تحقيق الأصول - ج ٢

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٢
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٠٠

انقسام الواجب إلى :

المعلّق والمنجَّز

٣٤١
٣٤٢

تمهيد :

قسَّم صاحب (الفصول) (١) الواجب إلى المعلَّق والمنجَّز ، بعد تقسيمه إلى المطلق والمشروط ، وذكر أنه تارةً : يكون الواجب والوجوب غير معلَّقين على شيء غير حاصل ، وأخرى : يكون الوجوب غير معلّق ، والواجب معلقاً على أمر غير حاصل ، فسمّى الواجب في الأوّل بالمنجَّز وفي الثاني بالمعلَّق ، والوجوب مطلق في كليهما.

والتقسيم إلى المعلّق والمنجّز من انقسامات الواجب ، كما أن التقسيم إلى المطلق والمشروط من انقسامات الوجوب ، وتوصيف الواجب بالمطلق والمشروط إنما هو من باب الوصف بحال المتعلَّق ، فهما يرجعان في الواقع إلى الوجوب.

وعلى الجملة ، الواجب إنْ كان مقيّداً بأمرٍ متأخّر فمعلّق وإلاّ فمنجَّز ، فالحجّ ـ مثلاً ـ واجب مقيّد بأمرٍ متأخّر ، وهو وقوعه في يوم عرفة ، وهو قيد غير مقدور للمكلَّف ، وقد جعل القيد في (الفصول) أمراً متأخّراً غير مقدور ، لكنّه في نهاية البحث جعله أعم من المقدور وغير المقدور.

وأشكل الشيخ (٢) على صاحب (الفصول) هذا التقسيم ، لأنّ «المعلّق» ليس إلاّ «المشروط» فكان يكفي التقسيم إلى المطلق والمشروط ، والسبب

__________________

(١) الفصول : ٧٩.

(٢) مطارح الأنظار : ٥١ ـ ٥٢.

٣٤٣

في ذلك هو : إنَّ القيود كلَّها ترجع عند الشيخ إلى الواجب ، فكان الواجب إمّا مقيّداً بشيء وامّا غير مقيَّد.

واعترضه في (الكفاية) (١) بأنّ هذا الإشكال غير متوجّه إلى (الفصول) ، بل يتوجّه على المشهور القائلين برجوع القيود إلى الهيئات ، وأمّا تقسيم (الفصول) فالشيخ موافق عليه ، لأنّ القيود ترجع عنده إلى المواد ، فينقسم الواجب إلى المنجّز والمعلَّق كما في (الفصول) وإنْ اختلفا في التسمية ، فذاك يسمّي بالمنجّز والمعلّق ، والشيخ يسمّي بالمطلق والمشروط.

ثم أورد في (الكفاية) على (الفصول) بعدم ترتّب الفائدة على هذا التقسيم ـ وإنْ كان صحيحاً ـ وكلّ تقسيم لا بدّ وأنْ يكون ذا ثمرة ، وإلاّ فالتقسيمات بحسب الخصوصيّات كثيرة ، وذلك ، لأن المقصود هو الحكم بوجوب المقدّمة ، كمقدّمات الحج قبل يوم عرفة ، والحال أنّ خصوصيّة كون الواجب حاليّاً أو استقبالياً ، لا يوجب تقسيم الواجب إلى القسمين المذكورين ، لأنّ الأثر المقصود ـ وهو وجوب المقدّمة ـ أثر إطلاق الوجوب وحاليّته ، لا استقبالية الواجب التي هي خاصيّة الواجب المعلّق.

والحاصل : إنه إنْ كان الوجوب مطلقاً وفعليّاً ، كانت المقدّمة واجبةً ، وأمّا استقباليّة الواجب ، فلا دخل لها في وجوب تحصيل المقدمة.

وقد دافع المحقّق الأصفهاني ـ وتبعه في (المحاضرات) (٢) ـ بأنّ تقسيم (الفصول) إنما هو للتفصّي عن الإشكال الذي أورد على وجوب تحصيل المقدمات قبل زمان الواجب ، كمقدّمات الحج ، إذْ الحكم بوجوبها كذلك

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٠١.

(٢) نهاية الدراية ٢ / ٧٢ ، محاضرات في أصول الفقه ٢ / ٣٤٨.

٣٤٤

ليس من آثار إطلاق الوجوب وفعليّته ، فيحتاج إلى تقسيم الواجب إلى المعلّق والمنجز. ولعلّ هذا مراد (الكفاية) من «فافهم» ، وإنْ احتمل أنْ يكون إشارةً إلى أنّ هذا التقسيم له أثر آخر ـ لا يترتَّب على تقسيم الواجب إلى المطلق والمشروط ـ إذْ ما عُلّق عليه الواجب في الواجب المعلَّق ، يمكن أن يكون من غير المقدور للمكلّف ، بأنْ يكون وجوب الحج فعليّاً ، والواجب ـ وهو الحج معلّقاً على يوم عرفة ، الخارج عن قدرة المكلَّف.

وتلخّص : إن تقسيم (الفصول) له فائدة ، وعمدتها هو الحكم بوجوب تحصيل المقدّمات قبل مجيء زمان الواجب.

ثم أورد عليه في (المحاضرات) :

بأنّ الواجب المعلَّق ليس قسماً من الواجب المطلق في مقابل المشروط ، بل هو قسم منه ، لأنَّ وجوب الحج في أوّل الأشهر الحرم بالنسبة إلى يوم عرفة ليس بمهملٍ ، لأن الاهمال محال ، فهو إمّا مطلق أو مقيَّد به ، قال : لا شبهة في أن ذات الفعل ـ وهو الحج ـ مقدور للمكلَّف ، فلا مانع من تعلّق التكليف به ، وكذا إيقاعه في يوم عرفة ، وأمّا نفس وجود الزمان ـ يوم عرفة ـ فهو غير مقدور له ، فلا يمكن وقوعه تحت التكليف ، وبما أنّ التكليف لم يتعلَّق بذات الفعل على الإطلاق ، وإنما تعلَّق بإيقاعه في الزمان الخاص ، فعلم أن لذلك الزمان دخلاً في ملاك الحكم ، فيكون مشروطاً به ، إلاّ أنه على نحو الشرط المتأخّر ... فظهر أنّ هذا قسم من الواجب المشروط بالشّرط المتأخّر ، لا من الواجب المطلق ....

وقد ردّ عليه الاستاذ في كلتا الدورتين بما حاصله :

إن قيد الوجوب يفترق عن قيد الواجب ، لأنه في الأوّل دخيلٌ في أصل

٣٤٥

ملاك الحكم ، كالزّوال بالنسبة إلى صلاة الظهر ، إذ لا ملاك ومصلحة لها قبله ، وفي الثاني دخيل في فعليّة المصلحة ، كالطّهارة بالنسبة إلى الصّلاة ، وعلى هذا ، فإنّ مرتبة قيد الواجب تكون متأخرةً عن مرتبة قيد الوجوب ... وكلّ هذا ثابت عند السيّد الخوئي أيضاً ، وحينئذٍ يقال له : كيف يكون الشرط المتأخّر قيداً للواجب ، ومع ذلك يكون دخيلاً في ملاك الحكم ، فيكون الشيء الواحد موجوداً في مرتبتين؟

الشروع في أصل البحث

إنه إنْ أمكن الواجب المعلَّق لزم تحصيل المقدّمات التي لو لم يحصّلها المكلَّف فات عنه الواجب في ظرفه ، ولذا عبّروا عنها بالمقدّمات المفوّتة ، كما لو لم يتعلَّم المكلَّف كيفيّة القراءة قبل وقت الصّلاة فاتته الصّلاة ... فعلى القول بالواجب المعلَّق ، يكون الوجوب محقّقاً والواجب معلّقاً على القيد ويجب تحصيل المقدّمة ، وعلى القول بعدم الواجب المعلَّق ، فلا يوجد وجوب قبل زمان الواجب ، ولا دليل على وجوب تحصيل المقدّمة.

ومن الواضح ، أن ثبوت الوجوب وعدم ثبوته يدوران مدار تحقّق الملاك وعدم تحقّقه ، فيكون البحث في مرحلتين ، مرحلة الثبوت ومرحلة الإثبات ... فلسان الآية : (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (١) لسان الواجب المعلَّق ، لأنه قد علّق الحج على الاستطاعة ، ومعنى ذلك : وجوب الحج عند تحقّقها ، فإذا تحقّق الزاد والرّاحلة له قبل أشهر الحج ، وجب عليه الحج في زمانه ... فكان الوجوب الآن والواجب بعدُ ... وإذا وجب لزم تحصيل المقدّمات ....

__________________

(١) سورة آل عمران : ٩٧.

٣٤٦

والكلام الآن في مقام الثبوت.

أدلّة القول باستحالة الواجب المعلَّق

وقد ذكرت وجوهٌ للمنع :

الوجه الأول

ما ذكره في (الكفاية) (١) عن بعض معاصريه وهو المحقق النهاوندي صاحب (تشريح الاصول) وينسب إلى المحقّق الفشاركي أيضاً : وملخّصه : إن الإرادة ـ سواء التكوينيّة أو التشريعيّة ـ لا يمكن أن تتعلّق بأمرٍ متأخّر ، فكما أنّ الإرادة التكوينية ـ وهي متعلقة بفعل المريد نفسه ـ لا تنفك عن المراد زماناً ، لأنها غير منفكة عن التحريك ، وهو لا ينفك عن الحركة خارجاً ، كذلك الإرادة التشريعيّة ـ وهي متعلقة بفعل الغير ـ لا تنفكّ عن الإيجاب زماناً ، وهو غير منفك عن تحريك العبد خارجاً ، ولازم ذلك استحالة تعلّق الإيجاب بأمر استقبالي ، لاستلزامه وقوع الانفكاك بين الإيجاب والتحريك ، وهو مستحيل ، وحيث أن القول بالواجب المعلّق يستلزم الانفكاك المذكور ، فهو محال.

جواب الكفاية

وأجاب صاحب (الكفاية) عن هذا الوجه بجوابٍ ينحلُّ إلى ما يلي :

أوّلاً : إنّ الإرادة كما تتعلَّق بأمر حالي ، كذلك تتعلَّق بأمر استقبالي ، ضرورة أن تحمّل المشاقّ في تحصيل المقدّمات ، فيما إذا كان المقصد بعيد المسافة وكثير المئونة ، كالكون في مكّة ـ مثلاً ـ ليس إلاّ لأجل تعلّق الإرادة به ، وهو الباعث على تحمّل المشاق. وقولهم في تعريف الإرادة بأنّها الشّوق المؤكّد المحرّك للعضلات نحو المراد ، لا ينافي ذلك ، لأن كونه محرّكاً

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٠٢.

٣٤٧

للعضلات نحو المراد يختلف حسب اختلاف المراد من حيث القرب والبعد ، ومن حيث كونه محتاجاً إلى مئونة ومقدّمات قليلة أو كثيرة ، أو غير محتاج.

وثانياً : إنّه لا يشترط في الإرادة التحريك الفعلي للعضلات ، فقولهم كذلك في تعريف الإرادة ، إنما هو لبيان مرتبة الشوق ، إذ المراد قد يكون أمراً مستقبلاً غير محتاج فعلاً إلى تهيئة مئونة أو تمهيد مقدّمة.

وثالثاً : إنّ الإرادة التشريعيّة هي : البعثُ لإحداث الداعي للمكلَّف على المكلَّف به ، وهذا لا يكاد يتعلّق إلاّ بأمرٍ متأخرٍ عن زمان البعث ، لأنّ إحداث الداعي له لا يكون إلاّ بعد تصوّر المكلّف للمأمور به وما يترتّب على فعله وتركه ، ولا يكاد يكون هذا إلاّ بعد البعث بزمان ، فلا محالة يكون البعث نحو أمرٍ متأخرٍ عن البعث بالزمان.

إشكال الاستاذ

وأورد الاستاذ على صاحب (الكفاية) بأنّ الإرادة ـ سواء كانت بمعنى الاختيار أو بمعنى الشّوق الأكيد ... ـ لا تنفك عن المراد ، والمورد الذي ذكره لا إرادة فيه نحو المقصود ، فالقاصد للكون في مكة والمتحرّك الآن نحوها ، لا إرادة له بالنسبة إلى مكّة ، لأنّ تلك الإرادة هي الكون بمكة. وقوله : بأنّه لو لا الإرادة لذي المقدّمة لم تحصل الإرادة للمقدّمة ، ففيه : أنّه لا برهان على نشوء الإرادة بالمقدّمة عن الإرادة لذي المقدّمة ، بل البرهان قائم على الخلاف ، لأنّ إرادة المقدّمة موقوفة على تحقّق المقدّمة قبل ذي المقدّمة ، وتحقّق ذي المقدّمة بدون المقدّمة محال ، فكيف تنشأ الإرادة للمقدّمة من إرادة ذي المقدّمة؟

وأمّا قوله بضرورة الانفكاك في الإرادة التشريعيّة ، فسيأتي الكلام عليه

٣٤٨

عند التعرّض لكلام المحقق الأصفهاني.

جواب الأستاذ عن الوجه الأول

ثم أجاب الاستاذ عن الوجه الأوّل : بأنّ قياس الإرادة التشريعيّة على الإرادة التكوينيّة في غير محلّه ، إذ المراد في التكوينيّة لا ينفك عن الإرادة ، بخلاف التشريعيّة ، وإلاّ لما وقع العصيان أبداً ، فالانفكاك في الإرادة التشريعيّة واقع وحاصل ، فلا مانع من الواجب المعلَّق من ناحية لزوم الانفكاك.

على أنَّ الواقع في الإرادة التشريعيّة هو : الإرادة من المولى ، ثم نفس الطلب من العبد ... ولا شيء آخر فيها ، أمّا الإرادة المتعلّقة بالطّلب من المولى ، فهي غير منفكّة من الطلب ، وسيأتي في كلام المحقق الأصفهاني أنّ هذه الإرادة تكوينيّة وإنْ كان متعلّقها تشريعيّاً وهو الطلب ، فلما أراد «الصّلاة» من العبد أنشأ قائلاً «صلّ». وأمّا نفس الطلب ، فإنّه قد ينفكّ عن المطلوب ، إذ العبد قد يطيع ويُوجد الصّلاة وقد لا يطيع ، وقد تقدّم أن قياس الإرادة التّشريعية على الإرادة التكوينيّة باطل ... وبعبارةٍ اخرى :

إن النسبة بين الإرادة التّكوينيّة والمراد ، نسبة العلّة التامّة إلى المعلول ، ولا يعقل الانفكاك بينهما ، لكن النّسبة بين الإرادة التّشريعيّة والمراد هي نسبة المقتضي إلى المقتضى ، والانفكاك والتخلّف بينهما كثير ، كما هو معلوم.

الوجه الثاني

ذكره المحقق الخراساني أيضاً (١) ، وحاصله : إن التكليف مشروط بالقدرة ، وبانتفاءها ينتفي ، سواء قلنا إنّ ذات الخطاب ، مع قطع النظر عن حكم العقل ، يقتضي البعث إلى الحصّة المقدورة ، كما هو مسلك الميرزا ، أو

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٠٣.

٣٤٩

أن مقتضى حكم العقل قبح تكليف العاجز كما هو مسلك المحقّق الثاني ومن تبعه ، وإذا كانت القدرة دخيلةً في التكليف ، ففي الواجب المعلَّق لا قدرة على المكلَّف به في ظرف التكليف ، فالتكليف غير ممكن.

وفيه :

إنّ القدرة شرط على كلّ حالٍ ، لكنْ في ظرف العمل بالتكليف لا في ظرف الحكم والخطاب ، وإلاّ يلزم بطلان كثير من التكاليف ، كالتكاليف التدريجية كالحج مثلاً ، والمفروض في الواجب المعلّق وجودها في ظرف الامتثال ... فهذا الوجه مردود حلا ونقضاً.

أقول : وبهذا يتبيَّن أنّ الأقوال في اعتبار القدرة في التكليف ثلاثة ، وما ذكره الاستاذ في الجواب عن الوجه الثاني هو القول الثالث ، وهو للسيّد المحقّق الخوئي ، وسيأتي الكلام على ذلك بالتفصيل في محلّه.

الوجه الثالث :

ما ذكره الميرزا (١) ، من أنّ الحكم لمّا كان منوطاً بأمرٍ خارج عن القدرة ، فإنه لا بدّ وأنْ يكون مفروض الوجود لدى إنشاء الحكم وجعله ، فما لم يفترض الحاكم وجوده لم يمكنه إنشاء الحكم ... وتوضيحه :

إن الميرزا يرى أن المجعول في القضيّة الحقيقيّة هو الحكم على فرض وجود الموضوع ، ومراده من الموضوع هو كلّ ما له دخل في تحقق إرادة الحاكم بالنسبة إلى الحكم ، فتكون جميع القيود المُناط بها الحكم دخيلةً في الموضوع ، فلذا عبَّر بأن كلّ شرط موضوع وكلّ موضوع شرط ، فإنْ كان الحكم مفترضاً لزم افتراض الموضوع بجميع قيوده ، وإن كان فعليّاً لزم فعليّة

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ١٩٦.

٣٥٠

الموضوع بجميع قيوده.

هذه هي الكبرى ، وعلى ضوئها يظهر بطلان الواجب المعلَّق ، لأنَّ الزمان الآتي خارج الآن عن القدرة ، فلا بدّ من فرض وجوده الآن حتى يفرض وجوده الحكم ، إلاّ أن المدعى في الواجب المعلَّق فعليّة الحكم مع فرض وجود الزمان الذي هو من قيود الموضوع ، لكنّ فعليّة الحكم مع كون الموضوع مفروض الوجود وغير فعلي محال ، لأنه يستلزم ـ مثلاً ـ كون الحج واجباً الآن ، سواء وجد يوم عرفة فيما بعد أو لا ، وهذا تكليف بغير المقدور.

وفيه :

إن هذا الوجه يبتني على إنكار الشرط المتأخّر ، وقد تقدّم امكانه.

وموجز الكلام هنا : إنّه لا شك في ضرورة فرض وجود يوم عرفة حتى يصدر الحكم بوجوب الحج ، ولكنْ لمّا كان دخله في الحكم في المستقبل ، فإن اللاّزم فرض وجوده في ذاك الظرف ، إلاّ أن فرض وجوده في ذلك الظرف لا يستلزم أن يكون الحكم غير فعلي الآن ، بل الحكم فعلي وتحقّق الواجب يكون فيما بعد عند ما يتحقّق قيده ، إذ لا مانع برهاناً من التقدّم الزماني لما هو المتأخّر رتبةً ... وهذا معنى كلامه (الكفاية) من أن الزمان المتأخّر مأخوذ بنحو الشّرط المتأخّر.

الوجه الرابع

ما ذكره المحقّق الأصفهاني (١) ـ قال الأستاذ : وهو المهمّ ـ وتوضيحه : أوّلاً : إن المراد في الإرادة التشريعيّة صدور الفعل من العبد بما هو عبد عن اختيارٍ منه ، وفي هذه الحالة يلزم على المولى إنشاء الحكم بداعي جعل

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٧٦ ـ ٧٩.

٣٥١

الداعي للعبد ، ليتحرّك نحو الامتثال وتحقيق غرض المولى ... وهذه حقيقة الإرادة التشريعيّة ، في قبال الإرادة التكوينيّة ، التي هي إرادة صدور الفعل من النفس لا من الغير ، فكان الفرق بين الإرادتين : أن متعلَّق الإرادة في التكوينيّة هو الفعل ، ومتعلَّقها في التّشريعيّة هو الإنشاء والبعث بداعي جعل الداعي ... فكلتا الإرادتين تكوينيّة ، غير أنَّ المتعلَّق في التكوينيّة هو فعل النفس ، من القيام والقعود والأكل والشرب ، وفي التشريعيّة هو الإنشاء المحرّك للعبد ، والطلب منه بداعي جعل الداعي للتحرّك ... لأن «الإرادة» هي «الشوق» غير أنّ المتعلَّق تارةً تكويني وهو «الفعل» واخرى غير تكويني وهو «البعث».

وثانياً : إنه بصدور «البعث» يتحقّق الحكم ، غير أنّ «البعث» من المولى ، و«الانبعاث» من العبد ، أمران متضايفان ، والمتضايفان متكافئان قوةً وفعلاً ، وعلى هذا ، فإن كان البعث فعليّاً فالانبعاث فعلي ، وإن كان إمكانيّاً فالانبعاث إمكاني ، ولا يعقل أن يكون البعث فعليّاً والانبعاث إمكاني ... وهذا مقتضى قانون التضايف.

والنتيجة هي : إنه إذا كان المبعوث إليه مقيّداً بالزمان المتأخّر ، فلا امكان للانبعاث إليه الآن ، وحينئذٍ لا يعقل وجود البعث الإمكاني نحوه ... وإلاّ يلزم الانفكاك بين المتضائفين ... وإذْ لا بعث فلا حكم ... فالواجب المعلَّق ـ بأنْ يكون الوجوب الآن ولكنّ الواجب متعلَّق على أمر متأخّرٍ غير حاصلٍ الآن ـ محال.

ثم إنه ـ رحمه‌الله ـ نقض على ما ذكره : بما إذا كان الفعل ذا مقدّمات ، فهو قبل حصولها غير ممكن ، ولازم ما ذكر عدم الحكم به إلاّ بعد حصولها ، فزيارة الإمام الحسين عليه‌السلام يتوقّف على طيّ الطّريق والمسافة ، فلا

٣٥٢

يحكم بوجوبها أو استحبابها قبله ، لعدم امكان الانبعاث إلى الزيارة الآن ، وكذا الحج ، فلا يحكم بوجوبه الآن لعدم امكان الانبعاث ... وهكذا.

وينتقض أيضاً : بالواجب المركّب من أجزاء ، كالصّلاة مثلاً ، فإنه لا يوجب امكان الانبعاث إلى جميع الأجزاء من حين التكبير ، فيلزم أنْ لا يكون بعث إليها ، وكذا غيرها من الواجبات التدريجيّة.

وقد استقرّ رأيه في الحاشية : بأنّ الملاك هو البعث الإمكاني كما تقدّم ، لكنّ البعث الإمكاني يدور مدار الإمكان الاستعدادي ، فمتى كان العمل المبعوث إليه مستعدّاً ولو امكاناً ، فإمكان الانبعاث موجود فالبعث موجود ، وفي الواجب المقيّد بالزمان المتأخّر لا يوجد الآن الإمكان الاستعدادي بالنسبة إليه ، بخلاف الواجب ذي المقدّمة ، فإنه يوجد الآن استعداد الامتثال بالنسبة إليه ، لوجود الحركة في العضلات نحو المقدمة وذي المقدمة ... فالنقض غير وارد.

فقال الاستاذ بورود النقض ، وذلك ، لأنّ معنى الإمكان الاستعدادي هو قابليّة الفعل للوجود في وقته ، ففي الصّلاة عند التكبير ، أو الصّوم عند الفجر ، هل يوجد استعداد بالنسبة إلى الإمساك في أوّل الفجر وفي العصر ، منذ أول الفجر ، وبالنسبة إلى التكبير والتشهد من حين التكبير؟ إنّه لا يمكن اجتماع الزّماني المتأخّر مع الزماني المتقدّم ، بملاك عدم امكان اجتماع الزمان المتقدّم مع الزمان المتأخر ، فإنّه لمّا كان المفروض كون الامساك مقيّداً بالعصر ، فلا يعقل امكانه الاستعدادي في آن أوّل الفجر ، فلا يعقل البعث الإمكاني إليه ، وكذلك في مثال الصّلاة ، وهكذا ....

بل التأمّل في كلماته وضمّ بعضها إلى البعض ، يفيد التزامه بالواجب

٣٥٣

المعلَّق ، لأنه قال في المركّب التدريجي أو الواجب المستمر بأنّ الإنشاء بداعي جعل الداعي يكون في الزمان السّابق ، أما اقتضاؤه ، ففي الزمان اللاّحق ... قال : «فهو ليس مقتضياً بالفعل لتمام ذلك الأمر المستمر ، بل يقتضي شيئاً فشيئاً» ويقول : «فله اقتضاءات متعاقبة ، بكلّ اقتضاءٍ يكون بعثٌ بالحقيقة» (١) ، فكذلك الواجب المعلَّق ، فإنه في الزمان السّابق يكون البعث ، ويكون اقتضاؤه في الزمان اللاّحق.

وحلّ المطلب :

إنّه في حقيقة الحكم قولان ، أحدهما : أنه أمرٌ قابلٌ للجعل الاعتباري بالاستقلال ، بأنْ يعتبر الشارع اللاّبديّة والحرمان. والآخر : أنه أمر انتزاعي ، ومنشأ الانتزاع له هو الإنشاء بداعي جعل الداعي.

وعلى الثاني ، فإن الإنشاء قد يكون فيه امكان البعث ، وهذا واضح ، وقد لا يكون ، وفي الثاني : قد يكون السبب في عدم امكان الباعثيّة هو القُصور في الإنشاء نفسه ، كما في إذا زالت الشمس فصلّ ، فإذا كان كذلك ، لم يصلح لأنْ يكون منشأً لانتزاع الحكم ، وقد يكون السّبب فيه هو القصور في المتعلّق ، كما لو كان مقيّداً بالزمان المتأخّر ، فإنّ عدم إمكان الانبعاث ليس لقصورٍ في الإنشاء ، حتى لا ينتزع منه الحكم ، بل الحكم متحقّق الآن يقيناً ، غير أنّ الفعل غير قابلٍ للانبعاث نحوه فعلاً.

وتلخّص : إن القصور إذا كان في ناحية متعلّق الحكم ـ بأنْ لم يمكن الانبعاث نحوه فعلاً ـ فهذا لا يضرّ بانتزاع عنوان «الحكم» من الإنشاء ، عند العقلاء ... وواقع الحال في الواجبات التدريجيّة هكذا ... وكذا في الواجب

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٧٩.

٣٥٤

المعلَّق.

وعلى الأول ، فإنّ الحكم نفس المعتبر ـ اللاّبدية ، أو ثبوت الفعل على الذمّة ـ فإذا كان الملاك تامّاً ، وتحقّق الاعتبار والمعتبر ، تمّ الحكم وتحقّق ، غير أنّ داعويّة الحكم تتحقّق في الزمان اللاّحق ، ومن المعلوم عدم تقوّم الحكم بالدّاعوية ، فيمكن الانفكاك بينهما ... فيصبح الاعتبار والمعتبر فعليّاً ، والفعل استقباليّاً ، ويتم تصوير الواجب المعلّق على هذا المسلك كذلك.

وهذا تمام الكلام على مقام الثبوت ... وقد تحقّق تماميّة الواجب المعلّق ثبوتاً ... والله العالم.

ثمرة البحث في الواجب المعلَّق

وإنّ نتيجة البحث عن الواجب المعلّق وثمرته ، تظهر في وجوب المقدّمة وعدم وجوبها ، من حيث التحصيل ومن حيث الحفظ إن كانت حاصلةً ... لأنه إذا ثبت الوجوب قبل الواجب ، وكان للواجب مقدمةٌ وجودية ، بحيث لولاها فلا وجود للواجب ، فلا بدّ من تحصيلها ، أو حفظها ... لكنْ بأيّ دليل؟

وتظهر الثمرة أيضاً في العلم الإجمالي في الواجبات التدريجيّة كما سيأتي.

أمّا على القول بالملازمة بين المقدّمة وذي المقدمة ، فإنه بناءً على ثبوت الواجب المعلّق ، وعلى كون وجوب ذي المقدّمة فعليّاً ، فلا مناص من القول بوجوب المقدّمة ، ليصير فعليّاً ، وهذا الوجوب حكم شرعي ، فإنْ كانت المقدّمة غير حاصلة وجب تحصيلها ، وإن كانت حاصلةً وجب حفظها.

وأمّا بناءً على إنكار الملازمة الشّرعية بين المقدمة وذي المقدّمة ،

٣٥٥

فالوجه في وجوب المقدّمة هو حكم العقل ، فإنّ العقل حاكم بلابديّة تحصيل المقدّمة أو حفظها ... لأنّ المفروض وجوب ذي المقدّمة وجوباً فعليّاً ، فإذا توقّف على مقدمةٍ فاللاّبديّة العقليّة موجودة.

فتحصيل المقدّمات واجب شرعاً وعقلاً على القول بالملازمة ، وعقلاً على القول بعدم ثبوتها.

وعلى هذا ، فإنّ الغسل من الجنابة ومن الحيض واجب في اللّيل مقدّمةً لصوم الغد ، لأن وجوب الصّوم فعلي وإن كان الصوم استقبالياً ، والمقدّمة ـ وهي الطهارة قبل الفجر ـ يجب تحصيلها ، وفي الاستطاعة للحج ، عند ما تحقّقت يجب حفظها لأجل الحج ، ولا يجوز تفويتها وإنْ كان حصولها قبل أشهر الحج ، لأن وجوب الحج فعلي فحفظ مقدّمته واجب ، وكذا تهيئة المقدّمات ، لأنّ الحج وجوبه فعلي.

وعلى هذا أيضاً ، يجب تعلّم المسائل التي سيبتلي بها المكلّف ، بأنْ يتعلّمها قبل البلوغ ، كي لا يؤدّي ترك التعلّم إلى فوت الواجب.

وفي الواجبات التدريجية

وأمّا في الواجبات التدريجيّة ... فإنّ العلم الإجمالي في الواجبات التدريجيّة له صور :

١ ـ التدريجيّة باختيار المكلَّف ، مثل أن يعلم بأنّ أحد الثوبين مغصوب فيلبس كليهما بالتدريج ... فالعلم الإجمالي هنا منجّز عند الكلّ.

٢ ـ التدريجية على أثر عدم تمكّن المكلّف من الجمع بين الطرفين ، لكن التكليف في كليهما فعلي ، كأنْ يعلم بالإجمال في ظهر يوم الجمعة بوجوب احدى الصّلاتين ، من الجمعة أو الظهر ، فالتدريجيّة هي على أثر عدم

٣٥٦

التمكن من الجمع ، لكنْ كلتا الصّلاتين وجوبه فعلي ... وهذا العلم الإجمالي أيضاً منجّز عند الكلّ.

٣ ـ التدريجيّة على أثر تقيّد الواجب بمتأخّر زماناً أو زمانيّاً ، فعلى القول بالواجب المعلّق ؛ بأنْ يكون الوجوب فعليّاً والواجب استقبالياً ، يكون العلم الإجمالي منجّزاً ، وعلى القول بعدمه ، فمحلّ خلاف ، لأنّا إنْ قلنا بدوران التنجيز مدار الفعلية للتكليف ، كما عليه الشيخ وصاحب (الكفاية) فالوجوب ليس فعليّاً عندهما ، فلا تنجيز.

وتلخّص : إنه بناءً على الواجب المعلّق ، فالعلم الإجمالي منجّز وإلاّ فلا ، ولذا أفتى صاحب (الكفاية) في المضطربة الناسية للوقت والفاقدة للتمييز ، ـ وهي تعلم بتحقق الحيض لها في الشهر ـ بالبراءة ، من جهة الدخول في المسجد والصّلاة والوطي ، وذلك ، لأنها لا علم لها الآن بالتكليف الفعلي ، وعلمها بتحقّقه ـ إمّا الآن وامّا في الأيام الآتية ـ ليس بمنجّز ، لعدم كون المحتملين طرفين للتكليف الفعليّ.

توضيح المقام وتفصيل الكلام

إنه بناءً على إنكار الواجب المعلَّق ، يقع الإشكال في وجوب تحصيل المقدّمات أو حفظها في مسائل كثيرة ، مع قيام الدليل في مقام الإثبات ، كمسألة وجوب التعلّم للأحكام الشرعيّة قبل الابتلاء بها ، ومسألة وجوب الغسل من الجنابة قبل الفجر ، ومسألة وجوب التهيّؤ للحج قبل أشهر الحج ... وهكذا ....

أمّا في المقدّمة غير التعلّم

فتارة : القدرة غير دخيلة في الملاك والغرض ، فالتحقيق : إنّ العقل

٣٥٧

يحكم بلزوم حفظ الأغراض اللّزومية للمولى وعدم جواز تفويتها ، بحيث أنّ تفويتها يستتبع استحقاق العقاب عقلاً ، إلاّ أنّ لهذا الحكم مقدّمات :

(المقدّمة الأولى) ـ وهي صغرويّة ـ كون القدرة على العلم غير دخيلةٍ في ملاك الحكم الشرعي والغرض عنه ، فلو كانت دخيلةً فيه في ظرف العمل ، لم يكن تحصيل القدرة عليه أو حفظها واجباً ، لأن القدرة تكون حينئذٍ موضوعاً للحكم ، وتحصيل الموضوع أو حفظه غير لازم.

(المقدّمة الثانية) ـ وهي كبرويّة ـ إنه كما يحكم العقل بلزوم حفظ أحكام المولى وعدم تفويتها ، كذلك يحكم بلزوم حفظ أغراضه ، وكما أن مخالفة الحكم تستتبع العقاب ، كذلك مخالفة علة الحكم وهي الغرض منه.

بل قيل : إن هذا الحكم فطري ، وقد طرحت هذه المسألة في مباحث الاجتهاد والتقليد بمناسبة قولهم : إنه يجب على كلّ مكلّف أنْ يكون مجتهداً أو مقلّداً أو محتاطاً ، فبحثوا عن حقيقة هذا الوجوب وأنه عقلي أو شرعي ، فقيل ـ كما في (المستمسك) (١) ـ بأنه فطري ، بملاك لزوم دفع الضرر المحتمل ، بمناط وجوب شكر المنعم ، فكان وجوب أحد الامور ـ على نحو التخيير ـ وجوباً عقليّاً فطريّاً ، فبالنظر إلى حكم العقل بشكر المنعم فهو حكم عقلي ، وبالنظر إلى ملاكه ـ وهو الفرار من الضرر المحتمل ـ فهو فطري ، ولذا يوجد عند الحيوانات أيضاً.

قال الاستاذ : وفيه تأمّل ، لأنّه لو كان فطريّاً لما عصى الإنسان المكلّف ، لأنّه عاقل ويحتمل العقاب والضرر ، فلو كان الفرار منه فطريّاً لما تحقق منه المعصية ، لكون الأمر الفطري لا يقبل التخلّف ، فتأمّل.

__________________

(١) مستمسك العروة الوثقى ١ / ٦.

٣٥٨

وعلى الجملة ، فهو حكم عقلي ، والعقل لا يفرّق في وجوب الحفظ بين الحكم وملاكه ، خاصةً مع فعليّة الغرض وتماميّته (١) ... وعليه ، فيجب تحصيل المقدّمة أو حفظها.

(المقدّمة الثالثة) ـ وهي كبرويّة أيضاً ـ القول بأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً ـ وإن كان ينافيه خطاباً ـ فلو انتفت القدرة على الامتثال وامتنع الاطاعة باختيار من المكلّف ـ كما لو ألقى نفسه من شاهق مثلاً ـ فإنه وإن يمتنع التكليف ، إلاّ أنّ استحقاق العقاب موجود ـ خلافاً لمن يقول بعدم العقاب أيضاً ، ولمن يقول بإمكان الخطاب أيضاً ـ لأنّ الخطاب إنما هو للتأثير في إرادة العبد ، وفي ظرف الامتناع بالغير ، حيث الامتناع فعلي ولو كان باختيارٍ منه ، لا يعقل الانبعاث والانزجار ، فالخطاب لغو ، لكن موضوع استحقاق العقاب عند العقل هو مطلق الفعل المقدور والممكن ، سواء كان مقدوراً بنفسه أو بالواسطة ، أو غير مقدور في ظرفٍ من الظروف.

حكم العقل

وإذا تحققت هذه المقدّمات ، بأنْ لم تكن القدرة دخيلةً في الملاك ، وكان حكم العقل بلزوم حفظ الملاك كحكمه بلزوم حفظ الحكم من المولى ، وكان الامتناع بالاختيار لا ينافي العقاب ، كان العقاب على ترك الواجب الذي امتنع لعدم تحصيل مقدماته صحيحاً ، وإذا صحّ العقاب عقلاً ، وجب تحصيل المقدّمات أو حفظها.

__________________

(١) هذا إشارة إلى أنّ هذا الحكم يختص بصورة فعليّة الغرض ، أو يعمّ ما إذا كان الغرض والملاك غير فعلي بل يكون تامّاً فعليّاً حين العمل؟ قولان ، ذهب الشيخ إلى الأول ، والميرزا إلى الثاني ، وهو المختار ، وعليه ، فيكون هذا الحكم العقلي في الواجب المعلّق ـ حيث الملاك تام فعلي ـ وفي الواجب المشروط ، حيث يتحقّق الملاك في ظرف العمل.

٣٥٩

وهل للشرع أيضاً حكم؟

وحينئذٍ ، يبحث عن الوجوب الشرعي بقاعدة الملازمة ، بأنْ يكون هذا الحكم العقلي كاشفاً عن الحكم الشرعي بتلك القاعدة أو لا؟

رأي المحقق النائيني

فقال الميرزا رحمه‌الله بالأوّل (١) بدعوى أنّ حكم العقل باللّزوم دليل على إيجاب الشارع المقدّمة حفظاً للغرض من الحكم ، فيكون حكماً شرعيّاً متمّماً للحكم الشرعي الأوّل ... بتقريب : إن المفروض حكم العقل بلزوم حفظ الغرض ، وفي موارد الإرادة التكوينيّة ، نجد أنّ الإنسان يحفظ المقدّمة أو يسعى وراء تحصيلها لمراده التكويني المقيّد بزمانٍ متأخّر ، فمثلاً : إذا كان يعلم بأنّه سيمرض في الغد ، فإن الغرض بالنسبة إلى النجاة من المرض موجود الآن بالفعل ، فتتحقق الإرادة التكوينيّة منه من الآن لتحصيل الدّواء اللاّزم أو حفظه ... ووزان الإرادة التشريعيّة وزان التكوينيّة ، وحينئذٍ ، تتعلّق الإرادة التشريعيّة لتتميم الجعل بالنسبة إلى ذي المقدّمة ، فيكون حكماً شرعيّاً.

وفيه :

إن المفروض أنه لا قصور في حكم العقل وكفايته لحفظ المقدّمة أو تحصيلها ، فلا حاجة إلى جعل المولى ، على أنّ هذا القول يبتني على قياس الإرادة التشريعية على التكوينيّة دائماً ، وهذا أوّل الكلام ، ففي الإرادة التكوينيّة إذا تعلّقت بذي المقدّمة ، فإنّها تتعلّق بالمقدّمة أيضاً ، ولكن الوجوب الشرعي إذا تعلَّق بذي المقدّمة ، فوجوب مقدمته شرعاً أوّل الكلام.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٢٢١.

٣٦٠