تحقيق الأصول - ج ٢

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٢
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٠٠

السببيّة ، فمقتضى القاعدة عدم الإجزاء (قال) : فأصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف مقتضية للإعادة في الوقت.

فإنْ قيل : هذا الأصل معارض باستصحاب عدم كون التكليف بالواقع ـ وهو النجاسة ـ فعليّاً عند قيام الأمارة على الطهارة ، وحينئذٍ يحكم بالإجزاء. (قال) : هذا لا يجري ، ولا يثبت كون ما أتى به مسقطاً إلاّ على القول بالأصل المثبت ، وقد علم اشتغال ذمّته بما يشك في فراغها عنه بذلك المأتي.

هذا بالنسبة إلى الإعادة في الوقت.

وأمّا القضاء ، فلا يجب ، بناءً على أنه فرض جديد ... وإلاّ فهو واجب ...

هذا ما ذهب إليه صاحب الكفاية رحمه‌الله في هذه المسألة.

اندفاع إشكال الإيرواني

وبما ذكرنا في توضيح التفصيل المذكور عن صاحب (الكفاية) ، يتّضح اندفاع إيراد المحقق الإيرواني في (التعليقة) (١) بعدم الوجه في التفصيل بين مقتضى الاصول ومقتضى القول بالسببيّة في الأمارات ، وأنه كان على (الكفاية) أن يذكر الصّور الأربع في الاصول كما ذكرها بناءً على السببيّة ، وذلك : لما تقدَّم من أن الأصل إذا جرى فلا يُوجد مصلحةً في المتعلَّق ، بخلاف الأمارة ـ بناءً على السببيّة ـ فهي تأتي بالمصلحة فيه ، إذ الأصل لا مصلحة فيه إلاّ في جعله ، وتلك المصلحة هي التسهيل على المكلَّفين كما في قاعدة الطهارة ، أو التضييق كما في أصالة الاحتياط ، فإنّ ملاكه هو التحفّظ على الواقع بالإتيان بالمحتملات ، ولا توجد مصلحة في نفس المحتملات ، وكذلك البراءة ، فإنّها توسعة وتسهيل على المكلّفين.

__________________

(١) نهاية النهاية ١ / ١٢٧.

٢٠١

والحاصل : إن الاصول إذا قامت لا تصيّر المتعلَّق ذا مصلحةٍ وملاك ، بخلاف الأمارة ـ بناءً على السببيّة ـ فإنّها إذا قامت ، كان المتعلَّق ذا مصلحة ، وحتى بناءً على المصلحة السلوكيّة التي صوّرها الشيخ الأعظم ، لا يكون المؤدى ذا مصلحة ، فكيف بمسلك الأشاعرة؟

فما ذكره ـ رحمه‌الله ـ لا يتوجّه على تفصيل (الكفاية).

إشكالات الميرزا والكلام حولها

ونقل الاستاذ دام بقاه عن الميرزا (١) خمسة إشكالات على (الكفاية) ، فيما ذهب إليه من الإجزاء ، فأجاب عن ثلاثةٍ منها ، وأثبت اثنين ، وناقش المحقق الأصفهاني فيما ذكره جواباً عنهما :

الإشكال الأوّل

إن صاحب (الكفاية) لا يرى حكومة أدلّة الاصول على أدلّة الأحكام الأوّليّة ، فهو لا يرى تقدّم أدلّة «لا ضرر» مثلاً على أدلّة الأحكام والعناوين الأوّليّة ، كما لا يرى حكومة الأمارات على الاصول العمليّة ، والسرّ في قوله بعدم الحكومة في تلك الموارد هو : أنه يرى ضرورة شارحيّة الدليل الحاكم بالنّسبة إلى المحكوم ، ولا شارحيّة لأدلّة لا ضرر ولا لأدلّة الأمارات ... وإذا كان هذا هو المناط ، فإنّه لا شارحيّة لدليل قاعدة الطهارة بالنسبة إلى الأدلّة التي اعتبرت الطهارة والحليّة في لباس المصلّي ، وحينئذٍ ، كيف تتم الحكومة التي استند إليها هنا؟

أجاب الاستاذ

بأنّه كان ينبغي الدقّة في سائر كلمات المحقق الخراساني في (الكفاية) و

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٢٨٧ ـ ٢٨٩.

٢٠٢

(حاشية الرسائل) ، فهو وإنْ خالف الشيخ الأعظم في حقيقة الحكومة ، إلاّ أنه في تعليقته على كلام الشيخ في باب التعادل والتراجيح ، حيث ذكر الشيخ كون الحكومة بنحو الشرح والتفسير ، مثل «أي» و«أعني» ونحو ذلك ، قال رحمه‌الله : الحكومة تتحقّق بكون الدليل الحاكم معمّماً لموضوع الدليل المحكوم أو مضيّقاً لدائرته ، وقد صرّح هناك بتقدّم أدلّة الأمارات بالحكومة على أدلّة الاصول من جهة رفعها لموضوعها وهو الشك والجهل ، لأن الجهل مأخوذ في موضوع أدلّة الاصول وأدلّة الأمارات تفيد الإحراز ، ولا يلزم في الحكومة انعدام موضوع المحكوم من جميع الجهات.

وأيضاً : فقد قال في مبحث الاستصحاب بحكومة الأمارات عليه ، وصرّح بأنَّ الأمارات حاكمة على جميع الاصول (١).

وبالنسبة إلى حكومة «لا ضرر» ، فإنّه ـ في بحث التعادل والتراجيح من (الكفاية) في كلامٍ له ناظرٍ إلى كلام الشيخ في معنى الحكومة ـ يصرّح بحكومة لا ضرر على أدلَّة الأحكام. وكذلك في آخر مبحث البراءة من (الحاشية) حيث يورد كلام الفاضل التوني ، فهناك أيضاً يصرّح بأنّ وزان «لا ضرر» وزان (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)،(٢) فالإشكال المذكور من الميرزا في غير محلّه.

الإشكال الثاني

إن الحكومة إنما تتحقّق لو جعلت الطهارة والحليّة من قبل ، ثم جاء الدليل على كونهما أعمّ من الواقعيّة والظاهرية ، ولكنّ قاعدتي الطهارة والحلّ

__________________

(١) الحاشية على الرسائل : ٢٣٦ ، ٢٥٧.

(٢) سورة البقرة : ١٩٧.

٢٠٣

لا يفيدان الأعميّة بل فيهما جعلٌ للطهارة والحلّ ، وإذا كان لسانهما ذلك فلا حكومة.

أجاب الاستاذ

بأنّ هذا أيضاً ناشئ من عدم التأمّل في كلماته في (الكفاية) وفي (الحاشية)! ومعنى كلامه في (الكفاية) في هذا المقام هو : إن الدليل الأوّلي لفظه : «لا صلاة إلاّ بطهور» ، ومفاد قاعدة الطهارة : إن مشكوك الطهارة طاهر. ويقول رحمه‌الله في (الحاشية) في مباحث الاستصحاب والتعادل والتراجيح ـ خلافاً للشيخ ـ بأنّ مناط الحكومة ليس الشرح والتفسير للدليل المحكوم ، بل جعل الفرد لموضوع ذاك الدليل ، فإذا أفاد الدليل الأوّلي شرطية الطهارة للصلاة ؛ فالقاعدة مفادها أن الشيء المشكوك في طهارته طاهر ، فتصح الصلاة فيه ، فكان وزانهما وزان «أكرم العلماء» و«ولد العالم عالم» ... فصاحب (الكفاية) يرى أن لسان دليل القاعدة لسان التعميم.

الإشكال الثالث

إن ما ذكره وجهاً للإجزاء في مورد الاصول يجري في مورد الأمارات بالأولويّة ، لأن في مورد الاصول ليس إلاّ التعبّد بالعمل ، أمّا في الأمارات ، فالشارع يجعل الإحراز والطريقية إلى الواقع ، فيكون المصلّي مع الثوب المشكوك في طهارته ـ القائم على طهارته الأمارة ـ قد صلّى مع الطهارة المحرزة ، ومقتضى ذلك هو الإجزاء ، فلا وجه للتفصيل بين الاصول والأمارات.

أجاب الاستاذ

بأنّ مفاد دليل القاعدة جعل الشرط وهو الطهارة والحليّة ، وإذا جعل

٢٠٤

بالأصل الشرطُ كان الإجزاء على القاعدة ، لأن العمل أصبح واجداً للشرط ببركة «كلّ شيء لك طاهر» أو «حلال» ، بخلاف الأمارة ، فلو قامت البيّنة على الطهارة ، لم يكن مفادها جعل الطهارة في الثوب ، فالأصل يفيد الطهارة والأمارة تفيد إحراز الطهارة لا نفس الطهارة ... والإحراز ينعدم بكشف الخلاف كما هو واضح ، فالأصل يثبت الشرط والأمارة لا تثبته ... وهذا هو الفرق ، والتفصيل سالمٌ عن هذا الإيراد.

هذا تمام الكلام في الإشكالات الثلاثة.

الإشكال الرابع

إن موضوع الأصل قد اخذ فيه الشك في الواقع ، فقاعدة الطهارة جاعلةٌ للطهارة للشيء ، لكنّ موضوع هذه القاعدة هو الشك في الطهارة الواقعيّة ، وكذا الحال في أصالة الحلّ ، ومن الواضح أنّ كلّ حكمٍ مجعول فهو في مرتبة متأخّرة عن موضوعه ، فتكون الطّهارة والحليّة متأخّرتين رتبةً عن الشكّ في الحليّة والطهارة الواقعيّتين ، ثم إنّ هذا الشك متأخّر عن نفس الطهارة والحليّة الواقعيّتين.

وعلى هذا ، فالمجعول في الاصول ـ وهو التوسعة في الواقع وكون الطهارة أعم من الواقعيّة والظاهرية ـ متأخّر عن الواقع بمرتبتين ، ومع هذا التأخّر ، كيف تتحقق التوسعة والحكومة؟

وبعبارة أخرى : إن من الشروط التي اعتبرها الشارع في لباس المصلّي هو الطهارة ، فإذا تحقّق هذا الشرط تمّ الإجزاء وإلاّ فلا ، وتحقّقه بالحكومة ـ كما ذكر في (الكفاية) ـ يتوقّف على كون الدليل الحاكم في مرتبة الدليل المحكوم. وحينئذٍ ، يتحقّق الشرط بالتعميم والتوسعة الحاصلة بالحكومة ، كما

٢٠٥

هو الحال في مثل «الطواف بالبيت صلاة» ، لكن دليل قاعدة الطهارة ليس في عَرض دليل اعتبار الطهارة ، بل هما في الطول كما تقدَّم ، ومع الطوليّة يستحيل الحكومة ، والإجزاء محال.

دفاع المحقق الأصفهاني عن الكفاية

وحاول المحقق الأصفهاني (١) الدفاع عن رأي (الكفاية) فقال : بأنّ هذا الإشكال إنما يرد لو اريد الواقع واقعاً ، لكنّ ذلك ليس بلازمٍ ، بل يكفي تعميمه عنواناً ، وهذا مفاد قاعدة الطهارة ، فإن مفادها جعل الطّهارة العنوانية ، وحينئذٍ ، تترتّب على هذه الطهارة آثار الطهارة الواقعيّة ، ومنها صحة الصّلاة ، فتصحّ الصّلاة معها كما تصحّ مع الطهارة الواقعيّة.

جواب الاستاذ عن الدفاع

وأورد عليه الاستاذ : بأنّ عنوان الشيء غير الشيء ، فالطهارة العنوانيّة مغايرة للطّهارة ، وإذا كان الأثر يترتب على الطهارة العنوانيّة فإنّما هو إلى زمان وجودها المتفرّع على الشك في الطّهارة الواقعية ، وبمجرّد زوال الشك فلا يبقى موضوع للطهارة العنوانيّة ، وإذ لا موضوع فلا حكم ، لاستحالة بقاء الحكم بعد زوال الموضوع ، وحينئذٍ يبقى إطلاق دليل الطّهارة الواقعية بوحده.

وحاصل إشكال الميرزا هو : إن الحكومة وترتّب الأثر على الطهارة الظّاهرية ـ أو العنوانية كما يقول المحقّق الأصفهاني ـ إنما يكون ما دام الشك موجوداً ، أمّا مع زواله وانقضاء ظرف الشك وانكشاف الخلاف ، فلا دليل على كفاية العمل بالأمر الظاهري.

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٣٩٣.

٢٠٦

فما ذكره المحقق الأصفهاني غير دافع للإشكال.

الإشكال الخامس

إنه لو تمّت هذه الحكومة ـ كما يقول صاحب (الكفاية) ـ لترتّب الأثر في جميع الأبواب والمسائل ، لا في خصوص الصّلاة في الثوب المشكوك في طهارته ، فلا بدّ من إجراء قاعدة الطهارة في المغسول بالماء الطاهر ظاهراً بحكم القاعدة ، والقول بطهارته بعد انكشاف الخلاف ، والحال أنه لا يلتزم بهذا!

وأيضاً : في قاعدة الحلّ في الموارد المشابهة ، وكذلك في الاستصحاب مثلاً ، فلو شك في بقاء ملكيّة زيد للكتاب ، واستصحبت الملكية ، ثم اشتري منه وانكشف الخلاف ، فهل يقول صاحب (الكفاية) ببقاء المعاملة؟

والحاصل : إنْ كانت الحكومة هذه واقعيّةً ، فهي تجري في كلّ باب وفي كلّ مسألةٍ ، والتخصيص لا وجه له ، ولكنّه لا يلتزم بذلك ولا غيره من الفقهاء ، وهذا يكشف عن كونها ظاهريةً ، والحكومة الظاهريّة تزول بزوال الشك وانكشاف الخلاف.

دفاع المحقّق الأصفهاني

وأجاب المحقّق الأصفهاني رحمه‌الله : بأنّ الاعتبارات على قسمين ، منها : ما يكون فعليّته منوطاً بالوصول ، وما لم يصل الاعتبار إلى المكلَّف أمكن للمعتبر أن يعتبر على خلاف ذاك الاعتبار ، ومن ذلك : البعث مثلاً ، فإنه ، وكذا الزجر ، إنما يكون فعليّاً إذا وَصَل ، وإلاّ فلا باعثيّة وزاجريّة ، ففعليّة ذلك تدور مدار الوصول ، لذا يمكن للمولى أنْ يأمر بشيء ويجعل ـ في ظرف شك العبد في الأمر ـ حكماً على خلافه ، لأنه في ظرف الشك في

٢٠٧

الأمر ، لا باعثيّة لذلك الأمر حتى لو كان واقعيّاً ، لأنه غير واصل إلى العبد ومشكوك فيه.

ومنها : ما ليس فعليّته دائراً مدار الوصول ، كالملكيّة والنجاسة مثلاً ، ولذا لا يعقل اعتبار ملكيّة الدار لزيد ، واعتبارها مع الجهل بذلك لعمر و... وكذا النجاسة ...

(قال) وبهذا يندفع ما أورده الميرزا على (الكفاية) من النقض : بأنّ لازم حكومة قاعدة الطّهارة هو طهارة الملاقي للنجس حتّى بعد انكشاف الخلاف ، وذلك : لأنَّه لمّا لم تكن فعليّة النجاسة متقومةً بالوصول ، كان معنى القاعدة هو ترتيب آثار الطّهارة كالصّلاة في هذا الثوب ، أمّا أن يقال بطهارة الملاقي للنجس فلا ، لأنَّ الشارع لا يجعل الطهارة في النجس كي يكون ملاقيه طاهراً ، لأنّ النجاسة ليست من الأحكام المتقوّمة بالوصول ، بل هي حكم واقعي سواء علم به أو لا.

والحاصل : إن مفاد القاعدة ترتيب آثار الطهارة على الثوب بالقدر غير المخالف لأثر النّجاسة الواقعية ، لذا يلزم التفكيك في ترتيب الآثار بين صحّة الصّلاة في الثوب مثلاً ، وبين حكم الملاقي للنجس.

جواب الاستاذ

وأجاب الاستاذ دام بقاه : بأنّ ظاهر قاعدة الطّهارة ـ وكذا قاعدة الحلّ ـ هو جعل نفس الطّهارة والحليّة ، لا جعل الأحكام والآثار ، حتى يفصَّل بينها كما ذكر. وما نصَّ عليه من امتناع جعل الطّهارة مع وجود النجاسة الواقعيّة معناه رفع اليد عن الدليل وما هو ظاهر فيه في مقام الإثبات ، وهذا غير جائز إلاّ ببرهانٍ عقليّ يقتضي ذلك ، ولا برهان من العقل ، لأنَّ المحقق الأصفهاني

٢٠٨

من القائلين بعدم التضاد بين الأحكام ، لكونها جميعاً وجودات اعتباريّة ، والتضاد من لوازم الامور الواقعيّة ، ولقد نصّ في الجمع بين الحكمين الظاهري والواقعي على أنْ لا تضاد بين الأحكام أنفسها ، بل التضادّ يكون إمّا بين مبادئ الأحكام وعللها ، أو بين المعلولات ، فهو إمّا في المبدا ـ أي مرحلة الملاك ـ وامّا في المنتهى ـ أي مرحلة الامتثال ـ ، وفيما نحن فيه لا يوجد التضاد أصلاً ، أمّا في المبدا ، فلأنّ النجاسة الواقعيّة ملاكها وجود المفسدة في نفس الموضوع ، والطّهارة الظاهرية ملاكها المصلحة في الجعل والاعتبار ، فلم تجتمع المصلحة والمفسدة في شيء واحدٍ فلا يلزم التضاد. وأمّا في المنتهى فكذلك ، لأنّه ما دام الشك موجوداً فالنجاسة الواقعية غير محرزة ، فلا يترتب عليها وجوب الاجتناب ، وإذا زال الشك فلا موضوع للحكم الظاهري ، ووجب الاجتناب الذي هو أثر النجاسة الواقعيّة.

إذن لا تضاد ، لا في مرحلة الملاك ، وفي مقام الامتثال.

وعليه ، فلا مانع من الحكم الظاهري في مقام العمل والامتثال ما دام موضوعه موجوداً.

نعم ، إنما يتم الدفاع على مبنى المحقق الخراساني القائل بوجود التضاد بين الأحكام أنفسها ، ويكون الإشكال عليه بما ذكر إشكالاً مبنائيّاً.

إشكال المحاضرات

وفي (المحاضرات) (١) الإشكال عليه حلاًّ ، بعد النقض بما تقدَّم : إنّ قاعدتي الطّهارة والحليّة وإنْ كانتا تفيدان جعل الحكم الظاهري في مورد الشك في الواقع والجهل به ، من دون نظر إليه ، إلاّ أن ذلك مع المحافظة على

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ٢ / ٢٥٥.

٢٠٩

الواقع ، بدون أنْ يوجب جعله في موردهما انقلاباً وتبديلاً له أصلاً.

(قال) والسبب في ذلك : ما حققناه في مورده من أنه لا تنافي ولا تضاد بين الأحكام في أنفسها ، ضرورة أن المضادّة إنما تكون بين الامور التكوينيّة الموجودة في الخارج ...

قال الاستاذ

قد ظهر أنّ هذا مسلك المحقق الأصفهاني ، وأنه هو الأصل في هذا التحقيق ، لكنَّ صاحب (الكفاية) يذهب إلى وجود التضادّ بين الأحكام فالإشكال عليه بعدمه إشكال مبنائي كما عرفت.

وأمّا قوله في ذيل كلامه : «فالأحكام الظّاهرية في الحقيقة أحكام عذريّة فحسب ، وليست أحكاماً حقيقيّة في قبال الأحكام الظاهريّة ...» (١).

ففيه ـ مع احتمال كون الكلمة من المقرّر لا منه ـ أنه منافٍ لما ذهب إليه في مسألة الجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري ، من وجود الحكم المجعول من ناحية الشارع في مورد الحكم الظاهري ، وعلى هذا ، فلا معنى لأنْ يكون الحكم الظّاهري مجرّد عذرٍ للمكلَّف.

وتلخّص :

ورود الإشكالين على المحقق الخراساني ، وبذلك يظهر أن الحق عدم الإجزاء في موارد الاصول.

هذا تمام الكلام في هذه الجهة.

الكلام عن الأمارات

وأمّا الأمارات ، فقد بحث عنها في (الكفاية) من حيث إفادتها الإجزاء

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ٢ / ٢٥٧.

٢١٠

وعدم إفادتها له ، تارةً بناءً على الطريقية ، واخرى بناء على السببيّة ، وثالثة : فيما لو شك في السببيّة والطريقيّة.

ولا يخفى : أنهم أخرجوا من البحث ما لو قطع بالحكم ثم انكشف الخلاف ، وكذا لو قطع بالخلاف ، وكذا ما لو قامت البيّنة على الموضوع كالطهارة مثلاً وانكشف الخلاف بحجّة شرعية على النجاسة. وكذا ما لو تخيّل الفقيه حكماً ظاهريّاً وانكشف عدمه ، كما لو تخيّل ظهور لفظٍ في معنىً وأفتى على طبقه ثم تبيّن له عدم الظهور. (قالوا) : والذي يدخل في البحث ما لو كان اللّفظ ظاهراً ـ كالظهور في العموم مثلاً ـ وأفتى على طبقه وعمل ، ثم ظهر المخصّص له ، أو رأى أنّ «ابن سنان» في الرواية هو «عبد الله» فأفتى بالاستناد إليها وعمل بها لوثاقته ، ثم تبيّن أنه «محمد» على القول بضعفه.

قال الاستاذ

لكن الظاهر دخول ما لو عمل بأمارةٍ ثم انكشف الخلاف بالقطع ، وكذا دخول ما قامت الأمارة ـ كالبيّنة ـ على موضوعٍ كالطّهارة.

وكيف كان ، أمّا بناءً على الطريقيّة ، فالمشهور بين المحققين عدم الإجزاء. وقيل بالإجزاء.

وجوه القول بالإجزاء على الطريقية

وقد ذكر الاستاذ في الدّورة السابقة ثلاثة ، وفي اللاّحقة خمسة وجوه ، وقد أجاب عنها كلّها :

الوجه الأول :

إن الأمارة الاولى حجّة ، والأمارة الثانية أيضاً حجّة ، والقول بعدم الإجزاء مبناه تقديم الثانية ، وهذا ترجيح لإحدى الحجّتين على الاخرى بلا مرجّح.

٢١١

وفيه : إنه واضح الفساد ، لأنه مع قيام الثانية لا حجيّة للاولى ، فالأخذ بالثانية هو الأخذ بالحجّة ، وعلى فرض التنزّل ، فإن الأمارتين تتعارضان وتتساقطان ، فلا يبقى للإجزاء وجه.

الوجه الثاني :

إن العمل على طبق الأمارة السّابقة قد وقع ، وذلك الظرف قد مضى ، ولا يمكن أن يكون للحجّة اللاّحقة أثر بالنسبة إلى ذاك العمل ، بأنْ يكون منجّزاً له ، فلا بدّ وأنْ يكون الأمارة السّابقة هي الحجّة على العمل ، ومقتضى القاعدة حينئذٍ هو الإجزاء.

وفيه : إنّ الحجة الثانية غير منجّزة للعمل السابق وغير مؤثرة فيه في الظرف السابق ، لكن لها أثر في التنجيز بالنسبة إليه بقاءً ، إمّا إعادةً وامّا قضاءً ، لأنه أثر باق ، وهذا الأثر قابل للتنجيز.

الوجه الثالث :

إن الحجّة الثانية في ظرف العمل السابق لم تكن واصلةً إلى المكلَّف كي تكون حجةً ، وقد تقرّر أن الحجيّة تدور مدار الوصول ، بل كان الواصل هو الحجّة الاولى وقد وقع العمل على طبق الحجّة ، ومقتضى القاعدة إجزاؤه.

وفيه : إنه عند ما تقوم الحجّة الثانية وتصل إلى المكلَّف ، تكون طريقاً إلى الواقع بالنسبة إلى جميع الأعمال ، فإذا تبدّل رأي المجتهد من فتوى إلى اخرى ، أفادت الثانية أنّ الحكم الإلهي في المسألة كذا ، وأن العمل السابق قد وقع على خلاف الشريعة المقدَّسة ، إذنْ ، تجب إعادته أو قضاؤه ولا إجزاء.

الوجه الرابع :

إنّ القضيّة الواحدة لا تتحمَّل اجتهادين ، فحكم العمل يكون على الاجتهاد الذي وقع على طبقه ، وهذا هو الإجزاء.

وفيه : قد تكون القضيّة الواقعة طبق الاجتهاد السابق باقيةً إلى زمان

٢١٢

الاجتهاد اللاّحق ، كما لو ذبح حيوان بغير الحديد ، فأُكل من لحمه ، وكانت بقية اللّحم موجودةً حين الاجتهاد الثاني بأنّه يشترط في الذبح أن يكون بالحديد ، فلا يجوز أكل هذا اللّحم ... فإذا كان الموضوع باقياً تحمّل اجتهادين.

وأيضاً : فإنْ الصّلاة ـ مثلاً ـ وإنْ وقعت على طبق الاجتهاد السابق بتسبيحةٍ واحدةٍ ـ مثلاً ـ لكنّ أثرها باق ، فهي مورد للإعادة والقضاء بثلاثة تسبيحات ، فهي تتحمّل الاجتهادين بلحاظ الأثر.

الوجه الخامس :

لزوم العسر والحرج والضرر من القول بعدم الإجزاء.

وفيه : هذا اللّزوم تام لو كان الموضوع في هذه القواعد هو الحرج والعسر والضرر النوعيين ، ولكنه شخصي.

هذا تمام الكلام في الوجوه المقامة على الإجزاء.

أقول :

والصحيح أنها ثلاثة كما ذكر في الدورة السابقة ، لان الوجهين الثاني والثالث يرجعان إلى وجهٍ واحد. والخامس يرجع إلى الأدلَّة الثانوية وكلامنا في الأوليّة.

لكن مقتضى الصناعة إقامة البرهان على عدم الإجزاء :

دليل عدم الإجزاء بناءً على الطريقيّة

إن الدليل القائم على التكليف الواقعي أو على موضوعه الواقعي ، ذو جهتين على مسلك العدلية ، فهو من جهةٍ يقتضي الامتثال والإطاعة ، فإذا قام الدليل على وجوب صلاة الظهر ـ مثلاً ـ كان علّةً لامتثال هذا الحكم ، فهذه جهة إنّية. ومن جهةٍ : يكون كاشفاً عن الملاك والغرض للمولى من هذا

٢١٣

الحكم ، فهو معلول للملاك ، وهذه جهة لمّية ـ ينكرها الأشاعرة ـ.

وعلى هذا ، فإنّ إجزاء صلاة الجمعة عن صلاة الظهر إنّما يتمُّ بتصرّف الدليل القائم عليها ـ وهو الأمارة ـ في احدى الجهتين ، وإلاّ ، فإنّ دليل الواقع يقتضي الامتثال والعقل يحكم بذلك ـ تحصيلاً لغرض المولى من الجهة الأولى ، وخروجاً عن اشتغال الذمّة من الجهة الثانية ـ حتى يأتي البدل عن الحكم الواقعي ، كما في قاعدة الفراغ مثلاً ، الدالّة على قبول العمل بدلاً عن الواقع في مرحلة الامتثال.

والحاصل : إنه لا بدَّ وأنْ تتصرّف الأمارة في إحدى الجهتين ، لأنه إذا تصرَّف في مرحلة الامتثال سقط الاشتغال بالواقع ، لأن موضوع حكم العقل هنا أعمّ من الامتثال الظاهري والواقعي ، وكذلك إذا تصرّف في مرحلة الملاك ، لأن الحكم إنما يؤثّر في الامتثال فيما إذا بقيت العلّة له ، وبتصرف الأمارة لا تبقى العلّة فلا يجب امتثال ذاك الحكم.

هذه كبرى القضيّة.

فهل دليل الحكم الظاهري يتمكن من التصرّف في إحدى الجهتين المذكورتين حتى يتم الإجزاء ، أو لا؟

مثلاً : لو أفتى المجتهد بكفاية التسبيحة الواحدة ، وعمل المقلِّد بذلك ، ثم تبدّل رأيه أو قلَّد مجتهداً آخر يفتى بوجوب الثلاث ... هذا بالنسبة إلى المقلِّد. وكذا المجتهد نفسه ، فلو أفتى طبق عامٍ لم يظفر بمخصّصٍ له ، فكان حجةً عنده ، ثم ظفر بالخاص وأفتى على طبقه لكونه الحجة الفعليّة ، فما هو حكم الأعمال السابقة؟

أمّا في مرحلة الملاك ، فلا يمكن التصحيح ، لأن الملاك كان علةً للحكم

٢١٤

الأوّل ، ولا يعقل أن يصير ملاكاً للحكم الثاني الذي قامت عليه الأمارة ، فلا الأمارة نفسها ولا دليل اعتبارها يتكفّل تحقّق الواقع بالعمل على طبق الأمارة ، إذْ لم تكن الأمارة إلاّ كاشفةً عن الواقع ، ودليل اعتبارها لا يفيد إلاّ جعل الطريقيّة لها ، ولا يوجد في مورد قيام الأمارة أكثر من هذا ، وحال الأمارة ليس بأحسن من حال القطع ، فلو قطع بتحقّق الطهارة ـ مثلاً ـ لم يثبت الشرط الواقعي في لباس المصلّي ، ولا يفيد القطع ثبوت ملاك الطهارة الواقعيّة فيه ... وكذا لو قطع بوجوب صلاة الجمعة.

إذن ، لا يمكن للأمارة نفسها ولا دليل اعتبارها التصرف لا في الملاك ، ولا في مرحلة الامتثال ، لأنَّ حال الأمارة ليس بأقوى من حال القطع ، فكما أنه بعد انكشاف الخلاف يسقط القطع عن التأثير ويقال ببقاء الغرض وعدم حصول الامتثال ، كذلك عند انكشاف مخالفة الأمارة للواقع.

هذا كلّه بناءً على مسلك الطريقيّة بمعنى الكاشفية عن الواقع ... وإذا لم يمكن ذلك ثبوتاً ، فلا تصل النوبة إلى البحث الإثباتي.

أمّا على مسلك جعل الحكم المماثل ، أي إنه بقيام الأمارة على وجوب الجمعة ـ مثلاً ـ يتحقّق جعلٌ من الشارع بوجوبها ، ففي المورد جعلٌ من الشارع ، وهذا الجعل ليس بلا ملاك ، فإذا امتثل العبد هذا الحكم سقط التكليف ، لأنه حكمٌ ذو ملاك ، فلا بدّ من القول بالإجزاء على هذا المسلك.

لكنْ ليس الأمر كذلك ، لأن الحكم المماثل إنما يكون مجعولاً ما دام موضوعه موجوداً ، إذ لا يعقل بقاؤه بعد زوال موضوعه ، ولا ريب أن الموضوع للأمارة هو الشك ، وإنْ لم يكن الشك مأخوذاً في لسان أدلّتها في مقام الإثبات ، نعم ، قد قيل بكون الشك مأخوذاً في آية السؤال ، وهو من

٢١٥

جملة أدلّة اعتبار الأمارة. لكن تقرّر في محلّه عدم تمامية الاستدلال بالآية.

وعلى الجملة ، فالعقل كاشف بكون الموضوع هو الشك. وحينئذٍ : ما الدليل على إطلاق هذا الحكم الظاهري المستفاد من الأمارة على هذا المسلك ، بأنْ يكون باقياً حتى بعد زوال الشك؟

إنه لا يعقل بقاء الحكم بعد زوال موضوعه ، فإذا قامت أمارة على خلاف الحكم السابق ، لا يبقى شك ، وحينئذٍ لا يبقى حكم مماثل للحكم الواقعي ، إذْ بقيام الأمارة على الخلاف يكون الواقع قد انكشف ، وظهر وقوع العمل على خلاف الواقع ، لأن المفروض دلالة الأمارة الثانية على كون الواجب في الشريعة هو صلاة الظهر لا صلاة الجمعة ... فملاك صلاة الظهر باق على حاله ، وهو يستدعي الامتثال ، وقد وصل بالأمارة الثانية ، والعقل يحكم بلزوم تحصيله.

وأمّا على مسلك جعل المؤدّى ، فأمّا على أن المراد هو جعل الشارع مؤدّى خبر زرارة ـ مثلاً ـ في ظرف قيامه ، فلا فرق بينه وبين جعل الحكم المماثل. وأمّا على أنّه لمّا يقوم خبر زرارة يكون المخبر به حكماً واقعيّاً ، بمعنى أن الإمام يعتبر قول زرارة قوله واقعاً ـ كما جاء في الصحيحة في العمري «فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي وما قال لك فعنّي يقول» (١) ـ فإنه على هذا يكون قد وسّع الإمام عليه‌السلام الواقع ، وجعل مفاد رواية زرارة مصداقاً له ، فإذا عمل المكلَّف على طبقه لم يفت عنه شيء من الواقع ، وحينئذٍ يشكل القول بعدم الإجزاء.

لكنّ الجواب عنه هو : إن هذه التوسعة ـ على أيّ حال ـ ظاهريّة وليست

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ / ١٣٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، رقم ٤.

٢١٦

بواقعية ، وإلاّ لزم التصويب الباطل ، وإذا كانت ظاهريّة فهي ما دام موضوعها ـ وهو الشك ـ موجوداً ، وبعد زواله ينتفي اعتبار الشارع للمؤدّى ، فتقول الأمارة اللاّحقة بوجوب صلاة الظهر ، لكون الواجب في الشريعة هذه الصلاة لا صلاة الجمعة.

هذا كلّه بناءً على الطريقيّة وسائر المباني في قبال السببيّة.

الكلام في الإجزاء بناءً على السببيّة

وأمّا بناءً على السببيّة ، فقد فصّل المحقق الخراساني بين الأمارة القائمة على الموضوع والقائمة على الحكم ، فقال بالإجزاء في الاولى دون الثانية.

على مسلك الأشاعرة

أمّا السببيّة على مسلك الأشاعرة ـ بناءً على صحة النسبة إليهم ـ ، وهو كون الحكم تابعاً للأمارة من البيّنة والخبر وقول المجتهد ... وأنه لولاها فلا حكم في الواقع ... فلا محيص عن الإجزاء ، لأن المفروض عدم وجود واقعٍ سوى ما قامت الأمارة عليه ، وإذْ لا واقع ، فلا موضوع للبحث عن الإجزاء وعدمه ، لأن المقصود من هذا البحث هو كفاية المأتي به أو عدم كفايته عن الواقع ...

لكنّ السببيّة بالمعنى المذكور محال ثبوتاً ، لأن الأمارة يعني العَلامة ، فلا بدَّ وأنْ تقوم على شيءٍ يكون هو ذا العلامة ، وإذا لم يكن هناك واقع فلا مفهوم للأمارة ولا معنى لأن تكون حاكيةً.

أقول :

ولا يرد عليه أنه إن كان هذا هو الإشكال ، فالعمدة فيه والمحور له عنوان «الأمارة» وهو ليس إلاّ اصطلاحاً ، فلهم أن يصطلحوا شيئاً آخر يكون له

٢١٧

مفهومٌ على مسلكهم ... لأنّ المقصود ليس اللفظ بل واقع الأمر هو المقصود بأيّ لفظ كان ، وهو أنه لا بدَّ وأنْ يكون هناك شيء وراء الأمارة. وقد فصّل الاستاذ دام بقاه الكلام عليه في الدورة السّابقة ، فذكر الإشكال عن المحققين كالعراقي و(المحاضرات) من أنّ الامارة لا بدّ وأنْ تكون حاكية وكاشفة عن شيء ، ولا يعقل الكشف من دون مكشوف ، والحكاية من دون محكي ، فلو توقّف ثبوته على قيام الأمارة عليه لزم الدّور أو الخلف.

ثم أورد جواب بعض المحققين عن هذا الإشكال :

نقضاً : بأنَّ الأمارة قد تكون ولا كاشفيّة عن حكمٍ واقعي ، والأحكام العقلية لا تقبل التخصيص ، فلا توقّف لوجود الأمارة على الحكم.

وحلاًّ : بأنّ توقف الأمارة على وجود المحكي والمكشوف ، لا يستلزم كون وجود المحكي والمكشوف وجوداً واقعيّاً بل هو بالوجود العنواني ، وكذلك العلم فإنه كاشف عن وجود المعلوم العنواني ، ففرق بين الأمارة المطابقة للواقع ، حيث لا بدّ من كون المحكي واقعيّاً ، وبين ذات الأمارة ، حيث المحكي بها هو الوجود العنواني للمتعلَّق ، وقد وقع الخلط بينهما ، وللقائل بعدم وجود الأحكام في متن الواقع وأن الحكم يوجد بقيام الأمارة أن يقول بكون وزان الأمارة وزان الجهل المركّب ، فكما أن الجهل المركّب لا واقع له ، كذلك الأمارة القائمة على حكمٍ صوري ، فإنّها تقوم على الوجود العنواني للحكم. إذن ، الأمارة موقوفة على الوجود العنواني للحكم ، وأمّا الحكم الواقعي فمتوقّف على وجود الأمارة ، فتغاير الموقوف والموقوف عليه.

قال الاستاذ : وهذا تحقيق رشيق ، يندفع به الإشكال العقلي المذكور ،

٢١٨

أعني لزوم الدور.

لكن لا ريب في سقوط المسلك المنسوب للأشاعرة ، لأنه خلاف الضرورة من الشرع ، إذ لازمه بطلان بعث الرسل وإنزال الكتب ، وأيضاً : لازمه اختصاص الأحكام الشرعية بمن قامت عنده الأمارة ، وهذا خلاف المذهب ، إذ الأحكام ثابتة في الواقع سواء علم بها أو جهلت.

على مسلك المعتزلة

وأمّا على السببيّة بالمعنى الذي تقول به المعتزلة ، وهو وجود الواقع ، لكنّه فرع للأمارة ، فمتى قامت على خلافه انقلب عمّا هو عليه وأصبح تابعاً لمفادها ... فلا محيص عن الإجزاء كذلك ، وهو واضح.

لكنّ السببيّة بهذا المعنى ـ وإن كانت معقولةً ، إذ من الممكن أن يقول بوجود الحكم ما لم تقم أمارة على خلافه ، فلا مانع ثبوتاً ـ باطلة إثباتاً ، لقيام الإجماع بل الضّرورة من العدليّة على إطلاق أدلَّة الأحكام الواقعيّة ، وأنّها محفوظة سواء طابقتها الأمارة أو خالفتها!!

وأمّا على السببيّة (١) ، بمعنى القول بوجود الواقع ، لكنّ الأمارة تكون مزاحمةً له ، فتكون مانعةً عنه ، مقدَّمةً عليه من باب التزاحم ... فالإجزاء واضح كذلك.

وهذا ـ وإنْ كان جائزاً ثبوتاً وممكناً عقلاً ـ باطل شرعاً ، لبطلان التزاحم بين الأمارة والواقع.

على مسلك المصلحة السلوكيّة

وأمّا على السببيّة ، بمعنى : إن الأحكام الشرعيّة موجودة في الواقع ،

__________________

(١) أفاده في الدورة السابقة فقط.

٢١٩

وهي غير مقيَّدة بعدم قيام الأمارة على خلافها ، وهي غير مزاحمة ، إلاّ أنّ مقتضى القاعدة عند العدليّة : أنْ يكون أمر الشّارع بالعمل طبق الأمارة القائمة على خلاف الواقع من أجل مصلحةٍ فيه تكون بدلاً عن مصلحة الواقع التي فاتت بسبب قيام الأمارة والعمل والسلوك على طبقها ، فلو قامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة ، وكان الواجب في الواقع صلاة الظهر ، فالحكم الواقعي باقٍ على حاله ، غير أنّ الأمارة صارت سبباً لحدوث مصلحةٍ في العمل والسلوك على طبقها ، ويتدارك بها ما فات من مصلحة الواقع.

وهذه هي المصلحة السلوكية التي ذكرها الشيخ الأعظم قدس‌سره.

فقد ذكر الاستاذ : أوّلاً : توضيح مسلك الشيخ لفهم مراده تماماً. وثانياً : الكلام عليه ثبوتاً وإثباتاً. وثالثاً : هل يفيد الإجزاء أو لا؟ فهنا جهات ثلاثة :

١ ـ توضيح المصلحة السلوكية

إن كلمات الشيخ في هذا المقام مضطربة جدّاً ، غير أنّ المتحصّل من مجموعها أنّه رحمه‌الله يريد الجواب عن إشكال ابن قبة بأنّ في جعل الأمارات تفويتاً للمصالح الواقعيّة ، وهو قبيح. وأيضاً : يريد الجمع بين الطريقيّة للأمارات والسببيّة ، بمعنى : أنّ الأوامر الدالّة على حجيّة الأمارات إنما هي أوامر طريقية ، أي : أوامر ناشئة عن مصلحة التحفّظ على الواقع ، فلمّا يقول : صدّق العادل ، فهذا الأمر الدالّ على حجيّة قول العادل ، إنما نشأ ـ لا لمصلحةٍ في متعلَّقه ـ بل عن مصلحة التحفّظ على الواقع ، لكنْ في حال فوت مصلحة الواقع ، فإنّ بمصلحة التسهيل على المكلَّفين ـ بالعمل على طبق الأمارة تتدارك تلك المصلحة الفائتة. فإذا قامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة والواقع صلاة الظهر ـ كانت المصلحة في تطبيق العمل على الأمارة وترتيب

٢٢٠