثم أجاب رحمه‌الله عنه : بأنّ قصد الأمر إنْ اخذ على نحو الشرطيّة أو الجزئيّة فالإشكال لا دافع له ، أمّا إذا كان المتعلّق حصّةً ملازمةً لقصد الأمر ، فهو مندفع ، ومن الواضح أن للصّلاة حصصاً ، منها : الصّلاة الفاقدة لقصد الأمر ، ومنها : الصلاة في ظرف وجود قصد الأمر ، وهذه هي المتعلّق للأمر ، وإذ لا تقيّد فلا عليّة فالإشكال يندفع (١).

وهذا هو الذي يعبِّر عنه المحقّق العراقي بالحصّة التوأمة ، فالحصّة التي كانت توأماً لقصد الأمر هي التي قد أمر بها المولى ، فلم يدخل قصد الأمر تحت الأمر ليرد الإشكال ...

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٣٢٤ ـ ٣٢٥.

٨٧

نقد الاستاذ

وتنظّر الاستاذ في هذا الجواب ، بأنّ المفروض أنّا لا ندري هل المورد من الواجب التعبّدي أو التوصّلي ، فإنْ كان التقييد بقصد الأمر ممكناً تمّ الإطلاق عند الشكّ ، وأمّا مع المحذور المذكور فأصل التقييد غير ممكن ، فكيف يتمسّك بالإطلاق؟

فإنْ تمّ حلّ المشكل عن طريق الحصّة التوأمة ، وأنه لا تقييد في البين ، كان للإطلاق مجال.

لكن المشكلة هي : إن المولى في مقام البيان وليس بمهملٍ لأمره وخصوصيات متعلَّق أمره ، فإن كانت انقسامات المأمور به وخصوصيّاته دخيلةً كان التقييد قهريّاً وإلاّ فالإطلاق محكّم ، وهنا : إن كان لقصد الأمر في المتعلَّق دخلٌ في الغرض لزم أخذه ـ كما أن الإيمان إن كان له دخل في الغرض من العتق لزم أخذه ـ وإلاّ فلا. لكنّ المفروض أنه له دخلٌ ، فلا بدَّ من أخذه على وجه التقييد. فما ذكره هذا المحقق لا ينفع.

وحاصل ما ذكره : إن قصد الأمر ليس شرطاً ولا شطراً ، بل إنّ متعلَّق الأمر هو الحصّة.

وحاصل إشكالنا عليه : إن قصد الأمر من الانقسامات ، والإهمال محال ، فإنْ اخذ فهو التقييد وإنْ رفض فالإطلاق ... فالإشكال باق.

المقام الرّابع

وهو مرحلة الامتثال ، وفيها وجوه من المحذور :

الأول : ما جاء في كلام صاحب (الكفاية) والمحقق النائيني (١) وهو :

__________________

(١) كفاية الأصول : ٧٢ ـ ٧٣ ، أجود التقريرات ١ / ١٥٩.

٨٨

إن قصد الأمر متأخّر عن أجزاء الصّلاة وشرائطها ، فهو متوقّف عليها ، فلو كان «الامتثال» أحد أجزاء الصّلاة وشرائطها ، لزم اجتماع التقدّم والتأخّر فيه ، إذن ، يستحيل إطاعة مثل هذا الأمر في مرحلة الامتثال.

والثاني : إنه لا قدرة على امتثال الأمر «بالصّلاة بقصد الأمر» ، وذلك لعدم تعلّق أمرٍ بالصّلاة ، وكلّ ما لم يتعلَّق به أمر فلا قدرة على الإتيان به بقصد الأمر ، وتوضيح ذلك هو : إنه لو فرض كون متعلَّق الأمر هو الصّلاة بقصد الأمر ، فلا محالة لا أمر بالنسبة إلى نفس الصّلاة ، وكذلك الحال في كلّ مركّب ، فإنه إذا تعلَّق الأمر بالمركّب فقد تعلَّق بمجموعة الأجزاء ، فلا يكون هناك لكلّ جزءٍ جزءٍ منها أمر على حدة ، وعليه فالصلاة وحدها لا أمر بها ، والصّلاة مع قصد الامتثال لا يمكن الإتيان بها ، لعدم إمكان الإتيان بقصد الامتثال المأخوذ فيها ـ بقصد الامتثال.

والثالث : إن قصد الأمر إمّا هو قيد للصّلاة ، وامّا هو جزء من أجزائها. فإنْ كانت الصّلاة المقيَّدة متعلَّق الأمر ، كانت ذات الصّلاة غير مأمورٍ بها كي يمكن للمكلَّف الإتيان بها بقصد أمرها ، وإنْ كانت الصَّلاة مركّبةً من قصد الامتثال وغيره من الأجزاء ، فالامتثال محال كذلك ، لأنّ الأمر دائماً محرّك وداعٍ نحو متعلَّقه ، ولا يعقل تحريك الأمر وداعويّته لداعويّة نفسه ، إذ معنى ذلك أن يصير الشيء علّةً لعليّة نفسه.

حلّ الاشكالات من المحقّق العراقي

وقد ذكر في (المحاضرات) (١) تبعاً للمحقق العراقي طريقاً لرفع جميع هذه المحاذير ، وحاصل كلامه :

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ٢ / ١٦٤.

٨٩

أوّلاً : إنّه لا محذور في أنْ يكون بعض أجزاء الواجب تعبّدياً وبعضها الآخر توصّليّاً ، وإنْ لم يكن الواجب واجباً بأصل الشرع ـ إذ لا يوجد في الشريعة هكذا واجب ـ بل بوجوبٍ عرضي كالنذر ، بأن يكون مجموع الصّلاة وإعطاء المال للمسكين متعلّق النذر.

نعم ، قد وقع في الشرع كون الأجزاء كلّها تعبّدية ، لكنّ قسماً من الشرائط توصّلي ، كالصّلاة ، فأجزاؤها تعبديّة كلّها ، وشرائطها بعضها توصّلي كالطّهارة من الخبث ، وبعضها تعبّدي كالطّهارة من الحدث.

وثانياً : إنّ الأمر المتعلّق بالمركّب ينحلُّ بحسب التحليل إلى الأمر بأجزائه ، فيكون كلّ جزءٍ من أجزائه التعبديّة قد اتّخذ حصّةً من ذلك الأمر المتعلِّق بالمجموع ، وأصبح مأموراً به بأمرٍ ضمني.

وبعد هذا ، فإذا لحظنا الصَّلاة بقصد الأمر وجدناها مركّبةً من أجزاء ، أحدها : قصد الأمر ، لكنّ هذا الجزء منها توصّلي وبقيّة الأجزاء تعبديّة ، فكان الأمر الضمني بتلك الأجزاء بنحو التعبديّة ويعتبر الإتيان بها بقصد الامتثال ، وأمّا قصد الامتثال ، فليس بتعبّدي بل هو توصّلي ، ولا يحتاج سقوط الأمر به إلى قصد امتثاله.

فبهذا البيان تندفع جميع الإشكالات :

(أمّا الأوّل) فوجه اندفاعه هو : إن قصد الامتثال إنما يكون متأخّراً عن الأجزاء والشرائط إذا اريد منه قصد امتثال المجموع ، أمّا لو أريد منه قصد امتثال الأمر الضمني كما ذكر ، فذلك لا يقتضي تأخّره ـ أي قصد امتثال الأمر ـ عن جميع الأجزاء والشّرائط ، لأنّ قصد امتثال كلّ جزءٍ بخصوصه يكون متأخّراً عن ذلك الجزء فقط دون بقيّة الأجزاء ، ولا مانع من لحاظ شيئين ـ

٩٠

أحدهما متقدّم على الآخر ـ شيئاً واحداً ، ثمّ توجّه الأمر النفسي الواحد إليهما ، كما تقدَّم في بحث الصحيح والأعم.

(وأمّا الثاني) فلأن عدم القدرة على الامتثال إنما هو لو أراد المكلَّف الامتثال للأمر بالصّلاة بداعي أمرها النفسي الاستقلالي ، وأمّا لو أراد الامتثال لها بداعي أمرها الضمني فهو مقدور له بعد الأمر ، والقدرة المعتبرة في متعلّقات الأحكام إنما هي القدرة حين امتثال الأمر وإطاعته ، لا حين صدور الأمر وجعله.

(وأمّا الثالث) فإنه إنما يلزم لو كان الإتيان بالصّلاة بقصد الأمر المتعلّق بها كلّها ، لكنْ قد تقدَّم أنّ المكلَّف يأتي بالتكبيرة والقراءة والركوع والسجود ... بمحركيّة الأوامر الضمنيّة المتعلّقة بها ـ إذ قد توجّه إلى كلّ منها أمرٌ يخصّه فكان دعوة الأمر والمأخوذة في الصَّلاة ـ وهي متعلّق الأمر النفسي ـ داعويّة الأمر الضمني ، فأصبح الأمر النفسي داعياً إلى إيجاد متعلّقه وهو ذات الصّلاة ، مع داعويّة أمرها الضمني ، فلا تحصل دعوة الأمر إلى داعويّة نفسه.

نظر الأستاذ

وتنظّر شيخنا الاستاذ في هذا الطّريق الذي حاصله تعدّد الأمر بانحلاله إلى الأوامر الضمنيّة ، فقال دام ظلّه : إن هذا الانحلال اعتبار عقلي محض ، ولا واقعيّة له ، كي تنحلّ المشكلات عن هذا الطريق ، وذلك : إنّه لا توجد أغراض متعدّدة في المركّب الارتباطي ، بل الغرض واحد ، وإذا كان الغرض واحداً ، فالإرادة أيضاً واحدة ـ لأن وحدتها أو تعدّدها تابع لوحدة الغرض وتعدّده ـ وإذا اتّحدت الإرادة استحال تعدّد الأمر ، لأن نسبته إليها نسبة المعلول إلى العلّة.

٩١

وهذا هو الإشكال الأوّل.

ثم إنّ المحقّق العراقي ـ وكذا في (المحاضرات) ـ قد التفت إلى أن بعض هذه الأوامر الضمنيّة التي ذكرها متقدّم على البعض الآخر رتبةً ، فلمّا يقول : كبّر بقصد الامتثال ، الامتثال لأيّ شيء؟ وهكذا غيره ، وجميع هذه الأوامر الضمنيّة هي بحكم الموضوع بالنسبة إلى الأمر الضّمني بالإتيان بالصّلاة بقصد الأمر ، فهي متقدّمة عليه في الرتبة ، لكنّ تلك الأوامر الضّمنيّة المختلفة رتبةً موجودة بوجودٍ واحدٍ ، وكيف يعقل ذلك؟

لقد اكتفى في (المحاضرات) بالقول بتقدّم هذه الدعوى في مبحث الصحيح والأعم ، لكنّ الذي ذكره هناك هو معقوليّة الوضع لأمرين مختلفين في المرتبة ، وهو غير ما نحن فيه ، لأن الوضع يصح حتى للمتناقضين ، أمّا كيف يوجد الموجودان المختلفان في الرتبة بوجود واحدٍ؟

ولذا وقع الإشكال في شمول دليل الاستصحاب لقاعدة اليقين ، من جهة أنَّ القاعدة متأخّرة رتبةً عن الاستصحاب ، فكيف يجعلان بجعلٍ واحدٍ وهما طوليّان؟

إنه لا مورد لذلك إلاّ الاختلاف بالطبع ، فلو تقدّم وجود على وجودٍ تقدّماً طبعيّاً أمكن وجودهما بالوجود الواحد ، إلاّ أنّ الوجود بالذات هو للمتأخر منهما ، والمتقدّم يكون وجوده بالعرض ، ولا يعقل غير هذا ، مثلاً : المراد بالذات ، أي الشيء المقوّم للإرادة القائم بالنفس ، متقدّم تقدّماً طبعيّاً على الإرادة ، وهي متأخرة بالطبع عن المراد ، لكنّ وجود المراد بالذات بوجود الإرادة وجود بالعرض ، والوجود بالذّات هو للإرادة ، وكذا المعلوم بالذات ـ وهو الصّورة الذهنيّة ـ فإنه متقدّم بالطبع على العلم ، إذ قد يكون ولا

٩٢

يكون علمٌ به ، والعلم متأخّر عنه.

وفيما نحن فيه ، قد أصبح الأمر الضّمني بالركوع والسجود و... موضوعاً للأمر الضّمني بقصد الامتثال ، وكلّ موضوع متقدّم طبعاً ، والوجود بالذات هو للأمر الضّمني بقصد الامتثال ، ومن المحال وجودهما بوجودٍ واحدٍ ، لكون أجزاء المركّب في عرضٍ واحدٍ ، فلا يعقل وجود الأمر الضّمني بوجود الأمر الضّمني الآخر.

وهذا هو الإشكال الثاني على حلّ السيّد المحقّق الخوئي تبعاً للعراقي المحقق ....

ويرد عليه ثالثاً : إن ما ذكره هنا يناقض كلماته في موارد عديدة من مختاراته في الاصول والفقه ، فهنا يلتزم بتحقّق وجودين واجبين بإيجاد وجعلٍ واحدٍ من الشارع ، أمّا في تلك الموارد فيصرّح بما هو الصحيح من اتّحاد الجعل والمجعول ، وأنه إذا كان الجعل والإيجاد واحداً فالمجعول والموجد واحد أيضاً ، إنما الاختلاف بالاعتبار فقط ، فليلاحظ كلامه في الشرط المتأخّر ، وفي التنبيه الأوّل من تنبيهات الاستصحاب ، بل جاء في الاستصحاب بعد استدلال الميرزا بأخبار الحلّ قوله : لا يمكن إيجاد طوليين بالإيجاد الواحد.

قول المحقق العراقي بالاستحالة

لكن المحقق العراقي قال (١) باستحالة أخذ قصد الأمر في المتعلَّق بوجهٍ آخر ـ قال : ولو لا هذا الوجه من الإشكالات ، فلا استحالة ، لارتفاع الإشكالات عن الطريق المذكور ـ وحاصل كلامه : إن المولى إذا أراد أخذ قصد

__________________

(١) نهاية الأفكار ١ / ١٨٨.

٩٣

الأمر في متعلَّقه ، فإنه في مرتبة الأمر يرى القرب الحاصل من قصد الأمر معلولاً لهذا الأمر ، فيرى القرب في مرتبةٍ متأخرة عن الأمر ، فلو أراد في نفس الوقت أن يأخذ القرب في المتعلّق لزم أن يلحظه في مرتبةٍ متقدّمة ، فيلزم أن يجتمع في نفسه لحاظان متباينان في آنٍ واحد.

إشكال الاستاذ على الوجه المذكور

لكن أوْرد عليه الاستاذ : بأن الملحوظ متأخّراً هو القرب الخارجي ، والملحوظ في الرتبة المتقدّمة المأخوذ في المتعلَّق هو الوجود العلمي للأمر ، ولا محذور في اجتماعهما كما ذكر المحقّق الأصفهاني ... إنما الإشكال ما ذكرناه هناك.

هذا تمام الكلام في أخذ قصد الأمر في المتعلّق بالأمر الأوّل ، وقد ظهر أنه محال.

هل يمكن إطلاق متعلَّق الأمر؟

وبعد الفراغ عن مبحث تقييد متعلّق الأمر بأخذ قصده فيه ، تصل النوبة إلى الإطلاق في متعلّق الأمر ، فإنّ من الواضح أنه إنْ أمكن التقييد بذلك ، أمكن الإطلاق أيضاً ، ويكون الإطلاق مقتضياً للتوصّليّة.

أمّا بناءً على استحالة التقييد ـ كما تقدّم ـ فهل الإطلاق أيضاً محال؟

هنا بحثان :

الأوّل : ما هي النسبة بين الإطلاق والتقييد؟

ذهب الميرزا إلى أنّ النسبة بينهما هي نسبة العدم والملكة ، فإذا استحالت الملكة كان عدمها محالاً ، وعليه ، إذا استحال التقييد استحال الإطلاق.

٩٤

يقول الميرزا : إن الإطلاق عدم التقييد في المورد القابل للتقييد ، كما في العمى والبصر ، حيث يلحظ قابليّة المحلّ ، ولذا لا يحملان على الحجر مثلاً ، فكلّ موردٍ غير قابل للتقييد فهو غير قابل للإطلاق.

وذهب المحقّق الأصفهاني : إلى أنّ التقابل بينهما من قبيل التّضاد ، لكن في مقام الثبوت ، أما في مقام الإثبات فالعدم والملكة ... أمّا في مقام الثبوت ، فلأنَّ الإطلاق هو أن يلحظَ المتعلَّق مع رفض القيود عنه ، والتقييد لحاظه مع أخذ القيود ، فكلاهما وجودي ، وبين «الأخذ» و«الرفض» تضاد. وعلى هذا ، فاستحالة التقييد لا تستلزم استحالة الإطلاق.

وأمّا القول بكون النّسبة بينهما هو التضايف ، فباطل ، لأنّه وإنْ كان بين عنواني «الإطلاق» و«التقييد» نسبة التضايف ، لكنّ الكلام ليس في العنوان بل في المعنون ، كما هو الحال في النسبة بين العلّة والمعلول ، فإنّها التضايف في العنوان ، لكن هما في الواقع متضادّان أو نسبتهما العدم والملكة.

مختار الاستاذ

هذا ، وقد اختار الاستاذ في الدّورة السّابقة ابتداءً قول المحقق الأصفهاني ، ثم عدل عنه للإشكال التالي ، وهو : عدم جواز أخذ خصوصيّة المقسم ـ وهو اللّحاظ ـ في القسم ، ببيان أنه بعد عدم إمكان الإهمال ، فإنّ الحاكم ، إمّا يلحظ القيد ويأخذه في الذات ، فتكون الذات بشرط شيء ، وامّا يلحظها ويلحظ القيد ويأخذ عدمه فيها ، فيكون بشرط لا ، وامّا يلحظهما ولا يأخذ وجود القيد ولا عدمه ، فيكون لا بشرط وهو الإطلاق ، فاللّحاظ قدر مشترك بين الثلاثة ، وجهة الاختصاص هي في التقيّد وهو أخذ القيد ، أو الإطلاق وهو عدم أخذه ، فيكون الإطلاق أمراً عدميّاً لا وجوديّاً ، فإنّ الرقبة ـ

٩٥

مثلاً موضوع للحكم في «أعتق رقبةً» ، ولا يعقل أن يكون الحاكم مهملاً بالنسبة إلى انقسامها إلى المؤمنة والكافرة ، بل إنه عند الحكم يلحظها مع القيد بأحد الأنحاء الثلاثة ، فاللّحاظ موجود ، والجهة المشخّصة هي وجود القيد أو عدمه ، فيكون المقيّد بشرطٍ والإطلاق لا بشرط ، فكان الإطلاق لحاظ الماهيّة والقيد مع رفض القيد ، والتقييد لحاظهما مع أخذ القيد ، فمن الرفض ينتزع الإطلاق ، كما أن من الأخذ ينتزع التقييد.

فما ذهب إليه المحقق النائيني هو الصحيح من أن التقابل من قبيل العدم والملكة على ما سنذكره في المراد من القابليّة.

الثاني : هل إذا استحال التقييد استحال الإطلاق؟

أمّا على القول بتقابل العدم والملكة ، فإنّ استحالة التقييد يستلزم استحالة الإطلاق ، فما ذهب إليه الميرزا ينتج عدم امكان القول بتوصليّة الواجب المشكوك في كونه تعبديّاً أو توصليّاً.

لكنَّ هذا إنما يتمُّ لو كانت القابليّة المعتبرة في نسبة العدم والملكة هي القابليّة الشّخصيّة ، إلاّ أنّ التحقيق هو اعتبار القابليّة النوعيّة والجنسيّة ، فمثلاً : قولنا : «العقرب أعمى» صادقٌ مع أن شخص هذا الحيوان وصنفه لا يقبل البصر ، إلاّ أن الجنس ـ وهو الحيوان ـ لمّا كان قابلاً للبصر صحّ اتّصاف العقرب بالعمى ، وأيضاً ، فإن النسبة قد تكون العدم والملكة في موارد ليست القابليّة فيها شخصيةً ، فبين القدرة والعجز عدم وملكة ، والإنسان يتّصف بالعجز عن الطيران مع عدم قابليّته له ، وليس ذلك إلاّ لأن جنسه ـ وهو الحيوان قابل له ، وكذا النسبة بين العلم والجهل ، فالحجر لا يتّصف بهما لعدم القابليّة ، أمّا الإنسان فيتّصف ، ولا شبهة في جهله بذات الباري تعالى مع

٩٦

استحالة علمه بها ، فالعلم بذاته عزّ وجلّ محال ، والجهل به صادق ، وبينهما تقابل العدم والملكة.

إذن ، بناءً على العدم والملكة ، ليس في كلّ موردٍ استحال الملكة يستحيل عدمها ، بل قد يجب ، كما في الأمثلة المذكورة ... فإذا كانت القابليّة المعتبرة هي القابليّة النوعيّة أو الجنسيّة ، فلا تلازم بين الملكة وعدمها في الاستحالة.

وتلخّص : إنه على القول الأوّل ـ في النسبة بين الإطلاق والتقييد ـ يكون الإطلاق واجباً ، مع استحالة التقييد ، بناءً على اعتبار القابليّة النوعيّة أو الجنسيّة ، لا الشخصيّة.

وأمّا على القول بتقابل التضاد ، فإذا استحال التقييد ، فإنّ الإطلاق غير مستحيل ، لعدم الملازمة بينهما.

وتلخّص : إمكان التقييد على القول بالتضاد ، وعلى القول باعتبار القابليّة النوعيّة أو الجنسيّة ، في العدم والملكة ... وهذا هو الصحيح.

هذا تمام الكلام في مقام الثبوت.

إنما الكلام في مقام الإثبات ، فسواء قلنا بهذا القول أو ذاك ، فإنّ الإطلاق في مقام الإثبات إنّما يكون مع التمكّن من التقييد ؛ ومع عدم التمكّن منه فلا إطلاق ... وتوضيحه:

إنه دائماً يكون الإطلاق في مقام الإثبات كاشفاً عن الإطلاق في مقام الثبوت ، فمن مقام الإثبات يستكشف مقام الثبوت ، وهذه الكاشفيّة إنّما تتحقّق ويكون الإطلاق حجةً على المراد فيما إذا تمكّن الحاكم من التقييد في مقامي الثبوت والإثبات ، ومع انتفاء التمكّن منه في أحد المقامين لا يتحقّق

٩٧

الإطلاق الكاشف عن المراد ... وفيما نحن فيه : الحاكم وإنْ كان قادراً على بيان القيد في مقام الإثبات ، إلاّ أنه غير قادر على تقييد متعلَّق الأمر بقصد القربة في مقام الثبوت ، فلا يكون إطلاقه في مقام الإثبات كاشفاً عن إطلاقه في مقام الثبوت.

وتلخّص : إنه حتى لو قلنا بإمكان الإطلاق ـ كما هو مبنى التضاد ـ أو وجوبه ـ على اعتبار القابلية النوعيّة أو الجنسيّة على مبنى العدم والملكة ـ فهو ليس بالإطلاق الكاشف عن المراد والحجة عليه.

فظهر : استحالة أخذ القيد بالأمر الأوّل في المتعلَّق. وعلى فرض إمكان الإطلاق ـ مع استحالة التقييد أو عدم استحالته ـ فليس الإطلاق الحجّة الكاشفة عن المراد ، لأن الكاشفيّة إنما تكون حيث يمكن أخذ القيد ويتمكّن من التقييد ثبوتاً.

هذا تمام الكلام فيما يتعلَّق بأخذ قصد الأمر في المتعلَّق بالأمر الأوّل.

هل يمكن أخذ قصد الأمر بالأمر الثاني؟

وبعد أن ظهر عدم إمكان أخذ قصد الأمر في متعلَّقه كالصّلاة مثلاً بالأمر الأوّل ، فهل هو ممكن بالأمر الثاني أو لا؟

لا يخفى أن المقصود من المتعلَّق هو «الصّلاة» ، ومن الحكم هو «الوجوب» ومن الموضوع هو «البالغ العاقل» ، ولكلّ واحدٍ من الثلاثة انقسامات أوّليّة وثانوية.

والمراد من الانقسام الأوّلي هو : الانقسام من دون لحاظ الحكم ، ومن الانقسام الثانوي هو : الانقسام مع لحاظ الحكم. فالصّلاة ـ مثلاً ـ تنقسم إلى ما في الوقت وما في خارج الوقت ، وفي المسجد وما في خارج المسجد ، فهذا

٩٨

انقسام مع قطع النظر عن الحكم ، فيسمّى بالانقسام الأوّلي. وأمّا مثل الصّلاة مع قصد الأمر ، وبدون قصد الأمر ، فهو انقسام بلحاظ الحكم ، فيكون ثانوياً.

والمكلّف ينقسم إلى المستطيع وغير المستطيع مثلاً ، وهذا انقسام أوّلي ، لأنه بقطع النظر عن الحكم ، وينقسم إلى العالم بوجوب الحج والجاهل بوجوبه ، وهذا ثانوي ، لأنه بلحاظ الحكم الشرعي المترتّب على الحج.

إن الانقسامات الأوّلية تقبل الإطلاق والتقييد ، لأنّ للمتكلّم ـ في مقام لحاظ الموضوع أو الحكم أو المتعلَّق ـ أن يأخذ الخصوصيّة فيكون مقيِّداً ، وأنْ لا يأخذها فيكون مطلقاً.

لكنّ الكلام في قبول الانقسامات الثانوية للإطلاق والتقييد ... فهل يمكن للمولى أن يُقيّد متعلَّق حكمه بالأمر الثانوي ـ بعد عدم إمكانه بالأوّلي ـ بأنْ يقول أوّلاً : «صلّ» ، ثم يقول بعد ذلك : الصّلاة التي أمرتك بها يجب عليك الإتيان بها بداعي الأمر ، أو لا يمكن؟

إنه إنْ أمكنه ذلك ، كان عدم أخذه القيد دليلاً على الإطلاق ، وبذلك يحكم بتوصليّة الواجب المشكوك كونه تعبديّاً أو توصليّاً.

وبالجملة ، فإنّ المحاذير التي كانت تمنع من أخذ هذا القيد في المتعلّق ، من الدور ، ومن اجتماع المتقدّم والمتأخر ، ومن استلزام عدم القدرة على التكليف ، ومن داعويّة الأمر إلى نفسه ... كلّها منتفية ، لأنّ الأمر متعدّد والمتعلّق متعدّد.

إشكال صاحب الكفاية

وذكر المحقق الخراساني قدس‌سره إشكالاً آخر ، وحاصله (١) :

__________________

(١) كفاية الأصول : ٧٤.

٩٩

إن أخذ قصد الأمر هنا أيضاً غير ممكن ، لأن حصول الامتثال وسقوط الأمر بإتيان المتعلَّق بقصد الأمر الأوّل إن كان ممكناً ، فالأمر الثاني يكون لغواً ، وإنْ لم يتحقق الامتثال ، فالأمر الأوّل باق ، والسبب في بقائه هو عدم تحقّق الغرض منه ، لأن الأمر معلول للغرض ثبوتاً وسقوطاً ، وما لم يحصل فهو باق ، وإذا كان المنشأ ذلك ، فإنّ حكم العقل بلزوم تحصيل غرض المولى ـ مع الشك في محصّله ، فكيف مع العلم ـ يكفي لأنْ يؤتى بالمتعلَّق بقصد الأمر الأوّل ، فيكون الأمر الثاني لغواً كذلك.

وتلخّص : إن الأمر الثاني ليس بمحالٍ لشيء من المحاذير المتقدمة ، إلاّ أنه محال للزوم اللّغوية ، إلاّ أن يحمل على الإرشاديّة إلى حكم العقل.

وإذ لا يمكن أخذ قصد الأمر بالأمر الثانوي ، فلا يمكن الإطلاق ، حتى يؤخذ بنتيجة الإطلاق ، ويترتب الأثر المقصود.

الكلام حول الإشكال

قال السيّد الاستاذ : وقد استشكل الأعلام فيما أفاده صاحب الكفاية ، وهم ما بين من أغفل الشقّ الأول من الترديد واقتصر في الإيراد على الشقّ الثاني ، وما بين من تصدّى في إشكاله إلى كلا شقّى الترديد وهو المحقق الأصفهاني.

ثم إنه ذكر كلماتهم وناقشها وانتهى إلى القول : بأنّ ما ذكره صاحب الكفاية في منع تعدّد الأمر وأخذ قصد القربة في متعلّق الأمر الثاني ، بالتقريب الذي ذكرناه ، لا نرى فيه إشكالاً ، فالالتزام به متّجه ، وبذلك يتبيّن أنّ أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر ممنوع عقلاً(١).

__________________

(١) منتقى الاصول ١ / ٤٤٣ ـ ٤٥١.

١٠٠