تحقيق الأصول - ج ٢

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٢
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٠٠

الشارع قد تعهّد ـ مثلاً ـ أن يبرز اعتباره للصّلاة في ذمّة المكلّف بلفظ «صلّ» ، وكذلك كلّ أمر بشيءٍ ، فإنّه متعهّد باستعمال صيغة «افعل» لإبراز أمره وطلبه ... وهذا هو المرتكز في الأذهان.

مناقشة الاستاذ

فقال الاستاذ دام بقاه بعد تقرير هذه النظريّة ما حاصله :

أمّا أن حقيقة الوضع هو التعهّد ، فقد تقدّم في محلّه ما فيه.

وأمّا أنّ المعنى الحقيقي لصيغة الإنشاء هو إبراز اعتبار ثبوت الشيء ، فغاية ما استدلّ لهذه الدعوى هو وجود هذا المعنى ـ أي إبراز اعتبار ثبوت الشيء في الذمّة ـ في مثل قول المولى : «صلّ» ونحوه ... وفيه : إن هذا لا يكفي لأنْ يكون دليلاً للمدّعى ، ففي موارد استعمال صيغة الأمر ، حيث يكون الداعي بعث العبد نحو الفعل ، توجد الإرادة لتحقّق الفعل ، والعقلاء يرون في تلك الموارد أن المولى قد وضع الفعل على ذمّة المكلّف ، وأنها مشغولة يقيناً به ، فلما ذا لا تكون الإرادة هي المعنى للصّيغة؟ ولما ذا لا يكون المعنى : اعتبار ثبوت المادّة في ذمّة الطرف المقابل؟

والحاصل : إنه في مورد استعمال صيغة الأمر ، يوجد اعتبار ثبوت الفعل في الذمّة بلا ريب ، لكن كون هذا المعنى هو الموضوع له الصيغة من أين؟ فالدليل أعمّ من المدّعى.

هذا أوّلاً.

وثانياً : قوله بتعدّد المعنى في الصّيغ الإنشائيّة ، غير موافقٍ للارتكاز العرفي ، وذلك لأنّ أهل اللّسان لا يفرّقون في معنى «اعملوا» بين مورد استعماله في التهديد ومورد غير التهديد مثلاً.

وثالثاً : إن المصداقيّة من شئون الحمل الشائع ، والمناط فيه هو الاتحاد

٤١

الوجودي ، وحينئذٍ ، كيف يتّحد التعجّب ـ الذي هو صفة نفسانيّة ـ مع صيغة افعل ، لتكون الصيغة مصداقاً لمفهوم التعجّب؟ فقوله بأن الصيغة تارةً يكون المبرَز بها التعجّب إذا استعمل فيه ، لا يمكن تعقّله.

ورابعاً : إن اعتبار ثبوت الشيء في الذمّة ، معنى اسمي ، وهذا ينافي مسلك (المحاضرات) في المعنى الحرفي والهيئة من أنه عبارة عن التضييق في المعاني الاسمية ... فإذا كان هذا معنى هيئة افعل ، فكيف يكون موضوعاً لإبراز الاعتبار ، ووجوب الشيء؟

مناقشة رأي المحقق الخراساني

هذا ، وقد وافق الاستاذ المحقق الخراساني في وحدة المعنى في الصيغ الإنشائيّة.

وأمّا قوله بأنها موجدة ، فقد أشكل عليه :

أوّلاً : بأن الإرادة في نظر هذا المحقق نفس الطلب ، ومفهومهما واحد ، والاختلاف في المصداق ، لكنْ لا يُفهم «الإرادة» من صيغة افعل ، ومقتضى الاتّحاد بين الإرادة والطلب أنْ لا تكون موضوعة للطلب.

وثانياً : إنّ الإرادة ليست من الامور القابلة للإنشاء ، أي لا تقبل أنْ توجد باللّفظ ، كما هو الحال في الجواهر مثلاً.

وثالثاً : إن الإرادة مفهوم اسمي ، ولم نجد في الهيئات هيئة مدلولها معنىً اسمي.

مناقشة رأي المحقق الاصفهاني

وأمّا مبنى المحقق الأصفهاني من أنّ مدلول الصيغة وجود المعنى بالوجود اللّفظي ، فالألفاظ عين وجود المعاني لكن بالوجود الاعتباري

٤٢

للمعنى ، وهذا معناه أنْ لا يكون في مورد الصّيغة وضع وموضوع وموضوع عليه ...

ففيه : إنّ مبناه في حقيقة الوضع هو أنّ اللّفظ يوضع على المعنى كوضع العلم على رأس الفرسخ مثلاً ، فما ذهب إليه في وضع الصيغة ينافي مختاره في حقيقة الوضع بصورةٍ عامّة ؛ لأنه يقتضي المغايرة والتعدّد بين الموضوع والموضوع عليه ... ولو لا هذا التنافي فإنّ مسلكه قريب من الواقع.

رأي الشيخ الاستاذ

وبعد ذكر المباني المطروحة في معنى الصيغة والنظر والمناقشة فيها ، قال شيخنا دام بقاه ، وبالنظر إلى مختاره في حقيقة الوضع من أنها «العلامتيّة» :

إن الألفاظ إنما هي للوصول إلى المعاني وإبراز الأغراض والمقاصد ، فالصبيّ الذي لا يمكنه التلفّظ إذا أراد شيئاً من الأشياء تحرّك نحوه ـ إن أمكنه التحرّك ـ وأخذه ، وإلاّ فيلجأ إلى غيره ، كأنْ يأخذ بيد أبيه ويمدّها نحو الشيء أو يضعها عليه ، وهذا هو المقصود من «البعث النسبي» في كلام المحقق الأصفهاني ، و«النسبة الإرساليّة» في كلام المحقق العراقي ، لكنّ هذا الطفل عند ما يمكنه الإشارة نحو الشيء الذي يريده ، فإنّه يستخدمها بدل الأخذ بيد أبيه مثلاً ، فإنْ يتمكن من التلفّظ فلا شك أنه يستخدم اللّفظ للدلالة على أنّه يريد الشيء الفلاني ، فيقول لأبيه مثلاً : أعطني كذا ...

فالألفاظ دوالّ وكواشف وعلائم ... وهذا هو الأصل فيها.

وعليه ، فإنه مع التمكّن من التلفّظ ، يتحقّق بيان المراد وإبرازه بواسطة اللّفظ ، وتكون الألفاظ مبيّنات ومبرزات للمرادات ، وهذا معنى (عَلَّمَهُ

٤٣

الْبَيَانَ) (١) ، فمن تمكّن من اللّفظ وأمكنه إفهام مقصوده به ، لا يحتاج إلى الإشارة ، ولا إلى البعث والتحريك التكويني الخارجي ، ولذا تكون الإشارة أو التحريك الخارجي هي الدالّة على المقصود حيث لا يمكن اللّفظ.

وسواء كان الدالّ على المقصود هو اللّفظ أو التحريك الخارجي ، فإنّه لا ينظر إليه إلاّ بالنظر غير الاستقلالي ، بل إنّه ـ في هذه الحالة ـ يكون النظر الاستقلالي نحو المبعوث والمبعوث إليه ، أمّا اللّفظ أو التحريك الخارجي الذي تحقق به البعث ، فإنّه مغفول عنه ، ووجوده وجود حرفي لا استقلالي ... وهذا البعث هو «البعث النسبي» في اصطلاح المحقّق الأصفهاني ، إنه يقول بأنّ نفس هذا البعث الخارجي التكويني يوجد ويتحقّق بكلمة «افعل». والمحقق العراقي يشبّه الطلب بالصيغة بإرسال الطيور الجارحة نحو الصيد ، فكأنّ الآمر يرسل المأمور بأمره «افعل» نحو تحصيل الشيء الذي يريده منه ، فالمدلول عنده رحمه‌الله ـ هو الإرسال ولازم ذلك هو الطلب.

والحاصل : إن هذا أمر ارتكازي لا يمكن إنكاره ، وعباراتهم ـ وإنْ اختلفت في بيانه ـ مشيرة إلى هذا الأمر.

لكنّ التحقيق : أن هذه النسبة البعثيّة التكوينيّة التي تقوم الصيغة مقامها لا توجد بالصيغة ، بل إنها تكون مبرزة لها ، فالباعث يظهر ويبرز مقصوده باللّفظ بدلاً عن التحريك الفعلي نحوه ... فليس «افعل» هو «البعث» كما قال المحقق الأصفهاني ، بل إنه دالٌّ على البعث ومبرز له ، لكنّه مبرز للبعث ـ كما قلنا ـ لا لثبوت الشيء في ذمّة الطرف المقابل كما قال المحقق الخوئي ... فإنْ لوحظ هذا البعث النسبي باللّحاظ الاستقلالي أصبح مدلول لفظ «أبعثك» ،

__________________

(١) سورة الرحمن : ٣.

٤٤

ولذا قال السيد البروجردي : إن الطلب إن لوحظ باللّحاظ الاسمي الاستقلالي استعمل لفظ البعث والأمر فيقول : آمرك ، وإن لوحظ باللّحاظ الآلي استعملت صيغة «افعل» ... لكنّ التحقيق أنه «البعث» وليس «الطلب».

وبما ذكرنا ظهر التحقيق في المقام ، واختلافات الأنظار فيه.

دلالةُ الصّيغة على الوجوب

لقد تقدّم طرف من هذا البحث في مبحث دلالة مادّة الأمر على الوجوب ، وهنا نقول :

كلام الكفاية

إنه قد نفى المحقق الخراساني (١) البُعد عن أن تكون صيغة الأمر دالّة على الوجوب بالدلالة الوضعيّة ، واستدلّ على ذلك بالتبادر ، وأيّده بسيرة العقلاء ، وأنهم لا يقبلون اعتذار العبد إذا خالف الأمر عند ما لا توجد قرينة.

ثم ناقش صاحب (المعالم) قدس‌سره في قوله (٢) بأنّ الصّيغة مستعملة في أخبارنا في الندب بكثرة ، وذلك يمنع من التمسّك بأصالة الحقيقة للحمل على الوجوب ، بل يكون من المجاز المشهور ، ومقتضى القاعدة في مثله هو التوقّف ... فأجاب المحقق الخراساني :

أوّلاً : إن استعمال الصّيغة في الوجوب أيضاً كثير ، فكثرة استعمالها في الندب لا توجب نقلها عن الوجوب أو حملها على الندب.

وثانياً : إنّ كثرة الاستعمال إنما توجب الحمل أو تستلزم التوقّف فيما إذا كانت بدون قرينة ، وأمّا إذا كانت موارد استعمالها مصحوبة بالقرينة ، فمثل هذا

__________________

(١) كفاية الأصول : ٧٠.

(٢) معالم الدين : ٤٨.

٤٥

الاستعمال وإنْ كثر فلا يثبت المجاز المشهور ، ليلزم التوقّف عن حمل الصيغة المجرّدة عن القرينة على الوجوب ... ومن المعلوم أنّ الصيغة في الأدلّة الشرعيّة متى دلّت على الاستحباب فهي مقرونة بالقرينة اللّفظيّة أو الحاليّة على الندب.

وثالثاً : إنّ ما ذكره صاحب (المعالم) قدس‌سره منقوضٌ بكثرة تخصيص العمومات حتى قيل : ما من عامٍ إلاّ وقد خُص ، فلو كانت كثرة الاستعمال في غير المعنى الموضوع له اللّفظ موجبةً لنقل اللّفظ عن معناه الحقيقي ، أو حمله على غير معناه ، أو التوقّف ، لزم سقوط أصالة العموم ، وهو كما ترى ... فما نحن فيه كذلك.

الإيرادات على الكفاية ومناقشتها

هذا ، وقد أورد عليه السيّد البروجردي (١) :

بالفرق بين كلامه وكلام (المعالم) ، فذاك يقول : أخبار الأئمة ، وهو يقول السنّة ، والمراد منها في الاصطلاح الحديث النبوي.

وفيه : المراد من السنّة في لسان الفقهاء والأصوليين : قول المعصوم أو فعله أو تقريره.

وبأنّ كثرة استعمال اللّفظ في غير الموضوع له ـ ولو مع القرينة ـ يوجب انس الذهن بالمعنى ، وينتهي إلى المجاز المشهور.

وفيه : إنه ليس كذلك ، فلفظ «القمر» يستعمل في استعمالات الناس في غير الموضوع له بكثرةٍ مع القرينة ، ولكنْ لا يصل إلى حدّ الاستغناء عن القرينة فيكون مجازاً مشهوراً يوجب التوقّف.

__________________

(١) نهاية الاصول : ٩٣ ، الحجّة في الفقه : ١١٤.

٤٦

وأورد عليه في (المحاضرات) (١) :

بالفرق بين المقام وباب الخاص والعام ، فهناك ألفاظ موضوعة للدلالة على العموم ، ولا يكون استعمالها في غيره موجباً للمجاز ، وأمّا فيما نحن فيه فيوجد معنيان : الوجوب والندب ، وقد استعمل اللّفظ ـ أي الصيغة ـ في غير الموضوع له إلى حدٍّ كثير يوجب التوقف.

وفيه : إن صاحب (الكفاية) لا يقول بأن كثرة استعمال العام في الخاص يوجب أن يكون مجازاً مشهوراً ، بل يقول : تخصيص العام بكثرةٍ لا يوجب خروجه عن الدلالة على العموم بحيث يسقط أصالة العموم ، فكذلك ما نحن فيه ، فلا يوجب كثرة استعمال الصيغة في الندب خروجها عن كونها موضوعةً للوجوب بحيث يسقط أصالة الحقيقة.

مناقشة الاستاذ

قال الاستاذ : بل الحقّ ـ في الإشكال على المحقق الخراساني في هذا المقام ـ أن يقال :

أمّا دعوى التبادر ، فإنه يعتبر أن يكون التبادر من حاقّ اللّفظ لا من خارجه من إطلاقٍ أو سيرة ، وتحقّقه هنا أوّل الكلام ، لأن تبادر الوجوب :

إمّا هو من المادّة ، فهي ليست إلاّ المعنى الحدثي.

وامّا من الهيئة ، ومدلول الهيئة عنده عبارة عن الطلب ، وهو غير الوجوب ، أو عن البعث النسبي كما قال المحقق الأصفهاني ، وهو غير الوجوب.

وامّا عن المركَّب من المادّة والهيئة ، وهو ليس له وضع على حدة.

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ٢ / ١٢٥.

٤٧

على أنّ الصيغة تستعمل في الندب ـ وبدون أيّ عنايةٍ ـ كاستعمالها في الوجوب ، كأن نقول : اغتسل للجنابة ، ونقول : اغتسل للجمعة.

هذا بالنسبة إلى استدلاله بالتبادر.

وأمّا مناقشته لصاحب (المعالم) فالإنصاف : أنّ استعمال الصيغة في غير الوجوب كثير جدّاً ، ولعلّه الغالب على استعمالها في الوجوب ، ودعوى اقتران تلك الاستعمالات بالقرينة مقبولة ، لكن إنكار وصولها إلى حدّ المجاز المشهور مشكل.

وتنظيره ما نحن فيه بقضيّة ما من عامٍّ إلاّ وقد خص. فيه : إنه خلاف مبناه في باب العامّ والخاص ، فإنّه يرى أن العام مستعمل في معناه وهو العموم ، إلاّ أن الخصوص يستفاد من دالٍّ آخر ، فتعدّد الدالّ هو الدليل على التخصيص ، لا أن العام قد استعمل في غير ما وضع له ... وحينئذٍ ، فلصاحب (المعالم) أنْ يقول بالفرق بين المقامين ، وأن استعمال الصّيغة في الندب مجاز.

أدلّة القول بالدّلالة على الوجوب ونقدها

وعلى الجملة ، فقد ظهر سقوط الاستدلال بالتبادر للقول بدلالة الصيغة على الوجوب ، وكان هذا هو الوجه الأوّل.

الثاني : الكتاب والسنّة. فقد ذكر أصحاب (المعالم) و(البدائع) و(هداية المسترشدين) (١) آياتٍ وروايات من الكتاب والسنّة دالّةً على الوجوب ، كقوله تعالى : (مَا مَنَعَك أَلاَّ تَسْجُدَ إِذاْ أمَرْتُكَ)(٢) فإنّه يدلُّ على كون الصيغة دالّة على

__________________

(١) معالم الاصول : ٦٦ ، بدائع الاصول : ٢٥١ ط حجري ، هداية المسترشدين : ١٤٤ حجري.

(٢) سورة الأعراف : ١٢.

٤٨

الوجوب ، لكونه ذمّاً وتوبيخاً على المخالفة لقوله عزّ وجلّ (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ) (١) و(... فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ) (٢).

وفيه :

أوّلاً : هل كانت هذه الاستعمالات عاريةً عن القرينة؟

وثانياً : سلّمنا ، لكنّه استعمالٌ ، وهو أعمّ من الحقيقة.

نعم ، مثل قوله تعالى (وَأَتِمُّوا ...)(٣). بضميمة كلام الإمام عليه‌السلام ـ يدلُّ على الوجوب ، ولكنْ هل هذه الدلالة وضعيّة أو إطلاقيّة؟

الثالث : العقل. وهذا طريق المحقق النائيني (٤) الذي سلكه المتأخرون أيضاً ، وحاصله: إنّه إذا صدر أمر من المولى الحقيقي ، فإنّ العقل يحكم على العبد بمقتضى قانون حكم الطّاعة ـ بلزوم الإطاعة وباستحقاقه العقاب إذا خالف.

وقد تكلّمنا على هذا الوجه سابقاً. وحاصل الكلام هنا :

إن هذا الوجه أخصّ من المدّعى ، لأن المدّعى هو أعمّ من أن يكون الأمر صادراً عن المولى الحقيقي ، ولا يختص بمورد استدلاله ... فالأمر يدلّ على الوجوب في أوامر الناس بعضهم بعضاً ، مع عدم وجود حكم عقلي مستند إلى حق الطاعة ، إلاّ مع القرينة على الرخصة ، هذا أولاً.

وثانياً : إنّ الأحكام العقليّة ـ سواء في موارد المولى الحقيقي أو العرفي ـ تنتهي إلى حسن العدل وقبح الظلم ، وهما حكمان كلّيان ، فالعقل يرى

__________________

(١) سورة البقرة : ٣٤.

(٢) سورة ص : ٧٢.

(٣) سورة البقرة : ١٩٦.

(٤) أجود التقريرات ١ / ١٤٤.

٤٩

ضرورة إطاعة العبد لمولاه لأنها عدل ، وعدم عصيانه لأنه ظلم ، والظلم إنما يتحقق حيث يصدق العصيان ، وإذ لا عصيان ـ كما لو لم يكن أمر المولى إلزاميّاً ـ فلا ظلم ... وهذه هي كبرى حكم العقل.

والحاصل : إنه لا حكم للعقل إلاّ بقبح الظلم بمعصية أوامر المولى ، أمّا مع الشك في دلالة أمره على الوجوب والإلزام ، فلا يحكم العقل بقبح مخالفته ، إلاّ أن يقال بأنّ للعقل حكماً ظاهريّاً مفاده : كلّما شككت في أمر أنه إلزامي أو لا ، لزم عليك امتثاله وإلاّ فأنت ظالم ، ... ومن الواضح عدم وجود هكذا حكم ظاهري احتياطي من العقل.

وبعبارة أخرى ـ كما في (المنتقى) (١) ـ إنه بعد إدراك العقل أن إنشاء الطلب يمكن أن يكون عن إرادة حتميّة كما يمكن أن يكون عن إرادة غير حتميّة ، وأن المنشأ عن إرادة غير حتمية لا يلزم امتثاله ، كيف يحكم بلزوم الامتثال بمجرّد الإنشاء ما لم يدّع ظهور الصيغة في كون الإنشاء عن إرادة حتمية ، وهو خلاف المفروض؟ وهل يجد الإنسان في نفسه ذلك؟ ذلك ما لا نستطيع الجزم به بل يمكن الجزم بخلافه.

وعلى الجملة ، فإنّ مطلب الميرزا إنما يتمُّ لو ثبت أنّ للعقل هكذا حكم كما توجد في الشريعة أحكام ظاهريّة إلى جنب الأحكام الواقعيّة ، أو تقوم سيرة عقلائيّة على أنّه متى وردت الصيغة المجرّدة عن المرخّص في الترك فالطلب إلزامي ، وإلاّ ، فإنّ المرجع هو البراءة عقلاً وشرعاً ، وعدم كفاية قانون حقّ الطاعة على التحقيق.

الرابع : الظهور الإطلاقي في الوجوب.

__________________

(١) منتقى الأصول ١ / ٤٠٣.

٥٠

ذهب صاحب (الكفاية) (١) إلى أن الوجوب عبارة عن الطلب بلا تقييد ، وأن الاستحباب عبارة عن الطلب المقيَّد بالترخيص في الترك ، فهو المحتاج إلى البيان ، والوجوب غير محتاج إليه.

وقال المحقق الأصفهاني (٢) : إن الوجوب عبارة عن البعث الأكيد ، والاستحباب عبارة عن البعث غير الأكيد ، ولازم الأوّل عدم الترخيص في الترك ، والثاني لازمه الترخيص فيه ، وحينئذٍ يحتاج إلى البيان ، بخلاف الوجوب ، فإن نفس الصّيغة كافية في إفادته ، لأن الأمر العدمي ـ وهو هنا عدم الترخيص ـ لا يحتاج إلى بيان.

وعليه ، فكلّما جاءت الصيغة مجرّدة عن البيان في الترخيص ، كان مقتضى إطلاقها هو الوجوب.

قال الاستاذ في الدورة السابقة :

وهذا ثبوتاً صحيح ، إلاّ أن الكلام في مقام الإثبات ، إذ العقلاء لا يرون وجود مرتبتين للبعث ، إحداهما أكيدة ، والأخرى غير أكيدة ، فصيغة «اغتسل» سواء في غسل الجنابة والجمعة ، ولا فرق عندهم فيها ... هذا أوّلاً. وثانياً : إنه ليس لهيئة افعل وضعان ، بل الوضع الواحد ، وهي موضوعة للنسبة البعثيّة ، والتأكّد وعدمه أمران زائدان على حقيقة البعث ، وخارجان عن مدلول الهيئة ، فلو كان التأكّد مدلول الهيئة ـ وضعاً أو ظهوراً ـ لزم أن يكون استعمالها في غير الأكيد مجازاً.

وللمحقّق العراقي تقريب آخر (٣). قال :

__________________

(١) كفاية الأصول : ٧٠.

(٢) نهاية الدراية : ١ / ٣١٥.

(٣) نهاية الأفكار ١ / ١٦٢ ـ ١٦٣.

٥١

إن الوجوب عبارة عن نفس الطلب المعبَّر عنه بالطّلب التام ، وهو غير محدودٍ بحدّ ، بخلاف الندب ، فإنه محدود بحدّ النقص ، فالندب محتاج إلى بيانٍ زائد ، وحيث لا بيان ، فمقتضى الإطلاق هو الوجوب.

قال الاستاذ : وفيه :

أوّلاً : إنّه سواء كان الإرادة ، أو الفعل النفساني ، أو الطلب الإنشائي ، أو الطلب الاعتباري ، فهو ـ بأيّ معنىً أخذ ـ محدود.

وثانياً : إن المفروض وضع الهيئة لنفس الطلب ، لا الطلب غير المحدود ـ بأن يكون عدم المحدوديّة داخلاً في المفهوم ـ فلا مرتبة في مفهومه ، وعليه ، فكما أن المرتبة النازلة من الطلب محتاجة إلى البيان ، كذلك المرتبة العالية.

هذا ، وإلى ما ذكر من الكلمات يرجع كلام مثل الشيخ اليزدي الحائري (١) القائل بأنّ الندب عبارة عن الإرادة مع الإذن في الترك ، والوجوب هو الإرادة بلا إذنٍ في الترك ... فإنّه بعد إرجاعه إلى ما تقدّم يرد عليه ما ورد عليه ، وإلاّ فظاهر كلامه غير صحيح ، لأن الإرادة من الامور التكوينية ، والوجوب والندب من الأمور الاعتباريّة التشريعيّة.

وأيضاً ، فالإرادة من مقدّمات الطلب وليست نفس الطلب.

وتلخّص : عدم تمامية الاستدلال ـ لدلالة الصيغة على الوجوب ـ بالآية والرواية وبالعقل وبالتبادر وبالظهور الإطلاقي.

مختار الاستاذ ودليله

الخامس : السيرة العقلائية.

__________________

(١) درر الأصول ١ / ٧٤.

٥٢

فإنّ السيرة العقلائيّة قائمة على ترتيب الأثر إلزاماً على صيغة افعل ، وهي سيرة عامّة ، غير مختصّة بالموالي والعبيد ... كما تقدّم في مادّة الأمر.

وقد كان هذا هو المرتكز بين أصحاب الأئمة عليهم‌السلام ، وتشهد به ضروراتٌ من الفقه.

فالوجوب ليس لفظيّاً ولا عقليّاً ، بل هو عقلائي.

وممّا يشهد به في الفقه مسألة خيار الغبن ، فإن المستند العمدة على ثبوت هذا الخيار هو تخلّف الشّرط ، إذ الشرط الارتكازي بين العقلاء في المعاملة هو المساواة بين الثمن والمثمن ، فبناء العقلاء في سائر معاملاتهم على المساواة بينهما كاشف عن وجود هذا الشرط في كلّ معاملة ، ولو مع عدم التلفّظ به في متن العقد.

فكما يكون البناء العقلائي هناك ذا أثر من هذا القبيل ، ولدى التخلّف يستند إلى ذلك ، كذلك البناء العقلائي فيما نحن فيه ، على ترتيب أثر الوجوب والإلزام على صيغة افعل ، كاشف عن دلالتها على الوجوب.

وهذا هو التحقيق عند الاستاذ في الدورة اللاّحقة.

أقول :

ولكن ، هل لهذه السيرة ملاك أو لا؟ وكيف تحقق مع العلم باستعمال الصيغة في الندب بقدر استعمالها في الوجوب إن لم يكن أكثر؟

ومن هنا يرجع المطلب إلى الإطلاق ، بالبيان الذي ذكره في الدّورة السابقة. من أن الوجوب ـ في الحقيقة ـ أمر اعتباري منتزع من البعث وعدم الترخيص في الترك ، وأنّ الندب أمر اعتباري منتزع من البعث والترخيص في الترك ، فليس الوجوب والندب إلاّ أمرين منتزعين ، هذا في الواقع ، وكذلك

٥٣

الحال في مقام الإثبات عند العقلاء ، فإنّهم يرون البعث من المولى وعدم ترخيصه في الترك منشأً لانتزاع الوجوب بلا حالةٍ منتظرة ، وعليه ، فإن الندب هو المحتاج إلى البيان الزائد ، أمّا الوجوب فلا ، ومع الشك ، يكون مقتضى الاطلاق هو الوجوب ، فكان هذا الإطلاق هو الملاك لبناء العقلاء في حمل الكلام على الوجوب.

٥٤

الجملة الخبريّة

٥٥
٥٦

فيها قولان :

ذهب صاحب (الكفاية) (١) قدس‌سره : إلى أنّ الجملة الخبريّة مستعملة في نفس مدلولها ، وهو النسبة ، ففي الماضي : النسبة التحقّقية ، وفي المضارع : النسبة الترقّبية ، ففي قوله عليه‌السلام «يعيد» و«أعاد» ـ مثلاً ـ قد استعملت الجملة ـ في حال الإنشاء ـ في نفس المعنى المستعملة فيه في حال الإخبار ، غير أنّ الداعي يختلف ، فهو هنا عبارة عن الطلب ، وفي الإخبار عبارة عن الحكاية.

والحاصل : إن الفرق بين الجملتين واختلافهما إنّما هو بداعي الاستعمال ، والفرق بين صيغة الأمر والجملة الخبريّة هو : إن المستعمل فيه في الصيغة عبارة عن الطلب الإنشائي ، وفي الجملة هو النسبة ، فبها يُنشأ النسبة البعثيّة ، أو البعث النسبي.

وذهب السيد الخوئي (٢) : إلى أنّ الاختلاف بين الاخبار والإنشاء ليس من ناحية الداعي إلى الاستعمال ، بل إن المستعمل فيه في مثل «يعيد» في كلام الامام عليه‌السلام هو اعتبار الإعادة في ذمّة المكلّف ، فتكون الجملة الإخبارية في مقام الإنشاء مبرزةً للاعتبار.

وهذان القولان هما العمدة في المقام.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٧٠.

(٢) محاضرات في أصول الفقه ٢ / ١٣٥.

٥٧

مختار الاستاذ :

وقال الاستاذ دام بقاه في الدورة اللاّحقة : بأنّ الحق مع المحقّق الخراساني ، لعدم مجيء مدّعى القول الثاني إلى ذهن أحدٍ ممن سمع قول الإمام عليه‌السلام «يعيد الصلاة» ونحوه ، أو رواه ، بل إن مفاد هذه الجملة ـ في قول الإمام ذلك كما في الخبر ، جواباً عن السؤال عن حكم الصّلاة الواقع فيها الخلل الكذائي ـ نفس مفادها في مقام الإخبار ، والمستعمل فيه في كلا المقامين هو الإعادة ، غير أنّ القرائن الحاليّة أو المقاميّة أفادت أنّ الداعي للاستعمال في مثل مورد الجواب عن السؤال المزبور مثلاً هو الطلب ، ولمّا كان استعمال الجملة بهذا الداعي ، فلا مجال لتوهّم لزوم الكذب.

ويبقى الكلام في وجه دلالة الجملة الخبريّة في مقام الطلب مثل «يعيد» ، على الوجوب ، فإنّ ما ذكره المحقق الخراساني من أن نفس الإتيان بالجملة يكفي للدلالة على كون الطلب لزوميّاً لا يرضى المولى بمخالفته ، غير وافٍ بالمدّعى ، بل الحق أنّ الدلالة إنما هي بالسيرة العقلائيّة ، القائمة على الطلب الجدّي اللّزومي ، ما لم تقم قرينة على الخلاف ... وتوضيح ذلك :

إنه وإنْ كان الأصل في السيرة العقلائيّة عدم التعبّد ، لكنّ المفروض أنّ مدلول الجملة هو النسبة البعثيّة ـ إمّا بنحو الإيجاد أو بنحو الإبراز ، على الخلاف ـ وحينئذٍ ، فإنّ الوجود الاعتباري للبعث لا بدّ وأنْ يكون واجداً لآثار الوجود التكويني له ، لكونه نازلاً منزلته ، كما هو الحال في جميع التنزيلات ، ولا أقل من وجود الآثار الظاهرة ، وإلاّ لم يكن للتنزيل معنى ، فمثلاً : عند ما جعل الله سبحانه في آية المباهلة (١) عليّاً عليه‌السلام نفس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو جعل اعتباري بلا ترديد ـ فإنّه يقتضي وجود الآثار

__________________

(١) سورة آل عمران : ٦١.

٥٨

المتحقّقة في النفس النبويّة في نفس الإمام عليه‌السلام إلاّ ما خرج عقلاً أو نقلاً ، لأنّ النفس الولويّة أصبحت بمنزلة النفس النبويّة ، وكذا الحال في مثل «الطواف بالبيت صلاة» ... وهكذا ، فإن الآثار ـ خاصّةً البيّنة منها ـ لا بدّ وأنْ تترتّب ، إلاّ مع قيام القرينة على العدم، ...

وعلى هذا ، فإنّ من أظهر آثار البعث التكويني هو الانبعاث ، للتلازم الواضح بينهما ، وهذا الأثر لا بدّ من أن يترتّب على البعث الاعتباري ، سواء كان بالصّيغة أو بالجملة ، سواء على مبنى المشهور من أن صيغة افعل مثلاً تدل على الإيجاد ـ أي إيجاد الطلب ـ ، أو على مبنى المحقق الأصفهاني من أنها بعثٌ بالجعل والمواضعة ، أو على المختار من أنها مبرزة للبعث الاعتباري ـ وليست موجدة ـ ... والحاصل : إن أظهر آثار البعث التكويني هو التلازم بينه وبين الانبعاث من ناحية الباعث ، فلا يمكن أنْ يكون بعثٌ بدون انبعاث من ناحية الباعث ، فيكون الحال في البعث الاعتباري كذلك ، لكونه قائماً مقام التكويني ومنزلاً بمنزلته ... إلاّ إذا جاء من قبله المرخّص للترك ، وهذا خلاف الأصل.

فظهر : أن الدالّ على الوجوب هو السيرة العقلائيّة ، والسرّ في ذلك هو عدم التفكيك والانفكاك بين البعث والانبعاث من ناحية الباعث ... وهذا عين الوجوب ... خذ واغتنم.

تتمّةٌ ، في النظر في كلامٍ للسيد البروجردي في هذا المقام :

وملخّص ما ذكره رحمه‌الله كما جاء في تقرير بحثه تحت عنوان :

هاهنا نكتة لطيفة يعجبنا ذكرها :

إنّ الأوامر والنواهي الصادرة عن النبي والأئمة ـ عليهم الصلاة والسلام ـ

٥٩

على قسمين ، فمنها : ما صدر عنهم بعنوان إظهار السلطنة والحاكميّة وإعمال المولويّة ، نظير الأوامر الصادرة عن الموالي العرفيّة بالنسبة إلى عبيدهم ، كما في الأوامر والنواهي الواردة عنهم في الجهاد وميادين القتال. ومنها : ما صدر عنهم لبيان الأحكام الإلهيّة ، نظير إفتاء المفتي الفقيه.

فأمّا القسم الأوّل ، فيجب إطاعته ويحرم مخالفته ، وأمّا القسم الثاني فلا تكون مخالفته حراماً موجباً للفسق بما هي مخالفة تلك الأوامر والنواهي ، بل بما هي مخالفة أحكام الله تعالى ، لكون هذا القسم من أوامرهم ونواهيهم ارشاديّاً لا مولويّاً ....

ثم قال : والأوامر والنواهي المنقولة عن أئمّتنا بل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جلّها ارشادية بالمعنى المذكور ، وليست بمولويّة (١).

أقول (٢)

لكنَّ مقتضى الأدلّة هو : إنّ الأوامر والنواهي الصادرة عن المعصومين كلّها مولوية ، وهذا هو الأصل فيها إلاّ ما قام الدليل على إرشاديّته ، بل إنّ مفاد الأدلّة أنّ كلّ ما يصدر عنهم تجب إطاعتهم فيه ، لأنّ الأحكام مفوّضة إليهم ، ولهم الولاية المطلقة ، فلا فرق بين قول الله عز وجل في القرآن الكريم وقولهم الثابت عنهم ، في أن كليهما حكم إلهي يجب امتثاله.

أمّا بالنسبة إلى أوامر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فما ذكرناه موضع وفاقٍ بين الخاصّة والعامّة ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) (٣) ففي الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام :

__________________

(١) نهاية الاصول : ٩٧ ، الحجة في الفقه : ١١٦ ـ ١١٧.

(٢) هذا المطلب ملخّص من الباب الأوّل من كتابنا (عموم ولاية المعصوم).

(٣) سورة الحشر : ٧.

٦٠