تحقيق الأصول - ج ٢

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٢
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٠٠

الوجوب الغيري إلى التّضيق والتقييد في مقام الثبوت ، ويحتاج إلى بيان زائدٍ في مقام الإثبات ... بخلاف الوجوب النفسي ، حيث تكون الطهارة مطلوبةً سواء وجبت الصّلاة أو لا.

وكذا الكلام في التخييري والكفائي ، فوجوب الأول مضيَّق بعدم تحقّق العدل ، والثاني وجوبه مضيَّق بعدم قيام المكلَّف الآخر بالعمل ، بمعنى أنه يجب في ظرف عدم قيام الغير به لا أنه مشروط بعدمه.

فإذن ، لا يرد عليه ما ذكره المحقق الأصفهاني.

نظريّة السيد الحكيم وضعفها

وقال السيد الحكيم (١) بعدم الحاجة إلى الإطلاق أصلاً ، أمّا في الوجوب النفسي والغيري ، فالدليل على النفسية هو السيرة العقلائية ـ وليس الدليل ظهور اللّفظ والإطلاق ـ وأمّا في الوجوب التعييني والتخييري ، والعيني والكفائي ، فالدليل على التعيينية والعينية هو ظهور اللَّفظ ، وليس الإطلاق.

أما في الوجوب النفسي والغيري ، فإنّ كون الغرض من النفسي ناشئاً من نفس المتعلَّق وبلا ارتباطٍ بواجبٍ آخر ، لا يستفاد من ظهور اللّفظ ولا الإطلاق يدلّ عليه ، بل إنَّ بناء العقلاء وسيرتهم على أنّه إذا تعلَّق التكليف بشيءٍ حملوا الوجوب فيه على النفسيّة ولا يُقبل العذر فيه ، كما لو اعتذر لعدم امتثاله باحتمال كونه وجوباً غيريّاً وأنه كان عاجزاً عن ذلك الغير ، فهذا العذر لا يقبل منه.

وأمّا في القسمين الآخرين ، فظاهر اللّفظ هو الدليل ، لأنه إذا قال المولى : «يجب على زيدٍ أنْ يقوم» دلّ على خصوصيةٍ اقتضت توجّه الخطاب

__________________

(١) حقائق الاصول ١ / ١٨٠ ط البصيرتي.

١٢١

إلى زيد دون غيره ، فكان ظاهراً في الوجوب العيني ، ودلَّ على خصوصيةٍ اقتضت وجوب القيام دون غيره من الأفعال ، فكان ظاهراً في الوجوب التعييني ... فهذا الظهور اللّفظي موجود ، سواء تمّت مقدمات الإطلاق أو لا.

قال الاستاذ :

وفيه : إنّ السيرة العقلائية لا بد وأنْ ترجع إلى شيء ، إذ لا تعبّد في السيرة ، ومع عدم الدلالة اللّفظية ، وعدم الإطلاق المفيد للنفسيّة ، فلا حجّة أصلاً ، إذْ الحجة هي البيان ، وهو إمّا الظهور اللّفظي وامّا الإطلاق وامّا الأصل المثبت للتكليف ، وكلّها منتف ، فتكون السيرة بلا حجة ، وهي لا تكون بلا حجة ، إذ لا تعبّد فيها.

وأمّا الظهور اللّفظي في القسمين الآخرين ، فلا يخفى أنْ لا فرق بين الكفائي والتخييري من حيث أنّ كلاًّ منهما له عدل ، إلاّ أنه في الكفائي في طرف الموضوع ، وفي التخييري في طرف متعلَّق الحكم ، فلمّا قال : «يجب على زيدٍ أنْ يقوم» كان قوله ظاهراً فيما ذكره من أخذ الخصوصيّة في طرف الموضوع وهو «زيد» وفي طرف متعلّق الحكم وهو «القيام» ، فالخصوصيّة اخذت في الطرفين ، ولكنْ هل لها بديل أو لا؟ إن ظاهر الكلام ليس فيه دلالة على عدم أخذ البدل أو كفايته ، فيحتاج إلى الإطلاق ، ليدلّ على التعيينيّة والعينيّة ...

وهذا تمام الكلام في هذه المسألة.

وقد ظهر أنّ الحق مع (الكفاية).

١٢٢

الأمر عقيب الحظر

١٢٣
١٢٤

قد وقع الخلاف بينهم في مدلول الأمر الواقع عقيب الحظر ـ أو توهّم الحظر ـ وفي المسألة أقوال :

فقيل : إنه يفيد الوجوب ، وهو عن السيد المرتضى.

وقيل : إنه يفيد الإباحة ، وإليه ذهب جمع من الفقهاء.

وقيل : إنه تابع لما قبل الحظر.

والمختار هو : الإجمال ـ كما عليه صاحب (الكفاية) ـ فيرجع إلى مقتضى الأصل والقاعدة.

وهذه أهمّ الأقوال في المسألة.

ابتناء البحث على المختار في مسالة دلالة الأمر على الوجوب

لكن مقتضى التحقيق في هذه المسألة ابتناؤها على المختار في مسألة دلالة الأمر على الوجوب ، حيث قيل هناك بدلالته عليه من باب الظهور الوضعي ، وقيل : بدلالته من باب الظهور الإطلاقي ، وقيل : من جهة حكم العقل ، وقيل : من جهة السيرة العقلائية.

والوجه في ذلك هو : أنّ وقوع الأمر عقيب الحظر لا يوجب انعقاد ظهور في اللّفظ غير ما كان ظاهراً فيه ، إذ لا مناط للقول بظهوره في هذه الحالة في الوجوب ، ولا للقول بظهوره في الإباحة ، فإمّا يبقى على ظهوره السّابق ، وامّا يكون مجملاً.

أمّا على القول بأن الأمر حقيقة في الوجوب ، فإنّه يبقى دالاًّ على ذلك ،

١٢٥

لأنّه لو شك في دلالته على ذلك في حال وقوعه عقيب الحظر فأصالة الحقيقة تقتضي حمل الكلام على معناه الحقيقي ، والمفروض كونه حقيقةً في الوجوب ... اللهم إلاّ أن يقال بأنّ الحمل على ذلك هو مع الشك في وجود القرينة الصّارفة ، أمّا مع الشك في صارفيّة الموجود ـ كما نحن فيه ، حيث وقع الأمر بعد الحظر ـ فلا يحكَّم الأصل المذكور ... فتأمّل.

وأمّا على القول بدلالته على الوجوب من باب الإطلاق ، فقد يُشكل بأنّ وقوع الأمر عقيب الحظر يحتمل الصارفيّة والقرينيّة ، ومع احتمالها فلا ينعقد الإطلاق ، بل يكون مجملاً.

وقد ذكر الاستاذ هذا الإشكال في الدّورة السّابقة واعتمده ... إلاّ أنه عدل عنه في الدّورة اللاّحقة ، وجعل السرّ في عدم انعقاد الإطلاق : إن الأمر لمّا كان دالاًّ على الإرادة ، والوجوب إرادة ، وليس مع الإرادة في الوجوب شيء آخر ـ بخلاف غيره من الأحكام ، حيث يوجد مع الإرادة فيها شيء عدمي ، أي عدم المرتبة العالية من الإرادة ـ والدالّ على أصل الشيء في الأمر التشكيكي يكون عند الإطلاق ظاهراً في المرتبة العالية منه ، فيكون الأمر ظاهراً في الوجوب من باب الإطلاق. لكن مع كونه بعد الحظر ، يُشك في أصل الإرادة ، ويحتمل الإباحة مثلاً ، فلا يمكنُ التمسّك بالإطلاق.

وأمّا على القول بدلالة الأمر على الوجوب ببناء العقلاء ، فإن بناء العقلاء دليل لبّي ، وهل مع وقوعه بعد الحظر واحتمال قرينية الموجود يتحقق الظهور للكلام؟ وهل البناء المذكور موجود في هذه الحالة؟ إنه يؤخذ بالقدر المتيقّن ، وهو المورد الذي ليس واقعاً عقيب الحظر.

وأمّا على القول بالدلالة بحكم العقل ، فالحق في الإشكال هو ما ذكرناه

١٢٦

من أن أصل تحقّق الإرادة في مثل هذه الحالة مشكوك فيه ، فلا تصل النوبة إلى الإشكال ـ كما في (المحاضرات) (١) ـ بأنّ حكم العقل بالوجوب موقوف على عدم القرينة على الترخيص من ناحية المولى ، ووقوع الأمر عقيب الحظر يحتمل كونه قرينة.

وتلخَّص :

إنه على جميع المباني ، لا طريق لإثبات دلالة الأمر في المقام على الوجوب ، إلاّ على القول بأن أصالة الحقيقة أصل تعبدي ، بضميمة عدم صارفيّة الموجود.

وأمّا الأقوال الاخرى ، من دلالته حينئذٍ على الإباحة ، أو تبعيّته لما قبل الحظر ، وغير ذلك ، فلا دليل على شيء منها أصلاً. وما ذهب إليه السيد الأستاذ دام بقاه ـ من أن الصيغة ظاهرة في رفع التحريم والترخيص في العمل وتجويزه ، فلم يقم عليه دليلاً إلاّ ما أفاده بقوله : «كما يظهر من ملاحظة استعمالات العرف» (٢) وأنت خبير بما فيه ، لأنّ الاستعمالات الفصيحة أعمّ من الحقيقة ، ولو سلّم فخلّوه من القرينة غير ثابت.

القول بالإجمال

ولمّا كان المختار عند الاستاذ هو الإجمال ، فالنوبة تصل إلى البراءة شرعاً ، ثمّ عقلاً.

أقول :

وهلاّ جرى الاستصحاب ـ كما ذكر في الدورة السابقة ـ ، أي :

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ٢ / ٢٠٥.

(٢) منتقى الاصول ١ / ٥١٣.

١٢٧

استصحاب حكم الشيء الواقع مورداً للأمر عقيب توهّم الحظر ، من الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة؟ اللهم إلاّ على القول بعدم جريانه في الشبهات الحكميّة ، للتعارض بين الجعل والمجعول ، لكنّ الاستاذ ليس من القائلين بعدم جريانه فيها ، فتدبر.

١٢٨

المرّة والتكرار

١٢٩
١٣٠

هل الأمر يدل على المرّة أو التكرار؟ أو هل يدل على الدفعة أو الدفعات؟

هنا مقدّمات :

المقدّمة الاولى : ما هو المراد من المرّة والتكرار والدفعة والدفعات؟

قيل : المراد بالمرّة هو الفرد ، وبالتكرار هو الأفراد.

وقيل : المراد بالمرّة هو الوجود الواحد ، وبالتكرار هو الوجودات.

وقيل : المراد بالمرّة هو الدفعة ، وبالتكرار الدفعات.

والدّفعة تجمع مع وحدة الوجود وتعدّده ، فهي أعمّ من الفرد ، إذ الوجود الواحد المستمر يصدق عليه عنوان الدفعة ، مع اشتماله على أكثر من فرد ، فهي أعم منه ، وهو أخص من الدفعة ، والنسبة العموم المطلق.

والصحيح في عنوان البحث أنْ يقال :

هل الأمر يدل على الوجود الواحد أو على الوجودات ... بأنْ يفسّر المرّة بالوجود والتكرار بالوجودات ، لأنّ الأمر بالطبيعة لا يسري إلى الخصوصيّات.

المقدمة الثانية : إنه لا فرق بين الأمر والنّهي في المتعلَّق لأنه «الفعل» سواء في «افعل» و«لا تفعل» ، لكنّ امتثال الأمر يحصل بصرف وجود المتعلَّق ، أمّا امتثال النهي ، فلا يحصل إلاّ بترك جميع الوجودات ، فما هو السرّ في ذلك؟

إن أحسن ما يقال في ذلك هو : إنّه لا قدرة على الإتيان بجميع متعلَّقات

١٣١

الأمر ، فلا يمكن البعث نحو جميع وجودات الطبيعة ، وحينئذٍ ، فتحديده بمرتبةٍ دون اخرى يحتاج إلى بيانٍ ، وعدم البيان بالنسبة إلى مراتب المأمور به يكفي للقول بأنَّ المتعلَّق هو صرف وجود الطبيعة ، وأن الامتثال يتحقق بالإتيان بفردٍ منها.

أمّا النهي ، فالحال فيه على العكس تماماً ، لأنّ صرف الترك حاصل مع عدم النهي ، فصدور النهي لأجل صرف الترك تحصيلٌ للحاصل ، ثم تحديده بمرتبةٍ من مراتب النهي دون غيرها يحتاج إلى بيان كذلك ، فالإطلاق يقتضي إرادة جميع مراتب الترك.

المقدمة الثالثة : إن الأحكام الشرعيّة قضايا حقيقيّة ، فالحكم يتعدَّد على عدد المكلَّفين ، فقوله تعالى : (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) (١) يتعدّد الحكم فيه على عدد المستطيع ... هذا بالنسبة إلى الحكم ، وهل الأمر بالنسبة إلى الموضوع كذلك ، بأنْ يتعدَّد الحكم إذا تعدّد الموضوع ، كأنْ يقال بتعدّد الحكم بالصّلاة بعدد الزوال ، في قوله : تجب الصلاة عند الزوال؟

الحق : أنه لا ظهور لقوله «يجب الصلاة عند زوال الشمس» في وجوب الصّلاة كلّما حصل الزوال ، فتكون واجبةً على عدد ما يتحقق من الزوال ، إذ لا دليل عقلي ولا وضعي على ذلك ، بل المرجع في مثله هو القرائن ، فإنْ كانت قرينة من مناسبة الحكم والموضوع أو شيء من القرائن الخارجية فهو ، وإلاّ فالكلام ساكت عن الوحدة والتعدد ...

فما في (المحاضرات) (٢) من دعوى الظهور العرفي في التعدّد في المثال

__________________

(١) سورة آل عمران : ٩٧.

(٢) محاضرات في أصول الفقه ٢ / ٢٠٦.

١٣٢

ونحوه ، والظهور العرفي في الوحدة في الآية ونحوها ، لا يمكن المساعدة عليه ، بل يشهد بعدم الظهور سؤال السائل عن المقصود من الآية المباركة قائلاً : أفي كلّ عام (١)؟

الدلالة الوضعيّة منتفية

إنّه من حيث الدلالة الوضعيّة ، لا يدلّ الأمر لا على الوحدة ولا على التكرار ، ولا الدفعة ولا الدفعات ، وذلك : لأن صيغة الأمر مركّبة من المادّة والهيئة ، أمّا المادّة ، فلا تدلّ إلاّ على المعنى الحدثي ، وأمّا الهيئة ـ سواء كانت موضوعة للبعث النسبي ، أو النسبة الإيقاعية ، أو الطلب الإنشائي ، أو لإبراز الاعتبار النفساني ـ فليس في مدلولها المرّة ولا التكرار ولا الدفعة والدفعات ، هذا ، وليس لمجموع الهيئة والمادّة وضع آخر.

إذن ، لا دلالة وضعيّة للصيغة على شيء من المرّة والتكرار والدفعة والدفعات ... فلو أراد المتكلّم شيئاً زائداً عن الطبيعة كان عليه البيان ... والطبيعة كما تقدَّمَ ـ تتحقّق بالمرّة وتصدق بصرف الوجود ، فيحكم العقل في مقام الامتثال بفراغ الذمة بالإتيان بفردٍ من أفراد الطبيعة ، لكنَّ تحقّق الامتثال به أمر ، ودلالة الأمر على ذلك أمر آخر ، كما هو واضح.

التمسّك بالإطلاق

أمّا مع الشك في اعتبار المرّة أو التكرار ، فيشكل الأمر ، لأنّ الماهيّة من حيث هي هي لا يتعلَّق بها الغرض ، وأيضاً : ليس الغرض قائماً بالوجود الخارجي للماهيّة ، لأنّ الوجود الخارجي هو المحقِّق للغرض والمسقط للأمر ، فما هو متعلَّق الأمر حتى يكون هو الواجب؟

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ١٠ / ٢٢٥ باب وجوب الحج والعمرة.

١٣٣

إنه سيأتي في محلّه أن المتعلَّق هو الطبيعة ، لكنْ إمّا الطبيعة الملحوظة خارجاً كما عليه المحقق العراقي ، وامّا الطبيعة الموجودة بالوجود التقديري ، كما عليه المحقق الأصفهاني ، فالمتعلَّق ـ على أي حال ـ هو الطبيعة منضمّاً إليها الوجود ، لكنّ الوحدة والتكرار خارجان عن حقيقة المتعلَّق ، ولذا يُقيَّد المتعلَّق ـ وهو الطبيعة ـ تارة بهذا واخرى بذاك وثالثة لا بهذا ولا بذاك ... وحينئذٍ ، يتحقق موضوع الإطلاق ، والمفروض تماميّة مقدّماته وإحرازها.

فإنْ فرض عدم إحراز مقدّمات الحكمة سقط الإطلاق ، وتصل النوبة إلى الأصل العملي.

مقتضى الأصل العملي

ومقتضى القاعدة هو الرجوع أوّلاً إلى الاستصحاب ، لأنّ كلاًّ من التكليف بالوجود الواحد والتكليف بالوجودات مسبوق بالعدم ، فيكون قيد الوحدة أو التعدّد ـ وهو قيدٌ زائد على أصل الوجود ـ خصوصية زائدة لا يعلم بدخولها تحت الأمر أو عدم دخولها تحته ، والأصل العدم.

ومع المناقشة في هذا الاستصحاب ، تصل النوبة إلى البراءة ، وهي جارية عقلاً ونقلاً عند الشك في تعدّد الوجود والتكرار. أمّا بالنسبة إلى المرّة ، فتارةً : يحتمل كون المطلوب هو صرف الوجود بشرط لا عن بقيّة الوجودات ، فيكون المتعلَّق مقيّداً بعدم البقيّة وإتيانها مضرّاً بتحقق الامتثال ، ولمّا كان هذا القيد قيداً زائداً وكلفةً إضافيّةً فمع الشك تجري البراءة الشرعيّة والعقلية. واخرى : يحتمل المرّة غير المقيّدة بعدم التكرار ، ففي جريان البراءة الشرعية بحث ، فهي جارية بناءً على أن موضوعها هو «كلّ ما كان وضعه بيد الشارع فله رفعه» ، لأنّ للشارع أخذ القيد المذكور ، وأمّا بناءً على أن

١٣٤

موضوعها «كلّ ما كان في وضعه كلفة» فلا تجري ، لأن المفروض عدمها هنا ، وسيأتي أن ظاهر «رفع عن امّتي ...» هو الثاني ، لكون لسانه لسان الامتنان ، وهو يكون حيث ترفع كلفة عن المكلفين ...

أمّا البراءة العقلية فلا تجري ، لأن المفروض عدم احتمال العقاب.

ويبقى الكلام في امتثال الأمر في الأفراد الطوليّة فيها لو أتى بها بدفعةٍ واحدةٍ ، فهل كلّها امتثال؟ أو أنه يحصل بواحدٍ منها؟ أو لا هذا ولا ذاك؟ وتفصيل الكلام في بحث الإجزاء.

١٣٥
١٣٦

الفور والتراخي

١٣٧
١٣٨

هناك في الشريعة المقدّسة واجبات قام الدليل على كونها موسّعةً ، واخرى قام الدليل على كونها فوريّة ، ومن الفوريّة ما قام الدليل على سقوطه إنْ لم يمتثل ، فهو على سبيل وحدة المطلوب ، ومنه ما قام الدليل على عدم سقوطه بعدم الامتثال ، فالمطلوب فيه متعدّد ، وهذا على قسمين ، فتارةً : هو واجب فوراً ففوراً ، واخرى : لو فاتت الفوريّة انقلب إلى واجب موسّع.

لكنّ الكلام الآن في دلالة نفس الأمر على الفور أو التراخي ، فهل يدلّ على ذلك دلالة وضعيّة أو لا؟ وعلى الثاني هل من دليلٍ عامٍّ يدل أو لا؟ وعلى الأوّل هل هو عقلي أو نقلي؟

هل تدل الصّيغة على الفور أو التراخي؟

والحق : أنه لا دلالة للصّيغة على الفور ولا على التراخي ، تماماً كما تقدّم في مبحث الوحدة والتكرار ، لأنها مركّبة من المادّة والهيئة ، ولا دلالة لأحدهما على أحد الأمرين ... ولا نعيد ... فالدلالة الوضعية منتفية.

هل من دليل عقلي؟

وقد حكي عن الشيخ الحائري اليزدي (١) القول بدلالة الهيئة دلالةً عقليةً على الفور ، ببيان : إن وزان الإرادة التشريعية وزان العلّة التكوينيّة ، والأمر علّة تشريعيّة لحصول المتعلَّق ، وكما أن التكوينية لا تنفك عن المعلول ، فالتشريعيّة كذلك ، ونتيجة عدم الانفكاك هو الفوريّة.

__________________

(١) كتاب الصّلاة ، قضاء الفوائت : ٥٧٣.

١٣٩

قال الاستاذ :

ولا يتوهّم أن مراده أن الفوريّة مدلول الأمر ، بل هي لازم الإرادة التشريعيّة.

إذن ، ففي ناحية الهيئة من الصّيغة خصوصية توجب حكم العقل بالفوريّة.

ثمّ أورد عليه الاستاذ بما يلي :

أولاً : لقد أنكر بعضهم عليّة الأمر للمتعلَّق ، لكنّا نقول بها ، غير أنّ هذه العليّة ناقصة ـ بل إنّ علم المأمور بالأمر هو العلّة وعدم انفكاك المعلول عن العلّة إنما هو في العلّة التامّة.

وثانياً : لو سلّمنا العليّة ، فهو علّة تامّة لقابليّة المتعلَّق للتحقّق لا لفعليّته.

واكتفى في الدّورة اللاّحقة في الجواب : بأن قياس الإرادة التشريعيّة على الإرادة التكوينية في غير محلّه ، لأن نسبة الإرادة التشريعية إلى المراد هي نسبة المقتضي إلى المقتضى ، لا العلّة إلى المعلول كما في التكوينيّات.

وأمّا ما قيل في الجواب من أنّ : الوجوب والإيجاب متلازمان ، والخصوصيّات الزمانيّة والمكانية لا تدخل تحت شيء منهما ، والفوريّة خصوصيّة زمانيّة كما هو واضح ، فلا معنى لأنْ يتعلَّق الإيجاب بها.

فقد ضعّفه الاستاذ دام بقاه :

أوّلاً : بأنَّ الإيجاب والوجوب واحد حقيقةً ، وليس هما أمرين بينهما تلازم.

وثانياً : بأنّ الشيخ الحائري قد أخذ الفوريّة من عليّة الأمر لا من جهة الإيجاب ، حتى يقال بأنّها لا توجد لا في جهة الإيجاب ولا في جهة الوجوب.

١٤٠