تحقيق الأصول - ج ٢

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٢
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٠٠

الأثر عليها ، وهي مصلحة التسهيل على المكلَّفين ، جابرةً لِما فات من مصلحة صلاة الظهر.

فما دلَّ على حجيّة الأمارة ـ مثل صدّق العادل ـ إنما جاء طريقاً لحفظ الواقع ، وليس في متعلَّقه ـ وهو تصديق العادل ـ مصلحة. هذا أوّلاً. وثانياً : إن المجعول بذلك هو وجوب ترتيب الأثر ، إنْ كان حكماً شرعيّاً ، ومعنى ترتيب الأثر هو : تطبيق العمل على الأمارة.

وتلخّص : إنه ليست الأمارة دالّة على وجود المصلحة في نفس صلاة الجمعة ، بل هي في ترتيب الأثر وتطبيق العمل عليها ، وهي مصلحة التسهيل ، وبها يتدارك المصلحة الفائتة.

٢ ـ الكلام عليها ثبوتاً وإثباتاً

أمّا ثبوتاً ، فلا يلزم محالٌ من هذا الوجه ، ولا محذور عقلي في أنْ يجعل الشارع وجوب ترتيب الأثر على الأمارة لمصلحة التسهيل ، ويتدارك بها ما فات عن المكلَّف من مصلحة الواقع.

وأمّا إثباتاً ، فلا ملزم به ، وقد تقدَّم أن غرض الشيخ منه دفع إشكال ابن قبة ... لكنّ المهم هو الإشكال الذي طرح في مجلس درس الشيخ على هذه النظريّة ثم اعتمده المتأخرون ، وذكره في (المحاضرات) (١) وحاصله : إن هذا الوجه يستلزم التصويب وأنْ يتغيّر الحكم الواقعي ظهر يوم الجمعة ـ مثلاً ـ من الوجوب التعييني إلى التخييري ، وتوضيحه :

إنه إذا كان الحكم الواقعي هو صلاة الظهر ، ثمّ قامت الأمارة على وجوب الجمعة ، فطبّق المكلّف عمله عليها ، فأدّى صلاة الجمعة ولم

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ٢ / ٢٧٢.

٢٢١

ينكشف الخلاف بتاتاً ، وكان عمله وافياً بتمام مصلحة الواقع ، كان اللاّزم أنْ يكون الواجب ظهر يوم الجمعة واجباً تخييريّاً بين صلاة الظهر وصلاة الجمعة ، وهذا يعني انقلاب الواقع وتبدّله ، وهو باطل.

وقد دفع المحقق الأصفهاني (١) هذا الإشكال : بأنّه يعتبر في الوجوب التخييري كون العدلين ـ مثلاً ـ فعليّين ، وإلاّ فهو ليس بوجوب تخييري ، وفيما نحن فيه لا تتحقّق الفعليّة للظهر والجمعة في وقتٍ واحد ، لأنه ما لم تقم الأمارة على وجوب الجمعة لم يتحقّق الموضوع ولا فعليّة للوجوب ، وحينما تقوم الأمارة عليه فالتكليف غير فعلي بالنسبة إلى وجوب الظهر ، فلا فعليّة للوجوب فيهما ، فلا يكون الوجوب تخييريّاً.

قال الاستاذ : لكنّ الوجوب التعييني أيضاً غير ممكنٍ هنا على مسلك المصلحة السلوكيّة ، لأنه كما أنّ أصل الحكم تابع للملاك ، كذلك الخصوصيّة فيه تابعة للملاك ، إذن ، خصوصية الوجوب التعييني لا بدّ لها من الملاك كأصل الوجوب ، أمّا في مقام الثبوت ، فبأنْ يكون الشيء ذا ملاكٍ مع خصوصيّة أن شيئاً آخر لا يقوم مقامه ، وأمّا في مقام الإثبات ، فيحتاج إلى دليلٍ مطلق فيدلّ على وجوبه بنحو الإطلاق ... وعلى هذا : إن كانت المصلحة السّلوكية القائمة بصلاة الجمعة وافيةً بمصلحة الواقع ـ صلاة الظهر ـ تماماً ، فجعل الوجوب لصلاة الظهر بنحو الإطلاق محال ، لما تقدَّم من أن معنى الوجوب التعييني لشيء أنْ لا يقوم شيء آخر مقامه ولا يسدّ مسدّه ، والمفروض أنّ صلاة الجمعة يترتّب عليها ما كان مترتّباً على صلاة الظهر من المصلحة.

فإذا كان من المحال جعل الوجوب التخييري هنا ، بالبيان الذي ذكره

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٤٠٥.

٢٢٢

المحقق الأصفهاني ، فكذلك جعل الوجوب التعييني للظهر بالبيان المزبور ، لأنه حينئذٍ ترجيح بلا مرجّح.

وبهذا يسقط تصوير المحقق الأصفهاني أيضاً للسببيّة (١) ، فإنّه قال بإمكان تصويرها مع عدم لزوم التصويب ، بأنْ تكون مصلحة صلاة الجمعة مغايرةً لمصلحة صلاة الظهر وبدلاً عنها ، إذ البدليّة مؤكّدة لوجود الواقع فضلاً عن أنْ تكون منافية له ، وحينئذٍ لا يلزم التصويب.

ووجه سقوط هذا التصوير هو : أنّ هذا البدل ، إنْ كان غير وافٍ لتمام مصلحة الواقع فلا بدليّة ، وإنْ كان وافياً ، فلا ملاك لوجوب الواقع المبدل منه على وجه التعيين ، ويلزم الترجيح بلا مرجّح.

٣ ـ الإجزاء وعدمه على المصلحة السّلوكيّة

قال الميرزا (٢) : إن مقتضى مسلك المصلحة السلوكيّة هو القول بعدم الإجزاء.

وقال الاستاذ : بأنّ هذا هو الحق ، لأنه مع انكشاف الخلاف في الوقت أو خارجه ، ينكشف عدم إجزاء العمل المأتي به عن مصلحة الواقع ، لما تقدَّم سابقاً من أنّ وفاء العمل على طبق الأمارة بمصلحة الواقع موقوف على دليلٍ يدلّ على الإجزاء في مقام الملاك أو في مقام الامتثال ، ومع عدمه يكون مقتضى دليل الحكم الواقعي عدم الإجزاء ، وهنا لا دليل على الإجزاء.

وقال في (المحاضرات) (٣) : بأن القول بعدم الإجزاء على هذا المسلك إنما يتمّ بناءً على تبعيّة الأداء للقضاء ، وهذا ما لا يمكن إتمامه بدليل ، إذن

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٤١٠.

(٢) أجود التقريرات ١ / ٢٩٥.

(٣) محاضرات في علم أصول الفقه ٢ / ٢٧٤.

٢٢٣

لا بدّ من القول بالإجزاء على هذا المسلك.

وتوضيحه : إن في باب القضاء قولين ، أحدهما : إن القضاء تابع للأداء ، يعني : إن نفس الأمر بالصّلاة في الوقت يثبت وجوبها في خارجه بلا حاجةٍ إلى أمر جديد. والقول الآخر : عدم كفايته لذلك وأن القضاء ليس إلاّ بأمر جديد ، لأنّ الأمر بالصّلاة في الوقت أمر واحد وله متعلَّق واحد ، وليس بنحو تعدّد المطلوب ، حتى إذا فات الوقت كان المطلوب الثاني بالأمر الإتيان بالصّلاة في خارج الوقت ، بل الأمر قد تعلَّق بالصّلاة المقيّدة بالوقت ، فإذا خرج الوقت لم يبق الأمر بالصّلاة ، لزوال المقيَّد بزوال قيده ... وإذا كان القول بالتبعيّة باطلاً ، فالقول بعدم الإجزاء على المصلحة السلوكية يبطل.

وفيه : إنه لو كان القول بعدم الإجزاء متوقّفاً على القول بالتبعيّة فالإشكال وارد ، لكنّه موقوف على تعدّد المطلوب لا على التبعيّة ، وتعدّد المطلوب غير مختص بالقول بالتبعيّة ، بل هو أعم ، وذلك : لأن المطلوب إنْ كان متّحداً ، بأنْ كان الغرض قائماً على الصّلاة في الوقت ، كانت الصّلاة بما هي بلا ملاك ، فإذا انتفت الحصّة الخاصّة منها ، وهي الصّلاة في الوقت ، لم يبقَ لأصل الصّلاة وجوب ، وهذا باطلٌ ، سواء قلنا بالتبعية أم بكون القضاء بأمر جديد. إذنْ ، تكون ذات الصّلاة مطلوبةً ، وكونها في الوقت مطلوب آخر ، ولكلٍّ مصلحة وملاك ، فإذا انكشف الخلاف ظهر عدم استيفاء مصلحة الصلاة ، وهذا يعني عدم الإجزاء ، وأنّ الإعادة أو القضاء واجب.

هذا تمام الكلام على السببيّة بجميع تصويراتها.

لو شك بين السببيّة والطريقية

هذا ، ولو شك في الأمارات ، ولم يظهر للمجتهد أنّ حجيّتها هي من

٢٢٤

باب الطريقية أو السببيّة ، فما هو مقتضى القاعدة بالنسبة إلى الإجزاء؟

قال المحقق الخراساني (١) ما حاصله : وجوب الإعادة إذا انكشف الخلاف في الوقت ، لأنه قد أتى بالعمل مع الشك بين الطريقيّة والسّببيّة ، فيشك في وقوع الامتثال وتحقّقه ، ومقتضى قاعدة الاشتغال وجوب الإعادة.

أمّا القضاء ، فبما أنه بأمرٍ جديدٍ ، وهو معلَّق على صدق عنوان «الفوت» لكونه مأخوذاً في موضوعه ، وصدقه غير محرزٍ هنا ، فلا يجب ... ولا يتم صدق العنوان باستصحاب عدم الإتيان بالواجب ، لأنه أصل مثبت.

إشكال المحاضرات على الكفاية

وأورد عليه في (المحاضرات) (٢) في التمسّك بقاعدة الاشتغال لوجوب الإعادة إن انكشف الخلاف في الوقت ، بأنّ المقام مجرى البراءة لا الاشتغال. وحاصل كلامه : إن مقتضى القاعدة على القول بالسببيّة هو الإجزاء ، إذ معنى هذا القول كون الواقع هو مؤدّى الأمارة ، ومقتضى القول بالطريقيّة هو عدم الإجزاء ، ومعناه أن الواقع مغاير لمؤدّى الأمارة ، فلو أتى بالعمل مع دوران الأمر ، وانكشف كونه على خلاف الواقع ، لم تكن ذمّته مشغولةً يقيناً قبل العمل بالواقع حتى يقال بأن الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة ، ومع الشك في اشتغال الذمّة تجري البراءة.

(قال) وبكلمةٍ أخرى : لقد أوجد الشكّ بين الطريقيّة والسببيّة علماً إجماليّاً بوجود تكليفٍ مردّدٍ بين تعلّقه فعلاً بالعمل بالمأتي به وبين تعلّقه بالواقع الذي لم يؤت به ، إلاّ أنه لا أثر لهذا العلم الإجمالي ، ولا يوجب

__________________

(١) كفاية الأصول : ٨٧.

(٢) محاضرات في أصول الفقه ٢ / ٢٧٨.

٢٢٥

الاحتياط ، لأن هذا العلم قد تحقّق بعد الصّلاة في ثوبٍ حكم بطهارته بالبيّنة ، فبعد الإتيان بها وانكشاف الخلاف بالأمارة مثلاً حصل العلم باشتغال الذمّة ، إمّا بما قامت عليه البيّنة وهو الطهارة ، وامّا بما دلّت عليه الأمارة فعلاً وهو النجاسة ، لكنّ هذا العلم بالنسبة إلى مقتضى البيّنة غير مؤثر ، وتبقى الأمارة ، لكنّه بالنّسبة إلى مقتضاها شك بدوي ، فتجري البراءة ، لأن المورد صغرى لما تقرّر من أن أحد طرفي العلم الاجمالي أو أطرافه إذا كان فاقداً للأثر فلا مانع من الرجوع إلى الأصل في الطرف الآخر ، كما لو علم بوجوب صوم يوم الخميس عليه فصام ، ثم يوم الجمعة شك في أنه هل كان الواجب عليه صوم الخميس أو هذا اليوم ـ الجمعة ـ ، فإن العلم الإجمالي حينئذٍ غير مؤثر ليوم الخميس ، لفرض أنه قد أتى بالصوم فيه ، فلا مانع من الرجوع إلى البراءة بالنسبة إلى الجمعة.

تحقيق الاستاذ

قال الاستاذ : إن تقريب المحقق الأصفهاني مبنى (الكفاية) في (الاصول على النهج الحديث) بأنّه من «حيث علم عدم موافقة المأتي به للمأمور به واقعاً ، ويشك في كونه محصّلاً لغرضه من حيث كونه ذا مصلحة بدليّة» (١).

فيه : إنه مع الشكّ بين السببيّة والطريقية لا يعلم بعدم الموافقة ، بل يحتمل الموافقة ، فلا تكون النتيجة وجوب الإعادة.

أقول :

كأن المحقق ينظر إلى حال بعد الانكشاف ، فالمكلَّف عالم بعدم الموافقة ، والأستاذ ينظر إلى حال قبله فهو شاك. فتدبّر.

__________________

(١) الأصول على النهج الحديث : ١٢٩ (بحوث في علم الأصول).

٢٢٦

وأمّا القول بالإجزاء ـ عملاً بالبراءة ـ كما عليه في (المحاضرات) فلا بدّ من النّظر في كلام (الكفاية) وأنه على أي مسلكٍ في السببيّة؟

أمّا على مسلك الأشاعرة والمعتزلة ، فإنّه ليس الحكم إلاّ مفاد الأمارة ، ومع الشكّ في أنّ مفاد أدلّة حجيّتها هو جعل الطّريقية لها أو الموضوعيّة ، يكون أصالة عدم جعل الطريقية معارضاً لأصالة عدم جعل الموضوعيّة ، وإذا تعارضا تساقطا ، هذا بالنسبة إلى الأصل في المسألة الاصوليّة ، وتصل النوبة إلى الأصل في المسألة الفقهيّة ، فإنّه ـ بعد أن أتى بالعمل ثمّ ظهر الخلاف ـ يشك في حدوث تكليف بالإعادة ، وحينئذٍ تجري البراءة.

لكنّ كلام (الكفاية) مبني على مسلك الشيخ ـ وهو المستفاد ممّا تقدّم عن (الاصول على النهج الحديث) ـ من أنّ العمل على طبق الأمارة فيه مصلحة الواقع ، وأن هذه المصلحة بدل عن تلك المصلحة ، فإذا انكشف الخلاف يشك في تحقّق البدليّة والوفاء بالمصلحة وعدمها ، فالشكّ حينئذٍ يرجع إلى الفراغ ، ومقتضى القاعدة هو الاشتغال لا البراءة ، وما ذكره في (المحاضرات) ناشئ من عدم الدقّة في كلام (الكفاية) أو أنه اجتهاد في مقابل النص.

هذا كلامه دام بقاه في الدورة اللاّحقة.

وأمّا في الدورة السابقة ، فقد وافق (الكفاية) في القول بعدم الإجزاء من باب الاستصحاب ، ببيان : أنه بعد انكشاف الخلاف في الوقت ، يعلم إجمالاً بأنّ الواجب عليه من أوّل الوقت كان العمل الذي أتى به ، أو الحكم الذي قامت عليه الأمارة ، فيدور الأمر بين الزائل والباقي ، فإن كان الواقع ـ مثلاً ـ مؤدى قول زرارة عن الصّادق عليه‌السلام بوجوب الجمعة ، فقد تحقق ، وإنْ

٢٢٧

كان مؤدّى قول محمد بن مسلم عنه بوجوب الظهر فهو باق في الذمّة ، إذن ، يعلم إجمالاً بواقع مردّدٍ بين مؤدّى القولين ، فيُستصحب بقاؤه على الذمة بوصف المعلومية ، ونتيجة ذلك عدم الإجزاء ... والحاصل : إن العلم الإجمالي أفاد تحقيق موضوع الاستصحاب.

وهذا الاستصحاب من قبيل القسم الثاني من أقسام الكلّي.

هذا كلّه بالنسبة إلى الإعادة.

وأمّا القضاء ، فقد وافق المحقق الخوئي صاحب (الكفاية) في الإجزاء ، لكون «الفوت» أمراً وجوديّاً. لكنّ الصحيح أنه أمر عدمي في الموضوع القابل ، فلا إشكال في استصحاب عدم الإتيان بالواقع.

فتلخّص : إن في المقام ثلاثة أقوال :

الأول : الإجزاء مطلقاً. وهو مختار (المحاضرات).

والثاني : عدم الإجزاء مطلقاً. وهو مختار الاستاذ.

والثالث : التفصيل بين الإعادة والقضاء. وهو مختار (الكفاية) والمحقق الأصفهاني.

هذا تمام الكلام في مقتضى الأدلّة الأوّلية.

الأدلّة الثانوية للقول بالإجزاء

واستدل للقول بالإجزاء بوجوهٍ من الأدلّة الثانويّة ، عمدتها ما يلى :

١ و ٢ ـ قاعدة لا حرج ولا ضرر

فإنّه لا شك في كثرة تبدّل الرأي عند الفقهاء ، على أثر الاختيارات والمختارات في المباني والقواعد ، وفي علم الرجال ، وغير ذلك ، ولا شك أنه إذا قيل بوجوب الإعادة على المكلّفين أو القضاء ، في حصول الضرر والحرج على نوع المكلّفين ، وهما مرفوعان في

٢٢٨

الشريعة.

ولذا قال صاحب الجواهر ما حاصله : إنه مع كثرة تبدّل الآراء عند الفقهاء حتى في الكتاب الواحد ، لم يكن من دأبهم محو ما كانوا أفتوا به من قبل أو كتبوه سابقاً ، وإعلام المقلّدين بالخطإ في الفتاوى المتقدّمة منهم ، إلاّ إذا رجعوا عنها بأدلّة قطعيّةٍ تثبت بطلان الفتوى السابقة.

وفيه :

أوّلاً : إنه قد تقرّر في محلّه أن أدلّة رفع الحرج والضرر نافية ورافعة للتكليف ، لا أنها تجعل وتضع التكليف ، والحاصل : إنها ترفع عدم الإجزاء لا أنها تضع الإجزاء.

وثانياً : إنه قد تقرّر في محلّه كذلك ، أن المرفوع هو الضرر والحرج الشخصيّين ، نعم ، بناءً على كون المرفوع هو الحرج والضّرر النوعيين ، فلا ريب في تحقّقهما من الفتوى بعدم إجزاء الأعمال السابقة الواقعة على طبق الفتوى السابقة.

وقد يضمُّ إلى الاستدلال بالقاعدتين ما دلَّ على سهولة الشريعة وسماحتها ، وأنّ نفس التقليد جاء تسهيلاً على المكلَّفين ، وإلاّ فإنّ الحكم الأوّلي هو وجوب الاحتياط عليهم في الأحكام الشرعيّة ، فالقول بعدم الاجزاء ينافي حكمة التسهيل على المكلفين.

ولكنْ فيه ما عرفت ...

٣ ـ الإجماع

على الإجزاء ، وهو ظاهر كلام صاحب الجواهر ردّاً على كلام العضدي في دعوى الإجماع على عدم الإجزاء ، وقد ادّعى الميرزا هذا

٢٢٩

الاجماع صريحاً (١) ، لكن عن العلامة (٢) الإجماع على عدم الإجزاء ، والشيخ (٣) كلامه صريح في عدم الإجماع ، بل يقول بأنّ دعواها على الإجزاء هي ممّن لا تحقيق له ، وعن صاحب (الفصول) (٤) التفصيل بين ما إذا كان الموضوع باقياً فالإجماع على عدم الإجزاء ، وما إذا كان غير باق فالإجزاء.

والحاصل : إن كلماتهم في الإجماع مختلفة ... بل الميرزا أيضاً إنما يدّعيه في باب العبادات ، سواء في الصلاة وغيرها ، ففي الصّوم مثلاً إذا كان المجتهد يجوّز الارتماس على الصائم ثم تبدّل رأيه فلا يجب قضاء الصوم ، وكذا في الحج ، كما لو اعتمد على فتوى فقيه العامّة وقاضي الجماعة بالهلال وعمل ، وكان يرى جواز العمل على حكم القاضي منهم ، ثم تبدّل رأيه إلى عدم الجواز ، فلا تجب الإعادة ... ففي مثل هذه الموارد لا يتردّد الميرزا في الإجزاء. لكنه يقطع بعدم الإجزاء في المعاملات مع بقاء الموضوع ، كما لو تزوَّج أو باع بالعقد الفارسي ، فإن المرأة إذا كانت باقيةً وتبدّل رأي المجتهد إلى اشتراط العربيّة ترتّب أثر الفساد ، وكذا في حال بقاء الثمن والمثمن في المعاملة ، وإن أمكن وجود الموضوع للضمان.

والحاصل : إن الميرزا يفرّق بين العبادات والمعاملات ، وفي المعاملات بين صورة بقاء الموضوع وعدم بقائه.

وقد أوضح المحقّق الأصفهاني في كتاب (الاجتهاد والتقليد) (١) وفي

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٢٩٩.

(٢) انظر : مفاتيح الاصول : ١٢٦ ، المستمسك ١ / ٨١.

(٣) مطارح الأنظار : ١٧.

(٤) الفصول الغروية في علم الأصول : ٤٠٩ ط الحجرية.

٢٣٠

(الاصول على النهج الحديث) (٢) رأي صاحب (الفصول) بأنّ الواقعة قد تقع وتنقضي كما لو صلّى طبق الفتوى وتبدّل الرأي ، وقد تقع وهي غير منقضية كما لو قال بتحقّق التذكية واللّحم لا يزال باقياً ثمّ تبدّل رأيه إلى عدمها ، ففي الصورة الاولى قال بالإجزاء ، أمّا في الثانية فلا.

وعلى هذا ، ففي العبادات أيضاً لا بدَّ من التفصيل ، فلو كانت الواقعة غير منقضية وتبدّل الرأي ، وجب ترتيب أثر الفتوى اللاّحقة على مسلك (الفصول) ، ، كما لو توضّأ بماءٍ حكم بطهارته بالفتوى الأولى ، لكنّه كان باقياً بعدُ وتبدّل الرأي ، فالصّلاة تلك صحيحة ، إلاّ أن الماء لا يجوز الوضوء به مرةً أخرى ، بل يجب الاجتناب عنه ، وكذا يجب تطهير مواضع الوضوء.

وعلى الجملة ، فإنّ دعوى الإجماع من الميرزا على الإجزاء ، في قبال دعوى العلاّمة والشيخ الأعظم قدس‌سرهما الإجماع على العدم ، عجيبة ، وكذا كلامه في العبادات مع تفصيل (الفصول).

وكيف كان ، فإنّ صغرى الإجماع هنا فيها ما عرفت.

وأمّا الكبرى ، فلا يخفى الاحتمال بل الظنّ بكونها مستندةً إلى احدى الوجوه المُقامة في المسألة.

هذا ... ولا بدَّ من التتبّع في كلمات قدماء الفقهاء ، لنرى هل المسألة معنونة عندهم أو لا ، لأن العمدة في صغرى الإجماع هو إجماع القدماء.

٤ ـ السيرة

وهل المراد سيرة الفقهاء أو سيرة أهل الشرع أو سيرة العقلاء؟

إنْ أرادوا السيرة العقلائية ، فلا ريب في أنّ سيرتهم على عدم الإجزاء ،

__________________

(١) الاجتهاد والتقليد : ٩ (بحوثٌ في الاصول).

(٢) الأصول على النهج الحديث : ١٣١ ـ ١٣٢.

٢٣١

سواء ما كان بين الموالي والعبيد بالخُصوص ، أو بين سائر العقلاء ، أمّا بين الموالي والعبيد ، فواضح ، وأمّا بين غيرهم ، فإن جميع الأخبار عند العقلاء طريق إلى الواقع ، وإذا انكشف الخلاف فهم يقولون بعدم الإجزاء.

وإنْ أرادوا سيرة المتشرّعة خاصّةً ، فهي قائمة على الإجزاء ، لكنّ من المحتمل قريباً استنادها إلى الفتاوى.

وإنْ أرادوا سيرة الفقهاء أنفسهم ، فسيرة الفقهاء ـ عملاً ـ هو الإجزاء ، لما تقدّم عن صاحب (الجواهر) من عدم تنبيههم المقلّدين والعوام على تبدّل آرائهم ، لأنها كانت مستندةً إلى أدلّة وحجج ، اللهم إلاّ إذا قام دليل قطعي على خلاف الفتوى السابقة.

وهذه السيرة أيضاً مدركيّة.

وتلخّص :

إنه لا دليل على الإجزاء من الأدلّة الثانوية.

تنبيهات

بقي الكلام في أمور نذكرها بنحو الاختصار :

الأول :

قد نسب في (التنقيح) (١) إلى المحقق الأصفهاني القول بالإجزاء في التكليفيّات وهي العبادات ، وفي الوضعيّات وهي المعاملات. أمّا في المعاملات ، فلأن الملاك فيها هو المصلحة في نفس جعل الحكم ، لا في فعل المكلّف ، فالمصلحة قائمة بنفس جعل الحليّة ـ كما في الخل وغيره ـ من المحلّلات ، والحرمة في المحرمات ـ كما في الخمر والميتة وغيرهما ـ وجعل الملكيّة ـ مثلاً ـ في المعاطاة ، وهكذا. أمّا في العبادات فهي قائمة بالفعل ـ

__________________

(١) التنقيح في شرح العروة الوثقى ١ / ٥٤.

٢٣٢

كالصّلاة ـ لا في وجوبها.

ولمّا كانت المصلحة في الوضعيّات في نفس الاعتبار والجعل ، فإنّ الاعتبار لا يتصوّر فيه كشف الخلاف ، بل إذا قامت الأمارة على الفساد والبطلان أو بالعكس ، فإنه مع قيامها ينتهي أمد الجعل الأول ويتبدّل الموضوع ، وحينئذٍ لا معنى لعدم الإجزاء.

وكذلك الحال في التكليفيات ، فإنّه وإنْ كانت المصلحة في المتعلَّق ، لكنّ الحجّة اللاّحقة لا يمكنها التأثير في الأعمال السّابقة الواقعة طبق الحجّة السّابقة ، إذ لا معنى لقيام المنجز أو المعذّر بالنسبة إلى ما سبق ، وإنما يكون بالنسبة إلى ما بيده من العمل ... فلا وجه لعدم الإجزاء.

هذا ما جاء في (التنقيح) عن المحقق الأصفهاني في (حاشية المكاسب) ، وفي (الاجتهاد والتقليد).

قال الأستاذ :

قد اختلف كلام المحقّق الأصفهاني في كتبه ، وبالنّظر إلى المبنى في الأمارات.

أمّا في آخر كتبه ـ وهو : (الاصول على النهج الحديث) (١) ـ فقد ذكر أن حجيّة الأمارات ، إمّا من باب المنجّزية والمعذّرية ، وامّا من باب جعل الحكم المماثل ، وعلى كلا القولين ، ففي العبادات لا مجال للإجزاء ، أمّا في المعاملات ، فيمكن القول به بمناط أن المصلحة في الوضعيّات في نفس الجعل.

إذن ، هو قائل بالتفصيل في هذا الكتاب على كلا المسلكين في حجيّة

__________________

(١) الأصول على النهج الحديث : ١٢٠.

٢٣٣

الأمارات.

وأمّا في (نهاية الدراية) (١) فاختار الطّريقيّة ، وذهب على أساسها إلى عدم الإجزاء في المعاملات والعبادات معاً.

وأمّا في (حاشية المكاسب) (٢) في مبحث اختلاف المتعاملين اجتهاداً أو تقليداً ، وكذا في (رسالة الاجتهاد والتقليد) (٣) فقد قال بعدم الإجزاء مطلقاً ، بناءً على المنجزيّة والمعذّرية ، لأنّ معنى ذلك أن يكون مفاد الأمارة السابقة حجةً ما لم تقم أمارة أخرى على خلافها ، لأنّها عذر للمكلَّف ، فإذا قامت الاخرى على الخلاف سقطت عن المعذريّة ، كما لو كان عنده علم ، فإنه حجة ما دام موجوداً ، فإذا زال فلا حجيّة ، بل الحجّة هو الدليل الجديد القائم على خلافه. فهذا مقتضى هذا المسلك ، سواء للمجتهد أو المقلّد ، وسواء في العبادات أو المعاملات.

وأمّا بناءً على جعل الحكم المماثل ، فالتفصيل بين العبادات والمعاملات ، لأنّ الحكم المماثل في العبادات إنّما ينشأ عن المصلحة في المتعلَّق ، ففي صلاة الظهر ـ مثلاً ـ مصلحة ، وهذه المصلحة يجب أن تستوفى ـ لأنّ المصالح في العبادات استيفائية بخلاف المعاملات ـ وإذا انكشف الخلاف ظهر عدم استيفاء مصلحتها والغرض من جعل الحكم فيها ، إذ المفروض أن صلاة الجمعة لم تستوف مصلحة صلاة الظهر ، ولا أنّ مصلحتها بدل عن مصلحة الظهر ، وحينئذٍ تجب الإعادة بمقتضى إطلاق دليل الواقع ، وبمقتضى قاعدة الاشتغال ، وبمقتضى الاستصحاب. هذا في العبادات.

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٤٠٠ ـ ٤٠١.

(٢) حاشية المكاسب ١ / ٢٩٥ الطبعة المحققة.

(٣) الاجتهاد والتقليد : ١٣ (بحوث في الاصول).

٢٣٤

أمّا في المعاملات ، فلو قامت الأمارة على كفاية العقد بالفارسيّة مثلاً ، والمفروض جعل الشارع الحكم المماثل على طبقها ، فإنّه تعتبر الزّوجية أو الملكية إذا اجري العقد ، وليس هناك مصلحة اخرى حتى إذا انكشف الخلاف يكون الواجب استيفاؤها ، بل المصلحة في نفس جعل الحكم المماثل ، وهذه المصلحة يستحيل انقلابها بانكشاف الخلاف.

قال الاستاذ :

إنه بناءً على جعل الحكم المماثل ـ وبغض النظر عن البحث المبنائي ـ فعند ما تقوم الأمارة اللاّحقة على الخلاف ، ينكشف أنّ الحكم الشرعي من أوّل الأمر هو مقتضى هذه الأمارة اللاّحقة ، فهي تقول بأنّ المعاطاة في الشرع غير مفيدةٍ للملكيّة ، فكلّ معاملة معاطاتيّة تقع ـ على نحو القضيّة الحقيقية ـ فهي غير مفيدة للملكيّة ، وحينئذٍ ، فمقتضى القاعدة عدم الإجزاء ، ولو لا قيام الأمارة اللاّحقة على عدم إفادتها الملكيّة ، لبقي الحكم بإفادتها الملكيّة ـ طبق الأمارة السّابقة ـ على حاله ، لأن المفروض وجود الحكم المماثل من الشارع هناك ، لكنّ قيام الأمارة اللاّحقة يكشف عن كون الحكم الشرعي عدم الملكيّة ... نظير الكشف الانقلابي في باب الفضولي عند المحققين المتأخرين ، إذ معناه : إنه ما دام لم يُجز المالك فالشارع يعتبر ملكيّة الدار لمالكها ، فإذا أجاز المالك بيع الفضولي لها كشفت الإجازة الآن عن اعتبار الشارع الملكية للمشتري من حين العقد الواقع قبل سنةٍ مثلاً ...

وبهذا يسقط التفصيل بين العبادات والمعاملات على هذا المبنى ، والحق عدم الإجزاء مطلقاً.

الثاني : يقع البحث في الإجزاء وعدمه ، تارةً : على أثر تبدّل رأي

٢٣٥

المجتهد ، واخرى : على أثر تبدّل تقليد المقلّد ، وعن الشيخ ـ رحمه‌الله ـ إن الموردين من بابٍ واحد ، فلو تبدّل رأي المجتهد ، فإنْ أمكن التوفيق بين الأعمال الواقعة طبق الفتوى السابقة وبين مقتضى الفتوى اللاّحقة فهو ، وإلاّ فيجب الإعادة ، كذلك لو عدل المقلِّد عن تقليد مجتهدٍ إلى آخر ، فإنْ وافقت أعماله التي كانت على التقليد الأوّل للتقليد الثاني فهو ، وإلاّ فالإعادة.

وقد ذهب المحقق الأصفهاني إلى الفرق بين الموردين ، فاختار عدم الإجزاء في الأوّل ـ وإنْ استثنى المعاملات في (الاصول على النهج الحديث) ـ والإجزاء في الثاني.

توضيح رأي الشيخ

أمّا رأي الشيخ ، فمبني على الطّريقيّة في الأمارات ، وأن فتوى المجتهد أمارة للمقلِّد ، وقد تقدّم أن مقتضى القاعدة على هذا المبنى هو عدم الإجزاء. فإذا رجع المقلِّد إلى مجتهدٍ آخر ، فقد قامت عنده أمارة على خلاف الأمارة السّابقة ، وهي قول المجتهد السّابق ، وكشفت عن عدم موافقة الأعمال السّابقة للواقع ، فعليه الإعادة.

توضيح رأي الأصفهاني

وأمّا رأي المحقق الأصفهاني فيبتني على أمرين :

أحدهما : إن المجتهد عند ما يتبدَّل رأيه ، فإن حجيّة الفتوى الثانية ليست من حين اختيارها ، بل إنها كانت حجّةً من أوّل الأمر ، مثلاً : إنه قد أفتى على طبق روايةٍ عامّةٍ فحص عن المخصّص لها ويأس عن العثور عليه ، فكانت الفتوى طبق العام ، ثم بعد مدّةٍ رجع عن تلك الفتوى لعثوره على المخصّص ، وحينئذٍ : هذا المخصّص كان موجوداً من أوّل الأمر وكانت

٢٣٦

وظيفته الفتوى على طبقها ، غير أنه لم يعثر عليها وما كانت واصلة إليه ، والآن ـ لمّا عثر عليها ـ انكشف له عدم مطابقة عمله السّابق وفتواه للواقع الذي يُؤدي إليه المخصّص ، فمقتضى القاعدة عدم الإجزاء ، إذ لو عثر عليه في السابق لما أفتى طبق العام.

بخلاف المقلّد ، فإنّ فتوى المرجع الثاني في حال حياة المرجع الأوّل لم تكن حجةً بالنسية إليه ، لأن المفروض كونه مفضولاً بالنسبة إلى الأوّل لأعلميّة الأول منه ، فيكون فتوى الثاني حجةً له من حين تقليده ، وتقع أعماله السّابقة مجزيّةً ، وكذا لو قلَّد الأعلم ، ثم لفقده بعض الشرائط ـ كالعدالة ـ رجع إلى غير الأعلم ، فإنّ فتوى هذا لم تكن حجةً قبل فقد الأعلم للعدالة مثلاً ، بل هي حجة من الآن.

والأمر الثاني : الإشكال على الشيخ فيما ذكره من جعل باب الاجتهاد والتقليد من قبيل الطّريقيّة ، بأنّ المستفاد من الأدلّة في هذا الباب هو تنزيل المجتهد بمنزلة المقلّد وكونه نائباً عن مقلّده في استنباط الأحكام الشرعيّة ، فهو نائب عنه في الفحص عن الأدلة والنظر فيها واستخراج الحكم منها ... وليس فتوى المجتهد طريقاً وأمارةً للمقلِّد حتّى يقال بعدم الإجزاء في تبدّل التقليد.

نعم ، لو كان من باب الطريقيّة أمكن القول بعدم الإجزاء ، من جهة أنّه لمّا مات المجتهد الأوّل سقطت فتواه عن الحجيّة ، وكان الحجّة عليه فتوى الثاني ، وهو يقول ببطلان فتوى الأوّل والأعمال الواقعة على طبقها.

لكنّ مفاد الأدلّة في الاجتهاد والتقليد ليس الطّريقيّة.

٢٣٧

تحقيق الاستاذ

وتنظّر الاستاذ في الأمرين المذكورين :

أمّا الأول ، فذكر أنّه مبنيّ على الرجوع من الأعلم الميّت إلى غير الأعلم الحي ، لكنّ المبنى غير صحيح ، لأنه مع اختلاف الميّت مع الحي في الفتوى تسقط الأدلة اللّفظيّة عن الشمول لهما ، لفرض التعارض بينهما ، لأنها إن شملت أحدهما المعيَّن دون الآخر لزم الترجيح بلا مرجح ، واللامعيّن لا مصداق له ، وشمولها لهما معاً غير معقول ، وإذا سقطت تصل النوبة إلى الدليل غير اللّفظي وهو هنا السيرة العقلائية ، فإنها قائمة على تقليد الأعلم ، والقدر المتيقّن خروج تقليد الميّت ابتداءً بالإجماع ، ويبقى الاستمراري ، إذن ... إذا كان الميت أعلم فلا يجوز الرجوع إلى الحيّ حتى يقال بأنّ الحجيّة تبدأ من الآن.

وأمّا الثاني ، فذكر أن الحق مع الشيخ ، وهو الطريقيّة ، فقول المجتهد حجّة من باب الطّريقية إلى الواقع لا من باب التنزيل والنيابة.

أمّا بناءً على أنّ دليل التقليد هو السيرة ، فواضح ، لأن العقلاء لا يرون في رأي أهل الخبرة في كلّ علم وفنٍّ إلاّ الطّريقية ، ويجعلون الرأي كاشفاً عن الواقع. وأمّا إنْ كان الدليل هو الأدلّة اللفظيّة من الكتاب والأخبار ، فلا آية النفر تدلّ على النيابة والتنزيل ، ولا مثل ما ورد في «عبد العزيز ابن المهتدي» و«يونس بن عبد الرحمن» و«زكريا بن آدم» ونحوهم الذين وردت الأخبار في الرجوع إليهم لأخذ معالم الدين ... فإنّها جميعاً دليل على الطريقية ، وأمّا التنزيل فلا دليل عليه فيها.

وعلى هذا ، يكون الحقّ عدم تماميّة التفصيل المذكور ، بل هو عدم الإجزاء مطلقاً.

٢٣٨

أقول :

قد يقال : مفاد هذه الروايات هو طريقيّة روايات من ذكر وأمثالهم من أصحاب الأئمة عليهم‌السلام ، وكلامنا في الفتوى. وقد أجبنا عن ذلك ـ في بحوثنا الفقهيّة ، في مسائل الاجتهاد والتقليد ـ بما حاصله : إنّ ظاهر الأخبار هو أنّ الأئمة عليهم‌السلام كانوا يرجعون إليهم في أخذ الأحكام منهم لا في نقل الروايات عنهم فقط.

إلاّ أنّ لدعوى نيابة الفقيه عن المقلِّد في استنباط الأحكام وجهاً ، ولنا هنا بيانٌ لطيف يتعلَّق بأصل تأسيس الحوزة العلمية ، ذكرناه في الدرس.

الثالث : قال السيد في (العروة الوثقى) : «إذا قلّد من يكتفي بالمرّة مثلاً ـ في التسبيحات الأربع واكتفى بها ، أو قلّد من يكتفي في التيمّم بضربةٍ واحدةٍ ، ثم مات ذلك المجتهد ، فقلّد من يقول بوجوب التعدّد ، لا يجب عليه إعادة الأعمال السابقة» (١).

فذكر في (المستمسك) (٢) ـ بعد الكلام على أدلّة الإجزاء ـ بالتفصيل ـ أنّه في صورة تبدّل رأي المجتهد مقتضى القاعدة هو عدم الإجزاء. وأمّا في صورة تبدّل التقليد كما هو مفروض المسألة :

فتارةً : يرجع إلى الأعلم ، وهنا يجب لحاظ الأعمال السّابقة مع فتاوى هذا الأعلم ، فإنْ كانت موافقة فهو وإلاّ فعدم الإجزاء ، لأدلّة وجوب تقليد الأعلم ، سواء في الأعمال السابقة أو اللاّحقة.

وأخرى : يكون المرجوع إليه غير الأعلم ، فإنّ الأعمال السابقة لا تجب

__________________

(١) مستمسك العروة الوثقى ١ / ٨١.

(٢) مستمسك العروة الوثقى.

٢٣٩

الإعادة فيها ، بل يرتّب عليها آثار الصحّة ، لأنّ الدليل على الرجوع إلى غير الأعلم إن كان هو الإجماع فالقدر المتيقّن منه حجيّة قوله في الأعمال اللاّحقة ، وإن كان الأصل ـ وهو التعيين في دوران الأمر بين التعيين والتخيير ـ ، فإنّ الاصول العقليّة محكومة بالاصول الشرعيّة ، ومقتضى الاستصحاب هو الإجزاء ، لأنّ المفروض وجود الحكم الظاهري في حقّ المقلّد في حال حياة المجتهد الأوّل ، فلمّا مات يقع الشكّ في ارتفاع ذاك الحكم الظاهري فيستصحب بقاؤه ، ويكون حاكماً أو وارداً على أصالة التعيين المقتضية حجيّة رأي المجتهد الحي والرجوع إليه ، وحينئذٍ ، يكون رأي الحي حجةً بالنسبة إلى الأعمال اللاّحقة فقط ، والأعمال السابقة مجزية.

قال الاستاذ :

إنّ الصحيح هو : أن فتاوى المجتهدين لها طريقية لا موضوعيّة.

وأن المجعول فيها ـ كسائر الأمارات ـ نفس الطّريقيّة ، لأنها حكم وضعي يقبل الجعل ، لا أنّ المجعول هو الحكم الظاهري وينتزع منه الطّريقيّة ، خلافاً لصاحب (المستمسك) القائل بأن الطريقية لا تقبل الجعل.

أمّا في الاستصحاب ، فلا خلاف في أنه يعتبر أنْ يكون التغيّر الحاصل في الموضوع من حالاته لا من المقوّمات.

وحينئذٍ نقول :

أمّا بالنسبة إلى المقلِّد فهل يجب عليه العدول إلى الحي تعييناً أو هو مخيَّر بين ذلك والبقاء على تقليد الميت؟ مقتضى القاعدة هو التعيين ، لكن «الحياة» إنْ كانت مقوّمةً ، فلا يستصحب حجيّة رأي الميت ، ولا بدّ من الرجوع إلى الحي على القاعدة المذكورة ، ويكون قوله حجة حتى بالنسبة إلى ما تقدّم

٢٤٠