تحقيق الأصول - ج ١

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-2501-93-9
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤١٦

قُسّم الوضع من حيث اللّفظ إلى : الوضع الشخصي والوضع النوعي.

وقُسّم من حيث المعنى إلى : الوضع العام والموضوع له العام ، والوضع الخاص والموضوع له الخاص ، والوضع العام والموضوع له الخاص.

ثم وقع الكلام في المعنى الحرفي.

والأصل في التّقسيم المذكور هو : إن الوضع يتعلّق باللّفظ والمعنى ، وهو ـ على جميع الآراء في حقيقته ـ عمل اختياري ، وكلّ عمل اختياري فإنّه يتصوَّر هو إنْ كان وحده ، وهو وأطرافه إن كان ذا أطراف.

واللّفظ عند ما يتصوَّر ، فتارةً : يكون موضوعاً للمعنى بمادّته وهيئته ، وأخرى : يكون موضوعاً له بمادّته دون هيئته ، وثالثةً : يكون موضوعاً له بهيئته دون مادّته.

فالأول : كزيد وغيره من الأعلام الشخصيّة ، وكأسماءِ الأجناس.

والثاني : كالضربْ مثلاً ، الدالّ على الحدث المعلوم ، فإنّه موضوع لذاك المعنى بمادّته فقط.

والثالث : كالضارب مثلاً ، فإنّ مادّته لا تدلّ على معناه الموضوع له ، وإلاّ لزم دلالة مثل يضرب عليه أيضاً.

هذا ، وقال المحقّقون بأنّ وضع الألفاظ في أسماء الأجناس ، وفي

٨١

الأعلام ، وكذا في الموادّ شخصيٌّ ، أمّا في الهيئات ـ كهيئة فاعل مثلاً ـ فهو نوعي ، فإنّ هذه الهيئة موضوعة لكلّ من قام به الفعل وصدر عنه.

فوقع الإشكال في المواد ، وأنّه كيف يكون الوضع فيها شخصيّاً؟ لأنّه إنْ كانت المادّة موضوعة لكلّ من يقوم المعنى به فيكون الوضع شخصيّاً ، لزم أنْ يكون الوضع في الهيئات ـ كضارب ومضروب مثلاً ـ كذلك ، لأنها موضوعة لذلك أيضاً ، مع أنْ الوضع فيها نوعي لا شخصي.

توضيحه : إنهم قالوا في المادّة بأنّ وضعها شخصي ، يعني : كما أن لفظ «زيد» موضوع لهذه الذات ، كذلك المادة ، كمادّة الضرب ونحوها. وليس المراد من الشخص هنا هو الفرد ، بل المراد نفس المادة ولو بطبيعتها ، في ضمن أيّ هيئَةٍ كانت ، فهذه الخصوصيّة أينما وجدت فهي موضوعة لهذا الحدث. وقالوا في الهيئات مثل هيئة الفاعل والمفعول وغيرهما بأن الوضع نوعي ، والمراد من ذلك أنّ الواضع عند ما يجد هيئة «ضارب» مندكّة في مادة «الضرب» فمن هذه الهيئة المندكّة في المادّة ينتقل إلى عنوانٍ انتزاعي يكون هو الموضوع من قبل الواضع عند لحاظ الهيئات ، فهو يلحظ هيئة ضارب فينتقل إلى عنوانٍ كلّي هو : كلّ ما كان على زنة الفاعل فهو موضوع لهذه النسبة ، ويلحظ هيئة المفعول فينتقل إلى عنوانٍ انتزاعي كلّي هو : كلّ ما كان على زنة المفعول فهو موضوع لهذه النسبة.

فالملحوظ في وضع المادّة هو المادة «ض ، ر ، ب» على الترتيب بين هذه الحروف ، يلحظها ويضعها للحدث الخاص ، الذي هو المعنى لها في اللّغة ، فيكون حال الوضع فيها حال الوضع في مثل زيد. أمّا في وضع الهيئات فالملحوظ الموضوع له هو العنوان الانتزاعي الجامع : «كلّ ما كان على زنة

٨٢

فاعل» أو «على زنة مفعول» وهكذا.

فالإشكال هو : لما ذا يمكن لحاظ المادّة بنفسها ووضع اللّفظ للحدث الخاص ، ولا يمكن لحاظ الهيئة بنفسها ، وما هو الفارق بينهما؟

جواب المحقق الأصفهاني

والوجه الذي ذكره المحقق الأصفهاني رحمه‌الله ـ وهو خير ما قيل في المقام لبيان الفرق هو : إن الامور الواقعيّة منها الجوهر ومنها العرض ، والجوهر غير محتاج في وجوده إلى العرض وإنْ كان غير منفكٍ عنه ، إذ لا وجود للجسم في العالم بلا شكل ، بخلاف العرض فإنّه في وجوده محتاج إلى الجوهر ، فبين الوجودين تلازم ، لكن الجوهر في حدّ ذاته لا يحتاج إلى العرض بخلافه فإنه محتاج إلى الجوهر.

وكذلك المعاني .. فقسم منها غير محتاجٍ في ذاته إلى الغير ، كالمعاني الاسميّة ، وقسم منها محتاج إلى الغير في حدّ ذاته ، وهو المعنى الحرفي.

إذا اتضح هذا ، فإنّ الهيئة مثل ضارب محتاجة إلى المادّة وهو الضرب ، كما أنَّ معناها ـ وهو النسبة الصدورية ـ محتاج إليها كذلك ، فضاربٌ هيئة مندكّة هي ومعناها في المادة وهي الضرب ، ولأجل هذا الاندكاك والفناء الذاتي لا يكون للهيئة قابلية اللّحاظ الاستقلالي ، فلا محيص في ناحية لفظها أنْ يكون الملحوظ والمتصوَّر عنوان «كلّ ما كان على هيئة فاعل» أو «على هيئة مفعول» وهكذا.

وعلى الجملة ، فإنّ المادّة غير مندكّة في الهيئة ، لذا كانت قابلة للّحاظ ، لذا كان الوضع شخصيّاً ، وأمّا الهيئة فإنها مندكّة في المادّة ، فهي غير قابلة للّحاظ ، لذا يكون الوضع نوعيّاً.

٨٣

مناقشة الاستاذ

هذا غاية ما أمكن ذكره في بيان الفرق بين المواد والهيئات ، من حيث قابليّة المواد للوضع الشخصي دون الهيئات.

وقد أورد عليه شيخنا في كلتا الدورتين بما حاصله : أنّ الهيئة إن كانت قابلة للّحاظ كانت قابلةً للوضع الشخصي وإلاّ فلا ... ثم أكّد على قابليّتها لذلك بأنّ حقيقة الهيئة هو الشكل ، فكما أنّ هيئة الدار مثلاً شكل طارئ على المواد الإنشائيّة والبنائية ، كذلك هيئة ضارب ومضروب مثلاً شكل طارئ على «ض ر ب» وإذا تحقّق كونها شكلاً ، فالشكل من الأعراض ، والأعراض إنما تحتاج إلى المادة في وجوداتها ، أمّا في اللّحاظ والتصوّر فلا.

ثم أوضح دام ظلّه ذلك : بأن ملاك القابليّة للّحاظ الاستقلالي وعدمها هو الصلاحيّة للوقوع طرفاً للنّسبة ، فما لا يصلح لأن يقع طرفاً للنسبة لا يصلح لأن يلحظ باللّحاظ الاستقلالي ـ كما هو الحال في واقع الرَّبط ، فلا يقع طرفاً لها ولا يمكن لحاظه إلاّ بطرفيه ـ والهيئات صالحة لوقوعها طرفاً للنسبة ، لصحّة قولنا : «هيئة مقتول عارضة على مادة القتل» و «هيئة ضارب عارضة على مادة الضرب» وهكذا. وأيضاً ، فإنّا نلحظ هيئة فاعل مثلاً في قبال سائر الهيئات ونقول : هذه غير تلك! وهذا هو ملاك شخصيّة الوضع ، ويؤيّد ذلك أيضاً قولهم : كلّما كان على زنة فاعل ... وكلّ ما كان على زنة مفعول ... فإنّه لا ريب في لحاظهم المادّة ثم الحكم بأنها إن وجدت في هيئة كذا دلَّت على كذا ...

وتلخّص ، إمكان اللّحاظ الاستقلالي في الهيئات ، وبهذا ظهر أن حكمها يختلف عن المعاني الحرفيّة.

٨٤

وإن كان الدليل على نوعيّة الوضع في الهيئات : عدم انفكاكها عن المادّة ـ بخلاف المادّة فتنفكّ عن الهيئة ، فلذا كان الوضع فيها شخصيّاً ـ فقد ذكر شيخنا أنه لا حاجّة أشد من احتياج الماهيّة إلى الوجود ، فتقوّمها به أشدّ بمراتب من تقوّم العرض بالجوهر ، لأنّ الماهيّة أينما وجدت لا يمكن ظهورها إلاّ بالوجود ، ولذا قالوا : تخليتها تحليتها ، ومع ذلك كلّه ، فللعقل القدرة على تجريد الماهيّة من الوجود ، وأن يحكم بأنّ الماهية غير الوجود ...

وتلخّص :

أن التفريق بين الهيئات والمواد غير صحيح ، وأن حكمها واحد ، والحقّ أن الوضع في كليهما شخصي.

والبحث في أقسام الوضع في جهات :

الجهة الاولى

أقسام الوضع بلحاظ المعنى الملحوظ حين وضع اللّفظ أربعة ، والحصر عقلي ، إذ المعنى الملحوظ إمّا أنْ يكون عامّاً أو خاصّاً ، فإنْ كان عامّاً فإمّا يكون الموضوع له نفس ذلك العام أو جزئيّاته ، وإنْ كان خاصّاً فإمّا يكون الموضوع له نفس ذلك الخاص أو كلّي ذلك الخاص.

فالأقسام في مقام الثبوت أربعة.

الجهة الثانية

لا إشكال في قسمين من الأقسام الأربعة ، وهما : الوضع الخاص والموضوع له الخاص ، وهو وضع الأعلام الشخصيّة. والوضع العام والموضوع له العام ، وهو وضع أسماءِ الأجناس كالفرس والأسد وغيرهما.

إلاّ أن هناك بحثاً في المراد من الوضع العام والموضوع له العام ، فقد

٨٥

يلحظ المعنى القابل للوجود والعدم ، والإطلاق والتقييد ، ويوضع اللّفظ لذاته المعرّاة عن كلّ ذلك ، ويعبَّر عن هذا بالماهيّة المهملة. وقد يلحظ المعنى مع تلك الخصوصيّات ، ويوضع للماهيّة اللاّبشرط عنها ، ويعبَّر عن هذا بالماهية المطلقة ، ويسمّى هذا العام بالعام الفعلي ، كما يسمّى ذاك بالعام الشأني.

إنّ كلاًّ من العامّين يقبَل الوضع ويمكن تحقّقه ، لكنّ مذهب المشهور هو العموم الفعلي ، ومذهب سلطان المحققين هو العموم الشأني.

ثم إنه إن كان اللّفظ في العام موضوعاً للماهيّة القابلة للصّدق على كثيرين مع لحاظ اللاّبشرطية بالنسبة إلى الخصوصيّات ، دَخَلَ الإطلاق واللابشرط في حيّز الموضوع له ، وحينئذٍ فلو اريد تقييد الماهيّة كالرقبة بالإيمان مثلاً ، لزم تجريدها عن خصوصية اللاّبشرطيّة ، فكان التقييد مجازاً. أمّا بناءً على الوضع للعموم الشأني فلا تلزم هذه المجازيّة.

وأيضاً : إذا كانت اللاّبشرطيّة داخلةً في حيّز المعنى الموضوع له ، كانت الدّلالة على الإطلاق والشمول بالوضع ، بخلاف مبنى السّلطان ، فإنها ستكون بمقدّمات الحكمة.

قال الاستاذ

قد ذكرنا إمكان الوضع على كلّ من النحوين ، إلاّ أنّ الحق مع السّلطان في أن الذي صدر من الواضع هو الوضع بنحو الماهيّة المهملة ، لأنّا نحمل على تلك الماهيّة كلاًّ من التقييد والإطلاق ، ونقسّم الماهيّة إلى المهملة والمطلقة والمقيَّدة.

هذا ، ولا يخفى أنه إن كان الموضوع له هو الماهيّة المهملة ـ الماهيّة من حيث هي هي ـ فإنّها غير قابلة للّحاظ ، والإهمال في الموضوع في مرحلة

٨٦

الجعل غير معقول عندهم ، فلا محيص عن القول بأنها تلحظ بواسطة الماهيّة اللاّبشرط القسمي ، أمّا الماهيّة اللاّبشرط فلا تحتاج في لحاظها إلى واسطة ، وقد أشار المحقق العراقي إلى هذا الفرق.

الجهة الثّالثة

في الوضع العام والموضوع له الخاص ، بأنْ يكون المعنى الملحوظ عامّاً يقبل الصّدق على كثيرين ، فيوضع اللّفظ بواسطته على كلّ فردٍ فرد.

قالوا : بإمكانه ، لأن العام وجه للخاص ، ومعرفة وجه الشيء معرفة الشيء بوجه ، إذْ لا يلزم في الوضع معرفة المعنى بالكنه.

قال الاستاذ

في هذا الاستدلال نقاط ، أمّا أنّ معرفة المعنى على الإجمال تكفي لصحّة الوضع ، ولا يلزم المعرفة التفصيلية والوقوف على كنه المعنى ، فهذا صحيح. وأمّا أنّ معرفة وجه الشيء معرفة للشيء بوجهٍ ، فهذا أيضاً صحيح. إنما الكلام في أنّ العام وجه للخاص ، وتوضيح الإشكال هو :

إنّ للعام مفهوماً ، وللخاص مفهوم ، فمفهوم «الإنسان» غير مفهوم «زيد» ، وهذه المغايرة مغايرة تباين ، وإذا كانت المفاهيم متباينات ، استحال أنْ يكون بعضها حاكياً عن الآخر ، ومع عدم الحكاية كيف تحصل المعرفة ولو بوجه؟

وأيضاً ، فإنّ مفهوم العام هو الصّدق على كثيرين ، ومفهوم الخاص هو الإباء عن الصّدق على كثيرين ، فكيف يكون الصدق على كثيرين حاكياً عن الإباء عن الصدق؟

فما ذكره صاحب (الكفاية) غير وافٍ بحلّ المشكلة.

٨٧

فقال المحقق العراقي بأن المفاهيم العامة على قسمين ، أحدهما : المفاهيم العامّة التي ليس لها قابليّة الحكاية عن المصاديق ، مثل «الإنسان» ، فإنه إنما يحكي عن ذات الإنسان وهو الحيوان الناطق ، ولا يحكي عن زيد وعمرو ... والقسم الآخر : المفاهيم العامة المنتزعة من نفس الخصوصيّات ، فهذا القسم يكون وجهاً لها ، مثل : مفهوم مصداق الإنسان ، وفرد الإنسان ، وشخص الإنسان. فداعي هذا القسم من المفاهيم من حيث انتزاعه عن الفرديّة هو الحكاية عن الفرد ، وحينئذٍ أمكن الوضع العام والموضوع له الخاص.

وأشكل عليه شيخنا بأن «مصداق الإنسان» إن كان عين مفهوم «زيد» و «عمرو» و «بكر» فلا يصحّ صدقه عليه ، كما لا يصحّ صدق مفهوم «زيد» على «عمر» وإنْ كان غيره فكيف يحكي مفهوم عن مفهوم؟ ومفهوم «مصداق الإنسان» إنما يحكي عن «زيد» من حيث أنه مصداق الإنسان ، ولا يحكي عنه من حيث أنه زيد ، وكلّ جامع فإنه يحكي عن الأفراد من حيث انطباقه عليها ولا يحكي عنها من جهة كونها أفراداً.

وذكر المحقق الشيخ علي القوچاني ، وتبعه المحقق المشكيني في (حاشية الكفاية) ما حاصله :

إنه إنْ اريد وضع اللّفظ بواسطة العام على الأفراد بما لها من الخصوصيات ، فهذا غير ممكن ، لكون مفهوم العام مبايناً لمفهوم الخصوصية ، ولا يكون المباين وجهاً لمباينه ، ولكن الموضوع له هو مفاهيم الجزئيات بلحاظ وجوداتها ، فالمفهوم الخاص هو الموضوع له بلحاظ وجوده لا بلحاظ مفهومه ، وحينئذٍ ، فلمّا كان الكلّي متّحداً وجوداً مع الفرد صار

٨٨

عنواناً له ، وكانت معرفة المعنون بالعنوان.

وأورد عليه شيخنا :

أوّلاً : بأن كون الموضوع له هو الوجودات لا المفاهيم ، غير معقول ، إذ الموضوع له هو ما يكون قابلاً لأنْ تتعلّق به الإرادة الاستعمالية ، فالموضوع له لا بدّ وأنْ يكون قابلاً للتفهيم ، والوجودات غير قابلة لذلك ، بل القابل للتفهيم ما يقبل الدخول في الذهن وهو المفهوم.

على أنّ معاني الألفاظ قابلة للوجود والعدم ، فكيف تكون الألفاظ موضوعةً للوجودات الخاصّة؟

وثانياً : إنّ المقصود أنْ نرى الجزئيّات والخصوصيّات بتوسط المعنى العام الكلّي الملحوظ لدى الوضع ، والاتحاد في الوجود لا يعقل أن يصير منشأً للعنوانيّة ، بأنْ يكون أحد المتحدين مرآة لرؤية الآخر ولحاظه ، ومن هنا ، فإن الجنس والفصل الموجودين بوجودٍ واحدٍ ، لا يكون الاتحاد الوجودي بينهما مصحّحاً لحكاية أحدهما عن الآخر ، وأوضح من ذلك مقولة الإضافة ، فإنها متّحدة مع المضاف في الوجود ، مع أنه لا يعقل أن يحكي أحدهما عن الآخر ، فلا تعقل حكاية الفوقية عن السقف والأبوّة عن الأب.

طريق آخر ذكره بعض الفلاسفة :

ولا يخفى أن مورد الكلام هو الوضع لخصوصيّات الماهيّة القابلة للصدق على الكثيرين ، لا الخصوصيات مع أمارات التشخّص ، فالبحث هو أن يكون الإنسان مرآة ينظر به حصص الإنسان من زيدٍ وعمرو وبكر ، لا تلك الحصص مع مشخّصاتها وأعراضها ، بأنْ يحكي الإنسان عن زيد مع ما له من الكم والكيف ، فإنّه ليس للعام هذه الصلاحيّة أصلاً ... فنقول :

٨٩

إن المفاهيم على أقسام :

فمنها : ما هو كلّي وهو مصداق لمفهوم الكلّي أيضاً ، مثل : «الإنسان» وسائر أسماء الأجناس ، فإنه مفهوم قابل للصّدق على كثيرين ، وهو مصداق لمفهوم الكلّي أيضاً.

ومنها : ما هو جزئي مفهوماً ، فلا يقبل الصّدق على كثيرين ، وهو مصداق لمفهوم الجزئي أيضاً ، مثل الأعلام الشخصيّة.

ومنها : ما هو جزئي مفهوماً ، لكنه مصداق لمفهوم الكلّي ، مثل «الشخص» و «الفرد» فهذا السنخ من المفاهيم مفاهيم جزئية وشخصيّة من حيث المفهوميّة ، ولكنها مصاديق لمفهوم الكلّي ، لذلك نقول : الجزئي جزئي مفهوماً وكلّي مصداقاً ، فهي جزئيّة بالحمل الأوّلي وكليّة بالحمل الشائع.

فهذا القسم الثالث له صلاحيّة الحكاية والكشف عن الحصص ، وذلك لأنّ هذه المفاهيم وإنْ كانت كليّةً من حيث الوجود ، إلاّ أن الوضع إنما هو للمفاهيم لا للوجودات ، وحينئذٍ ترى الاتحاد المفهومي بين مفهوم الفرد وواقع الفرد ، وبين مفهوم الشخص وواقع الشخص ، ولأجل هذا الاتحاد المفهومي تكون صالحةً للحكاية.

وهذا هو الأساس في صحة الأحكام على المفاهيم التي لها حكم بالحمل الأوّلي ، ولها حكم آخر بالحمل الشائع ، مثل قولنا : شريك الباري ممتنع ، فما لم يكن للموضوع وجود ذهني لا يحمل عليه «ممتنع» فشريك الباري موجود بالحمل الشائع ، والامتناع حكم واقع شريك الباري لا شريك الباري المتصوَّر ذهناً. وكذا مثل قولنا : اجتماع النقيضين محال ، المعدوم غير موجود ، وهكذا. فكما أن مفهوم اجتماع النقيضين له الصلاحيّة لأنْ يحكي

٩٠

عن اجتماع النقيضين الذي هو موضوعٌ لقولنا «محالٌ» فكذا عنوان «مصداق الإنسان» وكذلك «الفرد» و «الشخص» ... فله الصلاحيّة لأنْ يحكي عن الحصّة الواقعية للإنسان التي هي مصداق جزئي حقيقي.

وتلخّص : إمكان الوضع العام والموضوع له الخاص ، عن طريق التفصيل المذكور بين المفاهيم العامّة ، وتحقّق الوحدة المفهوميّة في قسمٍ منها ، فإنّه بالوحدة المفهومية وبالحمل الأوّلي تصير منشأً للحكاية عن الحصّة.

أقول :

هذا ما استقرّ عليه رأيه في الدورة المتأخّرة.

إلاّ أنه في الدورة السابقة أشكل على هذا الوجه بما حاصله : وجود الفرق بين مفاهيم «الفرد» و «الشخص» و «الجزئي» ومصاديقها ، لأن مفهوم الفرد مثلاً من حيث أنّه مفهوم الفرد يحكي عن جميع الأفراد واحداً واحداً ، أما واقع الفرد ومصداقه فلا حكاية له عن هذا وذاك من الأفراد ، والذي نحن بصدده هو الوصول إلى الواقع عن طريق المفهوم ، فالإشكال يعود ، لأنّ حيثيّة الواقع حيثية الإباء عن الصدق على كثيرين ، ومفهوم الفرد حيثيّته القبول للصدق على كثيرين ، فبينهما تناقض ، والنقيض لا يحكي عن نقيضه.

فإنْ قيل :

إنا إذا لم نتمكّن من لحاظ الجزئيات ، يلزم بطلان القضايا الحقيقيّة ، لأن الأفراد الحقيقية غير متناهية ، ولو لا لحاظها بواسطة العام ـ وهو العنوان الكلّي المتناهي ـ لم يمكن الوضع لها ، فلا تتحقق القضية الحقيقية.

قلنا :

٩١

ليس الحكم في القضايا الحقيقية بلحاظ الخصوصيات دائماً ، فلا يلزم في مثل : «كلّ من كان مستطيعاً فيجب عليه الحج» لحاظ أفراد المستطيع ، بل الحكم يتوجّه إلى كلّ مستطيع من حيث أنه مستطيع ، لا من حيث أنه زيد وعمرو وبكر ... وهذا القدر كاف في صحّة القضيّة الحقيقيّة.

لكنّ الكلام في المقام في لحاظ الخصوصيّة ـ بما هي خصوصيّة ـ بواسطة العام ، فبين المقام ومسألة القضية الحقيقيّة فرق ، وإنكار الوضع العام والموضوع له الخاص لا يضرّ بتلك المسألة.

الجهة الرابعة

في الوضع الخاص والموضوع له العام ، بأنْ يكون المعنى الملحوظ حين الوضع خاصّاً ، فيوضع اللّفظ بواسطته على العام القابل للصّدق على كثيرين.

وقد أنكر الكلّ هذا القسم إلاّ الميرزا الرشتي في (بدائع الاصول) (١) وحاصل كلامه:

إنه كما أن الجزئي يرى بواسطة الكلّي ، كذلك الكلّي يرى بواسطة الجزئي ، فإنّ «الإنسان» يرى مع «زيد» غير أنّه تارةً يوضع اللّفظ عليه من حيث أنه «زيد» ، واخرى يوضع عليه اللّفظ من حيث أنه «إنسان».

وقد أوضح ذلك بأن من يصنع معجوناً مركّباً من أجزاء ، تارة يلحظ المعجون بلحاظ كونه معجوناً خاصّاً ، واخرى يلحظه بلحاظ الخاصيّة التي فيه ، فالوضع باللّحاظ الثاني خاص والموضوع له عام ، فالفرق بين الوضع العام والموضوع له العام ، وبين الوضع الخاص والموضوع له العام ، هو الفرق

__________________

(١) بدائع الاصول : ٣٩.

٩٢

بين قولنا : كلّ مسكر حرام ، وقولنا : الخمر حرام لإسكاره ، فوزان القضيّة الاولى وزان العام والموضوع له العام ، لأنه يلحظ العام المسكر ويجعل الحرمة لهذا العام ، أما في القضيّة الثانية فالموضوع الملحوظ هو إسكار الخمر ، لكنْ لا يضع الحكم للإسكار المختص بالخمر ، بل إنّه يرى بإسكار الخمر عموم الإسكار ويضع الحكم لهذا العام.

وأشكل عليه شيخنا الاستاذ :

بأن الخاص والعام متقابلان متعاندان ، وكاشفيّة المعاند والمباين لمباينه محال.

وأمّا ما ذكره من المثال ، فجوابه ـ كما ذكر صاحب (الكفاية) ـ أنه لو كان الملحوظ في : «الخمر حرام لإسكاره» هو إسكار الخمر فقط ، فإن الحكم لن يتجاوز هذا الموضوع ، أي الخمر المسكر ، وإنْ اريد مِن «الخمر حرام لإسكاره» أن يكون إسكار الخمر وجهاً للإسكار ، فهذا غير معقول ، لأن إسكار الخمر لا يصير مرآة للإسكار ، كما أن إنسانية زيد لا تصير مرآة للإنسان. وإنْ أريد أنّا نلحظ إسكار الخمر ومن لحاظه ننتقل إلى طبيعة الإسكار ونجعل الحكم لهذه الطبيعة ، أو نضع اللّفظ للطبيعة التي انتقلنا إليها بسبب هذه الخصوصيّة ، فهذا ليس من قبيل الوضع الخاص والموضوع له العام ، بل هو من قبيل الوضع العام والموضوع له العام.

إذن ، الخصُوصيّة ـ سواء في الأحكام أو الأوضاع ـ لا تصير مرآةً وحاكيةً عن العام.

غاية ما هناك : إن الخصوصيّة تصير وسيلةً للانتقال ، ومنشأ للّحاظ ، فيكون العموم في الوضع والموضوع له كليهما ، بأن يُلحظ الفرد وتُلحظ بذلك

٩٣

الإنسانيّة الموجودة فيه ، وتصير الإنسانية الموجودة في هذا الفرد منشأً للانتقال إلى مفهوم الإنسان ، مثاله : أنْ يلحظ الشخص الذي في المسجد ، وينتقل إلى «الشخص» وإلى «مَن في المسجد» ويصير «مَن في المسجد» جامعاً انتزاعيّاً ، وهذا انتقال من الخصوصيّة إلى الجامع ، وهو أمر ، والحكاية والمرآتيّة أمر آخر ، إلاّ أنه قد وقع الخلط بين الأمرين في كلام المحقّق المذكور.

٩٤

المعنى الحرفي

ثم إنه قد وقع البحث بينهم في وقوع الوضع العام والموضوع له الخاص بناءً على إمكانه ، فقال جماعة بأن وضع الحروف من هذا القبيل ، وقال المحقق صاحب (الكفاية) بأن الوضع فيها عام والموضوع له فيها عام كذلك.

فالكلام في جهتين ، إحداهما : حقيقة المعنى الحرفي ، والأخرى : وضع المعنى الحرفي.

الجهة الاولى

قد ذكرت أقوال في معنى الحروف :

فقيل : إنها لا معنى لها أصلاً.

وقال الأكثر : إنها ذات معان.

فقال صاحب (الكفاية) : إن معنى الحروف ومعنى الاسم واحد ذاتاً.

وقال الآخرون : بالاختلاف الجوهري بين الاسم والحرف.

ثم اختلفوا في ذلك ، على أقوال.

وإليك التفصيل :

القول الأول :

أمّا القول الأول ، فهو مردود عند الكلّ ، إنه يجعل الحروف كعلامات الإعراب وحركات الكلمات ، فلا تفيد إلاّ خصوصيات المعاني.

٩٥

فيرد عليه : بأن تلك الخصوصية هي المعنى لا محالة.

القول الثاني :

والمهمّ نظريّة صاحب (الكفاية) ، والكلام حولها يكون بذكر مقدمات ، ثم بيان المدّعى ، والدّليل ، ثم الإشكالات على هذه النظريّة الوارد منها وغير الوارد.

أمّا المقدمات فهي :

أوّلاً : إن المعاني على قسمين ، فمنها ما لا يختلف باختلاف اللحاظ كمفهوم الانسان والحجر ، ومنها ما يقبل الاختلاف باختلاف اللحاظ ، مثل من والابتداء ، في والظرفية ... وهكذا. ومورد البحث هذا القسم.

وثانياً : إن ذات المعنى لا يختلف باختلاف اللحاظ ، فهو كالمرآة ، فإنها لا تختلف سواء لوحظت بما ينظر أو لوحظت بما به ينظر ، والمثال الدقيق هو الأعراض ، فالبياض على الجدار تارةً ينظر وصفاً للجدار ، واخرى ينظر إليه في مقابل الجدار ، وهو في كلتا الحالتين هو البياض ، ولا تختلف حقيقته.

وثالثاً : إن كلّ ماهيّة ما لم توجد لم تتشخّص ، إذ الخصوصيّة مساوقة للوجود ، كما أنها ما لم تتشخّص لم توجد.

ورابعاً : إن عمل الواضع هو لحاظ المعنى ووضع اللّفظ عليه ، وعمل المستعمِل هو لحاظ المعنى واستعمال اللّفظ الموضوع له فيه ، فتكون مرحلة الاستعمال متأخرة عن مرحلة الوضع ، كما أنّ الوضع متأخّر رتبةً عن المعنى الموضوع له اللّفظ ، وعليه ، فلا يمكن أن يتجاوز لحاظ المعنى في مرحلة الاستعمال إلى مرحلة الوضع ، ويستحيل أن يصير لحاظ المستعمِل عند الاستعمال جزءاً من المعنى الموضوع له اللّفظ.

٩٦

وخامساً : إن لحاظ المعنى في مرحلة الاستعمال من المستعمل ، يعني وجود المعنى في ذهن المستعمل ، وهذا الوجود لا يمكن أن يرد على المعنى الموجود ، بل يرد على المعنى ، لأن الماهيّة الواحدة لا تقبل الوجود مرّتين ، والموجود لا يقبل الوجود بموجودٍ آخر.

هذه هي المقدمات.

والمدّعى هو :

إن كلّ ما يأتي إلى الذهن من لفظ «من» هو الآتي إليه من لفظ «الابتداء» وكذا «في» و «الظرفية» و «على» و «الاستعلاء» وهكذا.

وتوضيحه مع إقامة الدليل عليه : إن الموضوع له إنما هو ذات المعنى ، وليس اللّحاظ داخلاً في حيّز المعنى ، فلا يمكن أن يكون اللّفظ موضوعاً للمعنى الملحوظ ، لأنه يستلزم أن يكون كلّ معنىً ملحوظاً عند الاستعمال ، والحال أنّ الملحوظ لا يصح أن يلحظ مرةً اخرى.

إن الواضع يضع لفظ «الابتداء» ولفظ «من» لذات المعنى ، غير أن المستعمل تارةً ينظر إلى المعنى شأناً وصفةً لغيره فيستعمل «مِن» واخرى ينظر إلى المعنى بالنظر الاستقلالي في مقابل المعاني الاخرى فيستعمل «الابتداء» تماماً كما هو الحال في المرآة و «البياض» كما تقدم.

فكون المعنى معنىً اسمياً أو حرفيّاً يرجع إلى مرحلة الاستعمال وكيفيّة لحاظ المستعمل في ظرف الاستعمال ، أمّا في مرحلة الوضع فلا اختلاف جوهري بينهما ، بل الموضوع له واحد وهو ذات المعنى.

فالآليّة الموضوع لها الحرف ، التي تخصّص المعنى ، هذه الآليّة إنما جاءت من ناحية اللّحاظ ، واللّفظ ليس موضوعاً لا للحصّة الخارجيّة ولا

٩٧

للحصّة الذهنيّة.

أمّا أنه غير موضوع للحصّة الذهنيّة ، فلأن الدلالة على هذه الحصّة إنما تكون نتيجة اللّحاظ باللّحاظ الآلي ، واللّحاظ الآلي إنما يكون في ظرف الاستعمال ، وهذا يستحيل أن يكون هو الموضوع له ، لكونه متأخّراً رتبةً كما تقدَّم ، فالحرف غير موضوع للمعنى الخاص الملحوظ الآلي الذهني.

هذا أوّلاً.

وثانياً : إذا كان اللّحاظ الآلي جزءاً للمعنى الموضوع له ، فإنه يستلزم أن يكون اللّحاظ الاستقلالي في وضع الأسماء أيضاً جزءاً للموضوع له ، والتالي باطل لعدم التزام أحدٍ به ، فالمقدّم مثله.

وثالثاً : إذا كان اللّحاظ الآلي والجزئيّة الذهنيّة داخلةً في وضع الحرف ، لزم أنْ يكون جميع استعمالاتنا مجازيّة ، وذلك لأنا نجرّد المعاني لدى استعمالها عن تلك الجزئيّة ، فيكون استعمالاً في غير ما وضع له.

وأمّا أنه غير موضوع للحصّة الخارجيّة ، فلأنّ كثيراً ما تستعمل الحروف في المعنى الجزئي الحقيقي ، لا الخارجي. ففي قولنا مثلاً : سرت من البصرة إلى الكوفة ، ليس المستعمل فيه لفظة «من» النقطة الخارجيّة. ولذا جعله بعض الفحول ـ وهو المحقق صاحب (الحاشية) على المعالم ـ جزئيّاً إضافيّاً فقال صاحب الكفاية : «وهو كما ترى» أي : لأن الجزئي الإضافي كلّي لا جزئي.

وتتلخّص نظرية صاحب (الكفاية) في :

١ ـ الحروف لها معان.

٢ ـ إنها متّفقة مع الأسماء المستعملة في معانيها. خلافاً للمشهور.

٩٨

٣ ـ إن الاختلاف إنما يأتي في الاستعمال من جهة لحاظ المستعمِل في ظرف الاستعمال ، وهذا لا يوجد اختلافاً جوهريّاً بين الاسم والحرف.

٤ ـ إنه ليس الموضوع له في الحروف المعنى الجزئي والخصوصية ، لا ذهناً ولا خارجاً ، فالوضع فيها عام والموضوع له عام.

هذا ، والجدير بالذكر : إن المحقّق الخراساني يجعل الآليّة والاستقلاليّة عبارةً عن الآليّة والاستقلاليّة في المفهوميّة ، يعني : كما أنّ الجواهر مستقلّة في الوجود خارجاً ولا تحتاج إلى شيء في تحقّقها ، وأن الأعراض بخلافها ، كذلك الاسم والحرف في التعقّل ، فالاسم يتعقّل مستقلاًّ ، أي : يأتي مفهوم «الابتداء» إلى الذهن غير قائم بشىء ، بخلاف الحرف ، فإنّه لا يأتي إلى الذهن إلاّ إذا كان معه «السير» مثلاً.

هذا تمام الكلام في بيان هذه النظريّة.

ما لا يرد عليه من الإشكال :

وإذا تبيّن واقع نظرية صاحب (الكفاية) ، فلا يرد عليه :

١ ـ أنه إذا كان بين الآليّة والاستقلاليّة فرق ، فمن المفاهيم الاسميّة ما يلحظ في الذهن آلةً للغير ، فيلزم أنْ يكون حرفاً ، كالتبيّن في قوله تعالى : (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ) (١) فإنّه ملحوظ آلةً ومرآةً للفجر ، مع أنه اسم.

وجه عدم الورود : أن مراده من الآليّة ـ كما تقدّم ـ عدم الاستقلاليّة في المفهوميّة ، و «التبيّن» في الآية الكريمة وإنْ كان طريقاً لمعرفة الفجر ، إلاّ أنه مستقلّ في التعقّل عن «الفجر» ولا يحتاج في ذلك إليه ولا إلى غيره ، فهو

__________________

(١) سورة البقرة : ١٨٧.

٩٩

اسم وليس بحرف.

٢ ـ إنّه تارةً يكون المعنى الحرفي ملحوظاً بالاستقلال ، كما لو علم بمجيء زيد ثم شك في أنه وحده أو معه أحد ، فيقال : مع عمرو. فإن هذه المعيّة أصبحت ملحوظة بالاستقلال ومقصودة بالتفهيم.

وجه عدم الورود : أن معنى «مع» أي الحرف ، غير مستقلّ في التعقّل ، فلو اريد مجيؤه إلى الذهن ، فلا بدّ من كونه قائماً بغيره من «مجيء» ونحوه ، أمّا حيث يراد إفادة معناه وهو المعيّة فهو اسم وليس بحرف.

٣ ـ قوله : بأن المعنى يتغيّر بحسب تعدّد اللّحاظ ، فيه : إن حقيقة اللّحاظ ليس بشيءٍ غير الوجود الذهني ، فإذا كان المعنى قابلاً لوجودين ذهنيّين ـ الوجود الآلي والوجود الاستقلالي ـ لزم أنْ يوجدا في الخارج كذلك ، أي يلزم أن تكون ذات المعنى خارجاً قابلةً للتقسيم إلى القسمين ، فإذا وجد المعنى الحرفي خارجاً بالوجود الاستقلالي ، احتاج إلى معنىً حرفي ليكون رابطاً ، وهكذا.

ولكنّ اللاّزم والتالي باطل ، فالملزوم والمقدّم مثله.

أورده المحقق الأصفهاني.

وأجاب شيخنا الاستاذ بعدم الملازمة بين البابين ، فقد يكون المعنى قابلاً للنوعين من الوجود في الذهن ، لكنه لا يكون في الخارج كذلك ، فالأعراض مثلاً لا تقبل في الخارج إلاّ الوجود بالغير ، لكنّها في الوجود الذهني تقبل النوعين ، وكالإنسان ، فإن الماهيّة واحدة ، وهي تقبل الوجود الذهني بنحوين : القابل للصّدق على كثيرين ، وغير القابل له ، فهي تقبل الوجود في الذهن بوجود الفرد الذهني ، وتقبل الوجود في الذهن بوجود الكلّي الطبيعي،

١٠٠