تحقيق الأصول - ج ٢

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٢
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٠٠

مقتضى القاعدة رجوع القيد إلى الهيئة

وبعد الفراغ من المقدّمات والتمهيدات ، نقول :

إنّه لا ريب في أن ظواهر الألفاظ ومقتضى القواعد النحويّة : رجوع القيد إلى الهيئة أي الوجوب ، فمعنى قوله : إن جاءك زيد فأكرمه ، هو اشتراط وجوب إكرامه وتقيّده بمجيئه ، وكذا في : إذا زالت الشمس فصلّ ، وفي (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)، فإن في جميع هذه الموارد يكون القيد عائداً على الهيئة ومضيّقاً لمدلولها ، سواء قلنا بأن مدلولها البعث أو الطلب أو اعتبار اللاّبديّة ... هذا هو مقتضى معنى الكلام بحسب مقام الإثبات.

الأقوال في المسألة

لكنَّ الشيخ الأعظم ـ رحمه‌الله ـ مع إقراره بذلك ، يرى استحالة رجوع القيد إلى الهيئة ، وضرورة رجوعه إلى المادّة ، وأنه لا بدّ من رفع اليد عن مقتضى مقام الإثبات بمقتضى البرهان العقلي.

وخالفه المحقّق الخراساني وأتباعه.

وذهب الميرزا إلى رجوعه إلى المادّة المنتسبة.

فالأقوال ثلاثة.

قول الشيخ بامتناع رجوع القيد إلى الهيئة

ثم إنّ الشيخ أقام على عدم رجوع القيد إلى الهيئة برهاناً ، وأقام على ضرورة رجوعه إلى المادّة برهاناً ، ليدلّ على كلا الأمرين بدليلٍ مطابقي ، وإلاّ ، فإن الدليل على عدم رجوعه إلى الهيئة يدلّ بالالتزام على رجوعه إلى المادّة ... وأيضاً ، فإنّ بين برهانيه فرقاً ، سيأتي بيانه.

هذا ، وإذا كانت القيود كلّها ترجع إلى المادّة كما يقول الشّيخ ، فإنه

٣٠١

يتوجّه إليه السؤال عن الفرق بين قيود المادّة وقيود الهيئة ، مع أنّ قيود الهيئة لها دخل في أصل مصلحة الشيء ، وإذا انتفت القيود لم يكن في الشيء مصلحة ، بخلاف قيود المادّة ، فإنّها دخيلة في فعليّة المصلحة لا في أصل وجودها.

مثلاً : الزّوال قيد لوجوب الصّلاة ، ومعنى ذلك : أنْ لا مصلحة للصّلاة قبل الزّوال ، وإنما تتحقّق بعده ، بخلاف الطّهارة التي هي قيد للواجب ، فإنّ الصّلاة ذات مصلحة بدون الطّهارة ، إلاّ أن المصلحة لا تتحقّق في الخارج ولا تحصل إلاّ بتحقق الطهارة مع الصّلاة ، وكونها مع الطهارة.

فلو رجعت القيود كلّها إلى المادة فما الفرق؟

فهذا السؤال متوجّه على الشيخ ، وانتظر الجواب!!

الدليل الأوّل لقول الشيخ

فاستدلّ الشيخ رحمه‌الله لامتناع رجوع القيد إلى الهيئة (١) بأنّ :

مفاد الهيئة معنىً حرفي ، والمعنى الحرفي جزئي ، والإطلاق إنّما يرد على أمرٍ قابلٍ للتضييق ، ولا تضييق أكثر وأشدّ من الجزئية ، والشيء الجزئي لا سعة فيه حتى يضيَّق ، فهو ـ إذن ـ غير قابل للتقييد ، سواء قلنا بأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد من قبيل العدم والملكة أو لا ... لأنه بناءً على كونه من هذا القبيل : إذا كان الجزئي غير قابل للتقييد فالإطلاق محال ، وإذا استحال الإطلاق في الجزئي كان التقييد محالاً.

هذا ، ولا يخفى أن الأساس في هذا الوجه كون مفاد الهيئة معنىً حرفيّاً ، وأمّا إذا كان معنىً اسميّاً كما لو قال : «إن جاءك زيد فيجب إكرامه» ، فهذا الوجه غير جارٍ.

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٤٥ ـ ٤٦.

٣٠٢

الأجوبة عن هذا الدليل

والوجوه التي ذكرها القوم في الجواب عن الدليل المذكور ، كلّها مبنائية :

فقال المحقق الخراساني (١) :

لقد تقدَّم في محلّه أن معاني الحروف ليست بجزئيّة ، لا جزئية خارجيّة ولا جزئيّة ذهنيّة ، أما عدم كونها جزئيّة خارجيّة فواضح ، وأمّا عدم كونها جزئيّة ذهنيّة ، فلأنَّ الجزئيّة تكون باللّحاظ ، واللّحاظ يكون في الاستعمال ، ومعاني الحروف موطنها قبل الاستعمال.

وإذْ لا جزئيّة في معاني الحروف ، فالاستدلال يسقط.

لكن هذا الجواب مبنائي.

وقال المحقق الاصفهاني (٢) :

ليس المراد من الجزئيّة هي الجزئيّة الخارجيّة أو الذهنيّة ، بل المراد منها هي التعلّق والتقوّم بالطرفين ، والمعنى الحرفي في ذاته متقوّم بالطرفين ، والهيئة معنىً حرفي ، فمفادها النسبة البعثيّة ـ كما في «فصلِّ» في : «إذا زالت الشمس فصلّ» ـ وهذه النسبة ذات طرفين : المنسوب والمنسوب إليه ... وكما في «إن جاءك زيد فأكرمه» ... وإذا كان هذا معنى الجزئيّة ، فإنّ الجزئيّة بهذا المعنى تقبل التّضييق ، بأنْ يُزاد في الأطراف ، فتكون ثلاثة أو أربعة ... وهكذا.

وقال السيد الخوئي (٣) :

إن حقيقة المعنى الحرفي هو التضييق في المعنى الاسمي ، كما تقدّم في

__________________

(١) كفاية الأصول : ٩٦.

(٢) نهاية الدراية ٢ / ٥٩.

(٣) محاضرات في أصول الفقه ٢ / ٣٢٠.

٣٠٣

محلّه بالتفصيل ، وعليه ، فلا مانع من وقوع التضييق بعد تضييق ، لأنّه بعد أن قال : «صلّ في المسجد» وحصل ب «في» فرد من التضييق ، يمكنه أن يقول : «إن كنت متطهّراً» فيدخل عليه تضييقاً ثانياً ... وهكذا ... إذن ، لا مانع من رجوع القيد إلى الهيئة بناءً على هذا المسلك.

لكن هذا الجواب أيضاً مبنائي. هذا أوّلاً.

وثانياً : لو سلَّمنا المبنى ، فإنّ التضييق الثاني إنما يرد على أصل الصّلاة لا على تضييقها الواقع من قبل ... إذن ، لم يرجع القيد إلى الهيئة ومفادها ـ وهو الحكم ـ فيتم كلام الشيخ القائل بعدم رجوع القيد إلى الهيئة.

وتلخَّص إلى الآن كون الأجوبة مبنائية.

بقي جوابان : أحدهما للمحقق الخراساني ، والآخر للمحقق الأصفهاني.

أمّا جواب المحقق الخراساني فهو : إنه ليس المقصود إنشاء الطلب ثم تقييده بقيدٍ ؛ حتى يلزم ما ذكره الشيخ قدس‌سره ، بل المقصود : إنشاء الطلب المقيَّد ، ولا محذور في هذا أصلاً.

وفيه :

إنما يتمّ إنشاء الطلب المقيَّد في مورد يكون الطلب قبل الإنشاء كذلك قابلاً للإطلاق والتقييد ، كما في الرقبة قبل تقييدها بالإيمان ، وبناءً على كلام الشيخ ، فإنّ الطلب النسبي هو مفاد الهيئة ، والطلب النسبي معنى حرفي ، والمعنى الحرفي جزئي ، فلا يعقل إنشاء الطلب المقيّد ... لأنّ التقيّد والجزئيّة موجود في ذات الطلب.

وأمّا جواب المحقق الأصفهاني فهو : إنه لو كان تقييد مفاد الهيئة تخصيصاً للطلب ، لتمّ كلام الشيخ ، لكن اشتراط مفاد الهيئة وتقييده ليس

٣٠٤

تخصيصاً ، وإنما هو تعليق ، ولا مانع من تعليق الجزئي.

وتبعه في (المحاضرات) فقال : بأنّ طلب إكرام زيد ليس مقيَّداً بمجيء زيد ، وإنما هذا الطلب منوط بمجيئه ، وفرق بين باب الإطلاق والتقييد ، وباب التعليق والتنجيز.

وفيه :

إنما يكون التعليق حيث يعقل أن يكون للشيء حصّتان من الوجود ، كالبيع ، فإنه في حدّ ذاته ذو فردين : البيع المنجّز ، والبيع المعلّق على قدوم الحاج مثلاً. وحينئذٍ ، يكون التعليق مخصّصاً للمعلَّق ، وما نحن فيه كذلك ، إذ لو لا وجود التقديرين ، من مجيء زيد وعدم مجيئه ، لم يكن لقوله «إن جاءك زيد فأكرمه» معنىً ... إذن ، فإنّ التعليق يلازم الإطلاق دائماً ، وهو يستلزم التقييد كذلك ، فيبقى كلام الشيخ على حاله.

جواب الأستاذ

فظهر أن جميع الأجوبة مردودة ، وكلام الشيخ على قوَّته ، لكنّ خلاصة كلامه كون الوضع في الحروف عامّاً والموضوع له خاصّاً جزئيّاً ، فمن يعترف بهذا فلا يمكنه حلّ الاشكال ، إلاّ أنّ الحق هو أن الموضوع له في الحروف عام كذلك ؛ فإنّ معنى الحرف يقبل العموم والسّعة ، فكما يأتي إلى الذهن من كلمة «الظرفيّة» معنىً عام مستقل قابل للانطباق على الموارد الكثيرة ، كذلك يأتي من كلمة «في» معنى له سنخ عموم قابل للانطباق على الموارد الكثيرة ، لكنه غير مستقل ، فالإشكال مندفع.

لكنّه جواب مبنائي كذلك.

وتلخّص : إن جميع ما ذكروه جواباً عن برهان الشيخ على امتناع رجوع

٣٠٥

القيد إلى الهيئة ، غير مفيد ، بعد الاعتراف بكون الموضوع له الحروف خاصّاً ، لأنّ الخاص لا يقبل الإطلاق والتقييد كما هو واضح ، فلا سبيل إلاّ إنكار هذه الجهة والقول ـ كما هو المختار ـ بأن المعاني الحرفيّة فيها سنخ عمومٍ ، فكما يأتي إلى الذهن معنى مستقل من «الابتداء» قابل للانطباق على كثيرين ، كذلك يأتي إلى الذهن معنى غير مستقل من «مِن» قابل للانطباق على الموارد الكثيرة.

وهكذا يندفع برهان الشيخ ، الذي كان الدليل الأوّل لامتناع رجوع القيد إلى الهيئة.

الدليل الثاني لقول الشيخ

وهو ما ذكره الميرزا : من أنّ المعنى الحرفي لا يقبل اللّحاظ الاستقلالي ، وكلّ ما لا يقبل اللّحاظ الاستقلالي ، فهو لا يقبل الإطلاق والتقييد ... فالقيد لا يرجع إلى الهيئة ومعناها حرفي.

فالمانع آليّة المعنى الحرفي ، لا جزئيّته كما ذكر الشيخ.

قال الأستاذ

إن هذا الدليل إنما يتوجّه ، فيما إذا كان الوجوب مستفاداً من الهيئة ، أمّا في الجملة الاسمية الدالّة على الوجوب فلا موضوع له ، لأنّ الوجوب حينئذٍ مدلول اسمي ، وليس الدالّ عليه معنىً حرفيّاً.

ولذا جاء الشيخ ـ لما ذهب إليه من رجوع القيد إلى المادّة ـ ببرهانين ، أحدهما : البرهان على امتناع رجوعه إلى الهيئة ، وهو ما تقدّم ، والآخر : البرهان على ضرورة رجوعه إلى المادّة ، ليشمل ما إذا كان الدالّ على الوجوب معنىً اسميّاً وهذا ما وعدنا سابقاً ببيانه.

٣٠٦

إشكال المحاضرات

وأورد في (المحاضرات) (١) على هذا الدليل بوجهين :

أحدهما : إنَّ المعنى الحرفي قد يلحظ باللّحاظ الاستقلالي ، وإذا كان يتعلّق به اللّحاظ الاستقلالي ، فالاستدلال المذكور باطل ، وقد مثّل له بما إذا علم بوجود زيد في البلد وبسكناه في مكانٍ ، وجهل المكان بخصوصه ، فإنّ تلك الخصوصيّة تكون مورداً للالتفات والسؤال ، مع كونها معنىً حرفيّاً.

والثاني : إن ما ذكر ، إنما يمنع عن طروّ التقييد على المعنى الحرفي حين لحاظه آليّاً ، وأمّا إذا قيّد المعنى أوّلاً بقيدٍ ، ثم لوحظ المقيّد آليّاً ، فلا محذور فيه ، إذاً ، لا مانع من ورود اللّحاظ الآلي على الطلب المقيَّد في رتبةٍ سابقةٍ عليه.

نظر الأستاذ

وتنظّر الاستاذ في الإشكالين : بأن الأوّل وإن كان وارداً إلاّ أنه مبنائي ، وأن الثاني غير واردٍ ، لأنّ مقتضى الدقّة في كلام الميرزا هو : أن المعنى الحرفي لا موطن له إلاّ ظرف الاستعمال ، وأمّا قبل ذلك فلا وجود للمعنى الحرفي ، وبعبارة أخرى .... يقول الميرزا : بأنّ ذات المعنى الحرفي متقوّمة بالآليّة ، والاختلاف بينه وبين المعنى الاسمي جوهري ، ـ خلافاً للمحقّق الخراساني ـ فلو قبل اللّحاظ الاستقلالي خرج عن الحرفيّة ، وهذا خلف.

الدليل الثالث لقول الشيخ

قال في (المحاضرات) : وهو العمدة في المقام (٢) وهو ما ذكره المحقق

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ٢ / ٢٣١.

(٢) محاضرات في أصول الفقه ٢ / ٣٢١.

٣٠٧

الخراساني قدس‌سره في (الكفاية) بعنوان «إنْ قلت» ، وتقريره :

إنّ رجوع القيد إلى مفاد الهيئة يستلزم التفكيك بين الإنشاء والمنشأ ، والإيجاب والوجوب ، لكنّ التفكيك بين الإيجاب والوجوب غير معقول في التشريعيّات ، كما أن التفكيك بينهما في التكوينيّات غير معقول ... وكلّما استلزم المحال محال.

والحاصل : إن رجوع القيد إلى الهيئة يوجب تحقّق الإيجاب دون الوجوب ، فيقع التفكيك المحال ... لأنه إن رجع القيد في «إذا زالت الشمس فصلّ» إلى الهيئة ، جاء السؤال : هل وجد الوجوب بهذا الإنشاء عند الزوال أو لا؟ فإن كان الجواب : لم يوجد الوجوب عنده ، وقعت الحاجة إلى إنشاء آخر لوجوب الصّلاة عند الزوال ، وإنْ اجيب بوجود الوجوب عند الزوال ـ والمفروض تحقّق الإنشاء قبل الزوال بمدّة ـ لزم الانفكاك بين الإنشاء والمنشأ ، وهو الإشكال.

وجوه الجواب

وقد اجيب عن هذا الدليل بوجوهٍ :

أحدها : جواب (الكفاية) (١) بالنقض بالإخبار ، فإنه يمكن الإخبار عن الشيء الآن مع كون وجود المخبر به فيما بعد ، كقولك لشخص : أزورك في يوم الجمعة ... ووزان الإنشاء وزان الإخبار.

وفيه :

إنه قياس مع الفارق ، لأن النّسبة بين الإنشاء والمنشأ هي نسبة الإيجاد والوجود ، وأمّا في الإخبار ، فهي نسبة الحاكي والمحكي ، وهذا معقول ، بخلاف ذاك.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٩٧.

٣٠٨

الوجه الثاني

الفرق بين التكوينيّات والاعتباريّات ، بدعوى أنّ عدم تخلّف الوجود عن الإيجاد إنما هو في التكوينيّات كالكسر والانكسار ، وأمّا في الاعتباريّات ، فلا محذور فيه (١).

وفيه :

إنّ الأحكام ، منها هو مختصٌّ بالوجود الاعتباري ، ومنها ما هو مختص بالوجوه التكويني ، ومنها ما لا يختصّ بأحدهما بل هو حكم الوجود ، وعدم الانفكاك بين الإيجاد والوجود من أحكام الوجود ، فإنّه ـ سواء في عالم الذهن أو عالم الخارج أو عالم الاعتبار ـ لا يتخلّف الوجود عن الإيجاد ، فكلّ وجود له نسبتان ، أحدهما إلى الفاعل والأخرى إلى القابل ، والملكيّة ـ وهي أمر اعتباري يوجد لها هاتان النسبتان ....

الوجه الثالث

إن الانفكاك الواقع هنا ليس بين الإنشاء والمنشأ ليرد الإشكال ، بل هو بين الإنشاء والإرادة الحقيقيّة منه ... فقبل الزوال يوجد الإنشاء ، لكنّ الإرادة الحقيقية بالنسبة إلى الصّلاة هي في وقت الزوال ، والانفكاك بين الإنشاء والإرادة الحقيقية لا محذور فيه.

وهذا الجواب اعتمده المحقّق الإيرواني (٢).

وفيه :

إنه إذا لم تكن إرادة حقيقيّة بالنسبة إلى الصّلاة قبل الزوال ، وإنه لا

__________________

(١) نهاية النهاية ١ / ١٤١ ـ ١٤٢.

(٢) نهاية النهاية ١ / ١٤٢.

٣٠٩

وجوب ، بل هو عند الزوال ، يتوجّه السؤال بأنّه كيف يتحقق الإرادة الحقيقيّة والوجوب للصّلاة عنده ، والمفروض عدم وجود إنشاء آخر؟

والحاصل : إنه إن لم يكن عند الزوال للصّلاة وجوب ، فهذا معناه إنكار الوجود الفعلي للحكم ، وإن كان لها وجوبٌ عنده ، فإنْ كان بالإنشاء السّابق رجع إشكال الانفكاك ، وإن كان بغيره ، فالمفروض أنْ لا إنشاء آخر.

الوجه الرابع

إن في مثل : «إذا زالت الشمس فصلّ» اموراً : أحدها : الاستعمال ، والثاني : البعث الفرضي ، والثالث : البعث التحقيقي.

لقد استعملت هيئة «فصلّ» بعد الفاء في البعث ، والمادّة هي الصّلاة ، وهنا : بعث له ثبوتان وإثباتان ، ثبوت فرضيٌ للبعث ، على أثر كون القيد والشرط مفروضاً ، فكان المشروط ثابتاً بالثبوت الفرضي ، وهذا الثبوت الفرضي متّحد مع الإثبات الفرضي ، بحكم الاتّحاد بين الوجود والإيجاد ، وثبوت تحقيقي يكون في حال فعليّة القيد والشرط ـ أي الزوال ـ وهذا الثبوت غير منفكٍ عن الإثبات التحقيقي.

فتلخّص : إن الاستعمال غير منفك عن المستعمل فيه ، والإثبات والثبوت الفرضي غير منفك أحدهما عن الآخر ، والإثبات والثبوت التحقيقي كذلك ، فأين الانفكاك؟

وهذا توضيح ما جاء في (نهاية الدراية) (١) حيث قال : «إن الإنشاء إذا اريد به ما هو من وجوه الاستعمال ، فتخلّفه عن المستعمل فيه محال ، وجد البعث الحقيقي أم لا ، وإذا اريد به إيجاد البعث الحقيقي ...».

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٦٤.

٣١٠

وفيه :

إن الإنشاء إمّا مبرز للمعنى وامّا موجد ، ولا ثالث ، وعلى الثاني : إمّا يوجد المعنى بعين وجود اللّفظ ، وامّا يوجد المعنى بغير وجود اللّفظ ، ولا ثالث.

فإن كانت الهيئة كاشفة عن المعنى ومبرزةً له ، فلا إنشاء على مسلك المشهور ، فالإنشاء إذاً موجد للمعنى ... فهل وجوده بعين وجود اللَّفظ؟ التحقيق : إن لكلّ مفهوم وماهيّة وجودين حقيقةً لا أكثر ، أحدهما : الوجود الذهني ، والآخر : الوجود الخارجي ، وأمّا غير هذين الوجودين فلا يكون إلاّ بالاعتبار ، لكنّ الواضع ليس عنده هذا الاعتبار ، فإنّه لا يعتبر الاسم وجوداً لذات المسمّى ، وما اشتهر من وجود : الوجود اللّفظي والوجود الكتبي ، إلى جنب الذهني والحقيقي ، فلا أصل له : هذا أوّلاً.

وثانياً : إن المحقق الأصفهاني يرى أنّ حقيقة الوضع عبارة عن اعتبار الوضع ، فإيجاد المعنى بعين وجود اللّفظ مردود ، على مسلكه في تعريف الوضع أيضاً.

وعليه ، فينحصر وجود المعنى بأنْ يكون بغير وجود اللَّفظ ، فإنْ كان ذاك الوجود في ظرف وجود الهيئة والإنشاء ، لزم الوجود الفعلي للمشروط قبل تحقّق شرطه ، وإن كان بعده ، لزم الانفكاك بين الإيجاد والوجود.

الوجه الخامس

ما ذكره المحقق العراقي (١) ويتمّ توضيحه ضمن الامور التالية :

١ ـ إنّ حقيقة الحكم عند المحقّق العراقي عبارة عن الإرادة التشريعيّة

__________________

(١) نهاية الأفكار ١ / ٢٩٥.

٣١١

المبرزة ، بأنْ يراد صدور الفعل من الغير وتبرَز هذه الإرادة ، كقولك لغيرك : «صُم» ، «صلّ» ونحو ذلك ، فمن هذه الإرادة المبرزة ينتزع عنوان الحكم.

٢ ـ إن القيود على قسمين ، فمنها ما له دخل في أصل المصلحة والغرض ، ومنها ما له دخل في فعليّة المصلحة والغرض ... فالمرض ـ مثلاً ـ له دخل في مصلحة استعمال الدواء ، إذْ لا مصلحة لاستعماله في حال السّلامة ، لكنْ قد لا يتحقق الغرض فعلاً ولا تحصل المصلحة إلاّ بإضافة عمل آخر إلى شرب الدواء ، فيكون ذاك العمل ـ كالاستراحة مثلاً ـ دخيلاً في فعليّة المصلحة.

وشروط الوجوب ـ وهو مفاد الهيئة ـ ترجع كلّها إلى أصل المصلحة ، وشروط الواجب ترجع إلى ما يكون دخيلاً في فعليّة الغرض والمصلحة.

٣ ـ الإرادة تارةً مطلقة ، وأخرى منوطة ، فقد يكون الشيء مطلوباً على كلّ تقدير ، ويتقوّم به الغرض كذلك ، وقد يكون مطلوباً على بعض التقادير ، والغرض يترتب على حصول الشيء مقيّداً ومنوطاً بذاك التقدير ، كأنْ تكون إرادة الصّلاة منوطةً بالزوال ، فيكون حصول الغرض متقوّماً به.

٤ ـ هناك فرق بين القيد الدخيل في تحقق الغرض ، والقيد الدخيل في تحقّق الإرادة ، فإن الدخيل في تحقّق المصلحة دخيل بوجوده الخارجي ، والدخيل في تحقق الإرادة دخيل بوجوده اللّحاظي ... وعلى هذا ، فإنه قبل الزوال لا توجد مصلحة للصّلاة ، لكنّ الوجود اللّحاظي للزوال موجود ، وبوجوده تتحقق الإرادة للصّلاة عند الزوال ، فتكون إرادةٌ منوطة ... فالإرادة تحصل لكنّها منوطة ، وإناطتها بالزوال لا ينافي تحقّقها قبله ... فيكون وجوب الصّلاة مشروطاً بالزوال سواء قبل الزوال أو بعده ، وإنْ كان قيد الوجوب

٣١٢

يتحقّق إذا زالت الشّمس ، لكنّ تحقّقه لا يخرج الحكم عن كونه وجوباً مشروطاً.

وبهذا البيان يظهر بطلان دعوى الانفكاك ... لأنّ حقيقة الحكم هي الإرادة المبرزة ، ولو لا الإبراز فلا حكم ، وإذا كانت إرادة الصّلاة منوطةً بالزوال ، فإنّ الزوال ملحوظ قبل تحقّقه ، ووجوده اللّحاظي هو المؤثّر في الإرادة ، وبذلك يكون الحكم فعليّاً ، وتلخّص : أنه لا انفكاك بين الوجوب والإيجاب ... نعم ، قد وقع الانفكاك بين فعليّة الحكم والإرادة الحاصلة قبل القيد ، وبين فاعلية الإرادة والحكم ، لكونها منوطةً بالقيد ، وهذا الانفكاك لا محذور فيه.

ولهذه الامور ، ذهب المحقق العراقي إلى أن كلّ واجب مشروط ، فالوجوب والإيجاب فيه فعليّان ، غير أن الفرق بين الوجوب المطلق والوجوب المشروط في جهتين :

الأولى : إن الإرادة في الوجوب المطلق مطلقة غير منوطة ، بخلاف الوجوب المشروط.

والثانية : إنّه في الوجوب المطلق ، توجد فعليّة الحكم وفاعليّة الحكم معاً ، بخلاف الواجب المشروط ، حيث فعليّة الحكم موجودة ، أمّا فاعليّته فلا.

وفيه :

أوّلاً : إنهم قالوا بأنّ الإرادة هي الشوق الأكيد ، فالإرادة التشريعيّة هي الشوق الأكيد إلى صدور الفعل عن الغير عن اختيار ، ومن المعلوم أن الشوق الأكيد أمر تكويني وإبرازه تكويني ومبرزة تكويني ، وأمّا الحكم فأمر جعلي

٣١٣

اعتباري وليس بتكويني ، فكيف تكون الإرادة التشريعية المبرزة هي الحكم؟

وثانياً : كيف تكون الإرادة في الواجبات المنوطة فعليّةً ، مع عدم تحقّق القيد بعدُ؟ إن كان المراد من «الإرادة» هو «الشوق الأكيد» ففعليّته قبل تحقق القيد معقول ، وقد ظهر أن الشوق ليس الحكم ، بل الإرادة المبرزة هي الحكم ، وتحقّقها يستلزم تحقق المراد ولا يمكن الانفكاك ، لكنّ التحقق لا يعقل مع فرض الإناطة.

وثالثاً : كيف تكون الإرادة فعليةً وفاعليّتها غير متحقّقة؟ إن هذا خلف ، لأنها إن كانت فعليةً ، فلا يعقل تخلّفها عن فاعليّتها ، فإذا كان الزوال دخيلاً في المصلحة وهو غير حاصل ، كيف يتعلّق الإرادة الفعليّة بالمراد؟ وكانت الإرادة الفعليّة حاصلة ، بأنْ علم المكلَّف أنّ المولى تعلّقت إرادته قبل الزوال بالصّلاة وقد أبرز هذه الإرادة ، فلا محالة تتحقّق الفاعليّة أيضاً ... ولا يعقل الانفكاك.

الوجه السادس

قال في (المحاضرات) (١) : الصّحيح أن يقال : لا مدفع لهذا الإشكال بناءً على نظريّة المشهور من أنَّ الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى باللّفظ ، ضرورة عدم امكان تخلّف الوجود عن الإيجاد ، وأمّا بناءً على نظريّتنا : من أن الإنشاء عبارة عن إبراز الأمر الاعتباري في الخارج بمبرزٍ ، من قول أو فعل ، فيندفع الإشكال من أصله.

قال : والسّبب في ذلك هو : إنّ المراد من «الإيجاب» إمّا إبراز الأمر الاعتباري النّفساني ، وامّا نفس ذاك الأمر الاعتباري ، وعلى كلا التقديرين ، لا محذور من رجوع القيد إلى مفاد الهيئة. أمّا على الأوّل ، فلأنّ كلاًّ من الإبراز

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ٢ / ٣٢٣.

٣١٤

والمبرز والبروز فعلي ، فليس شيء منها معلَّقاً على أمر متأخّر ، وهذا ظاهر. وأمّا على الثاني ، فلأنّ الاعتبار من الامور النفسانيّة ذات التعلّق كالعلم والشّوق ، وكما يتعلق بأمرٍ حالي كذلك يتعلّق بأمر متأخّر ، فلا محذور من أنْ يكون الاعتبار فعليّاً والمعتبر متأخّراً ، والتفكيك بينهما جائز.

والحاصل : إنه بناءً على مسلك المشهور لا يجوز التفكيك ، لأنه من الإيجاد والوجود ، وأمّا على مسلكه ، فإنه لا يقاس بالتفكيك بين الإيجاد والوجود أصلاً.

وقال في (حاشية أجود التقريرات) : «ويردّه : أن الإيجاب ، إنْ اريد به إبراز المولى لاعتباره النفساني ، فالإبراز والبروز والمبرَز كلّها فعليّة ، من دون أنْ يكون شيء منها متوقّفاً على حصول أمرٍ في الخارج ، وإنْ اريد به الاعتبار النفساني ، فيما أنه من الصفات ذات الإضافة ـ كالعلم والشوق ونحوهما ـ فلا مانع من تعلّقه بأمرٍ متأخّر ، فكما أنه يمكن اعتبار الملكيّة أو الوجوب الفعليين ، يمكن اعتبار الملكيّة أو الوجوب على تقدير ، وأين هذا من تخلّف الإيجاد عن الوجود؟

وغير خفي أنّ أساس هذا الإشكال يبتني على تخيّل أن الجمل الإنسانيّة موجدة لمعانيها في نفس الأمر ، مع الغفلة عمّا حقَّقناه من أنه لا يوجد بها شيء أصلاً ، وإنما هي مبرزات للأمور القائمة بالنفس الممكن تعلّقها بأمر متأخر ، ولأجله ذكرنا في محلّه أنّ امتناع التعليق في العقود والإيقاعات إنما هو من جهة الإجماع ، ولو قطع النظر عنه لما كان مانع عن التعليق أصلاً» (١).

__________________

(١) أجود التقريرات ـ الهامش ـ ١ / ١٩٣.

٣١٥

قال الأستاذ

في الدورة السابقة :

لا ريب في أنّ السيّد الخوئي يرى أن نسبة الإيجاب والوجوب عين نسبة الإيجاد والوجود ، وقد نصّ على ذلك في (مصباح الفقاهة) حيث اعترض على الشيخ التفريق بين الإيجاب والوجوب وبين الكسر والانكسار فقال : «إنه لا وجه صحيح لتفرقة المصنف بين الإيجاب والوجوب ، وبين الكسر والانكسار ، بديهة أن الفعل الصّادر أمر وحداني لا تعدّد فيه بوجه ، وإنّما التعدد فيه بحسب الاعتبار فقط ، كالإيجاد والوجود ، فإنّهما شيء واحد ...» (١).

ولا ريب أيضاً في قبوله لعدم جواز التفكيك بين الإيجاد والوجود حيث قال في نصّ كلامه السابق «وأين هذا من تخلّف الإيجاد عن الوجود» أي إنه يرى استحالة التخلّف بينهما.

ثمّ إنّ قوله «وغير خفي أنّ أساس هذا الإشكال ...» إشارة إلى كلام المحقق الخراساني حيث قال : إن الإنشاءات موجدة للمعاني في نفس الأمر ....

وهو ـ أي السيد الخوئي ـ يرى ورود الإشكال على مبنى الإيجاد ، واندفاعه على مبنى الاعتبار والإبراز.

لكنّه في مبنى الاعتبار والإبراز ـ وهو المختار عنده ـ قال : بأنّ المراد إن كان إبراز الاعتبار ، فالإبراز والبروز والمبرز كلّها فعليّة ....

فنقول : هذا متين ، إلاّ أن حاصله هو الوجوب المطلق ، لأنّ لازم فعليّة

__________________

(١) مصباح الفقاهة : ٢ / ٧٣.

٣١٦

كلّ ذلك هو عدم الوجوب التقديري ، وهذا يساوق انكار الوجوب المشروط ....

قال : وإن كان المراد الاعتبار النفساني ، فتعلّقه بأمرٍ متأخّر ممكن.

فنقول : المفروض أن الاعتبار النفساني هو الإيجاب بنفسه ، وتعلّقه بأمرٍ متأخّر ، يعني أنْ يكون الوجوب على تقدير ، وهذا ليس إلاّ انفكاك الوجوب عن الإيجاب ، ولمّا كان يقول بأن وزان الإيجاب والوجوب وزان الإيجاد والوجود ، فمعنى كلامه الانفكاك بين الوجود والإيجاد ، فيعود الاشكال. هذا أوّلاً.

وثانياً : صريح كلامه ، أن يكون الإيجاب عين الاعتبار ، والحال أنَّ الاعتبار النفساني أمر تكويني لكونه من الصفات ، والإيجاب أمر اعتباري ، هذا.

قال الأستاذ

إن منشأ الإشكال هو الخلط ـ بناءً على القول بالإيجاد ـ بين أن يكون الإنشاء موجداً للمعنى حقيقةً ، وأن يكون سبباً ، لأن تخلّف الإيجاد عن الوجود محال ، وأمّا تخلّف السبب عن المسبّب فممكن.

والمشهور يقولون بأنّ الإنشاء سبب ، وأن نسبة الصّيغة الإنشائية إلى المعاني المنشأة نسبة الأسباب إلى المسبّبات ، أو نسبة الآلة إلى ذي الآلة ، كما قال الميرزا ....

والحاصل : إنه لا إشكال في العينيّة بين الوجود والإيجاد ـ أي بين المصدر واسم المصدر مطلقاً ـ فالنسبة بينهما هي العينية ، بخلاف النسبة بين الأسباب والمسبّبات ، فإنها التقابل ، سواء في التكوينيات ، حيث النار سبب

٣١٧

للاحتراق ، أو في الاعتباريّات ، إذ المشهور أن التّزويج والزوجيّة عنوان حاصل من «أنكحت» ، والملكيّة تحصل من الفعل في «المعاطاة» والصّيغة في المعاملة الإنشائية ... وهكذا ....

فهذا هو الفرق ، وقد وقع الخلط بينهما ، فكان الإشكال.

والدليل على ما ذكرنا من أنّ القوم يقولون بكون النسبة هي نسبة السبب إلى المسبب ، لا الموجد إلى الموجَد هو : ما جاء في (الخلاف) و(المبسوط) (١) من تعريف البيع : بأنه انتقال عين مملوكة من شخصٍ إلى غيره بعوضٍ مقدّر على وجه التراضي فكان العقد سبباً وناقلاً ... ومن الواضح أن هذه السببيّة سببيّة جعليّة عقلائية ... كما أنهم في الطّلاق ـ مثلاً جعلوا «هي طالق» سبباً للبينونة ، وفي النكاح جعلوا «أنكحت» سبباً له ، وفي الملكية «بعت».

وقد عرّف ابن حمزة البيع بأنه عقد يدل على انتقال عينٍ إلى آخر (٢) فقال فخر المحققين والشهيد بأنّ هذا تعريف السبب بالمسبب ، لأن العقد سبب ، وإطلاق السبب على المسبب مجاز (٣).

وبمثل ما ذكر ، تجد التصريح في كلام العلاّمة في (القواعد) و(التذكرة) في مسألة الوصيّة ، وكذا الشهيد والفخر في الإيضاح ... قال العلامة في الوصيّة : إذا كانت الملكيّة حاصلةً قبل القبول ، فالقبول إما جزء للسبب وإما شرط للملكيّة (٤).

__________________

(١) كتاب الخلاف ٣ / ٧ ط جامعة المدرسين. المبسوط في فقه الإماميّة ٢ / ٧٦.

(٢) الوسيلة : ٢٧٠.

(٣) انظر : جامع المقاصد ٤ / ٥٥.

(٤) قواعد الأحكام : ٢٩١ حجري. تذكرة الفقهاء ٢ / ٤٥٣ حجري.

٣١٨

وفي (المسالك) في تعريف البيع ما حاصله : إن الملكية مسببة ، والعقد سبب لها(١).

وفي (جامع المقاصد) : إن البيع هو نقل الملك من مالك إلى آخر بصيغةٍ مخصوصة(٢).

وذلك صريح (المستند) حيث قال : «العقد سبب النقل ، كما أنَّ النقل سبب الانتقال. عرّفه جماعة بالعقد ، وهو غير جيّد ...» (٣).

والحاصل : إن الإنشاءات أسباب.

وقال الميرزا في بحث الصحيح والأعم : بكون الإنشاءات آلات ، ونصّ على أنَّ المشهور كونها أسباباً (٤).

وإذا كانت الإنشاءات أسباباً لا موجدةً لمعانيها ، فلا يأتي الإشكال ، لأنّ الواقع في الوصيّة ـ مثلاً ـ هو جعلُ السبب ، فلا يقال كيف يكون إيجاد الملكيّة الآن ووجودها بعد الموت ... بل إنه سببٌ ، والمسبّب إنْ كان مقيَّداً بقيدٍ كان السبب سبباً ناقصاً ، ولا محذور في انفكاك السبب عن المسبب ... نعم ، لو كان غير مقيَّد كان الانفكاك غير معقول ، بحكم عدم انفكاك العلّة التّامة عن المعلول ، لا بحكم عدم انفكاك الإيجاد عن الوجود ... لذا كان الانفكاك غير معقول في الوجوب المطلق ، وكذا في الملكيات المنجَّزة.

هذا حلّ المشكل بناءً على قول المشهور.

وأمّا حلّه بناءً على مسلك الاعتبار والإبراز ، فإنّ الاعتبار أمر نفساني

__________________

(١) مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام ٢ / ١٦٠ حجري.

(٢) جامع المقاصد في شرح القواعد ٤ / ٥٥ ط مؤسّسة آل البيت «ع».

(٣) مستند الشيعة ١٤ / ٢٤٣ ط مؤسّسة آل البيت «ع».

(٤) أجود التقريرات ١ / ٧٤.

٣١٩

تكويني فعلي ، ولا مانع من أن يكون المعبَّر متأخّراً عنه ... وإن من خاصيّة الاعتبار امكان تعلّقه بالأمر المعدوم فعلاً الموجود في عالم الفرض كما في الوصية ، حيث يفرض الآن الملكية بعد الموت ويحقّقه في عالم الاعتبار.

هذا تمام الكلام على هذه المشكلة ، وبالله التوفيق.

دليل الشيخ على لزوم رجوع القيد إلى المادّة

وبعد الفراغ عن البحث حول ما استدلّ به على امتناع رجوع القيد إلى الهيئة ، الدالّ بالالتزام على رجوعه إلى المادّة ، نتعرّض للدليل الذي أقامه الشيخ الأعظم رحمه‌الله على ضرورة رجوعه إلى المادّة ، وهو برهان وجداني ، فقال ما حاصله (١) :

إن العاقل إذا التفت إلى شيء ، فإمّا يطلب ذلك الشيء أو لا ، والثاني خارج عن البحث ، وعلى الأوّل : فإمّا يطلبه على جميع تقادير وجوده أو يطلبه على بعض التقادير ، والأوّل خارج عن البحث ، وعلى الثاني : فالتقدير إمّا غير اختياري ، كمطلوبيّة الصلاة على تقدير تحقق الزوال ، وامّا اختياري كمطلوبيّة الحج على تقدير الاستطاعة ، وفي الاختياري تارة : يكون القيد داخلاً تحت الطلب ، كالطّهارة بالنسبة إلى الصّلاة ، وأخرى : لا يكون ، كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج.

يقول الشيخ : ففي جميع صور مطلوبيّة الشيء على تقدير حصول أمر اختياري ، يكون الطلب فعليّاً والمطلوب غير فعلي ، فيكون القيد دائماً قيداً للمادّة دون الهيئة ، إذ المطلوب معلَّق على شيء دون الطلب ، سواء قلنا بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد كما هو الحق ، أو بعدم التبعية كما عليه الأشاعرة ،

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٤٥ ـ ٤٦.

٣٢٠