تحقيق الأصول - ج ١

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-2501-93-9
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤١٦

اختلفت كلمات المحقّقين في حقيقة الوضع على ستة أقوال أو أكثر ، ونحن نذكرها ونتكلّم عليها ، فنقول :

صاحب الكفاية

أمّا صاحب (الكفاية) قدس‌سره فلا يظهر من كلامه شيء عن حقيقة الوضع ، وإنما قال :

«الوضع هو نحو اختصاصٍ للّفظ بالمعنى وارتباط خاص بينهما ، ناشٍ من تخصيصه به تارةً ومن كثرة استعماله فيه أخرى ، وبهذا المعنى صحّ تقسيمه إلى التعييني والتعيّني» (١).

فهذا الكلام ـ كما لا يخفى ـ ليس فيه بيانٌ لحقيقة الوضع ، ولهذا قد لا يذكر كلامه في هذا المبحث إلاّ للإشارة إلى الخصوصيّات التي لحظها فيه ... كالسرّ في عدوله عن «التخصيص» إلى «الاختصاص» ، وأنّه لما ذا قال : «نحو اختصاص»؟ أمّا العدول المذكور فلأنّه وإن كان الوضع التعييني «تخصيصاً» من الواضع ، لكنّ الوضع التعيّني يحصل على أثر كثرة استعمال اللّفظ في المعنى ، فهو «اختصاص» لعدم المعنى للتّخصيص التعيّني. وأمّا التعبير ب «نحو اختصاص» فلأنّ الاختصاص على نحوين ، فتارةً : يوجد أثر تكويني في

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩.

٦١

المختصّ والمختصّ به ، كالاختصاصات الواقعيّة ، واخرى : لا يوجد ، ومن هذا القبيل وضع الألفاظ ، فهو «نحو اختصاص».

هذا ، والكلام في المقام حول حقيقة هذا الاختصاص ، لأنه علقة بين اللّفظ والمعنى موجودة بلا ريب ، وليست من سنخ الجواهر والأعراض ، لأنّها امور موجودة ، والعلقة بين اللّفظ والمعنى ـ كلفظ الماء وذاك الجسم البارد بالطبع السيّال ـ غير قائمة بالوجود ، فإنّها موجودة سواء وجد المعنى أو لا ... إلاّ أنّ وجودها يكون بالاعتبار كما لا يخفى ، لكن لا من سنخ الاعتبارات الشرعيّة والعقلائيّة لكون موضوعها هو الوجود الخارجي للبيع مثلاً في اعتبار الملكيّة ولزيد عند اعتبار الزوجيّة ، لما تقدّم من عدم تقوّم العلقة الوضعيّة بين اللّفظ والمعنى بالوجود ، لا ذهناً ولا خارجاً ... ولعلّ هذه الامور مقصودة لصاحب (الكفاية) في قوله : «نحو اختصاص» (١).

المحقق النائيني

وذهب المحقق الميرزا إلى أنّ حقيقة الوضع : تخصيص الخالق الألفاظ بالمعاني ، وهذا التخصيص أمر متوسّط بين التكوين والتشريع.

وتوضيحه : إن الألفاظ والمعاني غير متناهية ، لكنّ الوضع للامور غير المتناهية غير ممكن ، هذا من جهةٍ ، ومن جهةٍ اخرى : المناسبة الموجودة بين اللّفظ والمعنى ، كلفظ الماء ومعناه ليست بذاتيّة ـ كالمناسبة الذاتية بين النار والحرارة ـ بل هي جعليّة ، لكنّ أفراد الإنسان وأهل اللسان لا يعلمون بتلك المناسبة ، فلا بدّ وأن يكون الجاعل هو الله سبحانه ، فإنّه الملهِم لأن يعيّنوا اللّفظ الكذائي للمعنى الكذائي ، وهذا معنى كونه وسطاً بين التكوين

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ١١.

٦٢

والتشريع.

ولا يخفى ما فيه ، فإنّه ـ بغض النظر عن عدم قابليّة التخصيص للتعيين والتعيّن معاً ـ ليس الامور الواقعيّة إلاّ ما يوجد في الخارج بإزائها شيء ، كالجواهر والأعراض ـ عدا الإضافة ـ أو ما لا يوجد ذلك ، بل يوجد المنشأ للانتزاع كالفوقيّة والتحتيّة ونحوهما. وأمّا وجود أمر ثالثٍ يكون وسطاً بين الامور الخارجية الواقعية وبين التشريعية فهو غير معقول. هذا أوّلاً.

وثانياً : إنّ الوضع يتبع احتياج البشر في إفادة أغراضه ومقاصده ، فهو في الحقيقة يحلُّ محلّ الإشارة المفهمة ، فإذا ولد له مولود وضع له اسماً كي يناديه به متى أراده ، وكذا لو اخترع جهازاً ، وهكذا ... فليس الواضع هو الله ولا أحد معيّن من أفراد البشر. اللهم إلاّ أن يثبت بدليلٍ يقيني أنّ المراد من قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا) (١) هو أسماء الكائنات ، ولكن دون إثبات ذلك خرط القتاد.

المحقق العراقي

والمحقّق العراقي ذهب إلى أنّ الوضع عبارة عن : نحو إضافة واختصاص خاص يوجب قالبيّة اللّفظ للمعنى وفنائه فيه فناء المرآة في المرئي ، بحيث يصير اللّفظ مغفولاً عنه وبإلقائه كأنّ المعنى هو الملقى ، بلا توسيط أمرٍ في البين ، قال : ومن جهة شدّة العلاقة والارتباط بين اللّفظ والمعنى وفناء الأول في الثاني ترى سراية التعقيد من اللّفظ إلى المعنى ، وسراية الحسن والقبح من المعنى إلى اللّفظ.

وأورد عليه في (المحاضرات) بما حاصله : إنّ هذه الملازمة المجعولة

__________________

(١) سورة البقرة : ٣١.

٦٣

إمّا هي مطلقة للعالم والجاهل بها ، أو أنها مختصّة بالعالم بها ، فإن كانت مطلقة لزم أنْ يدركها الجاهل باللغة أيضاً ، وإنْ كانت لخصوص العالم بالوضع ، فإنّ العلم بالوضع متأخر عن الوضع ، فجعل العلقة الوضعيّة للعالم بها محال ، بل لا بدّ من أن يتحقق الوضع ، ثم يحصل العلم به ، ثم تجعل الملازمة لخصوص العالم.

وأجاب شيخنا دام ظلّه : بأنّ هذا الإيراد بعد الدقّة في كلام العراقي غير وارد ، لأنّه يرى أن الجعل هنا هو كسائر المجعولات الأدبيّة ، فكما أن الجاعل يضع المرفوعية للفاعل والمنصوبيّة للمفعول ، كذلك يجعل اللّفظ مبرزاً للمعنى ، وعلى هذا ، فكما أنّ القواعد في العلوم الأدبيّة قابلة لتعلّق العلم والجهل فكذا الاختصاص الوضعي بين اللّفظ والمعنى ، وكما لا معنى للسؤال عن أن تلك القواعد مجعولة لمطلق الناس أو لخصوص العالمين ، فكذلك اختصاص اللّفظ بالمعنى ، وعلى الجملة ، فإنّ هنا اعتباراً خاصّاً بين طبيعيّ اللّفظ والمعنى ، بغضّ النظر عن العلم والجهل. هذا أوّلاً.

وثانياً : إن حلّ المطلب أنّه لا مانع من القول بكون المجعول في باب الوضع هو : اختصاص اللّفظ بالمعنى من باب الملازمة ، بأن تكون هذه الملازمة نظير الملازمات الخارجيّة ، كالتي بين النار والحرارة ، فإنها موجودة سواء علم بها أولا ، وهنا يجعل الجاعل الملازمة بين اللّفظ والمعنى ، وهو جعل مهمل بالنسبة إلى العالم والجاهل ، والسرّ في ذلك هو : إن الاهمال ليس بغير معقول على الإطلاق ، بل كلّ انقسامٍ كان من خصوصيّات نفس الجاعل فالإهمال فيه غير معقول ، مثلاً : الرقبة تنقسم إلى المؤمنة والكافرة واعتبار وجوب العتق تعود كيفيّته إلى المعتبر ، فتارةً يجعله مع لحاظ الرقبة لا بشرط

٦٤

من الخصوصيّتين واخرى يجعله بشرط ، فهنا الإهمال غير معقول ، لأنّ المجعول المنقسم موضوعه إلى قسمين مثلاً لا بدّ وأن يلحظ في مرحلة الجعل. لكن هذه القاعدة ليست مطّردة في جميع الموارد ، فالماهيّات مثلاً بالنسبة إلى الوجود والعدم لا هي مطلقة ، ولا هي مشروطة ، بل الماهيّة بالنسبة إلى الوجود مهملة.

وعلى الجملة ، فإن الجاعل للملازمة يعتبر تلك الملازمة ـ الثابتة بين اللوازم وملزوماتها ـ بين اللّفظ والمعنى ، وهذا الشيء المعتبر تارة يكون معلوماً واخرى مجهولاً.

فما ذكره في المحاضرات غير وارد على المحقق العراقي ، عند شيخنا الاستاذ ، وكذا عند سيدنا الاستاذ ، لكنْ ببيان آخر ، فراجع (المنتقى).

وأورد شيخنا دام بقاه في الدورة السابقة ـ التي حضرناها بأنّ عمليّة الوضع من الامور المألوفة عند كلّ فردٍ ، فإن الشخص عند ما يضع اسماً على ولده ، فإنّه لا يعتبر هذا الاسم ملازماً لذات الولد ، بل إنها ـ أي الملازمة ـ لا تخطر بباله أبداً ، غير أن أثر هذه التسمية هو تبادر المسمّى إلى ذهن السّامع عند سماع الاسم بعد العلم بالتّسمية ، فتكون الملازمة حينئذٍ موجودة لكنها غير مقصودة لا للواضع ولا لغيره.

ثم عدل عن هذا الإشكال في الدورة المتأخّرة بعد التأمّل في كلام المحقق العراقي في (المقالات) تحت عنوان «إيقاظ فيه إرشاد» فذكر أنّه وإنْ تكرّرت كلمة «الملازمة» في كلامه ، إلاّ أنه قد أوضح تحت العنوان المزبور أنّ حقيقة الوضع : تعلّق الإرادة بنحو اختصاص ، وبهذا النحو من الاختصاص تتم مبرزيّة اللّفظ للمعنى وقالبيّته له ، فالمعتبر عنده هو هذه

٦٥

المبرزيّة لا الملازمة بين اللّفظ والمعنى. إذن : فالاعتبار متعلِّق بجعل اللّفظ مبرزاً للمعنى لا بالملازمة ، ثم قال : والقائل بالتعهّد إنْ كان مراده هذا فنعم الوفاق (١).

لكنّه أورد عليه في كلتا الدورتين في قوله بأنّ هذا الاختصاص بعد تحقّقه بالاعتبار يصبح مستغنياً عن الاعتبار وتكون له واقعيّة وخارجيّة. بعدم معقوليّة حصول الخارجيّة للشيء المعتبر بعد اعتباره ، بحيث لا يزول بزوال الاعتبار أو باعتبار العدم ، لأنّه يعني الانقلاب ، وهو محال.

أقول :

وقد دافع السيد الاستاذ في (المنتقى) (٢) عن نظريّة المحقق العراقي ، في قبال ما جاء في (المحاضرات) ، وقد اشتمل كلامه على الالتزام بالأمرين ، أعني :

أوّلاً : إن المجعول في نظر المحقق العراقي هو «الملازمة».

وثانياً : إن ما يتعلق به الاعتبار يتحقق له واقع ويتقرّر له ثبوت واقعي كسائر الامور الواقعيّة.

وقال في آخر كلامه : إن هذه الدعوى لا محذور فيها ثبوتاً ولا إثباتاً.

أقول :

لكنّي أجد اضطراباً في كلامه فيما يرتبط بالأمر الثاني ـ ولا بدّ وأنه من المقرر رحمه‌الله ـ وذلك لأنّه في أوّل البحث يقول ما لفظه : «إن الإنصاف يقضي بأن نظر المحقق العراقي يمكن أن يكون إلى جهةٍ اخرى ، وهي أن

__________________

(١) مقالات الاصول ١ / ٤٧.

(٢) منتقى الاصول ١ / ٤٧.

٦٦

الوضع أمر اعتباري إلاّ أنّه يختلف عن الامور الاعتبارية الاخرى بأنّ ما تعلّق به الاعتبار يتحقق له واقع ويتقرّر له ثبوت واقعي ، كسائر الامور الواقعيّة ، فهو يختلف عن الامور الواقعيّة ، من جهة أنه عبارة عن جعل العلقة واعتبارها ، ويختلف عن الامور الاعتبارية ، بأن ما يتعلّق به الاعتبار لا ينحصر وجوده بعالم الاعتبار ، بل يثبت له واقع في الخارج.

ويقول في أثناء البحث ما نصّه : «فالمدعى : إن الجاعل اعتبر مفهوم الملازمة والعلقة بين اللّفظ والمعنى ، وقد نشأ من اعتبار هذه الملازمة ملازمة حقيقية واقعية بين طبيعي اللّفظ وطبيعي المعنى ، بلحاظ أن ذلك الاعتبار أوجب عدم انفكاك العلم بالمعنى وتصوّره عن العلم باللّفظ وتصوره ، وتلازم الانتقال إلى المعنى مع الانتقال إلى اللّفظ ، وهذا يعني حدوث ملازمة واقعية بين اللّفظ والمعنى ...».

فكم فرق بين العبارتين؟

إنه على الأولى يتوجّه إشكال شيخنا الاستاذ ، أمّا على الثانية فلا ، بل يكون الوضع حاله حال التبادر ، كما تقدّم في كلام شيخنا.

ويبقى الإشكال على المحقق العراقي والسيد الاستاذ في تعلّق الجعل بالملازمة ، بل إنّ هذا الإشكال يقوى بناءً على العبارة الثانية من أن تلك العلقة الواقعيّة تنشأ من العلقة الاعتبارية ، لوضوح أنّها حينئذٍ غير مقصودة للواضع ، ولا مستندة إليه ، فكيف تكون الملازمة من فعله؟

المحقق الفشاركي وجماعة

قال المحقق الحائري في (درر الاصول) :

«الذي يمكن تعقّله : أنْ يلتزم الواضع أنه متى أراد معنىً وتعقّله وأراد

٦٧

إفهام الغير ، تكلَّم بلفظ كذا ، فإذا التفت المخاطب بهذا الالتزام ينتقل إلى ذلك المعنى عند استماع ذلك اللّفظ منه ، فالعلاقة بين اللّفظ والمعنى تكون نتيجة لذلك الالتزام ، وليكن منك على ذكر ...

الدالّ على التعهّد تارةً يكون تصريح الواضع ، واخرى : كثرة الاستعمال ، ولا مشاحة في تسمية الأول وضعاً تعيينيّاً والثاني تعينيّاً» (١).

وقد استدلّ لهذا القول ـ الذي اختاره جمع من المحققين ، كالنهاوندي والخوئي ـ بوجوه هي :

أوّلاً : مساعدة الوجدان.

وثانياً : إن الوضع مساوق للجعل لغةً ، ومن هذا الباب وضع القانون مثلاً.

وثالثاً : إن الغرض من الوضع هو قصد التفهيم ، وهو ـ أي هذا القصد ـ من اللّوازم الذاتيّة للالتزام ، وهذا الارتباط بين الغرض وعمل الإنسان ـ أعني قصده ـ يوجب القول بكون الوضع عبارة عن الالتزام.

هذا ، ولا يخفى أنّ الوضع بناءً على هذا أمر تكويني ، لأنّ الالتزام من أفعال النفس وله واقعيّة ، فليس الوضع من الامور الاعتبارية.

وأيضاً : فإنّ هذا المبنى إنما يتمشّى على القول بأنّ كلّ مستعملٍ واضع ، لأنّ المستعمل كلّما قصد تفهيم معنىً أبرزه باللّفظ الموضوع له ، فلا محالة لا يتعلّق الالتزام من الإنسان إلاّ بما يكون تحت اختياره ، ويستحيل تعلّق الالتزام بفعل الغير ، بأنْ يلتزم الواضع مثلاً أنَّ كلّ من أراد الجسم البارد السيّال فهو يبرز قصده ومراده بلفظ الماء.

__________________

(١) درر الاصول ١ / ٣٥ ط جامعة المدرّسين.

٦٨

وأيضاً : مما ذكره في كيفيّة تقسيم الوضع إلى التعييني والتعيّني يظهر أنّ كلّ من لم يكن تعهّده مسبوقاً بالغير فهو الواضع الأوّل للّفظ ، وهذا لا ينفي أن يكون المستعملون كلّهم واضعين كما ذكرنا من قبل.

هذا هو المهمّ من الكلام في أدلّة هذا القول ومزاياه.

ثم إنّه قد أورد على هذا المبنى بأن الالتزام باستعمال اللّفظ عند إرادة تفهيم المعنى فرعٌ للعلم بالوضع ، فلا بدَّ أولاً من العلم بالوضع ثم الالتزام بالاستعمال كذلك ، فإنْ كان الوضع هو الالتزام نفسه لزم الدور ، لأن الالتزام موقوف على العلم بالوضع ، وهو موقوف على الالتزام.

وقد أوضح شيخنا دام ظلّه الجواب عن هذا الايراد بأنّ الالتزام تارةً كلّي واخرى شخصي ، والوضع من قبيل الأول ، بمعنى أنّ الواضع يلتزم التزاماً كليّاً بأنّه متى أراد المعنى الكذائي استعمل اللّفظ الكذائي ، وللشخص في نفس الوقت التزام شخصي أيضاً ، لكونه أحد المستعملين ، والذي يتوقف على العلم بالوضع هو الالتزام الشخصي دون الكلّي.

نقد نظرية التعهّد

هذا ، وقد ردّ شيخنا الاستاذ في كلتا الدورتين ، وكذا سيّدنا الاستاذ في (المنتقى) ـ بعد أنْ كان يوافق عليه من قبل ـ على مبنى الالتزام والتعهّد ، وأبطلاه بالتفصيل.

أمّا شيخنا فقد ناقش في الأدلّة واحداً واحداً :

فأجاب عن الدليل الأول ـ وهو مساعدة الوجدان ـ بأنّ المستعمل للّفظ في معناه له علم بالوضع ، وله إرادة للمعنى ، وله قصد لتفهيم المخاطب بمراده ، فهذه الامور موجودة عند كلّ مستعمل ، ومنها التزامه باستعمال اللّفظ

٦٩

الخاص عند إرادة معناه الخاص ، ولكن ما الدليل على أن الوضع هو نفس هذا الالتزام وليس شيئاً آخر غيره؟

إنه بعد أن سمّى ولده بالحسن مثلاً ، يلتزم باستعمال هذا الاسم متى أراد ولده ، ولكن هل هذا الالتزام هو الوضع أو أنه شيء آخر والالتزام المزبور من مقارناته؟

وأجاب عن الدليل الثاني ـ وهو كون الوضع في اللّغة : الجعل ـ بأن الضابط في كون لفظ بمعنى لفظ صحّة استعمال أحدهما في مكان الآخر ، فلنلاحظ هل يمكن استبدال كلمة «الوضع» بكلمة «الجعل» في موارد استعمالها ، كما في قوله تعالى : (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) (١) ونحو ذلك؟ هذا أوّلاً.

وثانياً : إن «الوضع» يقابله «الرفع» وهما ضدّان ، و «الجعل» يقابله «التقرير» وهما نقيضان ... وهذا برهان آخر على اختلاف المعنى.

ومن هنا يظهر أن كلّ مورد جاز فيه استبدال أحدهما بالآخر فهو بالعناية ، ...

وممّا يشهد بالمغايرة بحث العلماء في حديث الرفع بأن الرفع يقابل الوضع ، فلِمَ استعمل الرفع واريد به عدم الجعل؟

وأجاب عن الدليل الثالث بما حاصله : قبول وجود الالتزام ، والتسليم بتحقق العلقة بين اللّفظ والمعنى ، ولكنْ لا دليل على أنّ المحصّل لتلك العلقة الوضعية هو الالتزام بالخصوص لا شيء آخر.

ومن هنا ذكر في (المحاضرات) في أدلّة هذا القول : بطلان الأقوال

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣٦.

٧٠

الاخرى ، ومن الواضح أنّ هذا غير تام ، لوجود غير تلك الأقوال في المسألة.

وأمّا السيد الاستاذ (١) فقد قال : إنّ المراد من التعهّد يتصوّر بأنحاء ، فذكر ثلاثة أنحاء وأبطلها ، النحو الأول : أن يراد به التعهّد والبناء على ذكر اللّفظ بمجرّد تصوّر المعنى والانتقال إليه ، فمتعلَّق التعهّد هو ذكر اللّفظ. والنحو الثاني : أن يراد به التعهّد والبناء على ذكر اللّفظ عند إرادة تفهيم المعنى. والنحو الثالث : أن يراد به التعهد والبناء على تفهيم المعنى باللّفظ عند إرادة تفهيمه ، فيكون متعلَّق التعهّد هو نفس التفهيم لا ذكر اللّفظ.

أقول : والثالث هو ظاهر عبارة (الدرر) المتقدّمة ، وعبارة (المحاضرات) الذي قال : بأنّه التعهّد بإبراز المعنى باللّفظ عند إرادة تفهيمه.

فأشكل عليه :

أوّلاً : بأنّه يستلزم اللغويّة ، لأنّ المفروض أنْ لا مفهم للمعنى إلاّ اللّفظ الخاص ، فالتفهيم به حاصل قهراً ، سواء كان هناك تعهّد أو لم يكن.

وثانياً : بأنّه يستلزم الدور ، لأن التعهّد يتوقف على كون متعلَّقه ـ وهو التفهيم ـ مقدوراً ، والقدرة على تفهيم المعنى بهذا اللّفظ إنما تحصل بالتعهّد ـ بناءً على هذا القول ـ فالقدرة المذكورة متوقّفة على التعهّد ، والتعهّد متوقّف على القدرة.

أقول :

أمّا إشكال اللغوية ، فالظّاهر عدم لغويّة التعهّد ، فصحيحٌ أنْ المفهم للمعنى هو اللّفظ الخاص لا لفظ آخر ، لكنّ متعلّق التعهّد هو إبراز هذا اللّفظ الخاص متى اريد تفهيم معناه.

__________________

(١) منتقى الاصول ١ / ٦١.

٧١

وأمّا إشكال الدور ، فقد ذكر شيخنا جوابه بتعدّد متعلّق التعهّد والبناء ، فأحدهما : البناء الكلّي ، وهو التعهّد بنحو القضية الحقيقيّة بأنه كلّما أراد تفهيم المعنى وقصد ذلك أظهر قصد التفهيم باللّفظ الخاص الموضوع لذاك المعنى ، وبهذا البناء يصير اللّفظ مقدمةً لإبراز قصد تفهيم المعنى ، ثم إنه في الاستعمالات الخاصّة يكون ذلك اللّفظ الذي كان مقدمةً بسبب التعهّد الكلّي متعلَّقاً للإرادة المقدميّة والتوصليّة ، وبهذا البيان يندفع إشكال الدور ، فكلّ واضع لا بدّ وأنْ يكون عنده إرادة وتعهّد كلّي ، وذلك البناء الكلّي يستتبع البناءات والإرادات الجزئيّة ، إذ له عند كلّ استعمال إرادة جزئيّة.

لكنّه دام بقاه أورد عليه بالنقض : بأنّ الأطفال والمجانين وحتى بعض الحيوانات لهم وضعٌ أيضاً ، ولا تتمشّى من هؤلاء الإرادة والتعهّد الكلّي.

وأورد عليه أيضاً : بأنّ كون كلّ مستعمل واضعاً ـ كما صرّح به في (المحاضرات) ـ خلاف العرف واللّغة ، وما ذكره من أنّ عنوان «الواضع» ينصرف عن سائر المستعملين إلى المستعمل الأوّل لكونه السّابق ، يخالف مبناه في الانصراف ، فإنّه لا يرى ـ في جميع بحوثه في الفقه والأصول ـ للانصراف منشأً إلاّ التشكيك في الصّدق ، فلا تكون الأسبقيّة منشأً له.

هذا ، وفي (المحاضرات) في نهاية المطلب :

إن مذهبنا هذا ينحلّ إلى نقطتين ، النقطة الاولى : إن كلّ متكلّم واضع حقيقة ، وتلك نتيجة ضروريّة لمسلكنا بأن حقيقة الوضع : التعهّد والالتزام النفساني. النقطة الثانية : إنّ العلقة الوضعيّة مختصة بصورةٍ خاصّة ، وهي ما إذا قصد المتكلّم تفهيم المعنى باللّفظ ، وهي أيضاً نتيجة حتمية للقول بالتعهد ، بل وفي الحقيقة هذه هي النقطة الرئيسية لمسلكنا هذا ، فإنّ عليها يترتب نتائج ستأتي فيما بعد.

٧٢

قال : وأمّا ما ربما يتوهّم هنا من أن العلقة الوضعيّة لو لم تكن بين الألفاظ والمعاني على وجه الاطلاق ، فلا يتبادر شيء من المعاني منها إذا صدرت عن شخصٍ بلا قصد التفهيم ، أو عن شخص بلا شعور واختيار ، مع أنّه لا شبهة في تبادر المعنى منها.

فأجاب : بأن هذا التبادر غير مستند إلى العلقة الوضعية ، بل إنما هو من جهة الانس الحاصل بينهما بكثرة الاستعمال أو بغيرها (١).

أقول :

أمّا النقطة الاولى ، فقد عرفت ما فيها من كلام شيخنا.

وأمّا النقطة الثانية ، فيظهر ما فيها من كلامه أيضاً ، مضافاً إلى أنّ دعوى كون الانتقال من اللّفظ إلى معناه عند سماعه ـ حتى من الأطفال والمجانين الذين لا يقصدون التفهيم ـ إنما هو على أثر الأُنس الحاصل بين اللّفظ والمعنى بكثرة الاستعمال أو غيرها أوّل الكلام.

وتلخّص :

أنه لا دليل على هذا القول ، بل الدليل على خلافه.

الفلاسفة

وهو مبنى : الوجود التنزيلي ، أي : اعتبار اللّفظ وجوداً للمعنى.

وحاصله : إن للشيء أربعة أنحاء من الوجود ، اثنان منها تكوينيّان ، وهما الوجود الخارجي والوجود الذهني ، وإثنان اعتباريّان ، وهما الوجود الكتبي والوجود اللّفظي.

فحقيقة الوضع عبارة عن اعتبار اللّفظ وجوداً للمعنى ، فإنّه وإنْ كان

__________________

(١) محاضرات في علم الاصول ١ / ٥١.

٧٣

وجود اللّفظ من مقولة الكيف المسموع ، ووجود المعنى وجوداً جوهريّاً ، لكنّ اعتبارهما واحداً ممكن ، لكون الاعتبار والتنزيل خفيف المئونة.

وقد أورد على هذا القول : بأنّ التنزيل لا بدّ وأنْ يكون لأجل أثرٍ يترتب عليه ، ففي مثل «الطواف بالبيت صلاة» حيث ينزّل الطواف بمنزلة الصلاة ، يوجد الأثر ، وهو اشتراط الطهارة في الطواف كما هي شرط في الصلاة ، أمّا في الوضع فلا يمكن دعوى التنزيل بلحاظ الأثر ، فأثر «النار» الخارجيّة هو «الإحراق» فإذا نزّلنا «ن ا ر» بمنزلتها لم يترتب الأثر المذكور على اللّفظ.

فأجاب عنه شيخنا دام ظلّه : بأنّ القوم يرون «الوجود» مظهراً ل «الماهيّة» فإذا اعتبر اللّفظ مثل «الشمس» وجوداً للمعنى ، حصلت للفظ تلك المظهريّة ، فكما كان وجودها الخارجي مظهراً لماهيّتها ، كذلك يكون لفظ الشمس ... وهذا الأثر كاف لصحّة التنزيل والاعتبار.

والإشكال الوارد عند شيخنا ـ تبعاً (للمحاضرات) ـ هو أن التنزيل والاعتبار أمر عقلي دقيق ، لا يتأتّى من كلّ أحدٍ ، مع أن الوضع يتحقّق حتى من الأطفال.

المحقق الأصفهاني

ويقول المحقق الأصفهاني : إن حقيقة الوضع هو الوضع الاعتباري لا غير ... وتوضيح ذلك :

إن العلقة الوضعية بين اللّفظ والمعنى ليست من الامور الواقعية التي يوجد بإزائها شيء في الخارج كالجواهر والأعراض ، ولا من الامور الواقعيّة التي ليس بإزائها في الخارج شيء ، كالامور الانتزاعية ـ كالفوقية ، فإنّها ليست في الخارج ، وإنما منشأ الانتزاع موجود وهو السقف ـ والدليل على مغايرة

٧٤

العلقة الوضعية للامور الواقعية بقسميها هو أن تلك الامور لا تختلف باختلاف الأنظار بخلاف العلقة الوضعيّة ، وأيضاً : فإنّ لوجود أو عدم تلك الامور أثراً ، فوجود السواد على الجدار وعدم وجوده ذو أثر ، كما أنّ السقف مثلاً إذا عدمت فوقيّته وسلبت عنه صار تحتاً ، بخلاف العلقة الوضعيّة ، فإنّ وجودها وعدم وجودها بالنسبة إلى طرفيها سواء.

وعلى الجملة ، فإن العلقة الوضعيّة ليست من الامور الواقعيّة ، بل هي من الامور الاعتباريّة.

ثم إن المحقق الأصفهاني يستعين على مدّعاه بمطلبين :

الأوّل : إن سنخ دلالة اللّفظ على المعنى سنخ دلالة الأعلام والعلائم الموضوعة على الطرق لتحديد المسافات ، فكما توضع العلامة على رأس الفرسخ للدّلالة على ذلك ، كذلك وضع اللّفظ على المعنى ، فهو للدلالة عليه. والثاني : إنّه كما أنّ الكلمة المستعملة لذلك العمل التكويني هو «الوضع» كذلك هذه الكلمة هي التي تستعمل للدّلالة على هذا العمل الاعتباري ، فيقال : هذا اللّفظ «موضوع» للمعنى الكذائي ، والذي جعله دالاًّ عليه يسمى ب «الواضع».

فظهر :

١ ـ إن العلقة الوضعيّة أمر اعتباري.

٢ ـ إن هذا الأمر الاعتباري من سنخ وضع الدلالات والعلائم والأعلام ، فكما أنّ هناك وضعاً لكنه تكويني ، فهنا أيضاً وضع لكنه اعتباري.

فحقيقة الوضع : جعل اللّفظ ونصبه ووضعه على المعنى في عالم الاعتبار.

٧٥

مختار شيخنا الاستاذ

وذهب شيخنا دام بقاه في الدورتين إلى أن حقيقة الوضع هي العَلاميَّة والدليليّة.

قال : بأن الإنسان في بادئ الأمر كان يبرز مقاصد النفسانية وأغراضه القلبية والباطنية بواسطة الإشارة ، وحتى الآن أيضاً قد يلتجئ إلى ذلك إذا لم يتمكن من التلفّظ ، فكانت الإشارة هي الوسيلة والسبب والعلامة لتفهيم مقاصده ، فلما وجد اللّفظ ، كان دوره نفس دور الإشارة ، وقام مقامها في الوسيليّة ، فكان اللّفظ هو العلامة والوسيلة لإفادة المعنى المتعلق به الغرض ، فكان وضع لفظ على معنىً علامةً له ووسيلةً لإفهامه ، وكان اسماً لذلك المعنى يُطلق عند إرادته ، والعلامية والدليليّة والتسمية ـ ما شئت فعبّر ـ عنوان عام يشمل الوضع للاسم وللفعل وللحرف.

هذا وجداناً.

ويدلّ عليه من الكتاب ، قوله تعالى : (لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً) (١) أي : لم يكن في الوجود قبل «يحيى» أحد يُعرف بهذا الاسم. وكذا قوله تعالى : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ) (٢) أي : هو الذي وضع عليكم هذا الاسم ، هذه العلامة.

ومن الأخبار ، ما رواه الشيخ الصدوق بسند معتبرٍ في (العيون) و (التوحيد) و (معاني الأخبار) عن ابن فضّال عن الرضا عليه‌السلام عن بسم الله. قال : معنى قول القائل بسم الله ، أي اسمي نفسي بسمةٍ من سمات الله عزّ وجل وهي العبادة ، فقلت : وما السمة؟ قال : العلامة (٣).

__________________

(١) سورة مريم : ٧.

(٢) سورة الحج : ٧٨.

(٣) معاني الأخبار : ٣ ط مكتبة الصدوق.

٧٦

إن العلامة على قسمين ، تارة : هي ذاتية مثل (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)(١) واخرى : هي جعلية مثل الصّبح الصّادق حيث جعل علامة شرعيّةً للصّلاة.

فواقع التسمية ـ وهو الذي يسأل عنه ابن فضّال ، لا مفهوم التسمية ـ هو العلامة.

ومن كلمات اللغويين ، ما جاء في (القاموس) و (لسان العرب) من أنّ الألفاظ علامة للمعاني والاسم علامة للمسمّى.

ومن هنا ، فقد قُسمت الدلالة إلى العقليّة والطبعيّة واللفظيّة ، فكما أن «اح اح» علامة ـ بالطبع ـ على وجع الصدر ، كذلك لفظ «الحسن» علامة ـ بالوضع على المسمّى بهذا الاسم.

فحقيقة الوضع : جعل العلامة والاسم / التسمية والعَلاميّة ...

والفرق بين هذا المبنى ومبنى المحقق العراقي قابليّة مختارنا للتقسيم إلى التّعييني والتعيّني ، وأن الجعل بناءً عليه أمر اعتباري وليس من سنخ الجعل التكويني ، وإنما هو امتداد للإشارة كما ذكرنا.

__________________

(١) سورة النحل : ١٦.

٧٧
٧٨

أقسام الوضع : والمعنى الحرفي

٧٩
٨٠