تحقيق الأصول - ج ٢

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٢
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٠٠

على أساسها ، وما ذكره المحقق العراقي قدس‌سره من الضابط ـ وهو كون المرتبة العليا الشديدة غير محتاجة إلى البيان الزائد ، وأنّ المرتبة الدانية والضعيفة هي المحتاجة إليه ، فمتى لم يكن بيانٌ حمل على العليا ـ أمر لا يدركه العرف العام ولا يفهمه ، ولذا لا يمكن للشارع أنْ يحتجّ على المكلَّفين على أساسها في أوامره في الكتاب والسنّة ...

وثانيهما : للسيد البروجردي قدس‌سره فقال (١) : إن مدلول مادّة الأمر ـ وكذا صيغته ـ والمعنى المستعمل فيه ، إنشائي وليس بإخباري ، فلمّا يقول : أمرتك بكذا ، أو يقول : صلّ ، فهو ينشئ ويُوجد الطلب بذلك في عالم الاعتبار.

وهذا الطلب الإنشائي غير قابلٍ للتشكيك ، لكونه اعتباريّاً ، والأمور الاعتبارية بسيطة لا حركة فيها ، إذ التشكيك إنما يكون في الامور التي فيها الشدّة والضعف وتجري فيها الحركة ، إلاّ أن الطلب الإنشائي يقع فيه التشكيك بالعرض ـ أي من خارج ذاته ـ ، لأن الطلب كذلك ينقسم إلى ثلاثة أقسام ، فهو طلب إنشائي مع مقارنات شديدة ، وطلب إنشائي مع مقارنات ضعيفة ، وطلب إنشائي بلا مقارنات مطلقاً ، فالأول : كأنْ يطلب منه المشي ويدفعه بيده ، أو يطلب منه الضرب ويصح عليه ، والثاني : كأنْ يطلب منه الكتابة ويومي إليه بيده ، والثالث : أن يطلب منه أحد الأفعال مجرَّد طلب ... فيكون الأول كاشفاً عن شدّة الطلب وقوة الإرادة النفسانية ، والثاني : كاشفاً عن الطلب النفساني الضعيف ، والثالث بلا شدّةٍ ولا ضعف ... إذنْ ، قد يتّصف الطلب الإنشائي بالشدّة والضعف لكن من خارج ذاته.

__________________

(١) نهاية الأصول : ٨٦.

٢١

ومن الطلب الإنشائي غير المقارَن بشيء ينتزع الوجوب ... والدليل عليه هو السيرة العقلائية ، وعلى أساسه يترتّب استحقاق العقاب بين الموالي والعبيد.

هذا ، ولا يخفى اختلاف كلامه رحمه‌الله ، ففي أوّله قال بأنّ الوجوب ينتزع من الطلب الإنشائي المقترن بالمقارنات الشديدة ، والندب ينتزع من المقترن بالمقارنات الضعيفة ، أمّا في آخره فيذكر أن نفس الطلب منشأ لانتزاع الوجوب. بل يذهب إلى جواز أن يقال بعدم وجود انشاء طلب في موارد الندب ، وأن المندوبات ليست إلاّ إرشاداً إلى الملاكات والمناطات ، فينحصر الطلب بموارد الواجبات فقط.

هذا حاصل كلامه مع التوضيح.

والفرق بينه وبين تقريب المحقّق العراقي : أن العراقي يرى أن مادّة الأمر وكذا الصيغة ـ مبرزة للصّفة النفسانية ، والبروجردي يرى أن الطلب الإنشائي إيجاد وليس بإبراز.

مناقشات الاستاذ مع السيّد البروجردي

وقد تكلّم شيخنا دام بقاه على هذا التقريب بعد توضيحه بوجوه :

أحدها : إن السيد البروجردي ذكر أنّ الطلب المقترن بالمقارنات الشديدة هو الوجوب ، وهو كاشف عن الإرادة الشديدة ، والمقترن بالمقارنات كاشف عن الإرادة الضعيفة ، وغير المقترن بأحدهما طلب متوسّط.

وفيه : إن الطلب إمّا وجوبي وامّا ندبي ، وأمّا المتوسط بينهما ـ غير المتّصف بالوجوب أو الندب ـ فغير قابل للتصوّر ، نعم ، نفس الإرادة تقبل المراتب كما هو الحال في كلّ أمرٍ تشكيكي ، لكن المفروض كون الطلب أمراً

٢٢

إنشائياً ، والأمر الإنشائي متّصف بأحد الأمرين ولا يتصوّر برزخ بينهما.

وثانيها : قوله بالتشكيك العرضي في الطلب بعد نفي التشكيك الذاتي عنه.

نقول : ما المراد من التشكيك العرضي والذاتي هنا؟ تارةً يقال : الخصوصيّة الكذائية موجودة في الشيء الفلاني بالذات ، أو إنها موجودة فيه لا بالذات بل بسبب أمر خارج. واخرى : يكون المراد من العرضي في مقابل الذاتي هو المجاز في مقابل الحقيقة.

إنْ كان مراده : أن الشدّة والضعف وصفان للمقارن للطلب ، أما الطلب فيتّصف بهما بالعرض كاتّصاف الجالس في السفينة بالحركة.

فهذا كلام متين ، لكن البحث ليس في المجاز ، والمقصود إسناد الشدّة والضعف إلى الطلب على نحو الحقيقة.

وإنْ كان مراده : أن الطلب الإنشائي يتّصف حقيقةً بالشدّة والضعف ، لكنَّ المقارنات كانت السبب في هذا الاتّصاف ، كاتّصاف البياض بالضعف بسبب اختلاطه بالسواد.

فهذا غير صحيح ، إذ لا يكون اقتران الطلب بالصّياح مثلاً ـ في مثال الشديد ـ سبباً لأنْ يوصف الطلب حقيقةً بالوجوب ، ولا يكون اقترانه بالترخيص في الترك مثلاً ـ في مثال الضعيف ـ سبباً لأن يتصف الطلب حقيقةً بالضعف والندب ... وقياس ذلك باختلاط البياض بالسواد في غير محلّه ... لوضوح الفرق بين الاختلاط وفي الموجودات الخارجية ، وبين الاقتران وفي الامور الاعتبارية.

وثالثها : قوله في آخر التقريب : بأنّ من عدم الاقتران بالمقارنات

٢٣

الضعيفة ينتزع الوجوب ، والعقلاء يرون استحقاق العقاب على المخالفة في ما يكون من هذا القبيل.

وهذا كلامٌ متين قوي ، وسنؤكّد عليه.

ورابعها : إنه يقول في نهاية المطلب : إنّ البعث لا يتحقّق بدون الوجوب ، وهو في المندوبات إرشاد إلى المصالح ، فقوله «صلّ» يقوم مقام التحريك الخارجي والبعث التكويني ، وهو ينافي الترخيص في الترك.

وهذا معناه أن الأحكام الشرعيّة منحصرة بالوجوب والحرمة فقط ـ وأن الزجر التنزيهي إرشاد إلى المفاسد ، كالأوامر الندبيّة التي هي إرشاد إلى المصالح ـ ولا يُظنّ الالتزام به من أحدٍ من الفقهاء ، وحتى السيّد البروجردي نفسه لا يلتزم به ، وإلاّ فكيف يفتي بالاستحباب الشرعي في المستحبات ، وبالكراهة الشرعيّة في المكروهات؟

وأيضاً ، فهو كلام مخالف لصريح النُّصوص في تقسيم الأمر إلى الواجب والمندوب.

والحقيقة هي : دعوى إن التنافي بين البعث والتحريك وبين الترخيص في الترك ، صحيحة في التكوينيات ، وكلامنا في البعث والطلب الاعتباري ، وقياسه على التكويني غير صحيح.

وتلخّص : عدم تماميّة هذا التقريب أيضاً.

دلالة الأمر على الوجوب بالعقل والسّيرة

وبعد أنْ ظهر ضعف الأقوال المتقدّمة في دلالة الأمر على الوجوب ، وأنّه لا يدل ـ لا مادّةً ولا صيغةً ـ على الوجوب ، لا بالوضع ولا بالإطلاق ، فالمبنى الباقي هو الدلالة على الوجوب بحكم العقل ، وهو مسلك المحقق

٢٤

النائيني ، وتبعه المحققون من تلامذته (١) ، وحاصله :

إن الحاكم في باب وظيفة العبد تجاه المولى وأوامره ونواهيه إنما هو العقل ، فإنّه يحكم بأنّ المولى إذا أمر عبده بشيء فمقتضى وظيفة العبوديّة هو أنْ يمتثل الأمر ويلبّي الطلب ، إلاّ إذا جاء من المولى الترخيص والإذن في الترك ، ولذا لو لم يمتثل ثم اعتذر بعدم نصب المولى القرينة على الإلزام ، فلا يقبل عذره ولم يقبح عقابه.

وعلى الجملة ، فلما لم تكن الدلالة على الوجوب لا بالوضع ولا بالإطلاق ، فهي بحكم العقل من باب حقّ الطاعة.

وفيه إشكال : وهو أنه إذا كانت الدلالة عقليّة ، ولا دور للّفظ فيها ، فما معنى جمع الميرزا نفسه وسائر الفقهاء بين الأمر ، وبين «لا بأس بالترك» بالجمع الدلالي؟ إنهم في مثل هذين الدليلين يقولون بأنّ الأمر ظاهر في الوجوب ، وقوله «لا بأس» نصٌّ في جواز الترك ، فترفع اليد عن ظهور الأمر بالنصّ على جواز الترك ، مع أنّ المفروض أنّ الدلالة على الوجوب ليست من ناحية اللّفظ أصلاً ، بل هي من العقل ، فلا معنى لظهور الأمر في الوجوب ، ولتقديم النصّ عليه.

وكذلك الكلام في باب الإطلاق والتقييد ، والعام والخاص ، فإنّ الميرزا وأتباعه يقولون بأنَّ المقيّد والمخصِّص قرينة للمطلق وللعام ، وبها ترفع اليد عن ظهورهما في العموم والإطلاق ، لأنّ الأمر ـ في مثل «أعتق رقبةً» ـ قد تعلَّق بصرف الوجود بنحو الإطلاق ، ثم في قوله «أعتق رقبةً مؤمنة» يتعلَّق الأمر بالرقبة بنحو التقييد ، فإمّا ترفع اليد عن ظهور القيد في القيديّة ، فلا

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ١٤٤ ، محاضرات في أصول الفقه ٢ / ١٣١.

٢٥

يجب عتق الرقبة المؤمنة ، وامّا ترفع اليد عن إطلاق «أعتق رقبةً» فلا يكفي عتق الكافرة ، فبين الخطابين منافاة ، وعند دوران الأمر يقولون بلزوم الأخذ بالدليل المقيِّد ، لكون الأمر بعتق المؤمنة ظاهراً في عتق خصوص هذا الفرد من الرقبة ، ونسبته إلى الأمر المطلق نسبة القرينة إلى ذي القرينة ، والقرينة ظهورها مقدَّم على ظهور ذي القرينة.

فيرد عليهم : إنَّ القرينة وذا القرينة وغير ذلك من شئون اللَّفظ ، فما ذكروه إنّما يتمُّ على مبنى قرينيّة المقيَّد والمخصِّص.

وكذا يتمّ تقديم المقيِّد والمخصِّص بمناط أظهريّتهما من المطلق والعام ، وهو مسلك الشيخ الأعظم ، كالجمع بين لفظي «الأسد» و«يرمي» حيث أن ظهور الأسد في الحيوان المفترس لفظي ، وظهور يرمي في رمي السهم إطلاقي ، ويتقدَّم الظهور للفظ «يرمي» ـ مع كونه اطلاقياً ـ على ظهور «الأسد» مع كونه وضعيّاً.

أمّا بناءً على ما ذهبوا إليه من أنّ دلالة الأمر على الوجوب بحكم العقل ، فإنَّ مقتضى القاعدة هو الورود لا التقييد ، لأنّ حكم العقل بالوجوب تعليقي لا تنجيزي ، من جهة كونه معلَّقاً على عدم الرخصة في الترك ، فهو يقول : كلّما جاء الأمر ولا دليل على الرخصة فهو للوجوب ، فإنْ قام الدليل على الرخصة تقدَّم من باب الورود ، لأنه يرفع موضوع حكم العقل.

فظهر وجود التنافي بين كلماتهم في المقام ، وكلماتهم في باب الإطلاق والتقييد وباب العام والخاص.

وتلخَّص : أن دلالة الأمر على الوجوب لا تتم بحكم العقل ، ما لم يرجع الوجوب إلى اللّفظ ، وذلك بأحد امور ثلاثة :

٢٦

إمّا دعوى التبادر. وهي مردودة ، لأنّ المفروض عدم انسباق الوجوب من حاق لفظ مادّة الأمر أو صيغته.

وامّا دعوى الظهور الإطلاقي. أي انصراف المادّة أو الصيغة إلى الوجوب ، وقد ظهر عدم تماميّة هذه الدعوى عند الكلام على تقريب المحقق العراقي.

أقول : وبذلك يظهر التأمّل في كلام السيّد الاستاذ ، فإنّه ـ بعد أنْ ذكر أن صحّة تقسيم الأمر إلى الإيجاب والندب دليل على كون اللفظ موضوعاً للأعم من الطلب الوجوبي والندبي ، وأنّ صحة مؤاخذة العبد بمجرَّد مخالفة الأمر ظاهرة في ظهور الأمر في الوجوب ـ قال : «ويمكن الجمع بالالتزام بوضع لفظ الأمر للأعمّ مع الالتزام بأنه ينصرف مع عدم القرينة إلى الطلب الوجوبي والإلزامي وينسبق إليه ، فيتحفَّظ على ظهور كلا الأمرين المزبورين ـ أعني التقسيم والمؤاخذة ـ وتكون النتيجة موافقة لمدّعى صاحب (الكفاية) وإنْ خالفناه في المدّعى والموضوع له» (١).

وامّا دعوى السيرة العقلائيّة ، بأنها قائمة على استفادة الوجوب عند عدم القرينة على الرخصة ... ولا ريب في وجود هذه السيرة ، فإنّهم يحملون أوامر المولى ـ مع عدم القرينة على الرخصة ـ على الوجوب ، ويرون استحقاق العقاب على المخالفة ... وقد ذكر المحقق الأصفهاني في المعاملات أن منشأ هذه السيرة هو حفظ الامور المعاشيّة ، ويبقى إمضاء الشارع المقدس لهذه السيرة ، وذلك ثابت بوضوح من الرواية التالية :

الصدوق قدس‌سره بإسناده عن زرارة ومحمّد بن مسلم قالا : «قلنا

__________________

(١) منتقى الاصول ١ / ٣٧٦.

٢٧

لأبي جعفر عليه‌السلام : ما تقول في الصلاة في السّفر؟ كيف هي؟ وكم هي؟ فقال : إن الله عزّ وجلّ يقول : (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلَاةِ) فصار التقصير في السفر واجباً كوجوب التمام في الحضر. قالا : قلنا : إنما قال الله عزّ وجلّ (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) ولم يقل : افعلوا ، فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟ فقال عليه‌السلام : أوليس قد قال الله عزّ وجلّ في الصفا والمروة : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ...)(١).

فهما يسألان الإمام عليه‌السلام أنه لو قال : «افعلوا» لدلّ على الوجوب ، ولم يقل؟ فدلالة الصّيغة على الوجوب من المرتكزات في الأذهان ، والإمام عليه‌السلام لم ينف هذا الارتكاز العقلائي ، بل أمضاه بسكوته.

فالرواية تدل على المدّعى بوضوح ، وطريق الشيخ الصّدوق إلى زرارة صحيح.

فالمختار

رجوع القضيّة إلى السيرة العقلائيّة.

أمّا الوجوه السابقة ، فقد عرفت ما فيها.

وأمّا حكم العقل ، فقد عرفت أن هذا المسلك منهم لا يلائم الجمع الدلالي ، على أنه أخص من المدّعى ، لاختصاصه بأحكام المولى الحقيقي ، فهناك يحكم العقل بحق الطاعة ، ولكنّ المدّعى هو دلالة المادّة والصيغة على الوجوب في مطلق الصادر من العالي إلى الداني.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ / ٤٣٤ باب الصلاة في السفر.

٢٨

وعلى الجملة ، فالدليل الصحيح ـ في صيغة الأمر ـ هو السيرة ، وعلى المختار ، فلا إشكال في الجمع الدلالي ، وهذه السيرة ممضاة ، وقد ذكرنا النص الدالّ على الإمضاء ، ويوجد في الأخبار ما يدل على ذلك أيضاً غيره كالرواية التالية :

عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «العمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحج على من استطاع».

فقد نزّل العمرة بمنزلة الحج الذي قال الله فيه (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ولسانه لسان الإيجاب ، فتكون العمرة واجبة كذلك ، وعلّل الوجوب بقوله : «لأن الله يقول : (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ)(١) فكان الاستدلال بصيغة الأمر وهو «أتمّوا».

وسند الرواية معتبر بلا إشكال.

وإذا كانت السّيرة على دلالة الصيغة على الوجوب ممضاة ، فهي في دلالة المادّة عليه ممضاة بالأولويّة القطعيّة ، وإنْ كانت النصوص مختلفة :

فعن أبي بصير قال : «سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : إن الناس أكلوا لحوم دوابّهم يوم خيبر ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإكفاء قدورهم ونهاهم عنها ولم يحرّمها» (٢).

فقد يستظهر من هذه الرواية عدم دلالة مادّة الأمر على الوجوب فتأمّل ، والسند صحيح.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٠ / ٢٣٤ الباب ١ من أبواب العمرة رقم ٨.

(٢) التهذيب ٩ / ٤١.

٢٩

وفي المقابل ما يدلّ على كونها للوجوب :

فعن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ركعتان بالسّواك أفضل من سبعين ركعة بغير سواك ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو لا أنْ أشقّ على امّتي لأمرتهم بالسّواك» (١).

فهي تفيد أن الأمر للوجوب بلا شك ، لأنّ السّواك مستحب ، ولو أمر لزمت المشقّة على الامّة ، ومن الواضح أن المشقة في الإيجاب ... وفي سند هذا الخبر إشكال من جهة اشتماله على «جعفر بن محمد الأشعري» إلاّ بناء على اعتبار رجال كتاب كامل الزيارات ، وعدم الاستثناء من رجال نوادر الحكمة ، مضافاً إلى اعتماد الأصحاب عليه.

وهذا تمام الكلام في دلالة مادّة الأمر وصيغته على الوجوب.

__________________

(١) الكافي ٣ / ٢٢ باب السواك رقم ١.

٣٠

صيغة الأمر

إنه وإنْ تعرضنا لصيغة الأمر بتبع البحث عن المادّة ، لكن ينبغي تفصيل الكلام في جهتين :

الجهة الاولى : في معنى صيغة الأمر.

فقد وقع الخلاف بين الأعلام في معنى صيغة الأمر.

فقيل : إن للصيغة معانٍ عديدة ، أحدها هو الطلب ، والمعاني الاخرى هي : التهديد ، والتعجيز ، والإهانة ، والاختبار ... وهكذا ، فقولك : «صلّ» معناه الطلب الإنشائي ، وفي قوله تعالى (كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ) (١) تدلّ الصيغة على التعجيز ، ومعناها في (تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ)(٢) هو التهديد ، وهكذا ...

والقول الآخر : هو وحدة معنى الصيغة في جميع الاستعمالات ، وهو الطلب الإنشائي ، غاية الأمر أنه تارةً : يكون الداعي لاستعمال الصيغة في الطلب الإنشائي هو الطلب الجدّي ، واخرى : يكون الداعي لاستعمالها فيه هو التهديد أو غيره مما ذكر.

والقول الثاني هو مختار صاحب (الكفاية) (٣) ... فهو يرى وقوع الاشتباه

__________________

(١) سورة البقرة : ٦١.

(٢) سورة هود : ٦٨.

(٣) قال (في الفصل الثاني فيما يتعلَّق بصيغة الأمر وفيه مباحث) ص ٦٩ ط مؤسسة آل البيت : «ربما

٣١

هنا بين المفهوم والداعي ، كما قال بوقوع الاشتباه بين المفهوم والمصداق في مدلول مادّة الأمر ، كما تقدّم.

مختار الاستاذ

وقد اختار الاستاذ ـ في هذه الجهة ـ قول المحقق الخراساني ، قال : والارتكاز ، والوجدان ، والاستعمالات ، كلّها تثبت هذا القول ، وقصارى ما يمكن أن يقال هو : إن الصيغة في الطلب الإنشائي حقيقة ، وفي غيره مجاز.

إشكال السيّد الاستاذ

أقول : وكما وقع الإشكال فيما ذكره من الاشتباه بين المصداق والمفهوم كما تقدّم ، كذلك فيما ذكره من الاشتباه بين المفهوم والداعي ، فقد أفاد السيد الاستاذ بأنّ ما ذهب إليه من كون الصيغة مستعملة لإيجاد الطلب إنشاءً وإنما يختلف الداعي إليه ، غير معقول ثبوتاً «فإنّ الداعي ـ بحسب ما يصطلح عليه ـ هو العلّة الغائيّة ، بمعنى ما يكون في تصوّره سابقاً على الشيء وفي وجوده الخارجي مترتّباً عنه ، فيقال : «أكل» بداعي تحصيل الشبع ، فإن الشبع تصوّراً سابق على الأكل وبلحاظ ترتّبه على الأكل ينبعث الشخص إلى الأكل ، ولكنه وجوداً يترتب على الأكل ويتأخّر عنه ، وعليه : فصلاحيّة الأمور المذكورة ـ من تمنٍّ وترجٍّ وتعجيز وتهديد وامتحان وسخرية ـ لأنْ تكون داعياً للإنشاء في الموارد المختلفة ، يصحّ في فرض ترتّب هذه الأمور على الإنشاء وجوداً وأسبقيّتها عليه تصوّراً ، وليس الأمر فيها كذلك ...».

ثم قال ـ بعد أن أوضح وجه عدم كون الأمر فيها كذلك ـ «فالأولى : أن

__________________

ـ يذكر للصيغة معانٍ قد استعملت فيها ، وقد عُد منها : الترجي والتمني والتهديد والإنذار والإهانة والاحتقار والتعجيز والتسخير ، إلى غير ذلك. وهذا كما ترى ، ضرورة أن الصيغة ما استعملت في واحدٍ منها بل لم تستعمل الا في انشاء الطلب إلا أن الداعي الى ذلك ... يكون أحد هذه الامور.

٣٢

يقال في هذه الموارد : إنّ الصيغة مستعملة فيها في معناها الحقيقي وبداعي البعث والتحريك ، إلاّ أنّ موضوع التكليف مقيَّد ، فالتكليف وارد على الموضوع الخاص لا مطلق المكلَّف ، ففي مورد التعجيز يكون التكليف الحقيقي معلَّقاً على قدرة المكلَّف بناءً على ادّعائه ، فيقال له في الحقيقة : إنْ كنت قادراً على ذلك فأت به ، فحيث أنه لا يستطيع ذلك ولا يقدر عليه لا يكون مكلَّفاً ، لا بلحاظ عدم كون التكليف حقيقيّاً بل بلحاظ انكشاف عدم توفّر شرط التكليف فيه وعدم كونه مصداقاً لموضوع الحكم ، فموضوع الحكم هاهنا هو القادر لا مطلق المكلَّف ، وهكذا يقال في التهديد ...» (١) انتهى.

لكنّ منشأ هذا الإيراد هو الجمود على لفظ «الداعي» وأخذه بالمعنى الفلسفي ، وهو يندفع بإمكان أن يكون المراد من الداعي معنىً آخر غيره ، كما ذكر هو ـ دام ظله ـ في بحث شرطيّة القدرة للتّكليف (٢) من أن الشرط قد يطلق ويراد به معناه الفلسفي وهو العلة الغائية ، وقد يطلق ويراد به معنى غير ذلك ، وإنّ شرطية القدرة للتكليف ليس المقصود بها المعنى الفلسفي للشرطيّة ، بل المقصود بها المعنى الآخر ... بل لقد ذكر في معنى «الغرض» أنه قد يطلق ويراد منه ما يساوق العلّة الغائيّة ، وهو المعنى الاصطلاحي للغرض والداعي ، وقد يطلق ولا يراد منه هذا المعنى ، بل يراد منه معنىً عرفي يساوق المقصود.

ومن العجيب ذكره مثال الأكل من أجل الشبع هنا للدلالة على جواز

__________________

(١) منتقى الأصول ١ / ٣٩٧ ـ ٣٩٨.

(٢) منتقى الاصول ١ / ٤١٦ ـ ٤١٧.

٣٣

إرادة غير المعنى الفلسفي من «الغرض» قال : وهو بهذا المعنى قابل للانفكاك عن العمل وإنْ عبّر عنه بالغرض فيقال : غرضي من هذا العمل ومقصودي كذا مع عدم ترتّبه عليه ، بل يمكن أن يترتب ويمكن أن لا يترتب ، كأكل الخبز بغرض الشبع ...» (١).

الجهة الثانية : في معنى «نفس الأمر» في كلام الكفاية.

قال صاحب (الكفاية) ـ في بحث الطلب والإرادة (٢) ـ : الإنشاء قول يقصد به ثبوت المعنى في نفس الأمر ، وقد سبقه في هذا القول الشهيد الأول قدس‌سره ، وإنْ اختلف مرادهما :

فالمحقّق الخراساني يرى أن الإنشاء قول يتحقّق به مفاد كان التامّة ، في قبال الإخبار فإنه قول يحكي عن مفاد كان الناقصة ، فالإنشاء عنده موجد للمعنى ، غير أنه يوجد بوجود منشأ انتزاعه ، ومراده من «نفس الأمر» هو أن ذلك المعنى يخرج بواسطة الإنشاء عن حدّ فرض الفارض ، أما قبله فهو على حدّ فرض الفارض ، فلمّا يقال : ملّكتك الدار مثلاً ، تكون ملكيّة الدار للطرف الآخر قبل الإنشاء من قبيل افتراض كون الإنسان حجراً ، أمّا بعده ، فالملكيّة تخرج عن هذا الحدّ ، ويصبح الطرف مالكاً للدار ، لكنْ ليس في الخارج بإزاء الدار وصاحبها شيء ، وإنما يتحقّق الوجود للملكيّة بوجود منشأ انتزاعها وهو الإنشاء.

فهذا معنى : إن الإنشاء قول يقصد به ثبوت المعنى في نفس الأمر ...

__________________

(١) منتقى الأصول ١ / ٤٦٢.

(٢) قال في ص ٦٦ : وأمّا الصيغ الانشائية فهي موجدة لمعانيها في نفس الأمر ، أي قصد ثبوت معانيها وتحققها بها وهذا نحو من الوجود ، وربما يكون هذا منشأ لانتزاع اعتبارٍ مترتب عليه شرعاً وعرفاً آثار ، كما هو الحال في صيغ العقود والإيقاعات.

٣٤

وقد ظهر أيضاً الفرق عنده قدس‌سره بين الإنشاء والإخبار. وظهر أن مراده من «نفس الأمر» هو ما يقابل فرض الفارض.

وهذا غير ما هو المصطلح عند الفلاسفة ، حيث يجعلون وعاء «نفس الأمر» وعاءً في قبال وعاء الذهن ، ووعاء الخارج ، فوعاء الخارج ووعاء الذهن ظرفان لوجود الماهيّة ، وللماهية ظرف في عالم التصوّر هو نفس الأمر.

كما أنّه غير مصطلح الاصوليين ، فهم يريدون من «وعاء الأمر» ثبوت الشيء ثبوتاً غير قائم بالاعتبار ، كالملازمة بين «تعدّد الآلهة» وبين «الفساد» المستفادة من الآية المباركة ، فإنها موجودة في وعاء نفس الأمر ، ولا تدور مدار الاعتبار ، بخلاف ملكيّة زيد للدار ، فإنَّ قوامها الاعتبار ، وليس لها واقعيّة كواقعية الملازمة المذكورة.

وأمّا الشهيد الأوّل ، فقد ذكرنا أنه قد استعمل هذا المصطلح ، ولكنّه أراد من قوله «نفس الأمر» ـ في العبارة المذكورة ـ الاحتراز عن الإنشاء المكرَّر ، فقول المنشئ : ملّكتك الدار قول قصد به ثبوت الملكيّة للمشتري ، فإذا قاله ثبت ذلك ، فلو قاله مرةً اخرى فلا يحصل به المعنى ، لأنه لو حصل لكان من تحصيل الحاصل.

ويقول المحقق الخراساني : كلّما تكرّر القول حصل فرد من ذلك المعنى الإنشائي ، إلاّ أنه يكون تأكيداً ، لا أنّ الصيغة ـ في المرّة الثانية ـ خارجة عن الإنشائيّة.

والحاصل :

إنه في الصيغة الإنشائيّة يُقصد ثبوت ووجود المعنى بنفس الصّيغة ،

٣٥

بدون أيّة حكايةٍ ، والثبوت هو بنحو مفاد كان التامّة ، بخلاف الإخبار ، فإنه بنحو مفاد كان الناقصة وهو حكاية عن الثبوت.

هذا في الصيغة ، أي صيغة افعل ، الدالّة على الطلب.

وكذلك الحال في بقيّة المعاني الإنشائيّة ، فالمعنى في جميعها هو إيجاد الطلب ، غير أن الدواعي تختلف.

وكذلك الحال في الاستفهام والترجّي والتمنّي ، فهو إيجاد الاستفهام بالوجود الإنشائي بداعي الاستفهام الحقيقي ، أو بداعي الإنكار ، وإيجاد للترجّي إنشاءً ـ وهو في حق الباري تعالى جائز كما في قوله : (لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (١) وليس حقيقةً ، لامتناعه في حقّه لاستلزامه الجهل والعجز ـ وهكذا إيجاد للتمنّي إنشاءً ...

وهذا توضيح مبنى صاحب (الكفاية) في الصيغة الإنشائيّة.

رأي الأصفهاني في الصيغ الإنشائية وحمله كلام الكفاية عليه

وخالف المحقّق الأصفهاني قدس‌سره (٢) ، وذكر أنّ ما ذهب إليه المحقق الخراساني من كون اللّفظ في الصّيغ الإنشائيّة موجداً للمعنى ، غير معقول ، فقال في مقام الإشكال عليه ما توضيحه :

إنّه لا يتصوّر لأيّ معنىً من المعاني إلاّ نحوان من الوجود ، فهو إمّا وجود بالذات ، وامّا وجود بالجعل والاعتبار.

والأوّل : إمّا الوجود الذهني ، وامّا الوجود الخارجي الواقعي ، لكنّ إيجاد المعنى في عالم الذهن لا يمكن بسبب اللّفظ ، بل العلّة للوجود الذهني هو

__________________

(١) سورة طه : ٤٦.

(٢) نهاية الدراية ١ / ٢٧٤ ـ ٢٧٥.

٣٦

التصوّر فقط ، وكذلك إيجاده في الخارج ، لأنّ الوجود الخارجي معلولٌ لعلّته ، فإنْ وجدت وجد وإلاّ فلا.

والثاني : فإنَّ الوجود الجعلي عبارة عن وجود المعنى بوجود اللّفظ ، فاللّفظ يكون وجوداً للمعنى في عالم الاعتبار ، وهو كما يكون باللّفظ يكون بالكتابة أيضاً.

فما ذهب إليه المحقق الخراساني غير صحيح ، إذ لا يعقل إيجاد المعنى باللّفظ لا ذهناً ولا خارجاً.

بل المعقول والمتصوَّر هو أنّا نوجد المعنى وجوداً جعليّاً ، أيْ نعتبر وجود اللّفظ وجوداً له ، لا أنّ اللّفظ يكون واسطةً وسبباً لوجود المعنى كما قال المحقّق الخراساني ، ففي الحقيقة لمّا نقول : «افعل» فهو من مقولة الكيف المسموع ، فإذا تلفّظنا به وجد في الخارج بوجودٍ بالذات ، وتكون هذه الصيغة وجوداً جعليّاً اعتباريّاً للبعث والطلب ، لا أن الطلب والبعث يوجد بتوسّط هذا اللّفظ وهذه الصيغة.

قال : فهذه حقيقة الإنشاء ، ولا بدّ أنْ يحمل عليه كلام المحقّق الخراساني.

إشكال الاستاذ

قال شيخنا دام بقاه :

أمّا حمله كلام المحقّق الخراساني على مسلكه ففيه : إن في عبارة (الكفاية) ما يمنع عن الحمل المذكور ، وذلك أنه مثَّل ـ لكون الإنشاء موجداً للملكيّة ومخرجاً لها عن فرض الفارض ـ بإيجاد الملكيّة في مورد الحيازة ، فإنّه قد ورد في مباحث كتاب إحياء الموات أنَّ «من حاز ملك» ، وهو ظاهر

٣٧

في كون الحيازة سبباً لوجود الملكيّة ، وليس وجودها بالوجود اللّفظي والجعلي. وأيضاً : فقد تقرّر في كتاب الإرث أنّ «ما ترك الميّت من مالٍ أو حقٍّ فلوارثه» فالملكيّة الحاصلة قهراً للوارث بموت مورّثه ليست بالوجود الجعلي والاعتباري ...

ومع وجود هذه الجملة في كلام المحقّق الخراساني كيف يحمل كلامه على ما ذهب إليه؟

وأيضاً ، فقد صرَّح المحقّق الخراساني ، في مقام بيان حقيقة الإنشاء في الترجّي والتمنّي ... بأنّ المعنى المنشأ بالصيغة في ظرف الإنشاء وجود جزئي ، لأنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، والوجود مساوق للتشخّص ، إلاّ أنه ـ أي المعنى ـ في نفس الوقت كلّي.

ولا ريب أنّ هذا مطلب معقول ، كما لو تصوّرنا الإنسان النوعي ، والحيوان الجنسي ، فإنه من حيث وجوده شخصي ، للقاعدة المذكورة ، مع أنّ النوع والجنس كليّان ، وصيغة الإنشاء كذلك ، فقولك : «ملّكتك» أو قولك : «صلّ» يدلّ على معنى جزئي هو المنشأ لك بهذا اللّفظ ، لكنّه كلّي أيضاً ، لأن القضايا الحقيقيّة تنحلّ وتتعدّد بعدد الموضوعات ... مع كون الإنشاء واحداً.

وهكذا ، فمن الممكن إيجاد الملكيّة الكليّة بإنشاء واحدٍ ، فإنّه معنى كلّي ، مع أنه من حيث وجود الإنشاء جزئي ، كما في قوله تعالى : (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ) (١) حيث أن ملكيّة الخمس من جهة هذا الإنشاء جزئيّة ، لكن الملكيّة معنىً كلّي ، والمالك هو طبيعي المسكين من بني هاشم.

__________________

(١) سورة الأنفال : ٤٢.

٣٨

وإذا كان المحقق الخراساني يصرِّح بما ذكرناه ، فكيف يحمل كلامه على مبنى المحقق الأصفهاني من أن الإنشاء إيجاد المعنى بعين وجود اللّفظ ، إذ يستحيل تصوّر كليّة المنشأ حينئذٍ ، لأن وجود اللّفظ حقيقي شخصي ، فهو جزئي.

وتلخّص : إن كلامه غير قابلٍ للتنزيل على مسلك المحقّق الأصفهاني.

وأمّا إشكاله عليه : بأن إيجاد المعنى بالوجود الخارجي أو الذهني غير مسببٍ عن وجود اللّفظ ، لعدم كون اللّفظ في سلسلة علل الوجود الذهني ولا في سلسلة علل الوجود الخارجي ، فالتحقيق عدم وروده عليه ، لأنّه يقول بوجود المعاني الإنشائية وجوداً اعتباريّاً ، ومن المعقول ثبوتاً أنْ يعتبر العقلاء سببيّة اللّفظ للوجود الاعتباري ، فيمكن أن يقع في سلسلة علل وجوده ، فصحيح أنّ وجود الطلب في عالم الذهن يرجع إلى التصوّر ، ووجوده خارجاً يرجع إلى المصلحة والغرض ، ويكون العلم بالغرض علةً للوجود الخارجي التكويني للطلب في النفس ، لكنّ الكلام في الوجود الاعتباري ، ولا مانع من أن يعتبر العقلاء اللّفظ ـ مثل بعت ـ سبباً للمعنى وهو الملكيّة الاعتبارية ، بحيث تدور الملكيّة في عالم الاعتبار وجوداً وعدماً مدار وجود الصيغة وعدمها.

فما ذكره المحقق الخراساني أمر معقول ، ولا يرد عليه ما ذكر.

نعم ، إنّ هذا الاعتبار بحاجةٍ إلى دليلٍ في مقام الإثبات.

وتلخّص : إن البحث مع صاحب (الكفاية) يرجع إلى مقام الإثبات ، فالقول بأنّ ما ذهب إليه غير معقول ، غير صحيح ، فلا يمكن المساعدة على

٣٩

ما جاء في (نهاية الدراية) وفي (المحاضرات) (١).

وأمّا مختار المحقق الأصفهاني من أنّ حقيقة الإنشاء إيجاد المعنى بعين وجود اللّفظ ، فسيأتي الكلام عليه.

هذا تمام الكلام على مبنى المحقّق الخراساني.

رأي المحاضرات في الصّيغ الانشائيّة

وذهب السيّد الخوئي في (المحاضرات) (٢) إلى أنّ صيغة «افعل» مبرزة للاعتبار النفساني ، لا أنها موجدة له في وعاء الاعتبار ـ وهذا متّخذ من برهان المحقق الأصفهاني من أنّ الصيغة لا يمكن أن تكون سبباً للوجود مطلقاً ـ وأيضاً : فإن معاني الصّيغة مختلفة ، لا أنها موضوعة لمعنى واحدٍ والدواعي مختلفة ... فالمعنى هو الامتحان ، والتهديد ، والطّلب ... فهو مخالف (للكفاية) في كلتا الجهتين ...

وحاصل كلامه : إن صيغة افعل حقيقةٌ في إبراز اعتبار الشيء في الذمّة ، واستعمالها في موارد التعجّب والتهديد وغير ذلك ، مجازي ، ومعناها مختلفٌ وليس بواحدٍ.

وخلاصة وجه هذا الرأي :

أوّلاً : إنّ الامور الاعتبارية تحصل بمجرّد الاعتبار ومن دون حاجةٍ إلى سبب ، مع أنّ الألفاظ لا يمكن أن تكون أسباباً لمثل هذه الامور.

وثانياً : إنّ حقيقة الوضع هي «التعهّد» كما تقدَّم في محلّه ، فكأنّ

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٢٧٤ ـ ٢٧٥ ، محاضرات في أصول الفقه ٢ / ١٢٥.

(٢) محاضرات في أصول الفقه ٢ / ١٣٠ ـ ١٣١.

٤٠