تحقيق الأصول - ج ٢

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٢
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٠٠

المأمور به على المأتي به قهريّاً ، ومعه يتحقق الامتثال ، وإذا تحقق سقط الأمر ، وإذا سقط فلا موضوع للامتثال ، لوضوح تقوّمه بالأمر ، ومع عدم الأمر ، كيف يكون الوجود الثاني امتثالاً؟

وأمّا تبديل الامتثال ، ففيه ـ مضافاً إلى ما تقدّم ـ إنه مع تحقق الامتثال يكون تبديله بامتثالٍ آخر انقلاباً للموجود ، وانقلاب الموجود محال ...

وبه يظهر ما في كلام بعضهم من إمكان تبديل الفرد المأتي به بمصداقٍ آخر من الطبيعة بما أنه فرد من الطبيعة ـ لا بعنوان الامتثال ـ غير أنّ المولى يحصّل غرضه من هذا الفرد الثاني.

فإنه لا يرفع اشكال الانقلاب ، للزومه ، سواء اتي به بعنوان الامتثال أو بعنوان الفرديّة للطبيعة.

وإن أراد القائل من التبديل إعدام الفرد الأول وجعل الثاني بدلاً له.

فهذا خارج عن البحث ، ولا يصدق عليه عنوان التبديل.

وإن أراد رفع اليد عن الأول.

ففيه : إنْ رفع اليد عن فردية الأوّل للطبيعة ، غير ممكن ، لأنه ليس تحت اختيار المكلّف.

وإنْ أراد رفع اليد عن فرديّته من حيث الامتثال.

فهذا غير ممكن ، وهو خلاف فرض القائل.

وأمّا ما في (الدرر) (١) من أن له إبطال فردٍ والإتيان بفرد آخر.

ففيه : إن إبطال الفرد بعد الإتيان به غير معقول ، وأمّا في أثنائه فخارج عمّا نحن فيه.

__________________

(١) درر الأصول ١ / ٧٨.

١٦١

نظرية المحقق العراقي

ومنهم من يصوّر المطلب ـ ثبوتاً ـ على أساس المقدّمة الموصلة ، وهو المحقّق العراقي (١) ، قال رحمه‌الله تعالى : إنه لمّا أمر المولى بالماء يأتي العبد بفردين من الماء حتى يختار المولى منهما ما أحبّ ، وهذا ليس تبديلاً للامتثال بالامتثال ، ولا الفرد بفردٍ آخر ، بل هو الإتيان بفردين مقدمةً لأنْ يختار المولى ما أحبَّ منهما ، وهذا ممكن ثبوتاً ، وأمّا إثباتاً فهو مقتضى الرّواية.

إشكال الاستاذ

قال شيخنا : وفيه وجوه من النظر :

أوّلاً ـ إنه لا وجه لتنظير المقام بمسألة المقدّمة الموصلة ، فإنّ موردها ما إذا كان ذو المقدمة واجباً على العبد ، وله مقدمة موصلة واخرى غير موصلة ، أمّا هنا ، فإنّ الفرد الذي يختاره المولى غير قابل للإيجاب على العبد بقيد اختيار المولى ، لأنه بهذا القيد خارج عن اختيار العبد ، فكيف يكون واجباً عليه؟ ، فكبرى المقدمة الموصلة للواجب غير منطبقة هنا ، نعم ، يمكن أنْ يكون مقدمةً للغرض ، بأنْ يقال بإتيان العبد بفردين مقدمةً موصلةً لتحقق الغرض من الأمر ، فيكون الإتيان بالماء الموصل للغرض الأقصى هو الواجب ، لكنّ المقدمة الموصلة للغرض وجوبها نفسي ـ لأن كلَّ واجب فهو مقدمةٌ للغرض نفساً ، وإلاّ لزم أن تصير الواجبات النفسية كلّها غيرية ـ والواجب النفسي في الفردين واحد ، ولا يمكن كونهما معاً واجبين نفسيين.

إذن ، فالمقدّمة الموصلة للواجب غير معقول هنا ، وللغرض معقول ، لكنه واجب نفسي ، وإذا كان كذلك ، فأيّ الفردين هو الواجب نفساً؟ إن كان

__________________

(١) نهاية الأفكار ١ / ٢٢٥.

١٦٢

الذي يختاره المولى ، فهذا خارج عن قدرة العبد فكيف يتعلّق به التكليف؟ وإن كان بلا قيد اختيار المولى ، فأحدهما فقط هو الواجب.

وثانياً ـ إنه لا يتحقق في المقام عنوان المقدّمة أصلاً ، لأن الفردين أحدهما واجب والآخر مستحب أو مباح ، فأحد الفردين لا هو واجب ولا هو مقدمة للواجب ، والآخر الذي كان مختار المولى واجب وليس بمقدمة ، فأين المقدّمة الموصلة؟

وثالثاً ـ إن ما ذكره إنما هو بلحاظ ما ورد في بعض الأخبار ، وسيأتي الكلام على ذلك في مقام الاثبات.

نظرية المحقق الأصفهاني

ومنهم من يصوّر المطلب ثبوتاً على أساس الحصّة الملازمة للغرض القائم بفعل المولى ، وهو المحقق الأصفهاني (١) ، وتوضيح كلامه هو : إن الحاكم بحصول الامتثال في باب الإطاعة هو العقل ، فتارةً : يقال بدوران الامتثال مدار موافقة الأمر ، واخرى : يقال بدورانه مدار حصول الغرض من الأمر. فبناءً على الأوّل ، فلا ريب في أنّ الأمر يسقط بامتثاله بالاتيان بالمأمور به بجميع خصوصيّاته ، وعلى الثاني ، فقد يكون الغرض مترتّباً على فعل العبد وقد يكون مترتّباً على فعل المولى.

أمّا الأوّل ـ كما لو قال المولى : «صلّ لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر» فجاء بالغرض بنحو الحيثية التعليليّة ، أو قال : «الصّلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر واجبة» ، فجاء بالغرض بنحو الحيثية التقييدية ـ فإنّه بمجرَّد امتثال العبد يحصل الغرض ، وإذا حصل فلا معنى للامتثال الثاني.

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٣٨٠ ـ ٣٨١.

١٦٣

وإنْ كان الثاني ، كما لو كان الغرض رفع العطش ، وهو موقوف على فعل المولى ، أي شربه للماء ، فهذا لا يكون بنحو الحيثية التقييديّة قطعاً ، فلا يعقل أنْ يقيِّد المولى فعل العبد بشربه هو للماء ، لأن شرب المولى للماء خارج عن قدرة العبد فيستحيل تقييد تكليفه به ، ولا يكون بنحو الحيثية التعليليّة ، بأن يكون ارتفاع العطش ، المترتب على شرب المولى للماء ، علّةً لتعلّق الأمر بمجيء العبد بالماء ، لأن رفع العطش قائم بفعل المولى ، وإرادة إتيان العبد بالماء لا يمكن أن تنشأ من الغرض القائم بفعل المولى.

وتلخّص : أنّ جميع الأقسام غير ممكن ثبوتاً.

بل الممكن ثبوتاً هو : أن يكون متعلَّق الأمر حصّةً من المأمور به ملازمةً لغرض المولى ، فالمأمور به هو الإتيان بالماء الذي يكون ملازماً لاختيار المولى له ... وهذا هو المعقول الممكن ثبوتاً. وتبقى مرحلة الإثبات فهل من دليلٍ على هذا التقريب؟

إشكال الاستاذ

فقال شيخنا الاستاذ بعد تقريب هذه النظريّة كما تقدّم : بأنَّ هذا البيان لا يفترق عن تقريب المحقّق العراقي في حقيقته وجوهره ، فقد عبَّر بالحصّة الملازمة عمّا عبَّر عنه العراقي بالمقدّمة الموصلة ، أو بالحصّة التوأمة.

نعم ، هذا التقريب لا يرد عليه اشكال استلزام صيرورة الواجبات النفسيّة واجبات غيرية.

لكنْ يبقى الإشكال بأنَّ تكليف العبد بما هو خارج عن قدرته غير معقول ، وذلك : لأنّ الحصّة الملازمة لاختيار المولى المحققة لغرضه ، من انقسامات المتعلَّق ، إذ الإتيان بالماء ينقسم إلى ما يقع اختيار المولى عليه وما

١٦٤

لا يقع ، سواء كان هناك طلبٌ أو لا ، فإنه انقسام متقدّم على الخطاب ، كما أن هذا الانقسام موجود بعد الخطاب والطلب من المولى ، وإذا كان هذا الانقسام موجوداً ، فلا ريب في أنَّ المطلوب غير مهملٍ ، لأن الإهمال في مرحلة قيام الغرض وتعلّق الطلب محال ، فالمطلوب إمّا مطلق ، وهو ـ سواء كان جمعَ القيود أو رفضَ القيود ـ محال كذلك ، وامّا مقيَّد باختيار المولى ـ إذْ لو كان غير مقيَّد بذلك وكان لا بشرط لزم التوسّع إلى الحصّة غير الملازمة لاختياره واستيفاء غرضه ـ وإذا كان مقيداً باختياره ، فإنّ هذا القيد خارج عن قدرة العبد ، ولا يعقل أن يدخل تحت التكليف المتوجّه إليه.

هذا تمام الكلام في مرحلة الثبوت ، وقد ظهر أنْ لا طريق صحيح إليه.

مرحلة الإثبات

وأمّا في مرحلة الإثبات ، فالروايات هي في عدّة أبواب :

١ ـ باب صلاة الآيات.

٢ ـ باب الصّلاة مع المخالفين.

٣ ـ صلاة الجماعة.

والعمدة في المقام روايات باب صلاة الجماعة ، لأنّ فيها ما يدلُّ على اختيار الله للعمل ، وأمّا روايات باب صلاة الآيات فليس فيها إلاّ الإتيان بالصّلاة قبل انجلاء القرص وتكرارها مرّات.

والمهمّ في روايات باب الصّلاة جماعةً هي : رواية أبي بصير ، حيث جعلها صاحب (الكفاية) والمحقق العراقي الدليل على ما ذكراه في مقام الثبوت ، مع وضوح الفرق بين مسلكيهما ، حيث أن صاحب (الكفاية) قائل بتبديل الامتثال ، ويجعل الرواية مؤيدةً بل يجعلها دليلاً على ذلك ، والعراقي

١٦٥

لا يرى تبديل الامتثال ولا تعدّده ، بل عنده أنْ الامتثال يتقيّد أحياناً بالحصّة التي يختارها الله ، كما هو ظاهر الرواية كما قال ، والحاصل إنهما مختلفان في الاستظهار من الرواية ، بالإضافة إلى اختلافهما في مقام الثبوت.

النظر في الأخبار

لكنّ الأخبار الواردة في باب صلاة الجماعة (١) على طوائف :

١ ـ في رواية هشام بن سالم ورواية حفص : «يصلّي معهم ويجعلها الفريضة ان شاء».

وظاهرها كون اختيار الامتثال بيد العبد ، فهي تؤيد أو تدل على قول (الكفاية) بتبديل الامتثال.

٢ ـ في رواية زرارة : «إن كان قد صلّى فإنّ له صلاة اخرى».

وظاهرها أنها مطلوب آخر ، فهي دالة على خلاف كلام (الكفاية) والعراقي.

٣ ـ في رواية الحلبي : «فصلّ معهم واجعلها تسبيحاً».

وظاهرها أن الثانية نافلة ، فليس من تبديل الامتثال ولا الامتثال بعد الامتثال ، فهي على خلاف كلامهما.

٤ ـ في رواية إسحاق بن عمار : «صلّ واجعلها لما فات».

وظاهرها أن الثانية أيضاً واجبة ، لكنْ قضاءً لما فات.

٥ ـ في رواية أبي بصير : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : اصلّي ثم أدخل المسجد فتقام الصلاة وقد صلّيت. فقال : صلّ معهم ، يختار الله أحبّهما إليه».

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، الباب ٤٥ و ٥٥ من أبواب صلاة الجماعة.

١٦٦

وهذه مستند المحقق العراقي.

٦ ـ في رواية الصدوق : «يحسب له أفضلهما وأتمّهما».

قال الاستاذ :

أمّا من ناحية السند ، فالأخبار الأربعة الاولى معتبرة ، والخامس في سنده كلام سيأتي ، والسادس : مرسل الصّدوق ، ومراسيله محلّ كلام ، فقيل باعتبارها مطلقاً ، وقيل بعدم اعتبارها مطلقاً ، وقيل بالتفصيل باعتبار ما أرسله مسنداً إلى المعصوم بعنوان «قال» ... وهذا الخبر ليس من ذلك.

أمّا من حيث الدلالة :

فالخبر الدالّ على مسلك (الكفاية) هو : «يصلّي معهم ويجعلها الفريضة إنْ شاء» ولكنْ ينافيه الخبر : «صلّ واجلعها لِما فات» ، وهو يصلح لأن يكون قرينة على «يجعلها الفريضة» فيكون المعنى : يجعلها الفريضة الفائتة إن شاء.

هذا كلامه في الدورة اللاحقة وفاقاً للمحاضرات. أما في السابقة فخالفه بشدة ، لأن الفريضة تطلق على ما يقابل النافلة ، وحاصل كلامه القول باستحباب الإعادة مخيّراً ، بأنْ يجعلها نافلةً أو فريضة أداءً أو قضاءً.

أقول :

فلا موضع للاستدلال للكفاية والعراقي في الروايات الأربع.

التحقيق عن سهل بن زياد

والمهمّ رواية أبي بصير ، وفي سندها كلام طويل ، لأن في طريقها «سهل بن زياد» وقد اختلفت كلمات القوم فيه :

١ ـ الوثاقة والتوثيق

فمن جهةٍ نرى أن «سهل بن زياد» :

١٦٧

١ ـ من رجال تفسير القمي رحمه‌الله.

٢ ـ من رجال ابن قولويه رحمه‌الله.

٣ ـ روى عنه الكليني رحمه‌الله في الكافي ـ الذي ألّفه ليكون حجةً في الاصول والفروع كما قال ـ أكثر من ٢٣٠٠ رواية ، وقد ذكر المحقق الخراساني في (حاشية الرسائل) بأن أخبار الكافي وأمثاله مفروغ عن اعتبارها ، وقال المحقق النائيني بأن المناقشة في أسانيد الكافي ديدن من لا خبرة له.

٤ ـ ولذا قال الحرّ العاملي والوحيد البهبهاني ـ رحمهما الله ـ عنه : ثقة.

٥ ـ الشهيد والمحقق الثانيان أخذا برواياته ، وقال صاحب الجواهر والشيخ الأعظم : الأمر في سهلٍ سهل.

٦ ـ والسيد بحر العلوم وبعضهم تردّدوا في الشهادة بضعفه.

٢ ـ الضعف والتضعيف

ومن جهةٍ أخرى نرى :

١ ـ إن ابن الوليد وابن بابويه استثنياه من كتاب نوادر الحكمة.

٢ ـ قال النجاشي : ضعيف في الحديث غير معتمد عليه ، وإن أحمد بن محمد بن عيسى شهد عليه بالغلوّ والكذب.

٣ ـ إن الشيخ في الفهرست ضعّفه ، وفي الإستبصار قال : ضعيف عند نقّاد الأخبار.

والتحقيق بالنظر إلى ما تقدَّم ويأتي هو التوقّف والاحتياط ، فالرجل لم تثبت وثاقته ولم يثبت له جرح ، وبيان ذلك يتم في نقاط :

١ ـ اعتماد الكليني عليه.

٢ ـ معنى كلام النجاشي.

١٦٨

٣ ـ التعارض في كلمات شيخ الطائفة.

فنقول : أمّا كونه من رجال (كامل الزيارات) و(تفسير القمي) ، فبناءً على إفادة ذلك للوثاقة ، فهما توثيقان عامّان يصلحان للتخصيص. وأمّا استثناء ابن الوليد وابن بابويه فغير واضح دلالته على الجرح ، لأن استثناء روايات الراوي لا يدل على ضعف الراوي نفسه ، على أن الصدوق يروي عن سهل في (الفقيه) وقد التزم بالفتوى بما فيه.

وأمّا شهادة أحمد بن محمّد بن عيسى ، فيشكل الاعتماد عليها ، فقد ذكروا أنه كان متسرّعاً في رمي الأشخاص ، وقضيّته مع محمّد بن عيسى بن عبيد مشهورة ، على أنّ في نقل النجاشي أنه كان يرمي الرجل بالغلوّ ، وهذا يرجع إلى عقيدة أحمد بن محمد بن عيسى في مفهوم الغلوّ ومصداقه.

وتبقى كلمة النجاشي : «ضعيف في الحديث غير معتمد عليه».

أمّا «ضعيف في الحديث» فلا يدلّ على ضعف الرجل نفسه ، فلو كانت هذه الجملة وحدها فلا إشكال ، لكنّ قوله «غير معتمد عليه» يمنعنا من الجزم برجوع التضعيف إلى رواياته دون نفسه.

والشيخ وإنْ ضعَّف الرجل في (الفهرست) و(الإستبصار) فقد وثقه في (رجاله) ، فمن جهةٍ يتقدّم توثيقه ، لكونه في الكتاب المعدّ للجرح والتوثيق ، ومن جهةٍ نراه في الاستبصار يقول : ضعيف عند نقّاد الأخبار ، فليس ضعيفاً عنده فقط ، لكنْ ، لقائل أنْ يقول بأنْ الكلمة تشعر برجوع التضعيف منهم إلى أخباره لا إلى نفسه ، فتأمّل.

واعتماد الكليني عليه بكثرةٍ ، وفي الكتاب الموصوف بما تقدَّم ، يمنعنا من الجزم بضعفه.

١٦٩

فالحق هو التوقّف ، والقول بالاحتياط الوجوبي في رواياته في الأحكام الشرعيّة.

وأمّا دلالة رواية أبي بصير ـ بعد أنْ ظهر عدم دلالة غيرها على الامتثال بعد الامتثال ـ فقد ذكر المحقّق الأصفهاني في (الاصول على النهج الحديث) (١) أنها محمولة على الصّلاة تقيّةً ، لأن موضوعها الصّلاة في المسجد جماعة ، والمساجد كانت في ذلك الزمان كلّها بيد العامّة وأئمتها منهم ، فكان المراد من «يختار الله أحبّهما» هو الصّلاة الاولى التي أتى بها منفرداً ، إذ الثانية التي أتى بها تقيةً ليست بصلاةٍ ، وقد يمكن كونها محبوبةً لجهةٍ من الجهات.

وأشكل عليه الاستاذ :

أوّلاً : بأنّ في الروايات ما يدلّ على كون الإمام في بعض المساجد من أصحابنا.

وثانياً : بأن مقتضى بعض الروايات الآمرة بالصّلاة مع القوم أحبّيّتها من التي صلاّها منفرداً.

إلاّ أنه دام بقاه ذكر أنّ الرواية لا تدلّ على مسلك العراقي ، لأنه ذهب إلى لغويّة الصّلاة الثانية ، والحال أنّ ظاهر لفظ «الأحب» كون التي اختارها أحبّ من الاخرى ، فتلك أيضاً محبوبة.

نعم ، هناك وجه آخر لِما ذكره ، وهو أنّ في أخبار الصّلاة معهم ما هو نصٌّ في أنّ الصّلاة معهم كالصّلاة خلف الجدار (٢) ، وهي تصلح لأنْ تكون

__________________

(١) الاصول على النهج الحديث (بحوثٌ في الاصول) ١١٣.

(٢) وسائل الشيعة ٨ / ٣٠٩ الباب ١٠ من أبواب صلاة الجماعة.

١٧٠

قرينةً على تعيّن الصّلاة الّتي أدّاها منفرداً للامتثال.

فبالنظر إلى ما ورد في ثواب الصّلاة معهم ، تكون التي صلاّها جماعةً محقّقةً للامتثال ، وبالنظر إلى ما ورد من أن الصّلاة معهم كالصّلاة خلف الجدار ، تكون التي صلاّها منفرداً هي المحقّقة للامتثال ، فينتهي أمر رواية أبي بصير إلى الإجمال ، فلا تبقى دلالة على ما ذهب إليه المحققان الخراساني والعراقي ، والله العالم.

١٧١

المسألة الثانية :

في إجزاء الأمر الاضطراري عن الاختياري وعدمه

أنه بعد الفراغ عن كبرى الإجزاء في المسألة الاولى ، يأتي دور هذه المسألة الصغرويّة ، فإنه إذا قام الدليل فيها على وفاء المأتيّ به بالأمر الاضطراري لمصلحة الأمر الواقعي ، انطبقت الكبرى ، وتمّ الإجزاء ... فيكون البحث هنا في الثبوت والإثبات كذلك ، ويقسّم إلى الإجزاء في الوقت وسقوط الإعادة ، والإجزاء في خارجه وسقوط القضاء.

صور مقام الثبوت كما في الكفاية

وقد ذكر في (الكفاية) لمقام الثبوت أربع صور ، وحاصل كلامه :

إن العمل الاضطراري يكون تارةً وافياً بتمام مصلحة الاختياري ، واخرى لا يكون كذلك ، وعلى الثاني تارةً : يمكن استيفاء ما فات من المصلحة ، واخرى : لا يمكن ، وعلى الأوّل : تكون المصلحة تارةً لزوميّة واخرى غير لزوميّة.

فإن كان العمل الاضطراري وافياً بمصلحة الاختياري تماماً ، فلا إشكال في الإجزاء ، وإلاّ ، فإنْ كانت المصلحة الفائتة لزوميّة ولا يمكن تداركها ، فلا يمكن للمولى الأمر بهكذا عملٍ فضلاً عن أن يكون مجزياً ، ولا يمكن للمكلَّف البدار إليه ، وإن كان يمكن تداركها ، فإن كانت غير لزوميّة فلا شبهة في جواز البدار إلى العمل ولا إشكال في الإجزاء ، وتلك المصلحة إن كانت

١٧٢

قابلة للتحصيل بالعمل ثانياً ، فإنه يأتي به من أجل استيفائها ، وأمّا إذا كانت المصلحة لزوميّة ويمكن استيفاؤها بالعمل عن اختيارٍ ، فقد قال في (الكفاية) بالتخيير بين الإتيان بالعمل الاضطراري في أوّل الوقت ، وبالاختياري المستوفي للمصلحة في آخره ، أو ينتظر إلى آخر الوقت فيأتي بالاختياري فقط.

وفي هذا المقام وجوه من الإشكال ، إمّا على أصل الإجزاء في المسألة ، وامّا على كلام الكفاية.

إشكال المحاضرات على مختار الكفاية

فقد أورد في (المحاضرات) (١) على المحقق الخراساني ـ في القسم الأخير من كلامه ، حيث قال بالتخيير ـ باستحالة التخيير الذي ذكره ، لأنه من صغريات التخيير بين الأقل والأكثر ، وهو محال ، لأن غرض المولى يتحقّق بالإتيان بالأقل ، الذي هو أحد العِدلين ، فيكون الإتيان بالأكثر ـ وهو العدل الآخر ـ معه بلا ملاك. هذا من جهة ، ومن جهةٍ أخرى : إنه يلزم أن يكون وجوب العمل الاضطراري الواقع في أوّل الوقت دائراً مدار الإتيان به ـ بمعنى أنه لو اتي به فهو واجب وإلاّ فليس بواجب ـ وهذا محال ، لأن الوجوب إنّما يتحقّق بالداعي إلى الإتيان ، فلا يعقل تقيّده بالإتيان.

والحاصل : إن ما ذكره من صغريات التخيير بين الأقل والأكثر ، وهو محال ، للوجهين المذكورين.

جواب الاستاذ

وأجاب شيخنا : أوّلاً : بأن هذا الإشكال مبنائي ، لأن صاحب (الكفاية)

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ٢ / ٢٣٢.

١٧٣

يقول بالتخيير بين الأقل والأكثر.

وثانياً : إن مناط استحالة التخيير بين الأقل والأكثر هو حصول الغرض بالأقل وسقوط الأمر بذلك ، كما أشار إليه ، وهذا حاصل فيما إذا اتي بالأقل قبل الأكثر ، كما في التسبيحات الأربع ، أمّا فيما نحن فيه ، فإنّ الأكثر مقدَّم في الإتيان على الأقل ، لأن الأقل هو الصّلاة الاختيارية المأتيّ بها في آخر الوقت ، فلو انتظر المكلَّف حتى آخر الوقت من غير أن يأتي بالأكثر ، فقد استوفى تمام المصلحة بالأقل ، فيكون هذا العِدل من الواجب التخييري ـ وهو الصّلاة الاختيارية في آخر الوقت ـ بشرط لا عن الصّلاة الاضطرارية في أوّله ، فهي واجبة عليه بشرط أن لا يأتي بالاضطراريّة قبلها ، لا أنّها لا بشرط عن ذلك ، والمستشكل نفسه أيضاً يرى أن موارد البشرطلا والبشرطشيء ليست من دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، بل هما من المتباينين ، بأن يكون الغرض مترتّباً إمّا على الصّلاة الاختيارية بشرط عدم تقدّم الاضطرارية ، وامّا على الاضطرارية في أول الوقت والاختياريّة في آخره.

وإذا كان هذا مفروض كلام (الكفاية) ، فالإشكال غير وارد عليه ، لأن حاصل كلامه : أنّ الاختياريّة في آخر الوقت ـ بشرط عدم الإتيان بالاضطرارية في أوّله ـ وافية بتمام الغرض ، وأمّا لو أتى بالاضطراريّة في أوّله فقد استوفى حصّةً من الغرض ، فلا محالة يجب الإتيان بالاختيارية في آخره ليستوفي الغرض.

وبما ذكرنا يظهر اندفاع توهّم لغويّة تشريع الصّلاة الاضطراريّة في أوّل الوقت ، لأنَّ مفروض كلام صاحب (الكفاية) في كيفيّة التشريع ثبوتاً هو أنّ الصّلاة الاضطراريّة في أوّله واجدة لقسطٍ من الغرض ، ويكون كماله وتمامه

١٧٤

بالإتيان بالاختيارية في آخره ، أمّا لو انتظر حتى آخره بدون سبق الاضطرارية وأتى بالاختياريّة ، فقد استوفى الغرض كاملاً ، فلا لغويّة أبداً.

الاشكال على الإجزاء ثبوتاً

وأمّا الإشكال على أصل الإجزاء في هذه المسألة ، فالأصل فيه هو المحقق الحلّي ، والفقيه الهمداني في بعض كلماته ، وإليه ذهب السيد البروجردي فقال ما حاصله (١) :

إنّ الأحكام الشرعيّة الاختيارية موضوعها هو المكلَّف المختار ، والأحكام الشرعية الاضطراريّة موضوعها هو المكلَّف المضطرّ ، فوظيفة المضطرّ هو العمل الاضطراري فقط ، وهو غير مكلَّف بتكليفين ، كي يقال هل عمله الاضطراري يجزي عن امتثال الأمر الاختياري أو لا يجزي؟

فمن كان متمكّناً من الصّلاة مع الطهارة المائيّة ، فالخطاب من الأوّل متوجّه إليه بالصّلاة كذلك ، ومن كان عاجزاً عن ذلك ، فالخطاب من الأوّل متوجّه إليه بالإتيان بها مع الطهارة الترابيّة ، ويشهد بذلك التقسيم في قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً) وهو قاطع للشركة.

وعليه ، فالصّلاة الاضطرارية ـ مثلاً ـ ليست بدلاً عن الاختيارية ـ خلافاً للمشهور ـ وإليه أشار الفقيه الهمداني في مسألة قراءة غير المتمكّن من القراءة الصحيحة كالأخرس (٢) ، كما أنّ القدرة شرط لأصل التكليف ، لا لفعليّته ، لأنّ العاجز غير مكلَّف عقلاً وشرعاً ، أمّا عقلاً ، فلأنّ جعل الداعي لغير المتمكن من الامتثال لغو ، وأمّا شرعاً ، فلحديث الرفع ، وهو رفع واقعي لا ظاهري.

__________________

(١) نهاية الأصول : ١١٥ ، الحجة في الفقه : ١٤٢.

(٢) مصباح الفقيه كتاب الصّلاة : ٢٧٨ ط حجري.

١٧٥

فلا مجال للجواب عن هذا الإشكال بالقول بكون الأحكام الاضطراريّة أبدالاً عن الأحكام الاختياريّة ، أو القول بأن القدرة شرط للفعلية ، ولا فعليّة للحكم بالنسبة إلى العاجز.

وعلى الجملة ، فالصّلاة بالنسبة إلى القادر والعاجز ، كالصّلاة بالنسبة إلى المسافر والحاضر ، فكما أنّ كلاًّ من المسافر والحاضر مكلَّف بتكليفه الخاص به ، ولا بدليّة بينهما ، كذلك القادر والعاجز ، فلكلٍّ حكمه بحسب حاله في عرضٍ واحد.

فلا موضوع للإجزاء في المسألة ، لا ثبوتاً ولا إثباتاً.

جواب الاستاذ

وأجاب الاستاذ دام بقاه عن ذلك : بأنْ القول بعرضيّة الفعل الاضطراري مع الفعل الاختياري ـ خلافاً للمشهور ـ لا يجتمع مع القول ببدليّة التيمّم عن الوضوء تارةً وعن الغسل اخرى.

إنه لا بدَّ من الالتزام بكون الواجب الأصلي هو الطهارة المائيّة ، حتى يصحّ القول بكون التيمّم بدلاً عن هذا وذاك ، وإذا كان التيمّم بدلاً عن الوضوء كانت الصّلاة المأتي بها معه بدلاً عن الصّلاة مع الوضوء ، لأن بدليّة قيدٍ عن آخر تقتضي بدليّة المقيَّد عن مقيَّد آخر.

ثم عند ما نرجع إلى فتاوى السيّد البروجردي نفسه ، نجده في حواشي (العروة الوثقى) ، وفي مسائل التيمّم ، يصرّح بما ذكرناه أو يوافق الماتن على ما ذهب إليه ممّا هو صريح فيما ذكرناه ، ففي المسألة رقم (٢٤) يقول : «لا يترك الاحتياط بهذا حتى فيما هو بدل عن غسل الجنابة» وفي المسألة رقم (١٠) : «لم يثبت بدليّة التيمّم عن الوضوء والغسل غير الرافعين للحدث

١٧٦

للحائض» وفي المسألة رقم (٣٠) من كتاب الصّلاة : «الأقوى حينئذٍ وجوب الإيماء بدلاً عن السجود».

والحاصل : إن الأفعال الاضطراريّة أبدال عن الاختيارية ، وليست مجعولةً للمضطرّ إلى جنب جعل الاختيارية للمختار ، كجعل الصّلاة المقصورة للمسافر والتمام للحاضر.

وظاهر النصوص هو البدليّة كذلك ، كما في باب (وجوب الضربتين في التيمّم سواء كان عن وضوء أم عن غسل) (١) فأي معنى لكلمة «عن وضوء» و«عن غسل» إنْ لم تكن بدليّة؟

ففي الصحيح عن زرارة : «هو ضرب واحد للوضوء والغسل من الجنابة» أي الكيفية لا تختلف ، فسواء كان بدلاً عن الوضوء أو الغسل «تضرب بيديك مرّتين» فأيّ معنى لكلمة «للوضوء والغسل من الجنابة» غير البدلية؟

وفي موثقة عمّار : «سألته عن التيمم من الوضوء والجنابة ومن الحيض للنساء» وهو ظاهر في البدليّة كذلك ...

وعن (تفسير النعماني) : «الفريضة : الصلاة مع الوضوء ، وإن الصّلاة مع التيمّم رخصة» وهذا نصٌّ في المطلب.

وتلخص : سقوط ما ذكره السيد البروجردي.

وكذلك كلام المحقق الهمداني ، فإنّه وإنْ قال في (طهارته) (٢) بما استشهد به السيد البروجردي ، لكنّه في (صلاته) صريح في البدليّة ، كما في بحث القيام ، حيث صرّح ببدليّة الجلوس عنه للمضطر ، وببدليّة الإضطجاع

__________________

(١) وسائل الشيعة ٣ : ٣٦١ الباب ١٢ من أبواب التيمّم.

(٢) مصباح الفقيه كتاب الطهارة ٦ / ٨٧ الطبعة الحديثة.

١٧٧

عن الجلوس للعاجز ، والإيماء عن السجود ، بل صرّح بالبدليّة في آخر البحث في مسألة : لو صلّى مضطجعاً هل عليه قصد البدليّة أو لا؟ وكذا لو صلّى جالساً ... (١)؟

هذا تمام الكلام في مقام الثبوت ، وقد ظهر اندفاع الإشكالات.

مقام الإثبات

ومرجع البحث في هذا المقام إلى أنّه هل من دليلٍ أو أصلٍ عملي يقتضي وفاء البدل بتمام مصلحة المبدل أو لا؟ وقد جعل في (الكفاية) البحث تارةً في الدليل ، واخرى في الأصل العملي ، فقال ما حاصله : إن مقتضى إطلاق دليل التيمّم كقوله تعالى (فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً) (٢) وقوله عليه‌السلام : «التيمّم أحد الطهورين» (٣) هو الإجزاء في كلّ موردٍ دلّ الدليل فيه على البدار ولم يُشترط الانتظار ، أو اشترط وجاء البدار عند اليأس ... ومع عدم الإطلاق فمقتضى أصالة البراءة عدم وجوب الإعادة ، لأنه بعد الإتيان بالعمل الاضطراري يشك في حال التمكّن من الاختياري في وجود الأمر بالإعادة ، وهو شك في أصل التكليف ، وهو مجرى البراءة. قال : وفي القضاء بطريقٍ أولى.

فمقتضى الدليل ثم الأصل ـ في نظر صاحب (الكفاية) ـ هو الإجزاء ، سواء في الوقت وخارجه ، وإنْ علّق بعض المحققين المحشّين كالمشكيني على الأولويّة (٤) فقال لم نفهم معناها ، والأصفهاني (٥) ذكر لها وجوهاً.

__________________

(١) مصباح الفقيه كتاب الصلاة : ٢٦٦ ط حجري.

(٢) سورة النساء : ٤٣.

(٣) وسائل الشيعة ٣ / ٣٨١ الباب ٢١ من أبواب التيمّم برقم ١.

(٤) الحاشية على الكفاية ١ / ١٣١.

(٥) نهاية الدراية ١ / ٣٩١.

١٧٨

بيان الإطلاق

وقد أوضح المحقّق الأصفهاني (١) هذا الإطلاق ، وقرّره الاستاذ دام ظلّه بأنّه :

أوّلاً : إطلاقٌ في مقابل «الواو» لا «أو» ، لأنّه لو كان الواجب هو الإتيان بالصّلاة مع الطهارة المائيّة بالإضافة إليها مع الطّهارة الترابيّة لقال مثلاً : صلّ مع الطهارة الترابية. واخرى مع الطهارة المائيّة إن ارتفع العذر ، فلمّا قال : افعل هذا العمل الاضطراري بلا ضمّ الاختياري إليه ، كان الكلام مطلقاً يدل على إجزاء الاضطراري عن الاختياري ، فلا تجب الإعادة والقضاء.

وثانياً : هذا الإطلاق مقامي لا لفظي ، وذلك : لأن الإطلاق يقابله التقييد تقابل العدم والملكة ـ كما تقدّم في التعبّدي والتوصّلي ـ وإذا استحال التقييد استحال الإطلاق ، لكنّ التقييد هنا محال أو غير صحيح.

إن المدّعى هو إطلاق (فَتَيَمَّمُواْ) ، فإنْ اريد تقييد هيئة اللّفظ وأعني «الوجوب» ، بأنْ يكون وجوب التيمّم مشروطاً بالإتيان بالوضوء في آخر الوقت ، فهذا غير ممكن ، لأنّ التيمّم بدل عن الوضوء ، فكيف يتقيّد وجوب البدل بإتيان المبدل منه؟ فإنه مع تحصيل المبدل للمصلحة لا يعقل الأمر بالبدل ... وإذا استحال تقييد الهيئة استحال الإطلاق. وإنْ اريد تقييد المادّة وهو «الواجب» ، بأنْ يكون نفس الواجب ـ أعني التيمّم ـ مشروطاً بالإتيان بالوضوء ، كما أن الصّلاة مشروطة بالطهارة ، فهذا التقييد ممكن ولكنه غير صحيح ، لأن معنى ذلك بطلان الصّلاة مع التيمّم ، والمفروض صحّتها في أول الوقت ، غير أنها غير مستوفية لتمام الغرض ... وإذا بطل التقييد بطل الإطلاق.

__________________

(١) الاصول على النهج الحديث : (بحوث في علم الأصول) : ١١٦.

١٧٩

فظهر أن هذا الإطلاق ليس بلفظي ، بل هو مقامي ، ببيان أن المولى في مقام البيان لتمام غرضه ، ومع ذلك قد اكتفى بالصّلاة مع التيمّم ، وأوجبها على المكلَّف سواء تمكّن من الوضوء فيما بعد أو لا ، فيكشف ذلك عن حصول غرضه بالعمل الاضطراري ، وهذا هو الإجزاء.

أقول :

ذكر الاستاذ في الدورة السابقة : إمكان التقييد في هيئة (فَتَيَمَّمُواْ) ببيان أن القيد ليس هو الإتيان بالمبدل عنه ليكون محالاً ، بل هو إمكان الإتيان به ، والمفروض هو الإمكان ، إذ لا مانع من القول : إن كنت متمكّناً من الصّلاة بالطهارة المائيّة في آخر الوقت فعليك بها مع الطهارة الترابيّة في أوّله ، وإذا أمكن هذا ، كان الإطلاق هو الإتيان بها مع الترابية سواء أمكن الإتيان بها مع الوضوء أو لا؟

ولا يخفى أن الثمرة مع الإطلاق اللّفظي جواز التمسّك بأصالة البيان عند الشك في التقييد ، أمّا الإطلاق المقامي فلا يجري معه الأصل المذكور ، بل يتوقّف ثبوته على إحراز كون المولى في مقام البيان.

الإشكال على الإطلاق

وقد أورد على التمسّك بالإطلاق في الآية والرواية المذكورتين بأنه : مع القدرة على الطهارة المائيّة ـ ولو في طول الطهارة الترابية ـ ينتفي الموضوع في الآية والرواية ، إذْ لا ريب في أن المكلَّف به هو طبيعة الصّلاة المقيّدة بالطهارة المائيّة ، وبمجرّد التمكّن من فردٍ ما منها ـ سواءً كان فرداً عرضيّاً أو طوليّاً ـ يتبدّل عنوان عدم الوجدان إلى الوجدان ، فلا تيمّم ، فلا إجزاء.

إذنْ ، لا بد من دليلٍ خاصٍّ يدلّ على جواز البدار إلى الصّلاة في أوّل

١٨٠