تحقيق الأصول - ج ٢

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٢
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤٠٠

وأمّا شيخنا الاستاذ ، فقد أجاب عن كلا الشقّين ، وأفاد ما حاصله :

أمّا الشق الأوّل ففيه : إنّ من الغرض اللاّزم تحصيله ما لا يحصل إلاّ بالإتيان بالعمل بقصد القربة ، ومنه ما يحصل بدونه ، فمثلاً : ذكر الله تعالى بدون قصد القربة له أثر يترتّب عليه وغرض يحصل منه ، ولذكره تعالى أيضاً مرتبة أخرى لا يحصل الغرض منه إلاّ إذا كان مع قصد القربة ، فالغرض كما يحصل من الأمر الأوّل كذلك يحصل من الأمر الثاني ، فلا لغويّة.

وأمّا الشق الثاني ، فإن كلامه مبني على القول بأصالة الاشتغال فيما نحن فيه ، ولكنْ سيأتي ـ في مبحث مقتضى الأصل العملي ـ أن في المقام قولين : أحدهما : البراءة ، والآخر : هو الاشتغال ، وعلى الأوّل ، لا يكون الأمر الثاني لغواً. هذا أوّلاً.

وثانياً : حكم العقل بالاشتغال إنما هو في فرض الشك في حصول الغرض ، لكنّ الأمر الثاني المفيد للتقييد ـ كما هو المفروض ـ يكون كاشفاً عن الغرض ، فيكون عدمه كاشفاً عن إطلاق الغرض.

وثالثاً : إن وصول النوبة إلى حكم العقل بالاشتغال ، إنما يكون مع عدم جريان الأصل اللّفظي ، فلو جرى لم يبق موضوع لحكم العقل ، لأنه إمّا وارد عليه ـ كما هو الصحيح ـ أو حاكم عليه.

ورابعاً : إنّه قد ثبت في محلّه جريان البراءة الشّرعية مع وجود البراءة العقليّة ، فلا يكون حكم الشرع بالبراءة هناك لغواً ، فكذا هنا لا لغويّة لحكم الشرع بالاشتغال مع وجود حكم العقل به.

وتلخص : أنْ لا محذور عن التقييد بالأمر الثانوي.

١٠١

إشكال السيد البروجردي

وذكر السيد البروجردي (١) الإشكال في أخذ قصد الأمر الثانوي بوجهٍ آخر ، وهو : إن الأمر الأوّل قد تعلَّق بالصّلاة بلا قصد القربة ، ومن المعلوم أنها بلا قصدٍ للقربة لا يترتب عليها الغرض منها ، كما أن من الواضح أنّ هكذا عملٍ لا مصلحة فيه ولا ملاك ، فلا يكون الأمر به أمراً حقيقيّاً بل هو صورة الأمر ، وعليه ، فتعدّد الأمر لا يحلُّ المشكلة.

جواب الاستاذ

وأجاب الاستاذ دام بقاه عمّا ذكره بالنقض والحلّ.

أمّا النقض ، فإنه لا ريب في أنْ الأمر بالصّلاة ليس أمراً بالوضوء ، بل مطلوبيّة الوضوء في الصّلاة إنما هي بأمرٍ آخر غير الأمر المتوجّه إلى الصّلاة ، فدليل الصّلاة قوله تعالى ـ مثلاً ـ : (أَقِمِ الصَّلَاةَ) (٢)ودليل اعتبار الوضوء فيها قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ ...) (٣) لكنّ الصّلاة ذات المصلحة والملاك هي الواجدة للوضوء ، فيكون لازم كلامه قدس‌سره أنْ يكون الأمر المتعلّق بالصّلاة أمراً صوريّاً ، لأنّ اعتبار الوضوء فيها بأمرٍ آخر ... لكن لا يُظنُّ به الالتزام بصوريّة الأمر المتعلّق بالصّلاة.

وأمّا الحلُّ ، فإنّ صوريّة الأمر إنما هي فيما إذا كان متعلَّق الأمر أجنبيّاً عن الغرض ، أمّا إذا كانت نسبة المتعلَّق إلى الغرض نسبة المقتضي إلى المقتضى فالأمر حقيقي لا صوري.

إنّ الأمر بالصّلاة أمر بمقتضى الغرض ، غاية الأمر كون قصد الأمر متمّماً

__________________

(١) الحجة في الفقه : ١٢٤.

(٢) سورة الإسراء : ٧٨.

(٣) سورة المائدة : ٦.

١٠٢

لهذا الاقتضاء ، كما أنّ الصّلاة لها اقتضاء حصول الغرض ، إلاّ أنّ الوضوء متمّم لهذا الاقتضاء ... هذا من الجهة العقليّة ... ومن الجهة العرفيّة كذلك ، فإن أهل العرف يبعثون نحو الذات بأمرٍ ونحو قيدها بأمرٍ آخر ، فيكون للمقيَّد أمر وللقيد أمر ، ولا يرون الأمر المتوجّه نحو الذات أمراً صوريّاً ، بل هو عندهم أمر حقيقةً ، والسرّ في ذلك هو : أنّ متعلَّق الأمر إذا كان واجداً للملاك ومحصّلاً للغرض ولو بنحو الجزئية أو على نسبة المقتضي إلى المقتضى ، فالأمر عندهم أمر حقيقي لا صوري.

وعلى الجملة ، فإنّ هذا الوجه أيضاً مندفع ...

والحق : صحّة أخذ قصد الأمر في المتعلَّق بتعدّد الأمر.

هل يمكن أخذ سائر الدواعي؟

وبعد ، فإذا فرضنا عدم إمكان أخذ قصد الأمر ، لا في متعلَّق الأمر الأوّل ولا في متعلّق الأمر الثانوي ، فهل يمكن التقييد بوجهٍ آخر حتى يتمّ الإطلاق لعدم التقييد مع التمكّن منه؟

إن هناك جملة من الدواعي للعمل ، كقصد محبوبيّة العمل لله ، أو الإتيان بالعمل بداعي أنّ الله أهل للعبادة ، أو بقصد مصلحة العمل ، أو كونه حسناً؟

قال الشيخ الأعظم (١) بالإمكان ، فوسّع دائرة التقرّب إلى الله في العمل العبادي ، وأنه يحصل القرب والمقرّبية بشيء من هذه الدواعي أيضاً ، وحينئذٍ ، فلمّا كان المولى في مقام البيان ، وكان خطابه مجرّداً عن كلّ قرينةٍ دالّة على اعتبار شيء من ذلك ، أمكن التمسّك بالإطلاق ، وبذلك يتمّ الأصل اللّفظي لتوصّليّة العمل المردّد بين التوصّليّة والتعبديّة.

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٦٤.

١٠٣

والإشكالات ، على ذلك ثلاثة :

١ ـ المحقق الخراساني (١) :

قال : إنه وإنْ أمكن تعلّق الأمر بشيء من هذه الدواعي وجعله جزءاً من العمل المأمور به ، لكنّا نعلم قطعاً بعدم كونه كذلك شرعاً ، لأنّ العمل لو اتي به بداعي الأمر ومن دون التفاتٍ إلى أحد تلك الدواعي ، فلا ريب في تحقّق الغرض وحصول الامتثال وسقوط التكليف عن المكلَّف ، ولو كان شيء منها مأخوذاً من قبل المولى ودخيلاً في المأمور به ، لم يحكم بتحقّق الامتثال وسقوط الأمر.

جواب المحاضرات

وأجاب عنه في (المحاضرات) (٢) : بأن المأخوذ في متعلَّق الأمر ليس أحد الدواعي بعنوانه ، ليرد الإشكال المذكور ، بل المأخوذ هو الجامع بينها الملغى عنه القيود ـ إذ الإطلاق ليس بمعنى الجمع بين القيود ، بل حقيقته رفض القيود ولحاظ عدم مدخليّة شيء منها في المأمور به ـ كما لو قال المولى : عليك الإتيان بالعمل مضافاً إليَّ ومنسوباً إليّ ، وهذا يتحقّق بأيّ واحدٍ من العناوين المذكورة ، كأنْ يؤتى بالعمل بداعي المحبوبية أو الحسن أو وجود المصلحة فيه ، وهكذا ... وإمكان الإتيان بأحد هذه الدواعي يكفي لإمكان الإتيان بالعنوان الجامع ، لأنّ القدرة على حصّةٍ من الطبيعة تكفي لأنْ يأمر المولى بالطبيعة ، ولا يكون استحالة احدى الحصص ـ مثلاً ـ سبباً للعجز عن الطبيعة ... وعليه ، فبأيّ عنوان من العناوين المزبورة وقع العمل ، فقد

__________________

(١) كفاية الأصول : ٧٤.

(٢) محاضرات في أصول الفقه ٢ / ١٨٠.

١٠٤

انطبق العنوان الجامع قهراً ، وكان الإجزاء عقليّاً.

أقول :

وهذا الجواب قد ارتضاه الاستاذ في الدورة اللاّحقة ، لكنّ الظاهر توقّف صحّته على تماميّة الجواب عن الإشكال الثالث الآتي عن السيّد البروجردي.

٢ ـ الميرزا النائيني (١) :

قال : تقييد المتعلَّق بهذه الدواعي غير ممكن ، وذلك : لأنَّ وزان الإرادة التشريعيّة وزان الإرادة التكوينيّة ، وكما يستحيل تعلّق الإرادة التكوينيّة بهذه الدواعي ، فكذلك الإرادة التشريعيّة.

ووجه الاستحالة في التكوينيّة هو : إن حقيقة الداعي هو ما تنبعث عنه الإرادة في نفس المكلَّف للقيام بالعمل ، وتكون الإرادة متأخّرة في الرتبة عن الداعي ، لكونها معلولة له وهو بمنزلة العلّة لها ، وكلّ علّة فهي متقدّمة على معلولها ، وعليه ، فلا يمكن تعلّق الإرادة بالدّاعي ، لاستلزامه تقدّم الشيء على نفسه ، وهو باطل.

وإذا استحال هذا في الإرادة التكوينيّة ، استحال في التشريعيّة ، لكونها على وزانها.

إذن ، لا يمكن تعلّق الأمر بالعبادة مع داعي المحبوبية والمصلحة وغير ذلك من الدّواعي.

جواب المحاضرات

وأجاب في (المحاضرات) (٢) عن هذا الإشكال بجوابين ـ قال الاستاذ :

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ١٦٣ ـ ١٦٤.

(٢) محاضرات في أصول الفقه ٢ / ١٨٢.

١٠٥

كلاهما متين ـ :

أحدهما : النقض بما ذهب إليه الميرزا من جواز أخذ أحد هذه الدواعي في المتعلَّق بالأمر الثانوي ، المعبّر عنه بمتمّم الجعل ... لأنّ الوجه المذكور في تقريب الاستحالة لا يفرّق فيه بين أخذ الدواعي تلك ، في متعلَّق الطلب الأوّل أو الثاني.

والجواب الآخر هو الحلّ ، وذلك : إن ما ذكره الميرزا إنما يستلزم استحالة تعلّق خصوص الإرادة الناشئة عن أحد تلك الدواعي بنفس ذاك الدّاعي ، من جهة أن الإرادة الناشئة عن داع يستحيل أن تتعلَّق بالداعي نفسه ، لكونها متأخرةً عنه ، فلا يعقل تقدّمها عليه ، وأمّا تعلّق إرادة اخرى بذلك الدّاعي غير الإرادة الناشئة عنه ، فلا استحالة فيه ، ونحن نقول : إنّ الواجب مركّب من العمل الخارجي وأحد الدواعي المذكورة ، فكانت الإرادة المتعلّقة بالعمل الخارجي ناشئة عن أحد الدواعي ، لكنّ ذلك الداعي منبعث عن إرادة أخرى ، فلا يلزم الدور.

وعلى الجملة ، فإنّه قد تعلّقت الإرادة التشريعيّة من الشّارع بالصّلاة بداعي المصلحة ، فإنْ كان الداعي لهذه الإرادة نفس المصلحة ، لزم المحال ، لكنّ داعي المولى للإرادة التشريعية ليس هو المصلحة ، بل محبوبيّة الصّلاة مثلاً ... وإذا اختلف الداعيان ارتفع محذور الدور.

٣ ـ السيد البروجردي (١) :

قال : محذور الدور وعدم القدرة على الامتثال ، الواردان على أخذ داعي الأمر في المتعلَّق ، يردان في أخذ داعي المصلحة. فكما ترد الإشكالات فيما

__________________

(١) نهاية الأصول : ١٠١.

١٠٦

إذا تعلَّق الأمر بالصّلاة بداعي الأمر ، فهي واردة أيضاً فيما إذا تعلَّق بالصّلاة بداعي حسنها أو محبوبيّتها أو كونها ذات مصلحة ، إذ الأمر بعد تعلّقه بالفعل المقيَّد بإتيانه بداعي الحسن أو المحبوبيّة أو كونه ذا مصلحة ، يستكشف منه أن الحسن والمحبوبية والمصلحة إنما هي للفعل المقيَّد ، لا لذات الفعل ، لعدم جواز تعلّق الأمر إلاّ بما يشتمل على المصلحة ويكون حسناً ومحبوباً ، ولا يجوز تعلّقه بالأعمّ من ذلك ، وحينئذٍ ، فترد الإشكالات بعينها. أمّا الدور : فلأنّ داعويّة حسن الفعل أو محبوبيته أو كونه ذا مصلحة يتوقف على كونه حسناً أو محبوباً أو كونه ذا مصلحة ، وكونه كذلك يتوقف على داعوية الحسن أو المحبوبيّة أو كونه ذا مصلحة ، فيدور. وأمّا عدم القدرة في مقام الامتثال : فلأن الإتيان بالصّلاة بداعي حسنها ـ مثلاً ـ يتوقف على كون الذات حسنة ، والمفروض أن الحسن إنما هو للفعل المقيَّد. وبذلك يظهر تقرير التسلسل أيضاً.

الجواب

أوّلاً : بالنقض ، بمثل التوهين والتعظيم ونحوهما من العناوين الانتزاعيّة القصديّة ، فإنّ القيام لا يصدق عليه التعظيم إلاّ إذا كان بقصد ذلك ، لكن قصد التعظيم بالقيام موقوف على كون القيام من مصاديقه.

وثانياً : بالحلّ ، وهو الفرق بين الاقتضاء والفعليّة ، إذ الموقوف على المصلحة في العمل ـ وعلى القصد في التعظيم مثلاً ـ هو فعليّة القصد والمصلحة ، لكنَّ الموقوف عليه المصلحة والقصد هو عبارة عن الفعل الذي فيه اقتضاء المصلحة أو التعظيم ... فلا دور.

١٠٧

هل يمكن التقييد بلازم قصد الأمر؟

وهذا طريقٌ ثالث لتقييد المتعلَّق بعد فرض العجز عن تقييده بقصد الأمر الأول أو الثاني ، وعن تقييده بسائر الدواعي ، فهل يمكن للمولى أنْ يتوصّل إلى غرضه في الواجبات العباديّة بتقييد متعلَّق أمره بلازم قصد الأمر أو لا؟

توضيحه : إن الأعمال التي يقوم بها المكلَّف ، إمّا هي بالدّواعي النفسانيّة الباعثة عليها ، وامّا هي بالدّواعي الإلهيّة ، فلو قال المولى لعبده : افعل كذا لكنْ لا بداعٍ من الدّواعي النفسانيّة ، فقد أمره بالإتيان به بداعٍ إلهي ، فيكون قد أخذ في متعلَّق المأمور به هذا القيد العدمي ، ليكون مضافاً إلى المولى.

ولمّا كان المولى في مقام البيان ، وكان بإمكانه أخذ هذا القيد ، كان عدم أخذه له كاشفاً عن الإطلاق.

... هذا تمام الكلام في مقتضى الأصل اللّفظي الداخلي ، وهو الجهة الاولى من جهات بحث التعبّدي والتوصّلي.

٢ ـ الإطلاقُ الخارجي

والمقصود هو الأدلة اللّفظية ، فقد استدلّ بالكتاب والسنّة للدلالة على أنّ الأصل في الواجبات هو التعبديّة لا التوصليّة ، وأنّ ذلك مقتضى آيتين من القرآن الكريم ، وروايات كثيرة.

الاستدلال من الكتاب :

قوله تعالى : (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (١)

وقوله تعالى : (أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) (٢)

__________________

(١) سورة البيّنة : ٥.

(٢) سورة النساء : ٥٩.

١٠٨

وتقريب الاستدلال ـ كما ذكر المحقق الرشتي (١) ـ أمّا الآية الاولى ، فلأن اللاّم فيها للغاية والآية دالّة على الحصر ، فتفيد أنّ تمام الأمر وامتثاله إنما هو بالغاية من العبادة.

ثم أشكل أوّلاً : بأنّ مدلول الآية ليس التعبديّة ، وإلاّ لزم التخصيص المستهجن لأغلبيّة الواجبات التوصّليّة من التعبديّة في الفقه. وثانياً : بأن سياق الآية قرينة على أن المراد من الذين «امروا» هم «أهل الكتاب».

وقد اجيب عن هذا الإشكال بوجهين ، أحدهما : استصحاب الشرائع السابقة. والآخر : بأنّ في ذيلها (ذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (٢) وهذا الجواب أدق ، وهو للمحقق الخونساري في (مشارق الشموس) (٣).

وأمّا الآية الثانية ، فتقريب الاستدلال بها هو : إن الإطاعة ليس إلاّ الامتثال ، وهو لا يحصل إلاّ بقصد الامتثال.

وفيه : إن الطاعة تقابل المعصية ، وهي عبارة عن مخالفة الأمر ، فالطّاعة موافقة الأمر ، وليس الموافقة مقيَّدة بقصد الأمر. وأيضاً : فالتوصّليات أيضاً يقع فيها الطّاعة والعصيان ، مع عدم اعتبار قصد الأمر في الإطاعة فيها.

الاستدلال من السنّة :

واستدلّ من السنّة : بالأخبار الكثيرة الواردة في أنْ لا عمل إلاّ بالنيّة ، وإنّما الأعمال بالنيّات ... ونحو ذلك (٤) ...

والجواب : إنّها أجنبية عن اعتبار قصد القربة ، بل إنها ظاهرة في أنّ الثواب والأجر من الله يدور مدار النيّة ...

__________________

(١) بدائع الاصول : ٢٩١ ـ ٢٩٢.

(٢) سورة البيّنة : ٥.

(٣) مشارق الشموس في شرح الدروس : ٩٧.

(٤) ذكرها صاحب الوسائل في المجلّد الاول ، في الباب الخامس من أبواب مقدمات العبادات.

١٠٩

٣ ـ الأصلُ العملي

إن الأصل العملي المطروح أوّلاً في هذا المقام هو الاستصحاب ، ببيان : أنه قد كان العمل واجباً ، ومع الإتيان به بلا قصدٍ للأمر يشك في سقوط التكليف ، فيكون باقياً بحكم الاستصحاب.

الاستصحاب وإشكال المحقق الأصفهاني

وقد أورد عليه المحقق الأصفهاني (١) : بعدم جريانه ، لكونه بلا أثر شرعي ، لأنّ استصحاب الوجوب لإثبات وجوب قصد الامتثال أصل مثبت ، لأنّ قصد الامتثال ليس من الآثار الشرعية لبقاء الوجوب ، نعم هو من آثاره العقلية.

وإنْ اريد من إجراء الاستصحاب إثبات دخل قصد الامتثال في الغرض من الوجوب ، ففيه : إن الدخل في الغرض وعدمه من الامور الواقعيّة ، وليس أمراً مجعولاً من قبل الشارع كي يثبت بالتعبّد الشرعي.

وإنْ اريد من الاستصحاب إثبات موضوع حكم العقل بلزوم الطاعة ، بمعنى أنه إذا ثبت الوجوب بقاءً حكم العقل بلزوم الإطاعة كي يحصل غرض المولى من الأمر ، ففيه : إن استصحاب بقاء الوجوب لا يثبت موضوع حكم العقل بلزوم تحصيل الغرض ، لأن المفروض عدم قيام الحجّة على غرضه من جهة التعبدية.

فظهر سقوط هذا الاستصحاب بجميع الوجوه.

نقد الإشكال

قال الاستاذ دام بقاه : إن ما ذكره المحقق المذكور في الإيراد على

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٣٤٧.

١١٠

الاستصحاب إنما يتم لو اريد ترتيب أثر شرعي على الاستصحاب ، ولكنّ المستصحب فيما نحن فيه هو نفسه حكم شرعي ، وباستصحابه يثبت الموضوع للحكم العقلي ، لأنّ المستصحب هو «الوجوب» ، وإذا ثبت بقاءً تمّ اشتغال الذمّة ، والعقل يحكم بضرورة العمل لفراغها ، ولا شكّ في عدم اختصاص حكم العقل بلزوم الخروج عن عهدة التكليف بالوجوب الواقعي ، بل يشمل الوجوب التعبّدي الثابت بالاستصحاب أيضاً ...

الاشكال الحق

بل الحق في الإشكال ـ والذي غفل عنه المحقق الأصفهاني ـ هو عدم المقتضي للاستصحاب فيما نحن فيه ، وذلك : لأن الوجوب إنما ينتزع من الأمر والحكم ، فإنْ كان أمر كان الوجوب وإلاّ فلا ، وهنا لا يوجد أمرٌ ، إذ الأمر الشخصي المتعلّق بالصّلاة التي هي عبارة عن الأجزاء قد سقط بالإتيان بالأجزاء ، فلا تبقى داعويّة للأمر ، إذ الأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه ، فإذا تحقق سقط الأمر ، فهو غير موجود حتى يستصحب.

الاشتغال أو البراءة؟

وإذْ سقط الاستصحاب ، تصل النوبة إلى الأصل المحكوم به ، فهل المقام مجرى البراءة أو الاشتغال؟

إن مسألتنا من صغريات دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، فإنْ كان قصد القربة واجباً فالواجب هو الأكثر وإلاّ فالأقل ... مع العِلم بالتلازم بين التكليف والغرض ، في الثبوت والسقوط.

وقد ذهب المحقق الخراساني هنا إلى الاشتغال وعدم جريان البراءة مطلقاً ـ وإن كان مختاره في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين جريان

١١١

البراءة الشرعيّة دون العقليّة ـ والسبب في ذلك :

أمّا في البراءة العقليّة ، فلأنّ المفروض عنده عدم تمكّن المولى من أخذ قصد الأمر مطلقاً في المتعلَّق ، فلمّا تعلَّق الأمر بالصّلاة مثلاً ، حصل اليقين بوجود غرض للمولى من هذا الأمر ، ومع العلم الإجمالي بقيام الغرض إمّا بالأقل ، وهو الصّلاة بلا قصد القربة ، وامّا بالأكثر وهو الصّلاة معه ، كان مقتضى القاعدة هو الاشتغال ، إذ لا يحصل اليقين بحصول الغرض إلاّ بالإتيان بالصّلاة مع قصد القربة.

والحاصل : إنه مع وجود المنجّز بالنسبة إلى الغرض ، وهو العلم الإجمالي ، والشك في حصوله بدون القصد ، يكون العقل حاكماً بالاشتغال لا محالة.

وأمّا البراءة الشرعيّة ، فهي غير جارية كذلك ، لأن المفروض عدم تمكّن المولى من وضع قصد القربة ، وكلّما لم يكن الوضع بيده فلا يكون الرفع بيده ، فلا موضوع لحديث الرفع ، بخلاف مورد دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، فقد كان مقدوراً للمولى أن يجعل السورة ـ مثلاً ـ جزءاً من المتعلَّق ، ومع الشك في أخذه ووضعه ، يجري حديث الرفع.

فظهر أن العمدة في وجه نظره هو عدم إمكان أخذ القصد في المتعلَّق مطلقاً ، أي لا بالأمر الأوّل ولا بالأمر الثانوي ، مع كون القصد دخيلاً في الغرض.

ومما ذكرنا ظهر : أنّ الأصل يختلف باختلاف المبنى في البحوث المتقدّمة ، في إمكان أخذ القصد في المتعلَّق وعدم إمكانه ، بالأمر الأوّل أو بالأمر الثانوي أو بغيرهما ، وقد تقدّم إمكانه بالأمر الثانوي ، فهو يقبل الوضع ،

١١٢

فيكون قابلاً للرفع ، فلا يبقى ريب في جريان البراءة الشرعيّة.

وأمّا البراءة العقليّة ، فهي تجري أيضاً ، بناءً على التحقيق من أنّ وظيفة العبد حفظ أغراض المولى وتحصيلها ، كتكاليفه ، نعم ، كلّ غرضٍ وتكليف قامت عليه الحجّة ، وهنا لمّا كان المولى متمكّناً من البيان ، والمفروض عدم البيان ، فموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان متحقّق.

فالتحقيق : إن الأصل في المقام هو البراءة عقلاً ونقلاً.

ثم إنه يرد على صاحب (الكفاية) بأنه ـ وإنْ أنكر في المقام الإطلاق اللّفظي بعدم القدرة على التقييد ـ يرى جريان الإطلاق المقامي ، فإذا كان المولى في مقام بيان غرضه التام ، وكان قادراً على أخذ كلّ خصوصيةٍ لها دخل في غرضه ، وكانت الخصوصيّة مما يغفل عنها العامّة ، فلو لم يفعل أمكن التمسّك بالإطلاق والحكم بالبراءة ...

وما نحن فيه من هذا القبيل ، فكان عليه قدس‌سره بمقتضى ذلك أن يقول بالبراءة لا الاشتغال.

هذا تمام الكلام في التعبّدي والتوصّلي.

١١٣
١١٤

اقتضاء إطلاق الصّيغة

النّفسية والعينيّة والتعيينيّة

١١٥
١١٦

لو وقع الفقيه في شك بالنسبة إلى واجبٍ من الواجبات هل هو نفسي أو غيري؟ أو هل هو تعييني أو تخييري؟ أو هل هو عيني أو كفائي؟ فما هو مقتضى القاعدة؟

المرجع عند الشك هو الأصل اللّفظي ثم الأصل العملي ... أمّا الأصل العملي الجاري في هذا المقام ـ في فرض عدم الأصل اللّفظي ـ فسيأتي في مبحث مقدّمة الواجب.

التمسّك بالإطلاق

وأمّا الأصل اللّفظي ، فقد قال في (الكفاية) (١) : إطلاق الصّيغة يقتضي النفسية والعينية والتّعيينية ...

ومراده رحمه‌الله من هذا الإطلاق هو : إن الثلاثة المقابلة لهذه الثلاثة تحتاج ثبوتاً وإثباتاً إلى بيانٍ زائد ، لأنّ الوجوب الغيري وجوب له ارتباطٌ ثبوتي بوجوبٍ آخر ، كالوضوء بالنسبة إلى الصّلاة ، ففي الوجوب الغيري تقييدٌ واشتراط ، وكذا في الوجوب الكفائي ، لأنه يرتبط بعدم إتيان الغير للعمل ، فلو صدر العمل من أحدٍ فلا وجوب عليه ، وفي الوجوب التخييري تقيّد بعدم إتيان العدل ، فلو أطعم الستّين مسكيناً فلا وجوب لعتق الرقبة مثلاً ... فظهر : إن الثلاثة في عالم الثبوت فيها تقيّد وارتباط واشتراط ، وهذا التقيّد بحاجةٍ إلى بيانٍ زائدٍ في عالم الإثبات ، ولذا نرى الآية الكريمة في

__________________

(١) كفاية الأصول : ٧٦.

١١٧

الوضوء فيها كلمة (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) (١) وكذا في التخييري ، يؤتى ب «أو» وفي الكفائي كذلك.

فهذا مراد المحقق الخراساني من الإطلاق.

ثم إنّ هذا الإطلاق يمكن أن يكون إطلاق الهيئة ، ويمكن أن يكون إطلاق المادّة.

بيان الأوّل : عند ما نشكّ في وجوب الطهارة في حال القراءة ـ مثلاً ـ أنه وجوب نفسي أو غيري ، لا نشك في أصل الوجوب ، بل الشك في أن هذا الوجوب هل هو مشروط ومقيّد بوجوب الصّلاة أو لا؟ فإذا رجع الشك إلى اشتراط الوجوب ، فمعناه : كون مفاد الهيئة مقيداً ومشروطاً ، ومقتضى إطلاق الصيغة من جهة الهيئة هو الوجوب غير المقيَّد بالغير.

فهذا بيان إطلاق الهيئة لنفي الغيريّة.

وبيان الثاني : أنْ يرجع الشك ـ في نفس المثال المذكور ـ إلى تقيّد الواجب ـ لا تقيّد الوجوب ـ فعندنا دليلٌ على وجوب الطهارة ، ونشك في أنّ وجوبها هو للصّلاة ، بأنْ تكون الصلاة مقيدةً بالطهارة ، أو لا تقيّد؟ إذ من المعلوم أنّ كلّ واجب مشروط بشرطٍ ، فالشرط يكون دخيلاً فيه ، فتكون المادّة مقيَّدةً ، ومع الشك في التقيّد يتمسّك بإطلاق الواجب ـ المادّة ـ وتكون الصّلاة مثلاً ـ غير مشروطة بالطهارة ، فليس وجوب الطهارة غيريّاً.

هذا ، ولمّا كانت الاصول اللّفظيّة لوازمها حجةً ، فلازم إطلاق الهيئة أو المادّة هو نفسيّة الوجوب أو الواجب ، وعدم دخل القيد والشرط فيه ...

هذا توضيح مطلب صاحب (الكفاية) ، حيث تمسّك بإطلاق الصّيغة

__________________

(١) سورة المائدة : ٦.

١١٨

لإخراج ما ثبت وجوبه عن التردّد بين النفسية والغيرية ، والعينية والكفائيّة والتَعيينية والتخييرية.

بيان المحقق الأصفهاني

والمحقق الأصفهاني له تقريبٌ آخر للإطلاق ، يقول (١) : ليس المراد من النفسيّة أنْ يكون الشيء واجباً غير مرتبطٍ وجوبه بشيءٍ آخر ، بل إن تقريب الإطلاق هو أنه إن كان أمران لأحدهما قيد وجودي وللآخر قيد عدمي ، فإنّ عدم القيد الوجودي يكفي لإثبات الطرف الآخر المقيَّد بالعدم ، وتطبيق ذلك هنا هو : إنّ الواجب الغيري ـ كالوضوء ـ مقيد بقيدٍ وجوديّ هو : كونه واجباً لواجبٍ آخر ، فالوضوء يجب للصّلاة ، أمّا الواجب النفسي ـ الصّلاة ـ فليس له هذا القيد ، لأنه واجبٌ لا لواجبٍ آخر ، و«لا لواجبٍ آخر» قيد عدمي ، وحينئذٍ ، فعدم القيد الوجودي «لواجبٍ آخر» يكفي لأنْ يكون الواجب نفسيّاً ... وهذا معنى الإطلاق ، لأنّ الذي يحتاج إلى بيانٍ زائد هو القيد الوجودي «لواجب آخر» ، أمّا الذي هو واجب لنفسه فقيده «لا لواجب آخر» ، فنفس عدم التقييد بالقيد الوجودي يكفي لأنْ يكون الواجب نفسيّاً لا غيريّاً.

رأي الاستاذ في بيان الأصفهاني ودفاعه عنه

هذا ، وقد صرَّح الاستاذ في الدورة السابقة بمتانة بيان المحقق الأصفهاني ، وأجاب عمّا أورد عليه من أنّ العدم الذي هو في الواجب النفسي «لا لوجوبٍ آخر» ...

إنْ كان بنحو السالبة المحصَّلة ، فإنها تصدق مع عدم الموضوع أيضاً ، فقولك : زيد ليس بقائمٍ يصدق مع عدم زيد ، وكذلك هنا ، فإنّ «لا لوجوبٍ

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٣٥٣.

١١٩

آخر» يكون صادقاً مع انتفاء الوجوب الآخر رأساً ، وهذا باطل.

وإن كان بنحو العدم والملكة ، أو بنحو السالبة بانتفاء المحمول ، أي : لو كان وجوب آخر لكان هذا متّصفاً بعدم كونه لواجب آخر ، فهذا في ذاته قيد يحتاج إلى بيان زائد ، فيعود إلى كلام المحقق الخراساني.

فقال الاستاذ : إنه لا وجه لأنْ ينسب إليه القول بكون المورد من السّالبة المحصّلة ، لأنّ «لا» النافية في «لا لوجوبٍ آخر» هي وصف للوجوب ، فالوجوب النفسي عبارة عن الوجوب الذي تعلَّق بشيءٍ لا لواجبٍ آخر.

وأمّا القول بأنّه بناءً على العدم والملكة أو السالبة بانتفاء المحمول يكون قيداً ، فيحتاج إلى بيان.

ففيه : إنّ المحقق الأصفهاني يرى أن القيود العدميّة غير محتاجة إلى بيانٍ زائد ، وإن كانت هي قيوداً في مقام الثبوت ، وإنّما القيود الوجودية هي التي تحتاج إليه ، فعدم البيان على كونه واجباً لواجب آخر ، يكفي للدلالة على نفسيّة الوجوب.

تأييد الاستاذ بيان الكفاية

وفي نفس الوقت ، فقد دافع الاستاذ عن بيان صاحب (الكفاية) أيضاً ، فإنّه بعد أنْ قرَّبه في أوّل البحث ، أوضحه مرّةً أخرى ليندفع عنه إشكال المحقّق الأصفهاني ، فأفاد : بأنّ مراد المحقق الخراساني هو : إنّ الوجوب في الواجبات الثلاثة ـ الغيري ، التخييري ، الكفائي ـ مضيَّق ، والتضييق تقييد واقعي في الوجوب ، فهو يريد أن الغرض في الواجب النفسي مطلق ولا ضيق فيه ، بخلافه في الواجب الغيري ، فإنه مضيَّق ، مثلاً : الغرض من الوضوء مضيَّق بصورة وجوب الصّلاة ، ومع تضيّق الغرض يتضيَّق الوجوب ، فيرجع

١٢٠