تحقيق الأصول - ج ٢

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٢
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٠٠

وذكر للحكم العقلي في المقام بيان آخر ، وهو : إن الأمر بعث ، والبعث والانبعاث متضايفان ، والمتضايفان متكافئان قوّةً وفعلاً ، فلا يعقل وجود البعث وعدم وجود الانبعاث ، فالفورية ثابتة.

وفيه :

إن هذا القانون إنما هو في المتضايفين التكوينيين ، لا الأمرين الحاصل بينهما التضايف بالاعتبار ، فما ذكر يتمّ بين الابوّة والبنوّة الواقعيين ، أمّا لو اعتبر شخص أباً لشخصٍ ، فهذه الابوّة الاعتبارية لا يجري فيها القانون المذكور.

هذا أوّلاً.

وثانياً : إن الأمر بعثٌ إمكاني وليس بعثاً فعليّاً ، فهو ما يمكن أن يكون باعثاً إذا تعلَّق العلم به وكانت النفس مستعدة ... وإذا كان إمكانيّاً ، فالانبعاث أيضاً إمكاني ، فلا فوريّة.

الإطلاق

ثم إنّ مقتضى الإطلاق هو عدم الدلالة على الفور أو التراخي ، كما تقدَّم في الوحدة والتكرار تماماً ، فلا نعيد ... لكنْ لا بأس بالتنبيه على نكتةٍ وهي : إنّ هذا الإطلاق تام هنا ، سواء قلنا بحجيّة مثبتات الاصول اللّفظيّة أو لم نقل. وتوضيحه : إنّ اللّوازم العقليّة تارةً : تكون لوازم للحكم الواقعي فقط ، واخرى : تكون لوازم للحكم الواقعي والحكم الظّاهري معاً ، فإنْ كانت من الاولى ، فلا بدّ من إثبات حجيّة مثبتات الاصول اللّفظية وإلاّ لم يتم الإطلاق ، وإنْ كانت من الثانية ، فالإطلاق حجّة سواء كانت المثبتات للاصول اللّفظية حجّة أو لا.

١٤١

وفيما نحن فيه : يكون جواز التأخير عقلاً في الإتيان بالمأمور به من لوازم الإطلاق ، سواء كان ظاهريّاً أو واقعيّاً ، ولذا لو تمّ الإطلاق بالأصل العملي لا بالدليل الاجتهادي كان ظاهرياً ولازمه عقلاً جواز التراخي ، فجواز التراخي ليس بلازمٍ للحكم الواقعي فقط ، فلا فرق بين القولين في مثبتات الاصول اللفظيّة من هذه الناحية.

فما جاء في (المحاضرات) (١) من ابتناء تماميّة الإطلاق على البحث المذكور غفلة عجيبة.

الدليل الخارجي على الفور : الكتاب

واستدلّ للقول بدلالة الأمر على الفور بآيتين من الكتاب :

١ ـ قوله تعالى (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ...) (٢).

٢ ـ قوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ ...) (٣).

بتقريب : إنّ المغفرة فعل الله ، فلا معنى لأن يسارعَ إليها ، فلا بدّ من تقديرٍ مثل كلمة «السبب» أي : سارعوا إلى سبب مغفرة الله ، كي يصحّ الأمر بالمسارعة إليه ، لأنه من فعلنا وتحت اختيارنا ، والإتيان بالواجبات من أظهر مصاديق أسباب المغفرة ، فالواجبات يجب المسارعة إليها ... فالفور واجب.

ودلالة الآية الثانية أوضح ، فإن القيام بالواجبات من أظهر مصاديق الخيرات ، فيجب السبق إلى الواجبات بإتيانها مع الفورية.

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٢ / ٢١٣.

(٢) سورة آل عمران : ١٣٣.

(٣) سورة البقرة : ١٤٨.

١٤٢

وجوه الجواب

وقد أجابوا عن الاستدلال بالآيتين بوجوه :

الوجه الأول : إن سياق الآيتين يفيد أن الأمر فيهما للاستحباب ، إذ لو كان وجوبيّاً لجاء فيها التحذير من الترك. قاله صاحب (الكفاية) (١).

وفيه : ما لا يخفى ، إذ لو كان عدم التحذير من الترك دليلاً على الاستحباب ، لزم حمل كثيرٍ من الأوامر أو أكثرها على الاستحباب. على أنّ هيئة «افعل» تدلّ على الوجوب بأيّة مادّةٍ من المواد كانت ، ولا فرق بين «استبقوا» و«صلّوا».

الوجه الثاني : إن الأمر بالاستباق والمسارعة ليس مولويّاً بل هو إرشاد إلى حكم العقل بحسن المسارعة إلى تفريغ الذمّة والخروج من عهدة الأمر المتوجّه إلى المكلَّف. قاله صاحب الكفاية والمحقق العراقي والسيّدان الخوئي والحكيم (٢).

وأجاب العراقي : بأن للاستباق إلى الخير والمسارعة نحوه حسناً عقليّاً في موردين فقط ، أحدهما : أن يكون للاستباق والمسارعة خصوصيّة كالصّلاة في أول الوقت. والآخر : أن يكون في التأخير آفة.

وبحثنا هنا في نفس المسارعة والاستباق ... وليس فيهما حسن عقلي.

ولكنّه مخدوش : بأنّ في نفس المسارعة إلى القيام بما أمر به المولى حسناً لكونه انقياداً له ، وإنْ لم يكن في التأخير آفة.

بل الحق في الجواب : إن الأمر الشرعي إنما يحمل على الإرشاد ـ حيث

__________________

(١) كفاية الأصول : ٨٠.

(٢) كفاية الأصول : ٨٠ ، نهاية الأفكار ١ / ٢١٩ ، المحاضرات ٢ / ٢١٥ ، حقائق الأصول ١ / ١٨٩.

١٤٣

يكون في المورد حكم عقلي ـ إذا لزم فيه اللّغوية ، والمسارعة إلى الخيرات ـ وإن كان من شئون الطاعة ـ يترتب عليه الأثر ، وهو الأجر والثواب ، فليس لغواً ، فليس إرشاديّاً. وأيضاً : فمن الناس من لا ينبعث نحو أوامر المولى بحكم العقل ولا يتّبعون إلاّ الأوامر المولويّة ، فيكون لأمره بالمسارعة نحو الخير والطّاعة أثر ، فليس إرشاديّاً.

الوجه الثالث : إن ظاهر (فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ) تعدّد الخير لأنه صيغة جمع ، وإذا كانت خيراتٌ فيقع التزاحم فيما بينها ، وإذا وقع التزاحم خرجت الأفراد عن الخيرية إلاّ واحداً منها ، لأن المفروض كون العمل واجباً ، لكون الأمر للوجوب والبقيّة مزاحمات للفرد الواجب ، وإذا كانت مزاحمةً خرجت عن الخيريّة ، فلازم حمل الآية على الوجوب هو انحصار الخيرات بخير واحدٍ ، وهذا خلاف الآية المباركة ، فلا مناص من حملها على الاستحباب ، لأن المستحبات لا تخرج عن الاستحباب بالتزاحم .... نقله الأستاذ في الدورة السابقة عن المحقق العراقي ثم أورد عليه :

أوّلاً : إن معنى الآية هو الاستباق إلى أعمال الخير وإنْ كان واحداً ، فهو كما لو قيل : فاستبقوا الواجبات ، فإنه لا يلزم تعدّد الواجب.

وثانياً : لو كان التزاحم في الواجبات يخرج المزاحم عن الخيريّة تمّ ما ذكره ، ولكن المفروض أن التزاحم لا يؤدّي إلى سقوط الملاك وانعدامه ، فالمهمّ يبقى على الخيرية بعد سقوط وجوبه بالمزاحمة مع الواجب الأهم ، ولذا لو عصى الأمر بالأهم وجب الإتيان بالمهم بناءً على الترتّب.

والحاصل : إن التزاحم لا يخرج العمل عن الخيريّة إلى الشرّ ، بل التزاحم وقع بالنسبة إلى وجوبه لا خيريّته. نعم ، إنما يتمُّ ما ذكره بناءً على

١٤٤

اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه الخاص ، والقائل بهذا الوجه لا يقول بالاقتضاء المذكور.

الوجه الرابع : إنّ الآية «(فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ) لا علاقة لها بالبحث ، إذ هي خطاب لعامّة الناس وترغيب لأن يتسابقوا ، فيسبق بعضهم البعض الآخر إلى الخيرات ، ومحلّ الكلام ما لو كان الإنسان مكلَّفاً بواجبٍ فهل يجب المبادرة أو لا ، سواء كان هناك مكلَّف آخر بهذا العمل أم لم يكن.

وفيه : إن المطلب بلحاظ مادّة الاستباق كما ذكره ، لكنْ في التفاسير كمجمع البيان (١) من الخاصّة والرازي من العامّة (٢) في معنى الآية : ائتوا بالطّاعات على الفوريّة ، فهي تدل على الإسراع نحو الطّاعات ...

ومع الغض عمّا ذكروا بتفسير الآية ، فلو فرض كون المدلول هو التسابق ووجود المكلَّفين وتعدّد مورد التكليف ، فإنّ أهل العرف في مثل هذا المورد لا يفرّقون بين صورة تعدّد المكلّف ومورد التكليف وصورة عدم التعدّد فيهما.

الوجه الخامس : إن هذا الأمر استحبابي وليس بوجوبي ، فقد جاء لحمل المكلّف على السعي لتحصيل الثواب ، إذ لو حمل على الوجوب والإلزام لزم تخصيص الأكثر المستهجن ، وذلك لخروج المستحبّات التي لا ريب في كونها خيراً موجباً للمغفرة ، مع أن المسارعة إليها ليس بواجب.

وهذا هو الجواب الصحيح عن الاحتجاج بالآيتين ويختلف عن الوجه الأول في كيفية الاستدلال فلا تغفل.

__________________

(١) مجمع البيان ١ / ٢٩٦ ط الأعلمي.

(٢) تفسير الرازي ٤ / ١٣٣.

١٤٥
١٤٦

الإجزاء

١٤٧
١٤٨

وبحث الإجزاء من المباحث المهمّة علماً وعملاً ، إنه يترتّب على القول بالإجزاء عدم وجوب الإعادة والقضاء ، وعلى القول بعدمه وجوبهما أو التفصيل كما سيأتي.

وقد اختلفت كلماتهم في عنوان البحث :

فالقدماء وصاحب (الفصول) يقولون في العنوان : إن الأمر بالشّيء هل يقتضي الإجزاء أو لا؟ والمتأخّرون قالوا : هل إتيان المأمور به ... وعليه المحققون : الخراساني والأعلام الثلاثة.

فالموضوع على الأوّل هو «الأمر» ، وأمّا على الثاني فهو «إتيان المأمور به».

والعنوان عند المتأخرين مقيدً بقيودٍ ، سيأتي الكلام عليها بالتفصيل في المقدّمات.

هل الإجزاء من مسائل علم الاصول؟

وقبل الورود في البحث ومقدّماته ، فلا ريب في أنّ هذا البحث من المباحث الاصوليّة ، لأن نتيجته تقع في طريق استنباط الحكم الكلّي الشرعي ، وإنْ اختلف في كيفية وقوعه في طريق الاستنباط ، إذ لا خلاف في ترتّب الأثر على البحث ، سواء قلنا بالإجزاء أو قلنا بعدمه ، بخلاف قسم من المسائل ، كمسألة حجيّة خبر الواحد ، فإنه لا أثر للقول بعدم حجيّته.

١٤٩

وهل هو من مباحث الألفاظ؟

ثمّ إنه إنْ كانت الواسطة في الإثبات من الأحكام العقليّة ، كانت المسألة عقليّة ، وإنْ كانت أمراً لفظيّاً ، فهي مسألة لفظيّة كما هو واضح ...

فبناءً على عنوان (الفصول) يكون البحث لفظيّاً ، لارتباطه بالدلالة اللّفظية ، لأن اقتضاء الأمر إمّا مطابقي وامّا تضمّني وامّا التزامي ، فالواسطة في الإثبات من الدليل اللّفظي ، وبناءً على عنوان الجماعة ، يكون البحث عقليّاً ، إذْ لا ارتباط لإتيان المأمور به بعالم الألفاظ.

وقد عدل القوم عن عنوان القدماء ، لعدم دلالة الأمر بالشّيء ـ وهو مدلول الكتاب والسنّة اللّذين هما الموضوع لعلم الاصول ـ على الإجزاء.

أمّا مطابقةً فواضح.

وأمّا تضمّناً ، فكذلك ، فلا دلالة للأمر ـ بأيّ معنىً كان ـ على الإجزاء ، لا مطابقةً ولا تضمّناً.

وأمّا التزاماً ، فقد تقرّب الدلالة بأنّ الأمر معلول للغرض القائم بالمأمور به ، فهو دالٌّ على الغرض ، فإذا تحقق المأمور به تحقّق الغرض ، وحينئذٍ يحكم بالإجزاء ، فكان الأمر الكاشف عن الغرض دالاًّ بالدلالة الالتزاميّة العقليّة على سقوط الغرض عند إتيان المأمور به ، وبسقوط الغرض يتحقق الإجزاء.

هذا ، ولا يعتبر في الدلالة الالتزامية أن يكون لزوم اللازم بلا واسطة ، بل يكفي أن يكون لازماً ولو بواسطة أو أكثر.

لكنْ فيه : إن هذا التقريب موقوف على إثبات كون الأمر معلولاً للغرض ، وهذا فيه كلام ، وقد أنكره جماعة ، وإذا كان ذلك محتاجاً إلى الإثبات ، خرج اللّزوم عن اللزوم البيّن بالمعنى الأخص ، وحينئذٍ يحتاج إلى

١٥٠

دليل ، وإذا احتاج إلى الدليل ، خرج عن الدلالة الالتزامية.

ويمكن تقريب الدلالة الالتزامية ببيانٍ آخر بأن يقال : بأنّ البعث هو المدلول المطابقي للأمر ، ولازم البعث إلى شيء ـ باللّزوم العقلي البيّن غير المحتاج إلى الاستدلال ـ سقوطه بتحقّق المبعوث إليه ، لعدم تعقّل بقاء البعث والطلب مع حصول المطلوب والمبعوث إليه ...

وبهذا البيان يصلح بحث الإجزاء لأنْ يكون من مباحث الألفاظ ، ولكنْ لا في جميع مسائله وإنّما في مسألة إجزاء الأمر بالنسبة إلى نفسه ، أمّا بالنسبة إلى إجزاء المأمور به الاضطراري أو الظاهري عن الأمر الواقعي فلا.

فالصحيح هو التفصيل في المقام ، خلافاً لمن قال بعدم كون بحث الإجزاء من مباحث الألفاظ مطلقاً ، كالمحقّق الأصفهاني رحمه‌الله.

لكنّ التحقيق أن يقال : إنه إن كان النظر في عنوان البحث إلى حكم الإتيان بالمأمور به ـ بنفسه أو ببدله ـ من حيث الإجزاء ، فالبحث عقلي بلا إشكال في جميع مسائله ، لأن كون الإتيان بالشّيء أو بدله ـ الذي ثبتت بدليّته ـ مسقطاً للأمر أو غير مسقطٍ ، إنما يكون بحكم العقل ، ولا علاقة له بعالم الألفاظ.

وأمّا إنْ كان النّظر في حدّ دلالة الأدلّة في المسقطيّة ، بأنْ يراد البحث عن أن الأمر الاضطراري هل تدلّ أدلّته على إجزائه عن الأمر الاختياري أو لا؟ وأنّ مقتضى أدلّة الأمر الظاهري هو الإجزاء عن الأمر الواقعي أو لا؟ فإن البحث حينئذٍ يكون لفظيّاً ، لرجوعه إلى إطلاق أدلّة الأمر الاضطراري أو الأمر الظّاهري ، وعدم إطلاق تلك الأدلّة.

١٥١

عنوان البحث في الكفاية

وكيف كان ، فالذي في (الكفاية) : الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء في الجملة بلا شبهة.

فما المراد من «على وجهه»؟ ومن «الاقتضاء»؟ ومن «الإجزاء»؟

المراد من «على وجهه»

أمّا قيد «على وجهه» ففيه وجوه ، أحدها : قصد الوجوب في الواجبات والاستحباب في المستحبات. والثاني : الإتيان بالمأمور به بالكيفيّة التي تعلّق الأمر بها. والثالث : الإتيان به على الوجه المعتبر فيه عقلاً.

وقد ذهب المحقق الخراساني ومن تبعه ـ كالمحقق العراقي ـ إلى المعنى الثالث ، لأنّ اعتبار قيدٍ في المأمور به تارةً يكون من ناحية الشّرع ، بأنْ يأخذ شيئاً فيه على نحو الشرطيّة أو الجزئيّة ، ولإفادة هذا المعنى يكفي عنوان «المأمور به» ، لأنّه إنْ فقد قيداً أو شرطاً خرج عن كونه مأموراً به ، لكنّ هناك قيوداً ليس أخذها من ناحية الشارع ، مثل قصد القربة ، فإن اعتباره في العبادات من ناحية الشارع مستحيل ـ على القول باستحالة أخذه في متعلَّق الأمر ، كما تقدم بالتفصيل ـ لكنْ لا بدّ من أخذه واعتباره ، لعدم تحقق غرض المولى من التكليف العبادي بدونه ، فكان المعتبر له هو العقل.

فهذا هو المراد من «على وجهه» ، وليس قيداً توضيحيّاً كما قيل ، على أن الأصل في القيود هو الاحترازية.

وتلخَّص : إن مختار (الكفاية) هو أنّ القيود المعتبرة في المأمور به يكفي في اعتبار الشرعيّة منها كلمة «المأمور به» ، فلزم مجيء قيدٍ آخر لإفادة اعتبار القيود العقليّة أيضاً ، وهو كلمة «على وجهه».

١٥٢

وبما ذكرنا ظهر أنّ تعبير (الكفاية) أتقن من تعبير صاحب (المفاتيح) حيث قال : «إذا أتى المكلَّف بالمأمور به على الوجه المعتبر شرعاً ...» (١) لأنّ من القيود ما لا يمكن للشارع اعتباره ، بل المعتبر له هو العقل.

فمراد (الكفاية) ـ بعبارةٍ اخرى ـ هو : إتيان المأمور به على النهج الذي لا بدّ من أن يؤتى به ، ليكون أعمّ من التقييد الشرعي والتقييد العقلي.

وأمّا القول بأن المراد هو قصد الوجه من الوجوب والاستحباب ، ففيه :

أوّلاً : إن الأكثر غير قائلين باعتبار قصد الوجه في العبادات. وثانياً : إنّ البحث في الأعم من الواجبات التعبديّة والتوصليّة ، وثالثاً : إن هناك خصوصيّات أخرى معتبرة في العبادات كالبلوغ والعقل وغيرهما ، ولا وجه لاختصاص هذا القيد والخصوصيّة بالذكر في عنوان البحث.

والحاصل : إن ما ذكره المحقق الخراساني هو الصحيح.

ولا يرد عليه ما ذكره السيّد البروجردي (٢) من أنّ عدم إمكان أخذ قصد القربة في المتعلَّق شرعاً ، وأنَّ المعتبر له هو العقل ، هو من الأنظار الحادثة بعد الشّيخ الأعظم ، وعنوان البحث بقيد «على وجهه» مما ذكر في الكتب قبل الشيخ ، فلا يكون الغرض من أخذه إفادة أخذ قصد الأمر بحكم العقل لا الشرع.

وذلك : لأن «قصد الأمر» هو واحد من القيود التي لم يمكن للشارع أخذها ، فكان المعتبر لها هو العقل ، كما أشرنا إلى ذلك ، فالمعتبرات العقليّة متعدّدة ، كعدم ابتلاء متعلَّق الأمر بالمزاحم كما ذكر بعضهم ، وكالفوريّة حيث

__________________

(١) مفاتيح الاصول للسيد المجاهد الطباطبائي : ١٢٥ ط حجري.

(٢) نهاية الأصول : ١١٢.

١٥٣

قبل بأنها معتبرة بحكم العقل في المتعلَّق ... إلى غير ذلك ... فما ذكره رحمه‌الله في الإشكال على صاحب (الكفاية) غير وارد.

كما أنه ليس المراد من أخذ القيد المذكور هو الردّ على القاضي عبد الجبار (١) ، إذ يكفي في ردّه أن الصّلاة مع الطّهارة المستصحبة مأمور بها بالأمر الظاهري الشرعي ، فلا حاجة إلى قيد على وجهه ، ولو اريد من الطهارة : الطهارة الواقعيّة ، فهي ـ أي الصّلاة ـ فاقدة لها ، والمأمور به غير متحقّق ، فلا حاجة إلى قيد «على وجهه» كذلك.

وعلى الجملة ، فالحق مع المحقق الخراساني ، في القيد المذكور.

المراد من «الاقتضاء»

إنه بناءً على التعبير بالأمر بالشيء هل يقتضي ... يكون «الاقتضاء» بمعنى الدلالة ، أي : هل الأمر يدلّ على الإجزاء أو لا؟ ، وأمّا بناءً على تعبير (الكفاية) ومن تبعه ، فلا محالة يكون «الاقتضاء» بمعنى العليّة ، لأن «الإتيان» فعل ، والفعل لا دلالة له على شيء ، فعلى القول بالإجزاء يكون الإتيان علةً لسقوط الأمر ، وعلى القول بعدمه فلا يكون علةً له.

والبحث على الأوّل لفظي ، وعلى الثاني عقلي.

لكنّ كون بحث الإجزاء عقليّاً ، إنما هو بالنظر إلى كبرى البحث ، حيث نقول : هل الإتيان بالمأمور به ـ بأيّ أمرٍ ـ يجزي عن ذلك الأمر أو لا؟ لكنْ بالنظر إلى صغرى البحث في إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي ، وإجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الاختياري ، فالبحث لفظي ، لأنّه يعود إلى حدّ دلالة أدلّة الحكم الظاهري وأدلّة الحكم الاضطراري.

__________________

(١) حيث استشكل على الإجزاء بما إذا صلّى مع الطهارة المستصحبة ثم انكشف كونه محدثاً ، فإن صلاته باطلة غير مجزية ، مع كونه ممتثلاً للأمر الاستصحابي.

١٥٤

فما ذهب إليه صاحب (الكفاية) من جعل المسألة عقليّة ، وأن الاقتضاء بمعنى العليّة ، إنما يتم في الكبرى ، لا في الصغرى ، ولا يخفى أن المهمّ في مسألة الإجزاء هو البحث الصغروي في الموردين ، فلا وجه لجعل البحث عنهما تطفليّاً ، ولعلّه قدس‌سره إلى هذا الإشكال أشار بقوله «فافهم».

إذن ، لا بدّ من التفصيل ، وعليه يكون «الاقتضاء» بمعنى العلّية بالنظر إلى كبرى البحث ، وبمعنى الدلالة بالنظر إلى البحثين الصغرويّين.

هذا ، وقد أشكل المحقق الأصفهاني بأنّ الأمر لا يمكن أن يكون علةً لسقوط الأمر ، لأن المفروض هو أن الأمر علّة للإتيان بالمأمور به ، والإتيان به إن كان علّةً لعدم الأمر يلزم كون الشيء علةً لعدم علّة نفسه ، وهذا محال. وبعبارة اخرى : العلّة منشأ للثبوت فكيف يكون منشأ للسقوط؟

وأجاب المحقق العراقي : بأنّ الذي كان علّةً للثبوت هو الوجود العلمي للأمر ، والذي هو منشأ سقوط الأمر هو الإتيان بالمأمور به بوجوده الخارجي.

وقال شيخنا دام بقاه : بأنّ إشكال المحقق الأصفهاني هذا يناقض مبناه في بحث التعبّدي والتوصّلي ، حيث ذهب هناك إلى أنّ الأمر الخارجي ليس بعلّةٍ للإتيان ، بل العلّة والداعي للامتثال هو الوجود العلمي للأمر ، والوجود العلمي غير متوقّف على الوجود الخارجي ، فمن الممكن أنْ يحصل للإنسان علم من غير أنْ يكون له مطابَق في الخارج.

ثم قال المحقق الأصفهاني :

إن الحق سقوط الأمر لعدم وجود علّته ، لأنّ علّة الأمر هي الغرض ، ومع تحقّقه لا تبقى علّة للأمر ، ومع انتفاء العلّة لا يبقى الأمر ، وإلاّ لزم وجود المعلول بلا علّةٍ.

١٥٥

أقول :

وقد وافق الاستاذ في الدورة اللاّحقة على هذا ، ولعلّه لذا فسّر الاقتضاء في الدورة بالسّابقة بانتهاء أمد العليّة ، وأوضحه بأن مناط عليّة كلّ علةٍ عبارة عن تحقق المعلول ، وبمجرّد تحقّقه لا يبقى مناط للعليّة ، والإتيان بالمأمور به يوجب انتهاء أمد عليّة العلّة ، لأن عليّتها هي لتحقق المعلول ، ومع تحقّقه فليس لبقاء العلّة مجال.

إلاّ أنّ هذا الجواب الذي وافق عليه الاستاذ ، إنّما يتم بناءً على تبعيّة الأوامر للأغراض ، وهذا مذهب العدليّة فقط.

المراد من «الإجزاء»

وقال صاحب (الكفاية) إن المراد من الإجزاء في عنوان البحث هو نفس معناه اللّغوي ، أي الاكتفاء ، فليس المراد منه سقوط الإعادة والقضاء ، نعم لازمه ذلك ، أي سقوط كليهما أو أحدهما وهو القضاء ، كما لو صلّى في الثوب المتنجّس عن نسيان ، فإن المشهور على الإعادة ، فإن خرج الوقت فلا قضاء.

والحاصل : إن المراد كفاية المأتي به عن المأمور به ، فقد يسقط الإعادة والقضاء ، وقد يسقط القضاء دون الإعادة ، على اختلاف الموارد بحسب الأدلّة.

وما ذكره متينٌ مقبول عند الاستاذ دام بقاه.

الفرق بين الإجزاء وبين المرة والتكرار وبين تبعية القضاء للأداء

وتعرّض صاحب (الكفاية) لبيان الفرق بين مسألة الإجزاء ومسألة المرّة والتكرار ومسألة تبعيّة القضاء للأداء ، فقال ما حاصله في الفرق بين الإجزاء

١٥٦

والمرّة والتكرار : إن البحث هناك هو في حدّ المأمور به ، وأن متعلّق الأمر هو الوجود الواحد من الطّبيعة أو الوجودات العديدة منها ، والبحث هنا هو بعد الفراغ من تلك الناحية ، وأنه كلّما كان المأمور به ـ الإتيان به مرّةً أو تكراراً ـ يكون مجزياً أو لا؟

فلا يتوهَّم عدم الفرق بين المسألتين ...

كما أن التفريق بينهما ، بأن مسألة المرّة والتكرار لفظيّة ومسألة الإجزاء عقليّة ، لازمه أنْ لا يكون بين المسألتين فرق على مسلك القدماء وصاحب (الفصول).

وأمّا الفرق بين المسألة ومسألة تبعيّة القضاء للأداء ، فإن تلك المسألة معناها كفاية الأمر الأوّل لإثبات وجوب قضاء الواجب الفائت ، فالقضاء تابع للأداء ، أو عدم كفايته بل يحتاج القضاء لأمرٍ جديد؟ فالبحث هناك عن متعلَّق الأمر من حيث وحدة المطلوب أو تعدّده. أما هنا ، فالبحث يأتي عن إجزاء الإتيان بالمأمور به وعدم إجزائه بعد الفراغ عن تحديده وتعيّنه. هذا أولاً.

وثانياً : إن الموضوع للقضاء هو عدم الإتيان بالمأمور به ، والموضوع للإجزاء هو الإتيان بالمأمور به ، فاختلف الموضوعان.

والبحث في الإجزاء في مسائل :

١٥٧

المسألة الأولى :

هل الإتيان بالمأمور به بصورةٍ عامّةٍ يقتضي الإجزاء؟

إن الأمر قد تعلَّق بالصّورة الملحوظة خارجاً ، والمأتي به هو نفس ذاك الذي أوجد في الخارج ، فهل إيجاده كذلك يكفي عمّا تعلَّق به ، ويسقط الأمرُ بذلك ، أو أنه لا يجزي ولا يكفي عنه ، والأمر باق ، فالإعادة والقضاء واجب؟

قال الاستاذ : إن الصحيح في عنوان البحث في هذه المسألة أنْ يقال : هل الإتيان بالمأمور به بنفسه أو ببدله يقتضي الإجزاء أو لا؟ والوجه في ذلك تعميم البحث للمسألتين الآتيتين ، حيث البحث فيهما صغروي ، والبحث هنا كبروي.

وعلى الجملة ، فقد ذكر في (الكفاية) أنّ العقل مستقل بالإجزاء.

وقد أوضح صاحب (الدرر) والمشكيني (١) وغيرهما كلام (الكفاية) بأن عدم الإجزاء يستلزم تحصيل الحاصل ، وهو محال ، وذلك ، لأنّ الأمر إذا تعلَّق بشيء ، وامتثل الأمر واتي بالشيء ، كان بقاء الأمر بعد ذلك ـ وهو يقتضي الامتثال والإتيان بالمأمور به ـ مستلزماً لطلب الحاصل.

وقد تبع الاستاذ المحققين الأصفهاني والعراقي في الخدشة في هذا التقريب ، بأنّ عدم الإجزاء ليس تحصيلاً للحاصل ، بل هو إيجادٌ للوجود

__________________

(١) درر الأصول ١ / ٧٧ ، الحاشية على الكفاية ١ / ١٢٤.

١٥٨

الثاني ، كما أن الإجزاء هو الاكتفاء بالوجود الأوّل ، وإيجاد الوجود الثاني والفرد الآخر ليس بإيجاد ما تحقّق وحصل وجوده.

بل الصحيح أنْ يقال : إنه عند ما يتعلَّق الأمر بشيء ويؤتى بذلك الشيء امتثالاً للأمر بجميع حدود الشيء وقيوده ، فبقاء الأمر بعد ذلك يستلزم وجود المعلول بلا علّة ، إذ الأمر معلول للغرض ، ولا يعقل عدم تحقّقه مع الإتيان بالمأمور به بجميع حدوده وقيوده ، ومع تحقق الغرض من الأمر لا بقاء للأمر ، وإلاّ كان معلولاً بلا علّة ... وهذا ما ذكره المحققان المذكوران ، على مسلك المتأخرين من جعل المسألة عقليةً كما تقدّم.

أمّا على مسلك القدماء وصاحب (الفصول) ، فإن الأمر نفسه يدلّ على الإجزاء ، بالدلالة اللّفظيّة اللزوميّة ، بناءً على عموم الدلالة الالتزاميّة اللّفظية للّزوم البيّن بالمعنى الأخص وبالمعنى الأعم معاً ، كما هو التحقيق (١).

الكلام في الامتثال بعد الامتثال وتبديل الامتثال

وعلى كلّ تقديرٍ ، فإن الامتثال حاصل والأمر يسقط.

ولكن هل يمكن الامتثال بعد الامتثال؟ وهل يمكن تبديل الامتثال؟ هذا ما تعرَّض له المحققون ، بالنظر إلى الروايات الواردة في أكثر من موردٍ ، الظاهرة في الامتثال بعد الامتثال ، كالإتيان بالصّلاة جماعةً بعد الإتيان بها مفرداً.

نظريّة المحقق الخراساني والمحقق النائيني

فمنهم من يصوّر المطلب ـ في مقام الثبوت ـ عن طريق تصوير الغرض

__________________

(١) قد أوضح الاستاذ هذا المطلب في مقدمةٍ للبحث في هذه المسألة ، في الدورة السابقة.

١٥٩

الأقصى من الأمر ، كالمحقّق الخراساني والمحقق النائيني (١). وحاصل كلامهما هو : إن الغرض من كلّ أمرٍ من الأوامر غرضان ، أحدهما : قائم بنفس متعلَّق الأمر ، والثاني : هو الغرض الأقصى من الأمر ، فإنْ تحقّق الغرض الأقصى فلا مورد لتبديل الامتثال ، ولكن قد يكون المتعلَّق هو الإتيان بالشيء فقط ، والغرض الأقصى غير حاصل منه ، فمع عدم حصوله يكون ملاك الأمر باقياً ، وحينئذٍ يمكن تبديل الامتثال بامتثال آخر.

ومثال ذلك : لو أمر المولى بالإتيان بالماء ، فإن الغرض المترتّب من ذلك أوّلاً هو تمكّن المولى من شرب الماء ، والغرض الأقصى من ذلك هو رفع عطشه ، فلو جاء العبد بالماء وأراقه في حلق المولى حصل الغرض الأقصى ولم يبق مجال لتبديل الامتثال ، أمّا لو جاء به ولم يشربه المولى بعدُ لرفع عطشه ، أمكن للعبد تبديل هذا الفرد من الماء بفردٍ آخر يتحقّق به الامتثال ويترتّب عليه الغرض الأقصى وهو رفع العطش.

وعلى هذا تحمل روايات إعادة الصّلاة جماعةً ، فإنّه يبدّل الصّلاة المأتي بها فرادى بصلاةٍ أتي بها جماعةً ، ويقدّمهما بين يدي المولى ، وهو يختار أحبَّهما إليه كما في الرواية.

إشكال الاستاذ

وقال الاستاذ دام بقاه بفساد الامتثال بعد الامتثال ، وأن تبديل الامتثال أفسد منه.

أمّا الامتثال بعد الامتثال ، ففيه : إن المفروض تعلّق الأمر بطبيعي المأمور به ، والمفروض اتّحاد الطبيعي مع الفرد ووجوده بوجوده ، فيكون انطباق

__________________

(١) كفاية الأصول : ٨٣ ، أجود التقريرات ١ / ٢٨٢.

١٦٠