تحقيق الأصول - ج ٢

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٢
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٠٠

فلا إجزاء ، فلا مانع من استصحاب حجيّة رأي الميت ، والمفروض كونه طريقاً لا يفرّق فيه بين الأعمال السابقة واللاحقة ، لكون طريقيّته بنحو القضيّة الحقيقيّة ، فالاستصحاب يجري ، ويكون حاكماً على القاعدة العقلية المذكورة ، وعليه ، فلا مورد للرجوع إلى الحي.

وأمّا بالنسبة إلى المجتهد ، فإنْ تبدّل رأيه قد يكون على أثر حصوله على خبرٍ معارضٍ ، فإنْ كان يرى الرجوع إلى المرجّحات ، وكان الراجح هو الخبر الثاني ، فلا محالة ينكشف له بطلان الفتاوى السابقة ، لسقوط الخبر الأوّل من أصله ، وإن لم يكن في البين مرجّح ، فإمّا يقول بالتساقط ، فلا يبقى حكم سابق حتى يستصحب ، وإما بالتخيير فيكون صغرى دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

فما ذكره من التفصيل ، في غير محلّه.

أقول : ظاهره في الدورتين المناقشة في التفصيل ، أمّا نتيجته من حيث الإجزاء وعدمه ، والجواب عمّا إذا كان مفيداً للإجزاء ولو في بعض الصّور ـ لكون الإجزاء باطلاً عند الاستاذ مطلقاً ـ فلم نجده.

خلاصة الكلام في مسألة الإجزاء :

هو القول بعدم الإجزاء مطلقاً.

إلاّ في موارد جريان «لا تعاد» ، وإلاّ في موارد لزوم (العسر والحرج) الشخصيين.

٢٤١
٢٤٢

مقدّمة الواجب

٢٤٣
٢٤٤

مقدمات :

قبل الخوض في البحث تذكر أُمور :

الأمر الأول (في عدم اختصاص البحث بالواجب)

إنه لا اختصاص للبحث بالواجب ، بل هو أعمّ من مقدّمة الواجب والحرام والمستحب والمكروه.

الأمر الثاني (في المراد من الوجوب)

المراد من الوجوب هنا هو : الوجوب الشرعي الغيري ، فهل يوجد وجوب شرعي متعلّق بالمقدّمة بالإضافة إلى وجوب ذي المقدّمة أو لا؟ إذن :

ليس المراد : اللاّبدية العقليّة للمقدّمة ، فإنها مسلّمة عند الكلّ.

وليس المراد : الوجوب الإرشادي ، لأنه إرشاد إلى حكم العقل وإخبارٌ عنه ، وإن كان في الصورة بعثاً مولويّاً ، كقوله تعالى : (وأَطِيعُواْ اللهَ) (١).

وليس المراد : هو الوجوب الشرعي الطريقي ، أي الوجوب الذي يجعله الشارع لتنجيز الواقع ، كالاحتياط ، لأنّ وجوب المقدّمة ليس من هذا القبيل.

وليس وجوب المقدمة وجوباً نفسيّاً ، لأن الوجوب النفسي ينشأ من الملاك ، ووجوب المقدّمة لا ينشأ من ملاكٍ وغرض في نفس المقدّمة ، بل من الغرض في ذي المقدّمة.

وتلخّص : إن وجوب المقدّمة وجوب غيري تبعي ، بمعنى أن هناك

__________________

(١) سورة المائدة : ٩٢.

٢٤٥

إرادةً أصليّة متوجّهةً إلى ذي المقدّمة ، وبتبعها توجد إرادة تبعيّة بالنّسبة إلى المقدّمة حين تكون المقدّمة مورداً للالتفات ، أي ، فلا يلزم أن يكون وجوبها فعليّاً ، لأنّ الآمر قد يكون غافلاً عن المقدّمة ، فهي واجبة ، بمعنى أنه إذا التفت إليها جعل لها الوجوب.

الأمر الثالث (في أن بحث المقدّمة من المبادئ أو المسائل)

هل البحث عن وجوب المقدّمة من المبادئ الأحكاميّة كما عليه السيّد البروجردي ، أو من المسائل؟ وإذا كان من المسائل ، فهل هو من المسائل الاصوليّة أو من المسائل الفقهيّة أو المسائل الكلاميّة؟ وإذا كان من مسائل علم الاصول ، فهل هو من المسائل العقليّة ، كما عليه صاحب (الكفاية) ، أو من مباحث الألفاظ كما عليه صاحب (المعالم) (١)؟

أمّا القول بأنه من المبادئ الأحكاميّة فوجهه : إن المبادئ الأحكاميّة هي عبارة عن العوارض الطارئة على الأحكام الخمسة ، كقولنا : هل وجوب الشيء يستلزم النهي عن ضدّه أو لا؟ إذ معنى هذا العنوان : هل يوجد للوجوب هذه الخاصيّة أو لا؟ ومعنى قولنا : هل يجتمع الأمر والنهي في الشيء الواحد ذي العنوانين أو لا؟ هو أنّه هل للوجوب هكذا خاصيّة تمنع من اجتماعه مع النهي أو لا؟ وهنا كذلك ، نقول : هل للوجوب الثابت لذي المقدمة هذا الأثر ، أي وجوب المقدّمة ، أو لا؟

وفيه : إنّ كون مورد البحث من عوارض الحكم ، لا يوجب أنْ يكون من المبادئ ، ولا يخرجه عن المسائل ، ما دام تعريف المسألة الاصوليّة منطبقاً عليه.

__________________

(١) معالم الاصول : ٨٤.

٢٤٦

وكذلك كون البحث هنا عقليّاً لا يوجب اندراجه في مسائل علم الكلام ، لأنّ المسائل الكلاميّة مسائل عقليّة بالمعنى الأخص ، إذ هي المسائل الباحثة عن أحوال المبدا والمعاد فقط.

فإمّا أن يكون بحثنا من المسائل الفقهيّة ، وامّا أن يكون من المسائل الاصولية ، فقد حكي عن بعضٍ القول بكون بحث مقدّمة الواجب من المباحث الفقهيّة ، لأنه يبحث فيه عن الحكم الشرعي للمقدّمة ، وامّا أن يكون من المسائل الاصوليّة ، كما سيأتي.

لكنْ يردّ القول الأوّل : إن البحث هنا إنما هو عن ثبوت الملازمة بين المقدّمة وذي المقدمة من حيث الحكم ، والبحث عن هذه الحيثية ليس بحثاً فقهيّاً.

وأجاب الميرزا (١) عن القول المذكور : بأنّ الأحكام الفقهيّة مجعولة للعناوين الخاصّة والموضوعات الواحدة بالوحدة النوعيّة ، كالصّلاة ، والخمر مثلاً ، والمقدّمة تصدق في الخارج على العناوين المتعددة والحقائق المختلفة ، وليست عنواناً لفعل واحدٍ ، فليست من مسائل الفقه.

وفيه : إن المسألة الفقهيّة هي الأحكام الكليّة الإلهيّة المجعولة للموضوعات والعناوين الخاصّة ، من دون فرقٍ بين كونها منطبقةً خارجاً على حقيقة واحدة كالصّلاة والخمر ، أو على حقائق متعدّدة ، كعنوان النذر والعهد واليمين ونحو ذلك ، فليس من شرط المسألة الفقهيّة عدم انطباقها إلاّ على الحقيقة الواحدة.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٣١٠.

٢٤٧

وأجاب المحقق العراقي (١) عن القول المذكور : من جهة أن الملاك في المسألة الفقهيّة هو أنْ يكون ملاك الحكم الكلّي متّحداً ، سواء كان للموضوع مصاديق مختلفة أو لا ، نظير ضمان اليد ، فإنّه حكم فقهي مع اختلاف موضوعه وتعدّده ، لكون الملاك واحداً وهو «اليد» فنقول : المأخوذ بالعقد الفاسد فيه ضمان ، والعقد الفاسد تارةً هو البيع ، وأخرى الإجارة ، وثالثة الصّلح ، وهكذا ...

وكلّ موردٍ تعدّد فيه الملاك ، فالمسألة ليست فقهيّة ، ومسألة المقدّمة من هذا القبيل ، لأن ملاك وجوب مقدمة الحج غير ملاك وجوب مقدّمة الصّوم ... وهكذا ... فإنّه وإن كان حكماً كلّياً إلهيّاً ، لكنه ليس بمسألةٍ فقهيّة.

قال الاستاذ : هذا جيّد ، لكنْ لا برهان على خروج ما تعدّد ملاكه من الأحكام الكلّية عن الفقه ، لأن ضابط المسألة الفقهية ليس إلاّ كون الحكم المستنبط حكماً كلّياً إلهيّاً سواء تعدّد ملاكه أو اتّحد.

وللسيّد الاستاذ جواب آخر وهو : إنّ وجوب المقدّمة بعنوان أنّها مقدّمة يكون بملاك واحدٍ وهو ملاك المقدّمية ، فإنه هو الذي يوجب ترشّح الوجوب على المقدّمة في كلّ الموارد ، وليس له ملاك آخر غيره (٢).

أقول :

ظاهره أنّ «المقدميّة» هي «الملاك» لكن الكلام في ملاك المقدميّة : فتأمّل.

وتلخّص : تعيّن كون المسألة من مسائل علم الاصول ، ويكفي في ذلك

__________________

(١) نهاية الأفكار ١ / ٢٥٩.

(٢) منتقى الاصول ٢ / ٩٩.

٢٤٨

ـ بعد ثبوت عدم كونها من مسائل غيره من العلوم ـ انطباق تعريف العلم عليها ، فإنّه يمكن وقوع مسألة مقدّمة الواجب في طريق الاستنباط.

وأمّا إشكال السيّد الاستاذ من أنّ ضابط المسألة الاصوليّة هو أنْ تكون نتيجتها رافعةً لتحيّر المكلَّف في مقام العمل ، ولا يخفى أنّ هذه المسألة لا تتكفّل هذه الجهة ، فمبنيّ على نظره في الضّابط ، وقد تقدّم الكلام عليه في محلّه ، فراجع.

وبما ذكرنا في تحرير محلّ النزاع ـ من أن البحث في هذه المسألة يدور حول الملازمة ، فإن ثبتت فالمقدّمة واجبة ، وإلاّ فوجوبها يحتاج إلى دليل آخر ـ ظهر الفرق بين كون مسألة المقدّمة من مسائل الفقه وكونها من مسائل الاصول ، فإنّه إذا ثبت الملازمة ثبت الوجوب وهو الحكم الشرعي الفرعي ، وإلاّ فلا ...

فقول المحقق الإيرواني (١) بعدم الفرق ، وأن الكلام في ذلك تطويل بلا طائل ، في غير محلّه.

وإذا كانت المسألة مسألةً أُصوليّةً ، فالمحقق الخراساني والجماعة قائلون بكونها مسألة اصوليّة عقليّة ، فترجع إلى مقام الثبوت ، واختاره الاستاذ ، خلافاً لمن قال بأنّها مسألة لفظيّة ، وقد نسب إلى ظاهر (المعالم) فترجع إلى مقام الإثبات.

قال الأستاذ : إن البحث اللّفظي يرجع إلى مقام الإثبات وعالم الدّلالة ، ودلالة اللّفظ لا تخلو : إمّا أنْ تكون مطابقيّة ، وامّا أن تكون تضمنيّة ، وامّا أنْ تكون التزاميّة. أمّا الأولى ، فإنّ وجوب ذي المقدّمة لا يدلّ على وجوب

__________________

(١) نهاية النهاية ١ / ١٣٢.

٢٤٩

المقدّمة مطابقةً ، وهذا واضح ، وأمّا الثانية ، فإن وجوب المقدّمة ليس جزءاً من وجوب ذي المقدّمة ليدلّ عليه بالتضمّن ، بقي الثالثة ، وهي الدلالة الالتزاميّة ، وهذه يعتبر فيها كون اللّزوم ـ بين اللاّزم والملزوم ـ لزوماً بيّناً ، بأنْ يكون تصوّرهما كافياً في ثبوت الملازمة ، فلو كانت الملازمة محتاجةً إلى برهانٍ لإثباتها ، خرجت الدّلالة عن كونها دلالة اللّفظ ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فليست المسألة لفظيّة ، فهي مسألة عقليّة.

ولوجود الحكم الشرعي في هذه المسألة ، فهي من المسائل العقليّة غير المستقلّة.

٢٥٠

انقسامات المقدمة

لقد قسّموا المقدّمة إلى أقسامٍ عديدة ، وفي كلّ قسمٍ أقسام وأحكام :

التقسيم إلى الداخلية والخارجيّة :

فمنها : إن المقدّمة إمّا داخلية وامّا خارجيّة ، أمّا الخارجيّة ـ وهي أجزاء العلّة التامّة : المقتضي والشرط وعدم المانع ـ فهي داخلة في بحث المقدّمة ، لكون ذي المقدّمة ـ وهو المعلول ـ موقوفاً عليها ومحتاجاً إليها.

إنّما الكلام في المقدّمة الداخليّة ، والمقصود منها أجزاء المركّب ، فهل هي واجبة بالوجوب الغيري أو لا؟

هل المقدّمة الداخلية واجبة بالوجوب الغيري؟

هنا مطالب مترتّبة ، فالأول : هل أجزاء المركّب مقدّمات داخليّة للمركّب أو لا؟ والثاني : بناءً على كونها مقدمات ، هل يجري فيها ملاك الوجوب ، أي وجوب المقدمة؟ والثالث : إنه على الجريان ، هل من مانعٍ يمنع عن الوجوب؟

المطلب الأول : تارةً يراد من «المقدّمة» ما له دخل في وجود الشيء ، وأخرى يراد منها : ما يتوقّف عليه الشيء.

أمّا بالإطلاق الأول ، فالأجزاء الداخليّة خارجة عن البحث ، لأنها حينئذٍ ليست بمقدّمات ، من جهة أنها موجودة بنفس وجود المركّب ، فتكون

٢٥١

المقدّمة بهذا الإطلاق منحصرةً بأجزاء العلّة التامّة.

وأمّا بالإطلاق الثاني ، فيصدق على الأجزاء عنوان «المقدّمة» ، لكنّ الكلام ليس في عنوان «الجزء» وعنوان «الكلّ» ، لعدم وجود التوقّف بين العنوانين المذكورين ، بل هما في مرتبةٍ واحدةٍ ، ولا تأخّر وتقدّم بينهما ، لكونهما متضايفين ، والمتضايفان متكافئان بالقوّة والفعل ، فلو تقدّم أحدهما على الآخر لزم المحال ، وهو تحقق الإضافة من طرفٍ واحد. بل المراد هو الاحتياج والتوقّف في الذات والوجود ، وتوضيح ذلك :

إن الوجود لا بدَّ وأنْ ينتهي إلى الواجب ، وهذا ما لا اختلاف فيه بين العقلاء ، حتى الماديّون قائلون به ، غير أنّ الاختلاف في الصغرى ، فهم يقولون بانتهاء الوجود إلى مركّب من أجزاء ماديّة خارجيّة ، والإلهيّون قائلون بأنه ينتهي إلى ذاتٍ لا تركيب فيها ، لا من الأجزاء الخارجيّة ولا العقليّة ولا الوهميّة ولا الخياليّة ، فهو واحد أحدي ، وهذا معنى كلام أمير المؤمنين والأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام في نفي التركيب عن الذات المقدّسة كما في نهج البلاغة ، وكتاب التوحيد للشيخ الصّدوق رحمه‌الله والكافي ، وهو من جملة البراهين المستخرجة من الروايات ، وحاصله : إن كلّ ما كان مركّباً ، كان محتاجاً إلى الأجزاء وموقوفاً عليها ـ حتى لو كان مركّباً خياليّاً ، وهو المجرّد عن المادّة دون الصّورة ، أو وهميّاً حيث يتجرّد من كليهما ـ لأنّ المركّب بما هو مركّب لا يتحقّق ذاتاً إلاّ بعد وجود الجزء في مرحلة الذات ، فجوهريّة المركّب متوقّفة على جوهريّة الجزء ، وفي مرحلة الوجود ، فإنّ المركّب متوقف وجوده على وجود الجزء بالتوقّف الطبعي ، فإذن : «الكلّ» متوقّف ذاتاً ووجوداً على «الجزء».

٢٥٢

وقد استدلّ للقول بعدم المقدّمية ، بأن الأجزاء عين الكلّ ، فلا احتياج ، فلا مقدّمية ..

وأجاب عنه المحقق الخراساني (١) : بأنّ الجزء عبارة عمّا يلحظ لا بشرط من الانضمام إلى سائر الأجزاء ، والكلّ يلحظ بشرط الانضمام ، فبينهما فرق من هذه الجهة ، وهو يكفي للتغاير بين «الكلّ» و«الجزء» وعدم العينيّة ، فيكون الجزء مقدمةً والكلّ ذو المقدمة ، واللابشرط موقوفاً عليه والبشرط موقوف عليه ، فلا عينيّة من جميع الجهات حتى يقال بأن الشيء لا يحتاج إلى نفسه.

وقد أوضح الاستاذ ذلك : بأنّ الجزء إنْ لوحظ بشرط لا عن الانضمام إلى سائر الأجزاء ، أصبح مبايناً للكلّ ، كأنْ يلحظ الركوع «بشرط» لا عن بقية أجزاء الصّلاة ، فإنه حينئذٍ مباين للصّلاة وليس بجزءٍ لها ، وإنْ لوحظ «لا بشرط» صار جزءاً ، وإنْ لوحظ «بشرط» الانضمام فهو «الكلّ».

والحاصل : إن الأجزاء مقدّمة للكلّ ، إذ هو محتاج إليها في ذاته وهي مستغنية عنه ذاتاً ، سواء في الاعتباريات كما تقدم أو التكوينيّات ، ولذا ترى أنّ ذات «الحيوان» وهو جزء «الإنسان» ـ مع قطع النظر عن الوجود ـ مستغنية عن الإنسان ، لكن «الإنسان» في مرحلة الذات متقوّم ب «الحيوان» ، فإنّه لو لا الحيوان لا يوجد الإنسان.

فالحال في الاعتباريات ، كالرّكوع بالنسبة إلى الصّلاة ، والتكوينيّات ـ كالمثال المذكور ـ واحد ، فلا فرق بين المركّبات التكوينيّة والمركّبات الاعتبارية في ذلك.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩٠.

٢٥٣

هذا في مرحلة الذات.

أمّا في مرحلة الوجود ، فإنّ «الجزء» يمكن أن يتحقّق ويوجد ، ولكن «الكلّ» لا يتحقّق إلاّ و«الجزء» متحقّق ، فلا يلزم عدم الجزء لو فرض عدم الأجزاء الاخرى ، لكنّ الكلّ ينعدم بانعدام أحد أجزائه ... فالجزء مستغن عن الكلّ بمناط التقدّم والتأخّر الطبعي ، إلاّ أنه لا ينافي وحدة المرتبة في مرحلة الوجود ، ولذا قالوا : التقدّم والتأخّر طبعاً لا ينافي المعيّة وجوداً.

هذا تمام الكلام في المطلب الأوّل.

المطلب الثاني : بعد ثبوت المقدميّة للأجزاء الداخليّة ، فهل يوجد فيها اقتضاء الحكم بالوجوب الغيري أو لا؟

إن كان الملاك للوجوب الغيري أنْ يكون للشيء الواجب وجود مستقل ، فهذا الملاك غير موجود فيما نحن فيه ، لأن الأجزاء ليس لها وجود مستقلّ عن الكلّ ، بل هي موجودة بعين وجوده ، وإن كان ملاكه هو التوقّف ، فلا ريب في وجوده في الأجزاء ، لتوقّف الكلّ على وجودها.

إذن ، لا بدّ من التحقيق في ملاك الوجوب الغيري.

هذا ، وفي (المحاضرات) (١) نفي وجود المقتضي والملاك للوجوب ، للزوم اللّغوية ، لأن المفروض وجوب الكلّ ، فوجوب الأجزاء مع ذلك لغو ، إلاّ أن يقال بالاندكاك بين الوجوبين ليتحقق وجوب مؤكّد.

وفيه : إنه خلط بين مرحلة المطلب الثاني ـ المقتضي ـ ومرحلة المانع ، وهو :

المطلب الثالث : فإنّه إذا كانت الأجزاء واجبةً بالوجوب الغيري ، فإن

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٢ / ٢٩٩.

٢٥٤

المفروض وجوب الكلّ بالوجوب النفسي ، وهو ليس إلاّ الأجزاء ، فاجتمع في الأجزاء وجوبان ، وهو محال ، لأنه إمّا لغوٌ وامّا اجتماعٌ للمثلين.

فمع تسليم وجود المقتضي لاتّصاف الأجزاء بالوجوب الغيري ، فإنه ممنوع ، والمانع هو الإشكال المذكور.

كلام المحقق الخراساني

وقد وقع النزاع بين الأكابر في هذا المقام ، إذ قرّر صاحب (الكفاية) (١) الإشكال بما توضيحه : إنّ المحكوم بحكم الوجوب هو واقع المقدّمة لا عنوانها ، وعنوان المقدّمة حيثيّة تعليليّة للوجوب وليس بحيثيّة تقييديّة ، لأنّ متعلَّق الوجوب في الوضوء ـ مثلاً ـ هو واقع الوضوء لا عنوان المقدّمة ، وفي أجزاء الصّلاة يكون واقع الرّكوع والسّجود وغيرهما متعلّق الوجوب لا عنوان مقدميّتها للصّلاة ، وإذا كان الواقع ، فإنّ الركوع والسّجود وغيرهما هي الصّلاة ، ولا مغايرة بين واقع الصّلاة وواقع هذه الأجزاء ، بل هي عين الكلّ المسمّى بالصّلاة ، ولا اختلاف بين الصّلاة وأجزائها إلاّ اعتباراً ، فلو كانت الأجزاء متصفةً بالوجوب الغيري ووجوب الصّلاة نفسي ، كانت الأجزاء محكومة بحكمين وجوبيّين ، وكانت ذات فردين من الوجوب ، وبذلك يلزم اجتماع المثلين في الشيء الواحد وهو محال.

وبما تقدَّم من كون الحيثيّة تعليليّة لا تقييديّة ، يندفع توهّم كون ما نحن فيه نظير باب اجتماع الأمر والنهي ، وكون الشيء الواحد واجباً من حيث ومحرّماً من حيث آخر ، كالصّلاة في الدار المغصوبة ، فيقال هنا كذلك ، بأن الركوع ـ مثلاً ـ واجب نفسي من حيث كونه صلاة وغيري من حيث كونه مقدّمة.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩٠.

٢٥٥

وجه الاندفاع هو : إن المقدّميّة فيما نحن فيه علّة للوجوب ، وليست بموضوعٍ للوجوب.

وبهذا البيان يتحقق المانع عن وجوب المقدّمة الداخليّة.

جواب المحقّق النائيني

وذكر المحقق النائيني (١) : أنّ الوجوب النفسي غير الوجوب الغيري ، كما هو واضح ، والتغاير بينهما لا ينكر ، لكنْ لا نسلّم لزوم اجتماع المثلين ، وذلك : لتعدّد الملاك ، ثم اندكاك أحدهما في الآخر.

وتوضيحه : إن كلاًّ من أجزاء الصّلاة يتوفَّر فيه ملاكان للوجوب ، أحدهما : ملاك الناهويّة عن الفحشاء والمنكر ، وهذا ملاك وجوب الصّلاة بالوجوب النفسي ، والآخر : ملاك المقدميّة لتحقّق الصّلاة ، وهذا ملاك الوجوب الغيري ، لأنّ تحقّق الصّلاة موقوف على تحقّق الركوع والسجود وغيرهما ، فتكون الأجزاء مطلوبةً بالطلب النفسي وبالطلب الغيري ، ويكون الملاكان منشأً لتحقّق وجوبٍ أكيد بعد اندكاك أحدهما في الآخر ، ولا مانع من اتصاف الوجوب بالشدّة والتأكد.

ونظيره في الفقه : وجوب صلاة الظهر ومطلوبيّتها بملاكين هما : فريضة الظهر ووجوبها نفساً بملاكه ، وأنّه لو لم يصلّ الظهر فصلاة العصر باطلة ، وهذان الملاكان يندك أحدهما في الآخر ، وتكون النتيجة شدّة مطلوبيّة صلاة الظهر.

وكذلك الحال في موارد تعدّد العنوان ووحدة المعنون ، كالعلم والهاشميّة في وجوب الإكرام ، عند ما يجتمع العنوانان في الشخص الواحد ، إذ

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٣١٧.

٢٥٦

يجتمع فيه ملاكان لوجوب الإكرام ، لكنّ الطلب واحد مؤكّد يتحقق من اندكاك العنوانين.

فارتفع المانع والمحذور بهذا البيان.

جواب المحقق العراقي عن بيان الميرزا

وأشكل المحقق العراقي على البيان المذكور (١) : بعدم امكان تحقّق الاندكاك مع اختلاف المرتبة ، لأنه فرع الاجتماع ، ولا اجتماع مع اختلاف المرتبة ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنّ الموضوع هنا واحدٌ لا تعدّد له في الوجود ، ومرتبة الحكم بالوجوب النفسي متقدّمة على مرتبة الوجوب الغيري ، لأنّ الوجوب الغيري ترشّح من الوجوب النفسي ، فهو بمثابة المعلول للعلّة ، وبين العلّة والمعلول اختلاف في المرتبة كما لا يخفى ، وإذا كانا في مرتبتين فلا يجتمعان ، ومع عدم الاجتماع فلا اندكاك.

نعم ، تارةً يكون الموضوع متعدّداً وتختلف المرتبة بينهما ، كما هو الحال في مسألة اجتماع الحكم الواقعي والظاهري ، فهناك موضوعان مترتّبان ، ولكلٍّ منهما حكم ، كأنْ يكون موضوع الحكم الواقعي هو الخمر بما هو خمر ، وحكمه الحرمة ، وموضوع الحكم الظاهري هو الخمر بما هو مشكوك الخمريّة ، وحكمه الحليّة ، ففي فرض تعدّد الموضوع ووجود الطوليّة بينهما ، يمكن الجمع بين الحكمين.

لكنّ ما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، بل الموضوع وجود واحد.

وقد يشكل على قوله بوحدة الموضوع هنا ، بناءً على ما أسّسه من أنّ الموضوع المتعلِّق به الحكم ليس الخارج ، بل هو الصّورة القائمة في ذهن

__________________

(١) نهاية الأفكار ١ / ٢٦٨.

٢٥٧

الحاكم وبالنظر الذي تُرى خارجيّةً ، وعليه : فإنّ الصور متباينات ويستحيل الوحدة بين صورةٍ وأخرى ، وإذا تعدّدت الصّورة فيما نحن فيه ، كانت صورة السجود والركوع وغيرهما من الأجزاء ، غير صورة الكلّ المحقق منها وهو الصّلاة ، ومع التعدّد ، فلا اجتماع للمثلين حتى يبحث عن الاندكاك.

فأجاب : بأنّ هذا التعدّد غير مؤثّر ، لأنه إنما يحصل في مرحلة تعلّق الحكم ، لكنّ ذا الصورة ـ وهو المطابَق الخارجي ـ واحد لا تعدّد فيه.

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ اجتماع المثلين لازم ، والاندكاك محال.

جواب المحقق الأصفهاني عن بيان العراقي

فناقشه المحقق الأصفهاني (١) ـ وتبعه في (المحاضرات) (٢) ـ بأنّه صحيحٌ أنهما في مرتبتين ، لكنْ بينهما معيّة في الوجود ، وبهذا يتمّ الاندكاك ، لأنه في ظرف الوجود لا في المرتبة.

وحاصل كلام المحاضرات : إن الاندكاك بين الحكمين إنّما لا يتصوّر فيما إذا كانا مختلفين زماناً ، وأمّا إذا كانا مقارنين ، فلا مناص من الاندكاك ولا مانعيّة لاختلاف المرتبة ، كما لو كان بياض شيء علةً لبياضٍ آخر ، فهنا لا يقع على الجدار بياضان بل بياض واحد شديد. هذا في التكوينيّات. وفي الشرعيّات كذلك ، كما لو نذر الصّلاة في المسجد ، فإنه لا ريب في اندكاك الوجوب النذري في الوجوب أو الاستحباب النفسي ، مع أنّ ملاك النذر ـ وهو رجحان المتعلّق ـ متأخّر رتبةً عن ملاك الحكم النفسي ، إلاّ أنهما في عرض واحدٍ في الزمان.

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٢٤.

(٢) محاضرات في أصول الفقه ٢ / ٣٠٠.

٢٥٨

نظر الأستاذ

وتنظّر الاستاذ دام بقاه فيما ذكره المحقق الأصفهاني هنا بالنقض والحلّ : أمّا نقضاً ، فبما قاله رحمة الله تعالى عليه في (تعليقة المكاسب) عند كلام الشيخ الأعظم في مسألة بيع الحق على من هو عليه ، حيث ذهب قدس‌سره إلى عدم إمكانه ، معلّلاً بلزوم الاتّحاد بين المسلَّط والمسلَّط عليه ، وهو غير معقول ، فأشكل عليه المحقّق الأصفهاني (١) : بأنّ المتقابلين اللّذين لا يقبلان الاتّحاد في الوجود هما العلّة والمعلول ، وأمّا المتضايفان ، فبعض الموارد منهما يقبل الاتحاد والاجتماع في وجود واحدٍ كالحبّ ، حيث أنّ النفس الإنسانيّة تحبّ نفسها ، فيجتمع المحبّ والمحبوب ... والسّلطنة من هذا القبيل ، ولا مانع من تسلّط الإنسان على نفسه ، وحديث : «الناس مسلّطون على أنفسهم» وإنْ لم يكن له أصل عن رسول الله ، لكنّ معناه صحيح.

وعلى هذا ، فبناءً على ترشّح الوجوب الغيري من الوجوب النفسي ، يكون الوجوب النفسي علّةً للوجوب الغيري ، ولا يعقل الاندكاك والتأكّد ، لعدم تعقّل الوحدة بينهما ... فيتمّ ما ذكره المحقق العراقي بالنظر إلى كلام المحقق الأصفهاني في حاشية المكاسب ، ولا يرد عليه إشكاله هنا.

وأمّا حلاًّ ، فلقد اختلط الأمر على هذا المحقق ، بين الوجوبين وبين متعلّقي الوجوبين ، فمتعلّق الوجوب الغيري هو الجزء ، ومتعلَّق الوجوب النفسي هو الكلّ ، والتقدّم والتأخّر بينهما طبعي وليس من قبيل العلّة والمعلول ، وفي التقدّم والتأخّر الطبعي يمكن الوجود بوجود واحدٍ مثل

__________________

(١) الحاشية على المكاسب ١ / ٥٥.

٢٥٩

الواحد والاثنين ... أمّا المورد الذي يكون فيه أحد الوجودين ناشئاً من الوجود الآخر ، فلا يعقل الاتّحاد في الوجود ، لأنّ أحدهما هو المؤثّر والآخر هو الأثر ، والوحدة بين الأثر والمؤثّر والظل وذي الظل ، في الوجود ، محال ، ولا يعقل الاندكاك.

وبهذا البيان يتّضح ما في كلام (المحاضرات) من النظر والإشكال ، ففي مثال البياض الذي ذكره : إن كان بينهما نسبة العليّة والمعلوليّة كما هو مفروض بحوثهم في المقام ، فلا يعقل الاتحاد ... ولكنَّ الحق عدم وجود هذه النسبة بين الوجوب الغيري والوجوب النفسي ، كما سيأتي تحقيق ذلك.

نفي الاندكاك بوجهين آخرين

لكنّ للمحقق الأصفهاني رحمه‌الله طريقين آخرين لنفي الاندكاك :

أحدهما :

إنّ الأحكام أُمور اعتباريّة ، والأمور الاعتباريّة لا تقبل الشدّة والضّعف ، وإنما الامور التكوينيّة هي التي تقبل ذلك ، لأنّ التأكّد يستلزم الحركة من المرتبة الضعيفة إلى المرتبة الشديدة ، والحركة إنما تعقل في التكوينيّات ، كالفاكهة ، تتحرّك في لونها وطعمها ... وإذا انتفى التأكّد في الحكم ، فلا يعقل وجود الحكم الواحد الأكيد على أثر الاندكاك بين الحكمين. نعم ، يعقل ذلك في مبدإ الحكم وهو الإرادة ، فإنها قابلة للصعود من الضعف إلى الشدّة ، وحصول التأكّد فيها.

مناقشة الأستاذ الوجه الأوّل

وناقشه شيخنا دام بقاه بالنقض والحلّ. أمّا نقضاً : فأورد كلام المحقق

٢٦٠