تحقيق الأصول - ج ٢

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٢
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٠٠

رأي المحقق الخوئي

وقال السيّد الخوئي (١) ما حاصله : عدم الملازمة ، لأنّ استحقاق العقاب على ترك تحصيل المقدّمة أو حفظها ثابت بحكم العقل بلزوم حفظ غرض المولى ، فلا حاجة إلى جعلٍ من الشّارع لكونه بلا أثرٍ فهو لغو ، نظير باب الإطاعة والمعصية ، حيث أنّ الحاكم فيه هو العقل ، وحكم الشرع فيه بوجوب الإطاعة لغو ، لعدم الأثر.

وفيه :

إنّه قياس مع الفارق ، فإنّ الحاصل هنا والمتحقّق إنّما هو درك العقل استحقاق العقاب ، ولا أمر من الشارع ، ومن الناس من لا ينبعث من مجرّد الدرك المذكور ، فلا هم يخافون العقاب ولا يطمعون في الثواب ، بل يريدون ما أراده المولى فعلاً وتركاً ، فإذا لم يكن منه أمر أو زجر فلا يتحرّكون ، فجعل الوجوب الشرعي أو الحرمة يكون ذا أثر لهؤلاء ، وعلى أثره سيتحرّكون ، فلا لغويّة في الجعل ، بخلاف باب الإطاعة والمعصية ، فإن المحرّك الشّرعي نحو الصّلاة موجود بقوله «صلّ» ، فلا معنى لجعل «أطيعوا» أيضاً ، لأن التأثير في النفس يحصل به ويتحرّك العبد نحو الامتثال ، فالأمر بإطاعة الأمر بالصّلاة لغو.

رأي الأستاذ

فذهب الاستاذ ـ بعد الإشكال في القولين ـ إلى أنّ الحكم الشرعي ممكن وليس بلغوٍ ، لترتّب الثمرة عليه كما تقدَّم ، ولذا قال المحقّق الأردبيلي ومن تبعه في المقدمات المفوّتة باحتمال الوجوب الشرعي النفسي التهيّئي ،

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ٢ / ٣٦١.

٣٦١

ولو لا الإمكان لما قالوا بذلك ... فالوجوب الشرعي بالنسبة إلى المقدّمات المفوّتة ـ مع وجود حكم العقل ـ لا لغويّة فيه ، لأنّ منشأ الأمر أعم من جعل مصحّح العقاب ، ولكنّ هذا الإمكان لا يكفي للوقوع ، بل لا بدّ من الدليل ، فالحق : إنه ممكن ، ولكنْ لا يوجد كاشف عن هذا الوجوب ، إذ الكاشف إمّا شرعي وامّا عقلي ، أمّا الأوّل ، فلا يوجد دليل من الشرع على وجوب المقدّمات المفوّتة ، وأمّا الثاني ، فلأنّ الملازمة لم تتم.

وتلخّص : إن المقدّمات المفوّتة واجبة بالوجوب الشرعي الغيري بناءً على القول بالواجب المعلّق ثبوتاً وقيام الدليل إثباتاً ، بمناط اللاّبدية العقليّة في كلّ مورد يكون ذو المقدّمة واجباً ، وأمّا بناءً على القول بعدم ثبوت الواجب المعلّق أو استحالته ، فالمقدّمات المذكورة واجبة ـ تحصيلاً وحفظاً ـ عن طريق لزوم حفظ الغرض ، وهو حكم عقلي غير مستتبع للحكم الشرعي ، من جهة عدم تماميّة مقام الإثبات ... وما تقدّم من القولين خلط بين المحذور في مقام الثبوت وعدم المقتضي في عالم الإثبات.

وجوه اخرى لوجوب المقدّمة المفوّتة

هذا ، وهناك وجوه اخرى للقول بوجوب المقدّمة المفوتة غير التعلّم :

أحدها : القول بوجوب المقدمات بنحو الوجوب المشروط بالشرط المتأخّر ، وبه قال المحقّق الخراساني والسيد البروجردي (١).

وفيه : إنّ الواجب المعلّق ليس إلاّ الوجوب المشروط بالشرط المتأخّر ، فكلّ واجب عُلّق فيه الوجوب بشرطٍ متأخّر ـ وهو الزمان الآتي ـ فهو واجب معلّق. فهذا الوجه ليس إلاّ الالتزام بالواجب المعلّق.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٩٩ ، نهاية الأصول : ١٦٦.

٣٦٢

الثاني : القول بوجوبها بالوجوب النفسي التهيّئي ، فيجب تحصيلها أو حفظها. قاله السيّد البروجردي أيضاً (١).

وفيه : المقدمة الواجبة كذلك هي التعلّم ، كما سيأتي. وأمّا غيره من المقدمات فلم يقم دليل شرعي تامٌّ على وجوبه.

الثالث : القول بأنّ تفويت غرض المولى قبيح عقلاً ، بمعنى أنه تعجيز للمولى من أن يجعل ما يتعلّق به غرضه من الأحكام ، وهذا متحقق في صورة عدم تحصيل أو حفظ المقدّمة ، فهو قبيح. حكاه المحقق الأصفهاني (٢).

وفيه :

كما ذكر المحقق الأصفهاني : إنه موقوف على ثبوت استقلال العقل بلزوم تمكين المولى من أغراضه القائمة بتشريعاته وجعله للأحكام ، فيكون تعجيزه قبيحاً ، وهذا غير ثابت ، نعم ، العقل حاكم بقبح عدم تمكينه من أغراضه القائمة بأفعال المكلَّفين ، فيمكن بذلك تعجيزه من أصل الحكم والاعتبار ، لكنّ هذا حكم عرضي وليس باستقلالي.

الرابع : القول بكون وجوب المقدّمة ناشئاً من الشوق ، لا من وجوب ذي المقدمة ، ولمّا كان هذا الشوق حاصلاً قبل ذي المقدّمة ، فيجب تحصيل المقدّمة أو حفظها قبله ... قاله المحقق الأصفهاني.

وتوضيحه : إن إرادة المقدّمة ليست ناشئةً عن إرادة ذي المقدمة ، وإلاّ يلزم إمّا انفكاك العلّة عن المعلول ، وامّا تقدّم المعلول على العلّة ، وكلاهما محال ، والسرّ في ذلك هو : إنّه إذا وجبت المقدّمة ، فذو المقدمة واجب

__________________

(١) نهاية الأصول : ١٦٦.

(٢) نهاية الدراية ٢ / ٨٨ ـ الهامش.

٣٦٣

أيضاً ، لكنْ لا برهان على أن يكون وجوب ذي المقدمة مقارناً لوجوبها ... فقد يكون وجوب المقدمة الآن ووجوب ذي المقدمة فيما بعد. وعلى هذا ، فلو قلنا بأن الإرادة المتعلّقة بالمقدّمة ناشئة من الإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة ، لزم أحد المحذورين.

بل إرادة المقدّمة ناشئة من الشوق إلى ذي المقدّمة ، فمن أراد الدرس واشتاق إليه ، خرج من بيته وتحرَّك نحو المدرسة ... هذا في القضايا التكوينيّة ، وكذلك في التشريعيّة ، فإنّ الشوق لفعل الغير يوجب البعث إليه ، فإنْ رأى المولى توقّفه على مقدّمةٍ اشتاق إليها وبعث نحوها ، وإنْ لم يكن البعث إلى ذي المقدّمة حاصلاً في هذا الوقت ، لكون ظرفه هو الزمان اللاّحق.

فكان الشوق كافياً في إيجاب المقدّمة الآن ، وإنْ لم يكن ذو المقدمة واجباً ، ووجوب المقدّمة يعني تحصيلها أو حفظها إن كانت حاصلةً.

وفيه :

إنّ هذا الوجه لا يفيد لوجوب تحصيل أو حفظ المقدّمة ، لأنَّ البعث نحو المقدّمة يكون بالوجوب الغيري ، وهو موقوف على ثبوت الملازمة بين الوجوب الشرعي لذي المقدّمة والوجوب الشرعي للمقدّمة. وهذا غير ثابت ، بل التلازم بين الوجوب الشرعي لذي المقدّمة واللابدية العقلية للمقدّمة ، هذا أوّلاً.

وثانياً : إنه بناء على تماميّة التلازم المذكور ، تكون المقدّمة واجبةً بالوجوب الغيري ، لكن الوجوب الغيري لا يستتبع استحقاق العقاب حتى يكون التحصيل أو الحفظ واجباً ، إلاّ أن يرجع إلى لزوم حفظ غرض المولى

٣٦٤

وعدم جواز تفويته ، وهو الوجه الذي اخترناه.

هذا كلّه ، فيما ليست القدرة فيه دخيلةً في الملاك والغرض.

وتارة : القدرة دخيلة في الملاك.

وقد قسّموا دخل القدرة فيه إلى قسمين : أحدهما : أن تكون القدرة الدخيلة مطلقةً ، سواء كانت بالنسبة إلى ذي المقدمة أو المقدمة ، قبل العمل أو في ظرفه ، كالحكم بوجوب حفظ الإسلام وقوانينه مثلاً. والثاني : أن تكون قدرةً خاصّة ، كأن يقول الشارع : إن كنت قادراً على كذا فهو واجب عليك ، أو يحكم العقل بلزوم القدرة على الفعل المأمور به الخاص ، من باب عدم جواز تكليف العاجز.

فإنْ كان من قبيل الأوّل ، فالتحصيل أو الحفظ لازم كالأوّل ، لقبح تفويت غرض المولى ، وإن كان من قبيل الثاني ، فإنه يتبع كيفيّة أخذ القدرة الخاصّة ، فإنه إذا كان دخلها في الملاك بعد الوجوب فلا يجب التحصيل أو الحفظ ، وإن كان في وقت العمل ، جاز التفويت حتى في ذلك الوقت.

فالأمر يرجع إلى ظواهر الأدلّة في مقام الإثبات.

فأدلّة وجوب حفظ الإسلام ونحو ذلك ، ظاهرة في إطلاق القدرة المعتبرة ، وأمّا مثل الطّهارة بالنسبة إلى الصّلاة ، فيتبع كيفية الاستظهار من قوله تعالى (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) ونحوه ، فهذه الآية بضميمة (فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء) ظاهرة في اشتراط الصّلاة بالطّهارة بالقدرة عليها في ظرف الصّلاة والقيام إليها ، فلا يجب تحصيلها أو حفظها قبل الوقت ... لأنّه لا يلزم تحقيق الموضوع للحكم.

هذا ، ولو شك في أصل دخل القدرة أو في كيفية دخلها ، بأنْ تكون

٣٦٥

شبهة موضوعيّة لحكم العقل بلزوم تحصيل المقدّمة أو حفظها ، فما هو مقتضى القاعدة؟

إن كان للأحكام العقليّة والعقلائيّة حكم طولي أخذ به ، كحكم العقلاء بقاعدة الإمكان بعد حكمهم بحجّية الظواهر ، فالظواهر عند العقلاء حجّة ، فإنْ شكّ في موردٍ في إمكان التعبّد بمدلول اللفظ ، أخذوا بقاعدة الإمكان وقالوا بحجّية الظهور ما لم يثبت استحالة التعبّد به ... وكحكم العقل باشتراط التكليف بالقدرة ، ومع الشك في وجودها في مورد يحكم بلزوم الاحتياط.

وإنْ لم يكن له حكم طولي ، وصلت النوبة إلى الأصل العملي ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، والمرجع فيه هو البراءة العقليّة.

بحث التعلّم

وأمّا في التعلّم ـ وإنّما بحثوا عنه على حدة ، لأنّه كما يكون وجوديّة ، كذلك يكون مقدمة علميّة ، بخلاف سائر المقدّمات المفوّتة ، فإنها مقدّمة وجوديّة فقط ، إذ هي مقدّمات لامتثال التكليف ، والتعلّم مقدّمة للامتثال تارةً ولإحراز الامتثال اخرى. هذا أوّلاً.

وثانياً : التعلّم يجب تحصيله أو حفظه على كلّ تقدير ـ بخلاف سائر المقدّمات ، فإن ذلك يدور مدار كيفيّة أخذ القدرة إطلاقاً وخصوصيّةً ـ فإنّ معرفة الله تعالى غاية الغايات ، وليست مقدّمةً لشيء ، ومعرفة النبيّ والوصي عليهما‌السلام لها الجهتان ، جهة الموضوعيّة وجهة الطريقيّة ، ومعرفة الأحكام الشّرعية تختلف جهاتها ، فالحكم يجب أن يعرف ومتعلّقه كذلك ، ومتعلّق المتعلّق إنْ كان ... وهكذا ... وطريق تحصيل الأحكام أو حفظها ، إمّا الاجتهاد وامّا التقليد وامّا الاحتياط ... إلاّ على مسلك الأردبيلي ومن تبعه من القول

٣٦٦

بوجوب التعلّم وجوباً نفسياً تهيّئياً.

تفصيل الكلام بذكر الأقوال

فإنّه قد ذهب المحقّق الأردبيلي وصاحب المدارك (١) إلى أنّ التعلّم واجب بالوجوب النفسي إلاّ أنه واجب للغير ، وهذا معنى قولهم بوجوبه النفسي التهيّئي ، فهو واجب ، لكنْ لأنْ يتهيّأ المكلّف لحفظ الواقع عملاً.

وقال المشهور بعدم وجوبه بالوجوب الشّرعي ، بل هو لزوم عقلي ، فقيل : بمناط قاعدة الامتناع ، فمن ترك التعلّم ، فقد فوّت الواقع وامتنع عليه لكنْ باختيارٍ منه ، وقد تقدَّم أنه لا ينافي العقاب. وهذا رأي الشّيخ الأعظم (٢).

وقيل : بل بمناط لزوم دفع الضرر المحتمل. وهذا مختار الميرزا (٣).

وقيل بالتفصيل ، وأنّه تارة بذاك المناط ، واخرى بهذا. وهذا ما ذهب إليه السيّد الخوئي (٤).

توضيح المقام :

إذا استطاع المكلّف للحج ، ثمّ فوّت الاستطاعة ، تسلب منه القدرة على الحج ، فعليه أن يحافظ على الاستطاعة ليتمكّن من الحج الواجب عليه ، وإلاّ استحق العقاب ، بمقتضى قاعدة : الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فيستحقّ العقاب ، لأن امتناع الامتثال كان باختيارٍ منه.

فيقول الشيخ الأعظم : إنّ ترك التعلّم من هذا القبيل ، والقاعدة المذكورة هي المستند للحكم باستحقاق العقاب.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ٢ / ١١٠ ، مدارك الأحكام ٣ / ٢١٩.

(٢) مطارح الأنظار : ٤٤.

(٣) أجود التقريرات ١٥٤ ـ ١٥٧ ط ١.

(٤) محاضرات في أصول الفقه ٢ / ٣٦٧.

٣٦٧

ويقول الميرزا : إن العلم لا يوجب القدرة على الامتثال ، ولا الجهل بموجب للعجز عنه ، لأنّ الأحكام الشرعيّة مشتركة بين العالمين والجاهلين بلا فرق ... فلو كان الجهل موجباً للعجز ، لاستحال تكليف الجاهل واختصت الأحكام بالعالمين ... بل الميرزا يرى أنّ الجاهلين أيضاً مخاطبون بالأحكام الشرعيّة ، والخطابات الشرعيّة مطلقة تعمّ الفريقين ـ لكنْ لا بالإطلاق ، لأنّ مخاطبة الجاهل قبيحة ، فلا بدّ من العلم ، وتقييد الخطاب بالعلم يستلزم الدّور ، فيسقط الإطلاق ـ ويتمّ الشمول للفريقين بنتيجة الإطلاق ، على ما تقدَّم في مبحث التعبّدي والتوصّلي.

هذا بالنسبة إلى مطلق المقدّمات المفوّتة.

أمّا في خصوص التعلّم ، فالميرزا لا يرى أنه من المقدّمات المفوّتة ، بل يقول ـ وفاقاً لصاحب (الكفاية) ـ بلزوم التعلّم ، من جهة أنّ مجرَّد احتمال التكليف من ناحية المولى منجّز عقلاً ، فيجب عليه الفحص عن أحكام المولى ، دفعاً للضّرر المحتمل اللاّزم دفعه بحكم العقل.

التحقيق هو التفصيل

وحينئذٍ نقول : إنّه لا بدَّ من التفصيل بين الموارد :

تارةً : يكون ترك التعلّم مع القدرة عليه موجباً لمخالفة الواقع ، واخرى :

يكون موجباً لعدم إحراز الواقع ، بناءً على وجوب إحرازه وعدم كفاية الامتثال الإجمالي بالاحتياط ، مع التمكّن من الامتثال التفصيلي ، أو بناءً على القول باعتبار قصد التمييز.

فإنْ كان يوجب عدم التعلّم سلب القدرة على فعل الواجب ، كان مجرى قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، كما عليه الشيخ ، وليس صغرى

٣٦٨

قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل.

فالموارد تختلف ، فتارةً : يكون ترك التعلّم قبل الوقت موجباً لفوات أصل وجود الواجب ، كما لو لم يتعلَّم القراءة قبل الدخول في الصّلاة ، فإنه سوف لا يكون قادراً على التعلّم ، فيفوت الواجب ، وأُخرى : يكون ترك التعلّم موجباً لعدم تمكّنه من إحراز الموافقة الفضلية مع التكليف ، كما لو لم يتعلّم أحكام القصر والتمام وتردّد حكمه بينهما ، فهنا القدرة على أصل التكليف موجودة ، لأنّ المختار ـ كما ثبت في محلّه ـ أنّ الامتثال الإجمالي في عرض الامتثال التفصيلي ، وأنّ تكرار العبادة لا يضرّ ، وأنّ قصد التمييز غير لازم ، فإذا كانت القدرة على الواجب موجودةً ، وهو متمكّن من الاحتياط بالصّلاة ، مرّة قصراً ومرّة تماماً ... فلا يجب التعلّم ، إذ لا ضرر محتمل حتى يلزم دفعه.

هذا كلّه مع العلم بالابتلاء مستقبلاً.

الكلام في استصحاب عدم الابتلاء مستقبلاً

وأمّا لو شك في ابتلائه بالحكم الشرعي في المستقبل ، كأنْ لا يدري هل سيكون مستطيعاً ، فيجب عليه تعلّم أحكام الحج ليتمكّن من العمل في ظرفه ، أو لا يكون ، فلا يجب عليه التعلّم؟

إن مقتضى القاعدة العقليّة ـ وهو لزوم حفظ غرض المولى على العبد ، عملاً بوظيفة العبوديّة ـ هو تحصيل القدرة على الامتثال وحفظ القدرة عليه ، حتى تحصل البراءة اليقينيّة ، لكنّ هذا الحكم العقلي ـ كسائر الأحكام العقليّة ـ معلّق على عدم وجود المؤمّن من قبل المولى ، والمؤمّن هنا هو الاستصحاب ، لأنّ المفروض عدم ابتلائه الآن يقيناً ، وأنه شاك في الابتلاء

٣٦٩

مستقبلاً ، فيستصحب عدم الابتلاء بالاستصحاب الاستقبالي ، وبه يرتفع موضوع الحكم العقلي المذكور.

وقد نوقش في هذا الاستصحاب بوجوه :

الوجه الأوّل :

عدم شمول أدلّة الاستصحاب لهذا القسم من أقسامه. ذهب إليه الفقيه صاحب الجواهر (١). لكنّه إشكال مبنائي ، وقد تقرّر في محلّه عموم أدلّة «لا تنقض» له ، وعدم انصرافها عنه ، بل إطلاقها محكَّم ، تشمل المتيقّن السّابق والحالي واللاحق بلا فرق.

الوجه الثاني :

إنه يعتبر في الاستصحاب أنْ يكون المستصحب إمّا حكماً شرعيّاً ، وامّا موضوعاً لحكم شرعي ، و«عدم الابتلاء» ليس حكماً ولا موضوعاً ، ولا يترتّب على استصحاب عدم الابتلاء أيّ أثر. قاله الميرزا (٢).

جواب السيد الخوئي

وأجاب في (المحاضرات) (٣) بما ملخّصه : إن الحكم العقلي غير قابل للتخصيص لكنّه قابل للتخصّص ، بأنْ يتصرَّف الشارع في موضوعه ويرفعه بجعل الترخيص ، وهنا احتمال الابتلاء في المستقبل هو الموضوع للأثر ، وهو وإنْ كان موجوداً بالوجدان ، لكنَّ الاستصحاب إذا جرى كان رافعاً للإبتلاء الواقعي تعبّداً ، فلا يبقى لقاعدة دفع الضرر المحتمل موضوع ... نظير حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، ومجيء البيان من ناحية الشارع ، الرافع لموضوع

__________________

(١) كما في أجود التقريرات ١ / ٢٣١.

(٢) أجود التقريرات ١ / ٢٣١.

(٣) محاضرات في أصول الفقه ٢ / ٣٦٧.

٣٧٠

الحكم العقلي ، وكذلك هنا ، فإنّه بجريان الاستصحاب يرتفع الموضوع لقاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل.

قال الأستاذ :

وفيه : إن الميرزا يقول بعدم جريان هذا الاستصحاب ، لعدم توفّر الشرط في المستصحب ، وهو كونه حكماً شرعيّاً أو موضوعاً لحكمٍ شرعي ... نعم ، لو جرى لارتفع به موضوع الحكم العقلي.

بل الصّحيح في الجواب أن يقال : ليس الشرط في الاستصحاب أن يكون المستصحب كذلك ، بل إن قابليّة التعبّد للأمر المستصحب وترتب الأثر عليه تكفي للجريان ، وفيما نحن فيه ، لمّا كان التعبّد بهذا الاستصحاب موجباً لسقوط الحكم العقلي وحصول التوسعة من ناحية الشارع على العبد ، كان الاستصحاب ذا أثر ، ولا تلزم اللّغوية فيه.

وبعبارة أخرى : إن الشك في الابتلاء الذي هو موضوع حكم العقل ليس مطلقاً ولا مهملاً ، بل هو مقيَّد بصورة عدم حكم الشارع بعدم الابتلاء فيها ، وقد أفاد الاستصحاب حكمه بعدم الابتلاء ، فارتفع الموضوع ، فلا حكم عقلي بلزوم دفع الضرر المحتمل.

الوجه الثالث :

وهو إشكال إثباتي وحاصله : إنّا نعلم إجمالاً بأنه سنبتلي بأغراض المولى في المستقبل ، ومع وجود هذا العلم الإجمالي تصبح جميع موارد احتمال الابتلاء أطرافاً للعلم الإجمالي ، وحينئذٍ تكون أدلّة الاستصحاب قاصرةً عن الشمول ، إذ الاصول النافية لا تجري في أطراف العلم ، بسبب وقوع التنافي ، فدليل الاستصحاب يقول : لا تنقض اليقين بالشك ، أي : سواء

٣٧١

كان شكّاً ابتدائيّاً أو في أطراف العلم ، بل انقضه بيقينٍ آخر ، أي سواء كان يقيناً تفصيليّاً أو إجماليّاً ، فيقع التعارض بين صدر الدليل وذيله في مورد العلم الإجمالي ، فلا يجري دليل الاستصحاب فيه.

أجاب الأستاذ

إن هذا إنّما يتمّ في صورة كون الذيل معارضاً للصّدر ولسائر أدلّة الاستصحاب حتى ما لا ذيل له منها ، وهذا غير ممكن ، لأن في قوله : «بل انقضه بيقينٍ آخر» أصلاً وإطلاقاً ، أمّا الأصل فهو : لا تنقض اليقين بصرف وجود اليقين ، وأمّا الإطلاق ، فإنّه شامل لليقين التفصيلي واليقين الإجمالي ، فهذا مدلول الذيل ، وعليه ، فأصل الذيل ليس طرفاً لسائر أدلّة الاستصحاب الدالّة على عدم نقض اليقين بالشك ، بل طرف المعارضة هو إطلاق الذيل ، لكنّ الإطلاق إنّما ينعقد لو لم يكن مانع عنه ولو احتمالاً ، ومع وجود ما يحتمل المانعيّة عنه فهو غير منعقد ، فلا معارضة بين الذيل وأدلّة الاستصحاب ، بل هي باقية على إطلاقها شاملةً لأطراف العلم الإجمالي ، ومنها ما نحن فيه ....

الوجه الرابع :

هو المانع الثبوتي ، وهو لزوم المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال. لأنّا نعلم إجمالاً بالابتلاء بغرضٍ من أغراض المولى ، فإذا جرى الاستصحاب في جميع الأطراف لزمت المخالفة القطعيّة ، وإجراؤه في بعضها المعيّن ترجيح بلا مرجح ، وغير المعيّن لا حقيقة له ، فلا يجري الاستصحاب ثبوتاً ، لاستلزامه الترخيص في المخالفة القطعيّة.

قال الاستاذ

هذا متين ، وهو دليل صاحب (الكفاية) في الشبهات الحكميّة ، لكنه

٣٧٢

أخصّ من المدّعى ، إذ هو منجّز فيما إذا لم ينحل العلم الإجمالي.

الوجه الخامس :

ورود أدلَّة وجوب المعرفة والتعلّم في مورد هذا الاستصحاب ، مثل آية السؤال (١) والحديث : «طلب العلم فريضة» (٢) والخبر : «هلاّ تعلّمت ...» (٣) ، لأن في غالب الموارد لا يقين بل لا اطمينان بالابتلاء ، فلو جرى الاستصحاب في موارد احتمال الابتلاء لزم اختصاص الأدلّة بمورد اليقين بالغرض ، وهو فرد نادر ، وتخصيص الأكثر مستهجن ، فلا بدّ من رفع اليد عن الاستصحاب.

الجواب

وفيه : إن موارد العلم الإجمالي ، وكذا موارد القطع التفصيلي ، كثيرة ، وفي جميعها تتقدّم أدلّة التعلّم ، نعم ، يتقدّم الاستصحاب على تلك الأدلّة في الشبهات البدويّة ، ولا يلزم من ذلك التخصيص المستهجن.

هذا ، ولا يخفى أن التعارض هنا بين أدلّة التعلّم وأدلّة الاستصحاب ، فلا يقال بأنها أمارات والاستصحاب أصل ، فكيف التعارض؟

وتلخص :

تماميّة الاستصحاب المذكور.

لكنّ مخالفة الأصحاب مشكلة.

الكلام في تعلّم غير البالغين

وهل يجب التعلّم على غير البالغ؟

قيل : لا يجب عليه تعلّم الأحكام الشرعية التي سيبتلي بها عند البلوغ ،

__________________

(١) سورة النحل : ٤٣.

(٢) الكافي ١ / ٣٠ كتاب فضل العلم.

(٣) تفسير الصافي ٢ / ١٦٩.

٣٧٣

وإنْ علم بفوات الواجب أو فوات إحراز الواجب عنه ، على أثر عدم التعلّم.

وقيل : يجب عليه التعلّم كما يجب على البالغين المكلَّفين.

وجه القول الثاني

إنّ العقل حاكم بلزوم حفظ أغراض المولى وملاكات أحكامه ، والصبيّ إنْ لم يتعلَّم الأحكام قبل البلوغ ، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى ترك الواجبات عند بلوغه بسبب الجهل ، وبذلك تفوت أغراض المولى ، وهذا الحكم العقلي عام ، فهو موجود في مورد البالغ وغيره ، وغير قابلٍ للتخصيص.

ووجه القول الأول

إنّ المقتضي لوجوب التعلّم على الصبيّ موجود ، وهو الحكم العقلي المذكور ، ولكنّ المانع أيضاً موجود ، وهو حديث رفع القلم (١) ... وتوضيح ذلك :

إنّ الحكم العقلي منه تنجيزي ، وهو ما لا يقبل التصرّف من الشارع ، ومنه تعليقي ، وهو الحكم الثابت ما لم يتصرَّف الشارع ، وما نحن فيه من قبيل القسم الثاني ، إذ قد تصرَّف الشّارع فيه بواسطة حديث رفع القلم ، وحينئذٍ يكون الصّبي معذوراً في فوت بعض الأحكام والملاكات ، لعدم القدرة.

رأي الأستاذ

وبعد توضيح القول بوجوب التعلّم وهو للميرزا (٢) ، والقول بعدم وجوبه ، وهو للمحاضرات (٣).

فإنّ شيخنا رأى ـ في الدورتين ـ أنّ الصحيح هو القول بالوجوب ، وأن

__________________

(١) كتاب الخصال ١ / ٤٦.

(٢) أجود التقريرات ١ / ٢٢٩.

(٣) محاضرات في أصول الفقه ٢ / ٣٧٤.

٣٧٤

الحكم العقلي عام ولا يرتفع عمومه بحديث رفع القلم ، وذلك :

لأنّ وجوب التعلّم ليس شرعيّاً ، بدليل أنه لمّا يقال للعبد : «هلاّ تعلَّمت» فإنّه يسكت ، ولو كان وجوبه شرعيّاً لأجاب بعدم ثبوت الدليل على وجوبه من قبل المولى ، وأنّه كان بحاجةٍ إلى تحصيله إنْ كان ثابتاً ... فسكوته أمام الحجّة دليلاً على أن وجوب التعلّم غير تحصيلي ، أي هو وجوب عقلي ، وعلى هذا ، فلا يعقل جعل الوجوب الشرعي في مورده ، للزوم اللّغوية ... وإذا كان وجوب التعلّم غير شرعي ، استحال أن يكون مورداً لحديث رفع القلم ....

هذا حلاًّ.

وأمّا نقضاً ، فإنّه إذا كان حديث رفع القلم رافعاً للحكم العقلي بوجوب تعلّم الأحكام ، فليكن رافعاً لغير الأحكام أيضاً ، كوجوب الإيمان بالله وبالنّبي ، فالصبيّ قبل البلوغ لا يجب عليه النظر في المعجزة مثلاً ليحصل له الإيمان ، وبعد البلوغ ، والمفروض أنّه لم ينظر في المعجزة ، يكون معذوراً في عدم إيمانه بالله وبالرسول مدّةً من الزمن ، وهذا ما لا نظنّ التزام القائل به.

فظهر أن الحق مع الميرزا فيما ذهب إليه.

ويبقى الكلام في معنى حديث رفع القلم فنقول :

أمّا أن يخصّص الحكم العقلي فغير صحيح لما تقدَّم ، وكذلك استحقاق العقاب ، لأن المفروض تحقّق موضوع الاستحقاق عند العقل ، فلا يمكن للشارع أن يرفع الحكم ، وكذا تخصيصه المؤاخذة خاصّة ، بأن يقال باستحقاقه للعقاب غير أنّ المؤاخذة مرتفعة بالحديث لطفاً وامتناناً.

لكنّا نقول : بأن «القلم» في الحديث ، أعمّ من قلم التكليف وقلم

٣٧٥

المؤاخذة ، ولا مانع من رفع قلم المؤاخذة عن الصبي على أثر التخلّف عن حكم العقل بلزوم التعلّم ، ولمّا كان الجزاء بيد الحاكم ـ بخلاف الاستحقاق ـ فله إعطاء الجزاء وله عدم الإعطاء ، إذن ، يمكن رفع المؤاخذة مع كونه مستحقّاً لها ، لكونها بيد المولى وضعاً ورفعاً ، وكأنّ منشأ الاشتباه هو الخلط بين «الاستحقاق» و«المؤاخذة» ، والحال أن الأوّل ليس للمولى دور فيه ، بخلاف الثاني ، فله الوضع والرفع فيه.

الأقوال في وجوب التعلّم

وهل وجوب التعلّم إرشادي أو مولوي ، وعلى الثاني ، هل هو نفسي أو غيري؟

تارةً : يُنشأ الحكم لمصلحةٍ في نفسه ، فالوجوب نفسي ، وأخرى : يُنشأ لمصلحةٍ في متعلِّقه ، فهو وجوب غيري شرعي ، وثالثة : يُنشأ لمصلحة التحفّظ على الواقع ، فهو وجوب طريقي.

ويقابلها : الوجوب الإرشادي ، فهو ليس بوجوبٍ شرعي ، بل إرشاد إلى حكم العقل.

الوجوب النفسي

فهل في نفس التعلّم مصلحة؟ لا شك في قيامها في معرفة أصول الدين ، أمّا الأحكام الشرعيّة فوجدانها للمصلحة النفسيّة ممكن ثبوتاً ، بل الاعتبار يساعده ، لأنه كمال في نفسه ، وإن كان للعلم حيثيّة المقدّميّة للعمل أيضاً ، إلاّ أنه قد اقيمت أدلّة في مقام الإثبات على أنْ لا مصلحة للتعلّم إلاّ المقدميّة للعمل ، فلا نفسيّة ، والأدلّة هي :

١ ـ إن ظاهر السؤال عن الشيء هو وجود المصلحة في الشيء لا في

٣٧٦

نفس السؤال عنه ، فمن يسأل عن الطريق يريد الوصول إلى المقصد ، وليس في نفس سؤاله عنه مصلحة.

وفيه : إنّ قياس وجوب التعلّم على السؤال عن الطريق قياس مع الفارق ، لوضوح أنّ العلم بالأحكام كمال ، وليس الاطّلاع على الطريق كمالاً.

٢ ـ الخبر : «هلاّ تعلّمت» فإنه ظاهر في أن وجوبه من أجل العمل.

وفيه : إن معنى الرواية أن العمل لا يكون بلا علم ، وليس معناها أنّ العلم لا فائدة فيه إلاّ العمل.

٣ ـ إنه لو عمل بلا علمٍ فوقع في خلاف الواقع ، لم يؤاخذ إلاّ على ترك الواقع ، فلو كان التعلّم واجباً نفساً ثبت مؤاخذتان ، وهو باطل.

قال الاستاذ

إن المطلوبيّة النفسيّة للتعلّم هو حكم العقل وظاهر الأدلّة ، فيكون وزان العلم وزان العقل ، في كونه كمالاً ووسيلةً معاً ، فقد اجتمع في مطلوبيّة العلم حيثية النفسيّة وحيثيّة الطريقيّة ، ولا مانع من اجتماعهما فيه بل هو واقع ، يقول تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)(١) ويقول : (وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمى وَالْبَصِير وَلا الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ)(٢) وفي الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : «العلم وديعة الله في أرضه» (٣) و«ليس العلم بكثرة التعلّم ، إنما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد» (٤) ولا يخفى أن كون الإنسان حاملاً لنور الله عزّ وجلّ ووديعته شيء مطلوب بنفسه ، وكذا ظاهر

__________________

(١) «سورة الزمر : ٩.

(٢) سورة فاطر : ١٩.

(٣) بحار الأنوار ٢ / ٣٦.

(٤) بحار الأنوار ٦٧ / ١٤٠.

٣٧٧

أخبار «فضل العالم على العابد» (١).

لكنّ الوجه الثالث ـ من الوجوه المتقدّمة ـ يمنعنا عن القول بالوجوب النفسي.

أقول :

ما هو الدليل على بطلان ثبوت المؤاخذتين واستحقاق العقابين؟ الظاهر : أنْ لا دليل على البطلان لا عقلاً ولا نقلاً ، بل إنّ العقل والاعتبار يساعدان على التعدّد ، ويبقى التسالم بين الفقهاء فقط ، فتأمّل.

الوجوب الغيري

إنْ كان العلم مقدّمة وجوديّة لحصول ذي المقدّمة ، أمكن القول بوجوب التعلّم وجوباً غيريّاً ، لكنّ العلم ليس مقدّمة وجوديّة ، بل هو مقدّمة علميّة لذي المقدّمة ، وهذا ظاهر الأخبار ، فلا يمكن الالتزام بالوجوب الغيري الشرعي.

بين الوجوب الارشادي والطريقي؟

فيدور الأمر بين الوجوب الإرشادي والوجوب الطريقي؟

قال في (المحاضرات) (٢) : أمّا الوجوب الإرشادي بأنْ يكون ما دلَّ عليه من الكتاب والسنّة إرشاداً إلى ما استقلّ به العقل من وجوب تعلّم الأحكام ... فيرد عليه : إنه لو كان وجوبه إرشاديّاً ، لم يكن مانع من جريان البراءة الشرعيّة في الشبهات الحكميّة قبل الفحص ، وذلك : لأن المقتضي له ـ وهو إطلاق أدلّتها ـ موجود على الفرض ، وعمدة المانع عنه إنّما هي وجود تلك الأدلّة ،

__________________

(١) الكافي ١ / ٣٣ ، ٣٤.

(٢) محاضرات في أصول الفقه ٢ / ٣٧٦.

٣٧٨

والمفروض أنها على هذا التفسير حالها حال حكم العقل ، فهي غير صالحة للمانعيّة ، فإن موضوعها يرتفع عند جريانها ، كحكم العقل.

فالنتيجة : إنه يتعيّن الاحتمال الأخير ، وهو كون وجوب التعلّم وجوباً طريقيّاً ، ويترتّب عليه تنجيز الواقع عند الإصابة ، لأنه أثر الوجوب الطريقي ، كما هو شأن وجوب الاحتياط ووجوب العمل بالأمارات ، وما شاكل ذلك ، وعليه ، فتكون هذه الأدلّة مانعةً عن جريان البراءة فيها قبل الفحص ، وتوجب تقييد إطلاق أدلّتها بما بعده.

وحاصل هذا الإشكال : إنه إذا لم يكن وجوب التعلّم شرعيّاً ، والأوامر تحمل على الإرشاد إلى حكم العقل ، فلازمه إمكان جريان البراءة الشرعيّة في موارد احتمال الابتلاء بالحكم ، لأنه إذا كان الأمر إرشاديّاً كان وزانه وزان حكم العقل ، وحكم العقل يزول مع ترخيص الشارع ، وأدلّة البراءة الشرعيّة مرخّصة ، فالأخبار الواردة في التعلّم كذلك لا تدلّ على الوجوب ، لحديث الرفع ونحوه من أدلّة البراءة.

قال شيخنا :

إن هذا الإشكال لا يجتمع مع القول بقصور أدلّة البراءة الشرعيّة اقتضاءً ، ومن قال بكونها غير مطلقة ـ لأنها محفوفة بالقرائن العقليّة ، فلا تشمل موارد الشبهة الحكميّة قبل الفحص ـ فلا يمكنه إيراد هذا الإشكال.

إن هذا الإشكال لا يجتمع مع القول في شرائط جريان الاصول : «وأمّا الاصول النقليّة فأدلّتها وإنْ كانت مطلقة في نفسها ، إلاّ أنها مقيَّدة بما بعد الفحص ، بالقرينة العقليّة المتّصلة والنقلية المنفصلة» (١).

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ / ٤٩٤.

٣٧٩

إذن ، فقد وقع الجمع في (المحاضرات) بين المتهافتين ... وبناءً على كون أدلّة الاصول مقيَّدةً ـ كما ذكر ـ يتمّ القول بالوجوب الإرشادي ، لوجود المقتضي وعدم المانع.

لكنّه اختار الوجوب الطريقي ، وهو لا يمكنه الالتزام به ، لأن مبناه في الوجوب الطريقي أنه يعتبر فيه أن لا يكون قبله احتمال العقاب ، بل الوجوب هو المنجّز للواقع ، وعلى هذا ، فلا يمكن الالتزام بالوجوب الطريقي ، لوجود احتمال العقاب بالعقل ... وقد صرَّح بالمبنى المذكور في أوائل مباحث البراءة ، عند دفع شبهة وجوب دفع الضرر المحتمل ، حيث قال : «وبعبارة اخرى : إن احتمل العقاب مع قطع النظر عن وجوب دفع الضرر المحتمل ، فجعل وجوب دفع الضرر المحتمل لغو ، إذ الأثر المترتّب عليه هو احتمال العقاب المتحقق مع قطع النظر عنه على الفرض ... فتعيّن أن يكون وجوب دفع الضرر المحتمل إرشاديّاً ... والفرق بينه وبين الوجوب الطريقي : إن الوجوب الطريقي هو المنشأ لاحتمال العقاب ، ولولاه لما كان العقاب محتملاً ، على ما تقدّم بيانه ، بخلاف الوجوب الإرشادي ، فإنه في رتبة لاحقة عن احتمال العقاب ...» (١).

فظهر أنه قد جمع بين المتهافتين ، بل على هذا المبنى يتعيّن القول بالوجوب الإرشادي لا الطريقي.

فالحق : هو الوجوب الإرشادي ، إلاّ إذا قلنا بإمكان جعل المنجّزين فيصحّ الطريقي.

تمّ الجزء الثاني ، ويليه الجزء الثالث بعون الله.

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ / ٢٨٦.

٣٨٠