تحقيق الأصول - ج ٢

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٢
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٠٠

حصول الجعل ، وليس في القضيّة الخارجيّة شيء سوى ذلك ، إلاّ أنّ في القضيّة الحقيقيّة طائفتين من الشرائط ، فشرائط الجعل والإنشاء غير شرائط المجعول ومرحلة فعليّة الحكم ، فإنّ شرط فعليّة الحكم هو الوجود الخارجي للموضوع المتصوّر بقيوده ، وإذا كان كذلك ، صار الشرط موضوعاً ، وحينئذٍ ، فلو تأخّر الشرط لزم تقدّم الحكم على موضوعه ، وهذا محال.

والحاصل : إن كلامنا في شرائط الحكم ، أي في شرائط فعليّته ، لا في شرائط الإنشاء والجعل له ... والوجود النفساني علّة للجعل ، وليس بعلّةٍ للفعليّة ، بل العلّة للفعليّة هي الوجود الخارجي الواقعي للموضوع في افق الاعتبار.

إشكال المحاضرات على الميرزا

وقد أورد عليه في (المحاضرات) بما حاصله (١) : إن الأحكام الشرعيّة أمور اعتباريّة ، ولا تخضع إلاّ لاعتبار من بيده الاعتبار ، فلا تخضع لقوانين الموجودات التكوينيّة ، وعلى هذا ، فما يسمّى بالسبب أو الشرط ـ كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج ، والبلوغ بالنسبة إلى التكليف ، ونحو ذلك ـ ليس بسببٍ أو شرط للحكم ، وإنما هو الاعتبار فقط ... وإذا كان كذلك ، دار الأمر مدار كيفيّة الاعتبار ، فكما يمكن للشارع جعل الحكم على موضوع مقيَّد بقيدٍ فرض وجوده في زمان فعليّة الحكم ومقترناً لها ، كذلك يمكن له أن يجعل الحكم على موضوع مقيّدٍ بقيدٍ فرض وجوده ، متقدّماً على فعليّة الحكم أو متأخراً عنها.

وعلى الجملة ، فإنّ اللاّزم في القضيّة الحقيقيّة كون الموضوع مفروض

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٢ / ٣١٤ ـ ٣١٥.

٢٨١

الوجود بالفعل خارجاً بجميع قيوده وشرائطه ، أمّا أن يكون الموجود المفروض كذلك مقارناً في الزمان لفعليّة الحكم ، فلا دليل عليه ، وليس بلازم ، لأن الحكم أمر اعتباري يدور مدار كيفيّة الاعتبار ، ومثاله في العرفيّات هو الحال في الحمّامات العموميّة ، فإنّ الحمّامي يرضى الآن بدخول الشخص إلى الحمّام واستحمامه فيه ، بشرط أنْ يدفع الاجرة لدى الخروج ، فكان الرّضا منه فعليّاً والشرط متأخّر ... وتأثير الإجازة في بيع الفضول من هذا القبيل ، فإنّ الشارع يرضى بترتّب الأثر على هذه المعاملة ، لكن بشرط مجيء الإجازة ، فتكون الإجازة اللاّحقة محقّقة لهذه الحصّة من الملكيّة ، لأن الشرط أثره تحقق طرف الإضافة في الملكيّة.

توضيح الأستاذ رأي الكفاية

إن الكلام المذكور سابقاً من صاحب (الكفاية) ، هو في الأصل لحلّ مشكلة الشّرط المتأخر للمأمور به ، أي الواجب ، فأخذه المحقق العراقي ، وجعله حلاًّ للمشكلة في الواجب وفي الوجوب ... ثم أصبح هذا الطريق أساس مبنى المتأخرين في حلّ مشكلة الشرط المتأخّر ... ونحن نوضّح كلام المحقق الخراساني قدس‌سره في نقاط :

الأولى : إن العناوين منها ذاتيّة ومنها غير ذاتيّة ، فالذاتي ما لا يقبل التغير ، كإنسانيّة الإنسان ، فهي لا تتغيّر بتغيّر الاعتبار ولا تختلف ، وغير الذاتي يقبل ذلك ، كالتعظيم ، فقد تعتبر الحركة الكذائيّة تعظيماً ، وقد لا تعتبر بل تعتبر هتكاً.

الثانية : تارةً : يكون للشيء دخل في التأثير ، واخرى : يكون له دخل في التحديد ، فما كان من القسم الثاني يمكن أن يكون حين دخله في التحديد

٢٨٢

معدوماً ، بخلاف القسم الأوّل ... مثلاً : يتكلّم الإنسان بكلامٍ يكون محدّداً لكلامٍ سابقٍ عليه لغيره ، ويعطيه عنوان «السؤال» ، فالكلام الذي جاء متأخّراً واتّصف ب «الجواب» قد أثّر في الكلام السّابق فكان «سؤالاً» ، في وقت لم يكن «الجواب» موجوداً.

الثالثة : إنّ الحسن والقبح يختلفان بالوجوه والاعتبارات ، فقد يتّصف الانحناء من الإنسان بالحسن ، إذا كان تواضعاً ، وقد يتّصف بالقبح إذا كان تملّقاً ، وقد لا يتّصف بشيء منهما ، كما إذا كان لرفع شيء من الأرض مثلاً.

ونتيجة هذه النقاط هي : إن المؤثّر في الملاك ليس هو الشرط أصلاً ، وإنما دخله فيه حصول الإضافة وتخصيص العنوان المطلق به ، فكما أنّ الإذن السّابق يحصّص البيع اللاّحق ويحدّده ، وبذلك يكون البيع الصّادر لاحقاً من المأذون حصّةً من البيع ، ويصير مضافاً إلى المالك الآذن ، مع أنّ الإذن معدوم عند ترتّب الأثر على البيع ، كذلك الإذن اللاّحق ، فإنه محدّد وموجد للحصّة ومحقّق للإضافة ، فكما يضاف البيع إلى الإجازة السّابقة وصاحبها ، كذلك يضاف إلى الإجازة اللاّحقة وصاحبها ... وكذلك الحال في الغسل ، فإنّ أثره تحديد طبيعة الصوم بتلك الحصّة التي كانت موضوع الوجوب.

ومثال إفادة الشرط للتحديد والتحصيص في العرفيّات ، هو المثال المذكور في التكلّم ، وأيضاً مثل الاستقبال ، فإنّ الخروج إلى خارج البلد مثلاً يختلف بالوجوه والاعتبارات والأسباب ، وأحدها أن يكون تكريماً للقادم ، فالخروج بهذا القصد حصّة من الخروج ـ في مقابل الخروج بقصد التجارة مثلاً قد تعنون بعنوان الاستقبال ، لكونه قد اضيف إلى قدوم الشخص مع أنه غير قادم بعدُ ، فكان الذهاب إلى خارج البلد ـ الذي هو عنوان عرضي لا ذاتي

٢٨٣

ـ معنوناً بعنوان الاستقبال بسبب ذاك الأمر المتأخّر ، وهو قدوم الشخص ... فأصبح الأمر المتأخّر غير الحاصل فعلاً ، مخصّصاً ومحدّداً للعنوان المتقدّم ـ وهو الذهاب ـ وموجباً لحسنه ، ومحقّقاً للإضافة بينهما.

وهذا شرح لقول المحقّق الخراساني بأن الشروط أطراف الإضافة في الشروط الشرعيّة ، ولكلام المحقق العراقي من أن المؤثر محدود والشروط وظيفتها التحديد ، وليست بنفسها مؤثّرةً كي يقال بأن المعدوم لا يؤثّر في الموجود.

إشكال الاستاذ

ثم أورد عليه الاستاذ : بأنّ الإضافة ليست بأمر اعتباري كي يقال بأنه يختلف بالوجوه والاعتبارات ، بل هي أمر واقعي ، والمتضايفان متكافئان في القوّة والفعل ، ولا يعقل وجود الإضافة والمضاف في وقتٍ يكون طرف الإضافة معدوماً ، فالإضافة بلا طرفٍ خلف.

والنقض بالزمان ، من الأمس واليوم والغد ، حيث يضاف اليوم إلى الغد وإلى الأمس مع انعدامهما.

قد أجاب عنه الشيخ الرئيس في الشفاء (١) ، بأنّ تلك الإضافة ذهنيّة ، وفي الذّهن يجتمع السّابق واللاحق.

لكنّ المشكلة هي : أن هذه الإضافة خارجيّة.

فقيل : بأنّ الزمان وجود واحد متصرّم.

وفيه : وإنْ ذكره المحقق الاصفهاني (٢) ساكتاً عليه : إن الحركة وجود

__________________

(١) الشفاء ، الطبيعيّات ١ / ١٤٨ ـ ١٥٠ ، الفصل العاشر ، في الزمان.

(٢) نهاية الدراية ٢ / ٤٦.

٢٨٤

واحد ، لكنّ الإنسان عند ما يتحرّك من مكانٍ إلى مكان ، فهو متوسّط بين موجودٍ ومعدوم ، فكيف يتحقق إضافة الموجود إلى المعدوم؟

وعلى الجملة ، فإن الحلّ الذي ذكره المحقق الخراساني ـ وعمّمه المحقق العراقي ـ لا يجدي نفعاً لمشكلة الشرط المتأخّر ، لأنّ الإضافة بلا طرفٍ محال.

الإشكال على كلام الحكيم

وبما ذكرنا يتضح الإشكال فيما ذكره السيّد الحكيم في (حاشية الكفاية) (١) وهو ما ذهب إليه في (حاشية المكاسب) (٢) في الكشف ، فقال بأن تصوير الإضافة والمضاف مع عدم تحقّق المضاف إليه غير معقول ، لكنّ المهمّ أنّه قد وقع الخلط بين الشرط المقصود هنا ، والشرط الذي هو جزء من أجزاء العلّة ، فالشرط هناك مؤثر إمّا في فاعليّة الفاعل وامّا في قابليّة القابل ، وهكذا شرط يستحيل تأخّره. لكن المراد من الشرط هنا ليس بهذا المعنى ، بل بمعنى القيد ، والتقييد يمكن بالأمر السّابق واللاحق والمقارن.

توضيح النظر : إنّ التقييد يقابل الإطلاق ، وهو لا يكون بلا ملاك على مسلك العدليّة ، وإذا كان بملاكٍ فهو ذا دخلٍ وأثرٍ ، فإمّا يكون دخيلاً في الملاك ، وامّا يكون دخيلاً في فعليّة الملاك وحصول الغرض.

إذن : إما يكون بلا دخل أصلاً ، فهذا خلف ، لأنه قيد ، وامّا يكون ذا دخلٍ وأثر ، فكيف يكون مؤثّراً في الموجود وهو معدوم؟ فيعود الإشكال.

مثلاً : الزّوال قيد لوجوب صلاة الظهر ، فما لم يتحقق لا ملاك للصّلاة

__________________

(١) حقائق الأصول ١ / ٢٢٩.

(٢) نهج الفقاهة : ٢٣٠.

٢٨٥

ولا غرض متعلِّق بها ، والطّهارة قيد للواجب ، وهو الصّلاة ، فما لم تتحقّق الطّهارة لم تتحقّق فعليّة الغرض من الصّلاة وإنْ كانت ذا ملاك.

فإن أراد السيّد الحكيم من كون الشرط المتأخر قيداً : إنه قيد للحكم ، كأنْ يترتب الأثر على عقد الفضول من حينه بالإجازة اللاّحقة من المالك ، فهو دخيل في الملاك ، فكيف يكون الشرط المتأخّر دخيلاً في الملاك وهو متقدّم؟ وإنْ أراد منه كونه قيداً للواجب ، كما في الغسل بالنّسبة إلى صوم المستحاضة ـ فإنّه قيد للصّوم نفسه لا لوجوبه ، لأن وجوبه متحقّق بدليله ، غير أن الصوم لا يؤثر إلاّ مع الغسل ، ففعليّة الأثر عليه متوقّفة على الغسل ـ فيكون دخيلاً أيضاً ، ودخل المعدوم في الموجود محال.

الإشكال على المحاضرات

وأمّا ما في (المحاضرات) تبعاً للمحقق العراقي ، من القول بأنّ أثر الشرط المتأخّر هو بيان الحصّة وبيان الحصّة كما يكون من المقارن والمتقدّم ، كذلك يمكن من المتأخر أيضاً ، كما في هذين المحقّقين وحاصل الكلام : كون الشرط المتأخر كاشفاً وبياناً ، وليس دخيلاً في تحقق مقتضى العقد ، ليرد اشكال تأثير المعدوم في الموجود.

ففيه : إن هذا ينافي مختاره في الفقه ، من أن الإجازة اللاّحقة دخيلة لا كاشفة فقط (١). على أنَّ التخصّص أمر واقعي وليس باعتباري ، فالإيمان يحصّص الرقبة واقعاً ، والغسل المتأخر يحصّص الصّوم المتقدّم واقعاً ، والتحصّص أثرٌ ، فكيف يؤثّر المعدوم هذا الأثر؟

__________________

(١) مصباح الفقاهة ٤ / ١٣٤.

٢٨٦

رأي السيد البروجردي

وقال السيّد البروجردي (١) بأنّ الشرائط على قسمين ، فمن الشرائط : ما له دخل في المأمور به ، بأنْ يكون قيداً له بما هو مأمور به ، كالوضوء بالنسبة إلى الصّلاة ، فإنّها لولاه ليست مورداً للأمر ، مع أنه غير دخيل في ذاتها. وحلّ المشكلة في هذا القسم هو : إنّ اشتراط الصّلاة وتقيّدها بالوضوء مقارنٌ للصّلاة وليس متأخّراً ، ولمّا كان التقيّد والاشتراط من الامور الانتزاعية ، فإن الواجب هو نفس القيد ، ولازم ذلك هو القول بالوجوب النفسي للقيود والشروط ، سواء تقدّمت أو تأخّرت.

قال الأستاذ :

إنه في هذا القسم لم يأتِ بشيء جديد ، فالمطلب نفس مطلب الميرزا ، وقد تقدّم ما فيه من كون الشروط أجزاءً ، وبحثنا في الشرط المتأخّر لا الجزء المتأخّر.

(قال البروجردي) القسم الثاني من الشرائط : ما له دخل في انطباق عنوان المأمور به على معنونه ، حيث يكون المأمور به من العناوين الانتزاعيّة لا في تحقق عنوان المأمور به ، ولا مانع من أن يكون الشيء المتأخّر دخيلاً في ذلك.

قال الأستاذ :

وفي هذا القسم أيضاً لم يأتِ بشيء جديد ، فالمطلب نفس مطلب المحقق الخراساني ، ومثاله الاستقبال ، وقد تقدّم أنه لا يحلّ المشكل في اعتبار الغسل بالنسبة إلى صوم المستحاضة ، فإنّ عنوان الصّوم حاصل له ولا

__________________

(١) نهاية الأصول : ١٥٢ ـ ١٥٣.

٢٨٧

دخل للغسل ، إنما الكلام في توقف صحّته على الغسل ، فكيف يكون دخيلاً فيها وهو معدوم؟

رأي المحقق الاصفهاني وتبعه المحاضرات

وفي (المحاضرات) إضافةً إلى ما تقدّم : إن الشروط في الاعتباريّات تختلف عنها في التكوينيّات ، كالإحراق مثلاً ، فإنها في الاعتباريّات قيودٌ وتقيّدات ، والتقيّد كما يكون بالسّابق والمقارن ، كذلك يكون باللاّحق ، ومثاله رضا الحمامي ، كما تقدّم.

قال الأستاذ :

أصل المطلب من المحقق الأصفهاني ، فإنّه جعل الامور ثلاثة : العينيّات ، والانتزاعيّات ، والجعليّات ، وقال : دخل المتأخّر المعدوم في الاولى والثانية غير معقول ، أمّا في الثالثة ، فمعقول.

لكن في (المحاضرات) خلط الاعتباريات بمثل رضا الحمّامي ، فإنّ رضا الحمّامي ليس من الامور الاعتبارية ، بل هو صفة نفسانيّة ، وسيأتي وجه التأثير فيه.

وأمّا قوله : بأنّه قيد وتقيّد.

فنقول : هل يوجد تأثير ودخلٌ للقيد أو لا؟ إن كون الشيء قيداً لا يكون بلا ملاك ، فلا بدّ وأنْ يكون له خصوصيّة حتى يكون قيداً ، كالإيمان بالنسبة إلى الرّقبة ، فإنْ كان بملاك ، وقع البحث في التقييد ، هل أنه قيد للحكم أو قيد للمأمور به؟ وحينئذٍ يعود الإشكال ، لأنه ـ سواء كان الأول ، كالإجازة بالنسبة إلى البيع ، أو الثاني ، كالوضوء بالنسبة إلى الصّلاة ، والغسل بالنسبة إلى الصّوم من دخل المعدوم في الموجود.

٢٨٨

وأمّا رضا الحمامي بغسل الشخص في الحمّام ، فليس مشروطاً بدفع الاجرة فيما بعد ، وإنما هو صفة نفسانيّة تحصل من علم الحمامي بتحقّق دفع الشخص الاجرة فيما بعد .. فهي منبعثة من العلم المقارن لها ، ولذا لو لم يكن عنده هذا الرضا لما سمح بالاغتسال إلاّ مع أخذ الاجرة من قبل ... فمثال رضا الحمّامي من صغريات ما ذكره المحقّق الخراساني من أن الشرط في الامور النفسانية هو العلم المقارن بها ، وإنْ كان المعلوم متأخّراً.

وأمّا معقوليّة دخل المعدوم في الموجود في الجعليّات ـ كما ذكر المحقّق الأصفهاني ـ بأنْ يكون الأمر المتأخّر دخيلاً في حصول التخضّع والتخشّع للمولى ... فنعم ، فالاحترامات ونحوها من الامور الاعتباريّة يعقل دخل الأمر المتأخّر في الأمر السّابق فيها ، وحصول عنوان الخضوع والخشوع له ، بل إنه واقع إثباتاً ، وقد سبقه إلى ذلك المحقق الخراساني ، ومثّل له بالاستقبال كما تقدّم.

لكنّ الكلام مع المحقق الأصفهاني في تطبيق الكبرى المذكورة على مثل الغسل للمستحاضة ، إذ كيف يكون الصّوم منها ـ وهي على حال القذارة ـ متعنوناً بعنوان الخضوع والخشوع من جهة تعقّبه بالغسل ... فإنّ العقلاء لا يرون ذلك ، بل الشارع نفسه يأمر بالتطهّر ثمّ العبادة والخضوع والخشوع لله ... وهذا مورد البحث ، وأنه كيف يكون الغسل المتأخّر سبباً للطّهارة حين الإتيان بالعمل المتقدّم؟

فما ذكره المحقق الأصفهاني لا يحلّ المشكلة.

هذا تمام الكلام في الطرق المذكورة لحلّ المشكلة ، وقد عرفت أنّ شيئاً منها لا يحلّ مشكلة الشرط المتأخّر ، بل جاء عن السيّد الاستاذ أنّه قال : «وما

٢٨٩

قيل في تصحيحه من الوجوه التي عرفتها لا تغني ولا تسمن من جوع» (١).

تحقيق الاستاذ في الشّرط المتأخّر

ومن هنا ، فقد سلك شيخنا الاستاذ مسلكاً آخر في مسألة الشّرط المتأخّر ، فقال دام بقاه : أمّا في غسل المستحاضة فلا مشكلة ... لأنّ الفتوى باشتراط صومها بالغسل في الليلة الآتية لا مستند لها أصلاً ، لأنّ صحيحة ابن مهزيار :

«كتبت إليه : امرأة طهرت من حيضها أو دم نفاسها في أول يوم من شهر رمضان ، ثم استحاضت فصلَّت وصامت شهر رمضان كلّه ، من غير أن تعمل ما تعمله المستحاضة من الغسل لكلّ صلاتين ، هل يجوز صومها وصلاتها أم لا؟ فكتب عليه‌السلام : تقضي صومها ولا تقضي صلاتها ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يأمر المؤمنات من نسائه بذلك» (٢).

غير واضحة الدلالة على اعتبار الغسل واشتراط صحّة الصوم به ، بأن يؤتى به في اللّيلة اللاّحقة للصوم.

وأمّا الإشكال فيها بالمنافاة لما دلّ من الأخبار وغيرها على كون الزهراء الطاهرة عليها‌السلام بتولاً ، وبأنها تدلّ على التفصيل بين الصّوم والصّلاة ، وهو خلاف الإجماع القطعي ، فيمكن دفعه بالتفكيك في الحجيّة.

إنما الكلام في قضية إجازة المالك في المعاملة الفضوليّة ، ولا بدّ فيها من لحاظ الأدلّة.

إنّه لا ريب في أن مقتضى الظهور الإطلاقي للتقييد بأيّ قيدٍ ، والاشتراط

__________________

(١) منتقى الاصول ٢ / ١٢٧.

(٢) وسائل الشيعة ٢ / ٣٤٩ الباب ٤١ من أبواب الحيض ، رقم ٧.

٢٩٠

بأيّ شرطٍ من الشروط ، هو المقارنة بين المقيَّد والقيد ، والشرط والمشروط ... ولذا لا بدّ من إقامة دليلٍ خاصٍّ على تأثير الإجازة اللاّحقة في البيع الواقع قبلُ من طرف الفضول.

فإن اريد تصحيح ذلك بالحقيقة العقليّة الفلسفية ، فهذا غير ممكن ، لكنّ الفرق بين الحقيقة العرفيّة والحقيقة العقليّة واضح ، ولذا نرى أنّ البخار ـ مثلاً ـ مباين للماء عرفاً مع أنه ماء بالحقيقة العقليّة ، هذا من جهة ، ومن جهةٍ أخرى ، فإنّ المدار في الامور الاعتبارية ، كالزوجيّة والملكيّة وغيرها من سائر أبواب العقود والإيقاعات ، على الحقيقة العرفيّة العقلائيّة ، وحينئذٍ ، فإنْ أمكن تصوير الإضافة بين الإجازة اللاّحقة والبيع السّابق ، إضافةً حقيقيةً عقلائيةً ، انحلّت المشكلة ... فنقول :

تارة : يراد من الإجازة اللاّحقة أن تكون مؤثّرةً في الملكيّة ـ التي هي الغرض من المعاملة ـ فهذا غير معقول ، واخرى : يراد منها تحصيص البيع وتحقيق الإضافة بينه وبين الإجازة اللاّحقة ... فهذا من الجهة العقلائيّة ممكن ، والإشكالات إنما نشأت من جعل الإضافة حقيقةً عقليّة ، وكذا جعل المضاف حقيقةً عقليّة ، أمّا لو جعلنا المضاف حقيقةً عقلائيّة ، وكذا الإضافة فلا مانع ... والمرجع في مثله هو الارتكازات العقلائيّة.

إنه وإنْ كان المتضائفان متكافئين في القوة والفعل حقيقةً عقليّةً ، لكنّ العقلاء يرون «السؤال» متّصفاً بهذا العنوان قبل مجيء «الجواب» حقيقيّةً عرفيّة ، مع كونهما متضايفين.

وأيضاً ، فإنّهم يضيفون «المجيء» إلى «الغروب» إضافة حقيقةً عرفيّة ، مع أن الغروب مثلاً غير متحقق ، وفي القرآن الكريم : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ

٢٩١

رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) (١).

إنه لا مانع عقلاً من أنْ تحقق الإضافة والمضاف الآن ، ويكون مجيء المضاف إليه فيما بعد ، بأنْ تكون الإجازة اللاّحقة طرفاً للمعاملة الواقعة الآن ، والمؤثر هذه الحصّة من المعاملة ... وهذا يرجع إلى نظر صاحب (الفصول) من أنّ العقد المؤثّر هو العقد المتعقّب بالإجازة ، أي العقد بوصف تعقّبه بالإجازة منشأ للأثر ... ولكنّه مخالفٌ لظواهر الأدلّة الشرعيّة وللسيرة العقلائية ، حيث يرى العرف والعقلاء كون الأثر للإجازة والرّضا اللاّحق ، لا للعقد المتّصف بوصف التعقّب بالرّضا والإجازة ... فالشارع يقول (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ) (٢) ووجوب الوفاء إنّما يكون حيث يضاف العقد إلى الشخص ، لأن معنى (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) (٣) هو أوفوا بعقودكم .. فمشكلة النظر المذكور ترجع إلى مقام الإثبات من هذه الجهة.

وفي مقام الثبوت أيضاً إشكال وهو : أنه كيف يمكن تحقق وصف «التعقب» للعقد قبل حصول الإجازة وتحقّقها؟ لأن التعقب عنوان إضافي ، وتحققه موقوف على تحقق طرفه ....

إذن ، فطريق صاحب الفصول وإن كان وجهاً من وجوه حلّ المشكلة من جهة الشرط المتأخر ، لكنْ لا يمكن المساعدة عليه ، لما يرد عليه من الإشكال ثبوتاً وإثباتاً ، فلا يصلح لتصحيح معاملة الفضول بالإجازة اللاّحقة ، على أساس أن تكون كاشفةً وطريقاً إلى تحقّق الملكيّة للمشتري ....

والتحقيق أنْ يقال :

__________________

(١) سورة طه : ١٣٠.

(٢) سورة النساء : ٢٩.

(٣) سورة المائدة : ١.

٢٩٢

إن الإجازة اللاّحقة لها دخل في تحقق الملكيّة للمشتري ، لكنْ لا في اعتبارها له ، لأنّ الاعتبار مقارن للإجازة ، بل إنها دخيلة في المعتبر ، بأنْ تتحقّق الملكية للمشتري ، فيكون مالكاً من حين العقد ، لكنّ الكاشف عن تحقّقها له هو الإجازة الواقعة فيما بعد ، فيكون اعتبار الملكيّة من حين الإجازة ، والمعتبر وهو الملكيّة ـ من حين العقد.

وتوضيح ذلك : إنه ما لم تأتِ الإجازة ، فالعقد غير منتسب إلى المالك ، فإذا أجاز انتسب العقد إليه ، ومعنى إجازته للعقد : قبوله له على ما وقع عليه ، والمفروض وقوعه على أن تكون الدار مثلاً ملكاً من حين العقد للمشتري ، فالإجازة تتوجّه إلى مقتضى العقد الواقع من قبل ... ثم إنّ الشّارع يمضي هذه الإجازة على نفس الخصوصيّة ، بأنْ يكون اعتبار الملكيّة للمشتري الآن وحين الإجازة ، والملكيّة ـ وهي المتعلَّق للاعتبار ـ واقعةً حين العقد ... فلم يكن من تأثير المعدوم في الموجود ، وانحلّت مشكلة الشرط المتأخّر .. بناءً على الكشف.

وتبقى مشكلة اخرى : وهي أنّ مقتضى قاعدة السّلطنة وغيرها من أدلّة الملكيّة الاختياريّة والقهريّة ، كون الدار ملكاً للمالك المجيز إلى حين الإجازة ، لكنْ مقتضى(أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) أن تكون الدّار ملكاً للمشتري من حين العقد ، بالبيان المذكور ، وحينئذٍ ، تجتمع ملكيّتان على المملوك الواحد في الحدّ الفاصل بين العقد والإجازة ، ولمن تكون النّماءات؟

هنا تحيّر مثل الميرزا ، وجعل المقام من قبيل مسألة الخروج من الدار المغصوبة ، حيث قال بعدم امكان القول باجتماع الوجوب والحرمة في الخروج ، لأن كلاًّ منهما تصرّف ، بل يجب الخروج للتخلّص من الغصب ...

٢٩٣

ونقض بذلك على مسلك المحقق الخراساني.

لكنّ التحقيق هو الفرق بين الموردين ، للفرق بين الأحكام التكليفيّة والأحكام الوضعيّة ، إذ الأولى تابعة للمصالح والمفاسد في المتعلّقات ، والثانية تابعة للمصالح والمفاسد في نفس الاعتبار ، فللخروج من الدار المغصوبة مصلحة تستلزم الوجوب ومفسدة تستلزم الحرمة ، زمانهما واحد ، والمتعلّق واحد ، فيلزم اجتماع الضدّين وهو محال ... فلا مناص من القول بوجوب الخروج وعدم حرمته ، لأنّ المركب للحكمين واحد ، وهو غير ممكن.

أمّا فيما نحن فيه ، فالمركب ـ وهو الاعتبار ـ متعدّد ، فالاعتبار كان لملكيّة المشتري من السّابق إلى الآن ، وهو اعتبار الفضول ، ولكنّ اعتبار المالك المجيز هو الملكيّة للمشتري من الآن ، أي حين الإجازة حتى وقت العقد.

هذا ... والمهمّ حلّ مشكلة الشرط المتأخّر ، وقد تحقق ذلك.

أمّا مورد الغسل لصوم المستحاضة ـ وليس في الفقه مورد آخر غيره يكون ما هو المتأخر شرطاً للمكلَّف به ـ فلا يساعده مقام الإثبات ، كما تقدّم.

قال الأستاذ في الدورة السابقة :

وكلّ موردٍ في الفقه قام الدليل عليه إثباتاً ، فلا بدَّ من رفع الإشكال الثبوتي فيه بلحاظ الحقيقة العرفيّة والبناء عليها ، كما لو تزوّج المريض في مرضٍ لا يبرئ منه ، فإنْ دخل صحّ النكاح وإلاّ فلا ، فالدخول متوقّف على النكاح ، والنكاح على الدخول ، وهذا دور. وحلّ المشكلة هو : أنّ الدخول شرط متأخّر ، ومن حين تحقق النكاح مع الدخول المتأخر تعتبر الزوجيّة ، فكان الدخول دخيلاً في تحصّص الحصّة.

٢٩٤

وأيضاً : إذا مات الميّت غير المسلم ، وترك ابناً صغيراً له ووارث مسلم كبير ، وجب على الكبير الإنفاق على الصغير حتى يسلم عند البلوغ ، فإذا أسلم حينذاك ، كان مالكاً لما تركه الميّت من حين الموت ، وإن لم يكن هذا الولد الوارث مسلماً من ذلك الحين ... وإنْ لم يسلم عند البلوغ ، انتقل الإرث إلى الوارث المسلم.

٢٩٥
٢٩٦

انقسام الواجب إلى :

المطلق والمشروط

٢٩٧
٢٩٨

مقدّمات :

لمّا فرغ صاحب (الكفاية) من تقسيمات مقدّمة الواجب ، شرع في تقسيمات الواجب ، وجعل أوّلها : انقسامه إلى المطلق والمشروط.

قال الأستاذ : في هذا التقسيم مسامحة ، فإنّ كلاًّ من الواجب والوجوب ينقسم إلى المطلق والمشروط ، مثال الأوّل : اشتراط الصّلاة أو إطلاقها بالنسبة إلى الطهارة. ومثال الثاني : اشتراط وجوب الصّلاة أو اطلاقه بالنسبة إلى زوال الشمس ....

لكنْ بحسب الظهور الإثباتي يكون الشرط عائداً إلى الوجوب ، والانقسام حينئذٍ من انقسامات الوجوب لا الواجب.

وعلى أي حالٍ ، فههنا مقدّمات :

المقدمة الأولى : (المراد من المطلق والمشروط هو المعنى اللّغوي) المراد من «المطلق» و«المشروط» في عنوان البحث هو المعنى اللّغوي للكلمتين ، أي : الاشتراط هو الارتباط ، كارتباط الصّلاة بالزوال مثلاً ، والإطلاق عبارة عن عدم الارتباط والإناطة والتقييد ، ، كما في الصّلاة بالنسبة إلى الإحرام مثلاً.

وأمّا ما ذكروه من التعاريف للإطلاق والاشتراط فكلّه مخدوش ، والمقصود منها توضيح المعنى اللّغوي والعرفي ....

٢٩٩

المقدمة الثانية : (في أنّ الإطلاق والاشتراط إضافيّان)

إن الإطلاق والاشتراط أمران إضافيّان وليسا بحقيقيّين ، إذ المطلق الحقيقي لا وجود له ، وكذا المشروط بكلّ شرطٍ ... والحاصل : إنّ الواجبات كلّها مشروطة ، سواء العقليّة ، كوجوب معرفة الباري تعالى ، فإنّه حكم عقلي مشروط بالقدرة ، أو الشرعيّة ، كوجوب الصّلاة والصّوم ... فإنها مشروطة بالبلوغ والعقل وغيرهما من الشروط العامّة.

فالمراد من الواجب أو الوجوب المطلق أو المشروط كونه مطلقاً أو مشروطاً بالنسبة إلى شيء ....

المقدمة الثالثة : (هل المراد إطلاق الهيئة أو المادة؟)

تارةً يطلق «الإطلاق» ، ويراد منه «إطلاق المادّة» ، ومرادهم منها «الواجب». وأخرى : يطلق «الإطلاق» ، ويراد منه «إطلاق الهيئة» ، ومرادهم منها «الوجوب».

إن مثل «صلّ» مركّب من مادّةٍ هي «الصّلاة» ومن هيئةٍ هي «هيئة افعل». والشرط يرجع تارةً : إلى طرف الهيئة فيقال : الوجوب مقيدً ومشروط بكذا. واخرى : يرجع إلى المادّة فيقال : هذا الواجب مشروط بكذا ... لكنْ لا يخفى : أنه متى تقيّدت الهيئة ، وكان الوجوب مشروطاً بشرطٍ ، تقيّد الواجب بتبعه قهراً ، فاشتراط وجوب صلاة الظهر بالزوال يخرج الصّلاة ـ أي : الواجب ـ عن الإطلاق بالنسبة إلى الزوال ، فلا تقع صلاة الظهر قبله بعد تقييد وجوبها به ... وهذا ما يحصل قهراً ... أمّا في حال العكس فلا ، فلو اشترط المولى في الواجب شرطاً وقيّده بقيدٍ ، فذلك لا يوجب التقييد والتضييق في الوجوب ، كاشتراط الصّلاة بالطهارة ، فإنّه لا يخرج وجوبها عن التوسعة.

٣٠٠