تحقيق الأصول - ج ١

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-2501-93-9
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤١٦

فذكر الأمارات غير العلميّة سنداً كخبر الواحد ، أو دلالةً كظواهر الألفاظ ، وقال بأنّ مرجع حجيّة الأمارات غير العلمية مطلقاً إمّا إلى الحكم الشرعي ، أو غير منتهية إليه أبداً ، وعلى أي تقدير ليس فيها توسيط للاستنباط.

فالحاصل : إن عدول صاحب (الكفاية) عن تعريف القوم ليس لأجل خروج الاصول فقط ، بل لأجل خروج الأمارات أيضاً .... فيكون تعريفه أولى من تعريفهم لدخول ذلك كلّه به في علم الاصول.

لكنّه بعد أن أوضح كيفية لزوم خروج الأمارات عن تعريف القوم ، استدرك قائلاً :

«إلاّ أنْ يوجّه مباحث الأمارات غير العلميّة.

أمّا بناءً على إنشاء الحكم المماثل ، بأنّ الأمر بتصديق العادل مثلاً ليس عين وجوب ما أخبر بوجوبه العادل ، بل لازمه ذلك ، والمبحوث عنه في الاصول بيان هذا المعنى الذي لازمه الحكم المماثل ، وهذا القدر كاف في التوسيط في مرحلة الاستنباط.

وأمّا بناءً على كون الحجيّة بمعنى تنجيز الواقع ، بدعوى أن الاستنباط لا يتوقّف على إحراز الحكم الشرعي ، بل تكفي الحجيّة عليه في استنباطه ، إذ ليس حقيقة الاستنباط والاجتهاد إلاّ تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي. ومن الواضح دخل حجيّة الامارات ـ بأي معنىً كان ـ في إقامة الحجّة على حكم العمل في علم الفقه».

قال : «وعليه ، فعلم الاصول : ما يبحث فيه عن القواعد الممهّدة لتحصيل الحجة على الحكم الشرعي. من دون لزوم التعميم ، إلاّ بالإضافة إلى ما لا بأس بخروجه ، كالبراءة الشرعية التي معناها حليّة مشكوك الحرمة

٤١

والحليّة ، لا ملزومها ، ولا المعذّر عن الحرمة الواقعية» (١).

ثم إنه أشكل على تعريف (الكفاية) باستلزامه محذورين :

أحدهما : لزوم فرض غرضٍ جامع بين الغرضين ، لئلاّ يكون فن الاصول فنّين.

ثانيهما : إن مباحث حجيّة الخبر وأمثاله ليست مما يرجع إليها بعد الفحص واليأس عن الدليل على حكم العمل ، وأمّا جعلها مرجعاً من دون تقييد بالفحص واليأس فيُدخل فيها جميع القواعد العامّة الفقهيّة ، فإنّها المرجع في جزئيّاتها.

وقد ذكر شيخنا الاستاذ دام ظلّه هذين المحذورين وقرّبهما.

أقول : لكن في (المنتقى) ما ملخّصه عدم لزوم شيء من المحذورين.

أمّا الثاني : فبأنه يلتزم بإضافة القيد المذكور ـ وهو قول صاحب (الكفاية) : أو التي ينتهى اليها في مقام العمل ـ والأمارات وإنْ كانت خارجة عن القيد ، أي ذيل التعريف ، فهي داخلة في صدره ، بناءً على أنّ المراد من الاستنباط هو تحصيل الحجة على الواقع. والمحذور إنّما كان يلزم لو فسّر الاستنباط بإحراز الحكم الشرعي واستخراجه بحيث لا يشمل تحصيل الحجّة عليه ، لأن المجعول في الأمارات ، إمّا المنجزيّة والمعذريّة ، وإما الحكم المماثل ، وهي بكلا المسلكين لا تقع في طريق استنباط الأحكام ، فيلزم خروجها عن علم الاصول.

وأمّا الأول : فهو يرتفع بتصوّر غرضٍ خارجي جامعٍ بين الغرضين ، ويترتّب على جميع مسائل علم الاصول ، وذلك الغرض هو ارتفاع التردّد

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٤٢ ط مؤسّسة آل البيت ، بتصرف قليل.

٤٢

والتحيّر الحاصل للمكلَّف من احتمال الحكم ، فمسائل الاصول كلّها تنتهي إلى غاية واحدة ، وهي ارتفاع التردّد الحاصل من احتمال الحكم الشرعي ، سواء كانت نتيجتها الاستنباط أو لم تكن كذلك. وبذلك يرتفع المحذور المذكور.

ثم أوضح شمول هذا التعريف لجميع المسائل الاصوليّة ، من الاصول والأمارات وغيرها.

ثم قال : «نعم يبقى هاهنا سؤال وهو : لم عدل صاحب (الكفاية) إلى هذا التعريف المفصل وذكر كلا القيدين ، مع أن نظره لو كان إلى هذه الجهة المذكورة لكان يكفي في تعريف علم الاصول أن يقول : هو القواعد التي يرتفع بها التحيّر الحاصل للمكلّف من احتمال الحكم الشرعي ، إلاّ أن الأمر في ذلك سهل ، فإنّه لا يعدو كونه إشكالاً لفظيّاً. ولعلّ نظره قدس‌سره إلى الإشارة إلى قصور تعريف المشهور وأنه يحتاج إلى إضافة قيد ، لا إلى بطلانه ، كما قد يشعر به تبديله وتغييره» (١).

لكن لا يخفى أنّ لفظيّة هذا الإشكال إنّما هي على فرض تماميّة إرجاع تعريفه إلى ما ذكره وأتعب نفسه الشريفة ، وهذا أوّل الكلام.

وأمّا تعريفه دام ظلّه ، فإنّما أفاد دخول الاصول الجارية في الشبهات الموضوعيّة ، لكونها رافعة للتحيّر والتردّد في مقام العمل. وأمّا الأمارات فهي جارية ومتّبعة سواء قلنا بالمنجزيّة والمعذريّة ، أو جعل الحكم المماثل ، أو الطريقيّة ، بلا أيّ تردّد وتحيّر في مقام العمل ، فتأمّل. هذا أوّلاً. وثانياً : إنه يستلزم خروج عدّةٍ من المسائل عن علم الاصول ، كما سيجيء الاعتراف منه والالتزام بذلك.

__________________

(١) منتقى الاصول ١ / ٢٧ ـ ٢٩.

٤٣

تعريف المحقق الأصفهاني

تقدّم أنّه عرّف علم الاصول بالقواعد الممهّدة لتحصيل الحجّة على الحكم الشّرعي ، وهو تعريف يدخل به ما كان خارجاً عن تعريف صاحب (الكفاية) ، كما أنه يصلح لأن يكون جامعاً بين الغرضين ، فلا يلزم تعدّد علم الاصول.

لكنّه صرّح في (نهاية الدراية) وفي (الاصول على النهج الحديث) بخروج البراءة الشرعية وأصالة الحلّ عن تعريفه ، فلا بدّ من جعلها بحوثاً استطرادية ، لكون مفادها بنفسها أحكاماً شرعيّة. لكنّ ينقض عليه بالاستصحاب ـ بناءً على أن مدركه هو الأخبار ـ فهو أيضاً حكم شرعي ، والملاك في الاصول العملية أنْ تكون حجّة على الحكم الشرعي ، فما كان حجةً فهو من مسائل الاصول ، وما لا فلا ، فالبراءة الشرعيّة داخلة ، لكونها حجّة شرعيّة ، فلا وجه للاستطراد ... وكذا قاعدة الحلّ.

ثم إنّ الإشكال المهمّ المتوجّه على هذا التعريف هو : أنّه إنْ أريد من إقامة الحجّة على حكم العمل إقامتها بلا واسطة ، وأنّه بمجرّد الوصول إلى تلك القاعدة تحصل الحجّة وتقام على الحكم ، لزم خروج كثير من المسائل ، ففي بحث دلالة ألفاظ العموم مثلاً لا تكون النتيجة إقامة الحجّة بلا واسطة ، وكذا نتيجة مباحث حجيّة الظهور. وإنْ اريد من ذلك إقامتها على الحكم ، أعمّ من أن تكون مع الواسطة أو بلا واسطة ، لزم دخول بعض العلوم كعلم الرّجال ـ مثلاً ـ في علم الاصول.

تعريف المحقق العراقي

بل إنّ هذا الإشكال يتوجّه على تعريف المحقق العراقي بأنّه القواعد

٤٤

الخاصّة التي تعمل في استخراج الأحكام الكليّة الإلهيّة أو الوظائف العملية الفعلية ، عقليّة كانت أم شرعيّة (١).

ولذا تعرّض له المحقق المذكور ، وأجاب بما حاصله : أنا نختار الشق الثاني ، ومع ذلك نلتزم بخروج الامور المزبورة عن مسائل الاصول. وذلك :

أمّا أولاً : فلوضوح أن المهم والمقصود في العلوم الأدبية كالنحو والصرف ليس هو إثبات الظهور للكلمة والكلام ، بل المهمّ فيها هو إثبات كون الفاعل مرفوعاً والمفعول منصوباً ، بخلاف مباحث الأمر والنهي والعام والخاص ... في علم الاصول ، فإنها تتكفّل إحراز الظهور في الكلمة والكلام.

وأمّا ثانياً : على فرض أن المقصود في العلوم الأدبيّة أيضاً إحراز الظهور في شيء كظهور المرفوع في الفاعلية ، والمنصوب في المفعولية ، فإنّ غاية ما يقتضيه ذلك حينئذٍ إنّما هو وقوع نتيجتها في طريق استنباط موضوعات الأحكام ، لا نفسها ، والمسائل الاصولية إنما كانت عبارة عن القواعد الواقعة في طريق استنباط نفس الأحكام الشرعيّة العملية. وتوهّم استلزامه خروج مثل مباحث العام والخاص أيضاً ، مدفوع بأنّها وإنْ لم تكن واقعةً في طريق استنباط ذات الحكم الشرعي ، إلاّ أنها باعتبار تكفّلها لإثبات كيفية تعلّق الحكم بموضوعه كانت دخيلةً في مسائل الاصول ، كما هو الشأن أيضاً في مبحث المفهوم والمنطوق ، حيث أن دخوله باعتبار تكفّله لبيان إناطة سنخ الحكم بشيء ، الذي هو في الحقيقة من أنحاء وجود الحكم وثبوته. وهذا بخلاف المسائل الأدبية ، فإنّها ممحّضة لإثبات موضوع الحكم ، بلا نظر فيها إلى كيفيّة تعلّق الحكم أصلاً.

__________________

(١) نهاية الافكار ١ / ٢٠.

٤٥

وبهذا البيان يظهر الوجه في خروج مباحث المشتق ، لأنّها لا تتكفّل الحكم لا بنفسه ولا بكيفيّة تعلّقه بموضوعه.

هذا كلّه لدفع الإشكال بالنسبة إلى سائر العلوم. أمّا علم الرجال ، فقد التزم بدخوله في مسائل علم الاصول ، غير أنّه بحث عنه على حده.

لكن يرد على جوابه بالنسبة إلى العلوم الأدبيّة ، بأنه لا فرق ـ بناءً على ما ذكره ـ بين البحث عن مفاد لفظ «كلّ» والبحث عن مفاد لفظ «الصعيد» مثلاً ، ففي الثاني أيضاً يبحث عن كيفيّة تعلّق حكم التيمّم بموضوعه ، وأنّه هل هو خصوص التراب أو مطلق وجه الأرض؟ فلما ذا يكون البحث عن مفاد «كلّ» من الاصول ، دون البحث عن مفاد «الصّعيد»؟ قاله شيخنا الاستاذ دام بقاه.

أقول : وفيه تأمّل ، لأنّ البحث عن مفاد «كلّ» مثلاً ، بحث عن كيفيّة تعلّق الحكم بموضوعه من حيث كونه عامّاً ، أمّا البحث عن مفاد «الصعيد» فهو بحث عن المعنى الموضوع له هذا اللّفظ ، وأنّه التراب أو وجه الأرض ، ولم يلحظ في هذا البحث حيثية سعة المفهوم أو ضيقه ، وإنّما توجد هذه الحيثيّة عندنا ، فعند ما ننظر إلى المعنيين نجد بينهما هذا التفاوت.

تعريف المحقق الخوئي

وعرّف المحقق الخوئي علم الاصول : بالعلم بالقواعد المحصّلة للعلم بالوظيفة الفعلية في مقام العمل ، وقصد «بالقواعد» القواعد التي تقع نفسها في طريق الاستنباط ، فيكون قد اختار الشق الأول ـ خلافاً للمحقق العراقي ـ وبذلك تخرج بقيّة العلوم ، لكونها إنّما تقع في طريق الاستنباط بضمّ قاعدةٍ اصوليّة ، قال :

٤٦

«والفارق بين القواعد الاصوليّة وغيرها هو : إنّ القواعد الاصوليّة ما كانت صالحةً وحدها ـ ولو في موردٍ واحد ـ لأنْ تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي ، من دون توقّف على مسألةٍ اخرى من مسائل علم الاصول نفسه أو مسائل سائر العلوم ، وهذا بخلاف سائر العلوم ، إذ لا يترتب عليها وحدها حكم كبروي شرعي ، ولا توصل إلى وظيفةٍ فعلية ولو في موردٍ واحد ، بل دائماً تحتاج إلى ضم مسألةٍ اصولية إليها. فمثل العلم بالصعيد وأنه عبارة عن مطلق وجه الأرض أو غيره لا يترتب عليه العلم بالحكم ، وإنما يستنبط الحكم من الأمر أو النهي وما يضاهيهما» (١).

وحيث اختار الشق الأوّل ، اضطرّ إلى الالتزام بخروج كثير من مباحث الألفاظ ، قال : «إنّما هي مسائل لغويّة ، لعدم إمكان وقوعها في طريق الاستنباط وحدها ، وبما أنّ القوم لم يعنونوها في اللّغة فقد تعرض لها في فن الاصول تفصيلاً» (٢).

تعريف المحقق النائيني

والمحقق الميرزا بتعريفه العلم بأنّه العلم بالكبريات التي لو انضمّت إليها صغرياتها استنتج منها حكم فرعي كلّي (٣) ، أخرج المسائل غير الاصولية ، لكونها لا تقع كبرى قياس الاستنباط ، فعلم الرجال الباحث عن أحوال الرجال من حيث الوثاقة وعدمها ، يقول : زيد ثقة مثلاً ، فيقع هذا صغرى للقياس في قولنا : هذا ما أخبر بوجوبه زيد الثقة ، وكلّ ما أخبر الثقة بوجوبه فهو واجب ، فهذا واجب.

__________________

(١) مصابيح الاصول : ٨ ـ ٩.

(٢) مصابيح الاصول : ١٠.

(٣) فوائد الاصول ١ / ٢.

٤٧

قال شيخنا :

لكنّه قد اعترف في (فوائد الاصول) ، في الأمر الثّاني من مبحث الاستصحاب ، بأن لازم هذا التعريف خروج مباحث ظهور الأمر والنهي في الوجوب والحرمة عن علم الاصول ، والتزم بكونها استطراديّة. (١)

قال شيخنا دام بقاه : بل يستلزم خروج مباحث ظهور الأمر في الفور أو التراخي ، والمرّة أو التكرار ، وكذا مباحث العمومات والمفاهيم ، لأنّ البحث في هذه كلّها في الصغريات ، بل يسري الإشكال إلى مباحث الإطلاق والتقييد بناءً على كون الإطلاق بدلالة اللّفظ لا بحكم العقل.

وأضاف شيخنا إشكالاً آخر على القياس الذي يشكّله الميرزا ، وهو أنّه باطل لا يتلائم مع مبناه في حجية الخبر ، لأنّه يكون على مبناه ـ وهو الطريقية ـ على الشكل التالي : هذا ما قام على وجوبه الخبر ، وكلّ ما قام على وجوبه الخبر فهو معلوم الوجوب ، فهذا معلوم الوجوب ، فتكون النتيجة كون المخبر به معلوماً وجوبه شرعاً ، لكنّ هذا مقتضى مبنى جعل الحكم المماثل لا مبنى الطريقيّة ، وهذا مطلب مهم ، ومن هنا أيضاً يقع الإشكال على مبنى التنجيز والتعذير في وجه الفتوى بالوجوب أو الحرمة أو الاستحباب أو الكراهة.

وعلى الجملة ، فهذا التعريف وإنْ أخرج علم الرّجال وغيره من العلوم ، إلاّ أنه يستلزم خروج مسائل كثيرة عن علم الاصول.

التحقيق في المقام

وبعد ، فلم نجد التعريف المانع عن دخول علم الرجال وغيره ، والجامع

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ / ٣٠٨.

٤٨

لجميع المسائل ، بين التعريفات المذكورة ، إذ منها ما يكون مانعاً عن دخول علم الرجال مثلاً ، مع الالتزام بالاستطراد في جملة من المسائل المطروحة في علم الاصول ، ومنها ما يكون جامعاً لجميع المسائل تقريباً ، مع الالتزام بكون علم الرجال من مسائل العلم.

وبالجملة ، يدور الأمر بين اعتبار قيد عدم الواسطة بين المسألة واستنباط الحكم الشرعي منها ، وهذا يستلزم خروج بعض المسائل ، وبين إلغاء هذا القيد فتدخل المسائل لكنّه يستلزم دخول غير المسائل الوصولية أيضاً في علم الأصول.

أمّا سيّدنا الاستاذ دام ظلّه فحاول إرجاع تعريف (الكفاية) إلى مختاره ـ مع فارق واحدٍ ، وهو شمول تعريفه للاصول والأمارات الجارية في الشبهات الموضوعيّة أيضاً ، وخروجها عن تعريف (الكفاية) ـ واختار الشق الأوّل ، أعني اعتبار القيد المذكور ، ثم التزم بخروج مسألتي الصحيح والأعم ، والمشتق ، وحاول إدخال غيرهما من مسائل الألفاظ ، لأنَّ الواسطة المعتبر عدمها في اصوليّة المسألة هي الواسطة النظرية ، أمّا في هذه المسائل فترتب الحكم عليها هو بواسطة كبرى ارتكازية مسلّمة. كما حاول إدخال مسألة اجتماع الأمر والنهي ـ مع اعترافه بأنّها على اثنين من المذاهب الثلاثة فيها ، وهما الامتناع من جهة اجتماع الضدين ، والامتناع من جهة التزاحم ، لا تنتهي إلى رفع التردّد في مقام العمل ، بل تحقّق موضوع المسألتين ـ بأنّ الدخول ولو على مذهبٍ واحدٍ كاف لشمول التعريف لها ، وهي بناءً على المذهب الأول ـ وهو الجواز مطلقاً ـ داخلة.

وأمّا شيخنا الاستاذ دام ظلّه ، فقد اختار في الدورة السابقة تعريف

٤٩

صاحب (الكفاية) ، ثم عدل عنه فاختار في المتأخّرة تعريف المحقق العراقي وهو : الالتزام بالشق الثاني ، الذي لازمه دخول مباحث علم الرّجال ، أما بقيّة العلوم فلا تدخل لكونها باحثة عن موضوعات الأحكام الشرعية ، كما يخرج مبحث المشتق لكونه بحثاً عن الموضوع كذلك.

إلاّ أن شيخنا أخرج مباحث العام والخاص ونحوهما ، ممّا وصفه العراقي بما يبحث فيه عن كيفية تعلّق الحكم بالموضوع ، بعد ورود النقض عليه بمثل «الصعيد» ، إلاّ أن لنا تأملاً في ذلك كما تقدّم.

فظهر أنّ تعريف المحقق العراقي ، وتعريف المحقق الأصفهاني ، وكذا تعريف المحقق صاحب (الكفاية) ـ على ما فسّره السيد الاستاذ ـ كلّها تصبُّ في مصبّ واحدٍ ، وأنْ لا اختلاف بينها تقريباً إلاّ في اللّفظ والتعبير ، لكن الأقرب هو الالتزام بالشرط المذكور واعتباره كي يخرج علم الرجال ونحوه ، كما فعل السيّد الاستاذ دام علاه ، والله العالم.

٥٠

الفرق بين القواعد الفقهيّة والقواعد الاصوليّة

بقي الكلام في الفرق بين القواعد الفقهية والقواعد الاصوليّة ، وكيفية إخراج الفقهية عن علم الأصول ، على ضوء التعاريف المذكورة.

لا يخفى أن القواعد الفقهية تنقسم إلى قسمين ، منها ما يجري في الشبهات الموضوعية ، وتكون نتيجته الحكم الفرعي الجزئي ، كقاعدة الفراغ والتجاوز ، المتخذة من قوله عليه‌السلام : «كلّما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو» (١) وتفيد مضيّ هذه الصلاة المشكوك في ابتلائها بمانع عن الصحة. ومنها : ما يجري في الشبهات الحكمية ، وتكون نتيجته الحكم الكلّي الإلهي ، كقاعدة : ما يضمن بصحيحة يضمن بفاسده ، حيث تفيد مثلاً ضمان فاسد القرض ، لأنّ صحيحه موجب له. وهذه القواعد منها ما يكون مفاده حكماً بالعنوان الأوّلي ، كالقاعدة المذكورة ، ومنها : ما يكون مفاده حكماً بالعنوان الثانوي كقاعدة نفي الضرر ، بناءً على نوعيّة الضرر المنفي ، وأمّا بناءً على شخصيّته فتدخل القاعدة فيما يجري في الشبهات الموضوعيّة.

ومن الواضح أيضاً : انقسام الأصول العمليّة إلى : ما يجري في الشبهات الموضوعيّة فقط ، وإلى ما يجري في الشبهات الحكميّة فقط ، وإلى ما يجري في كلتيهما كالاستصحاب.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ / ٢٣٧ ط مؤسّسة آل البيت ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل رقم : ٣.

٥١

أمّا ما يجري في الشبهات الموضوعيّة ، وينتج حكماً جزئيّاً [مثل الاستصحاب الجاري في كريّة هذا الماء ، من الاصول العملية ، ومثل قاعدة الفراغ من القواعد الفقهيّة ، الجارية في هذه الصلاة مثلاً] فهو خارج عن المسائل الاصوليّة ، لأنّ كلّ أحدٍ يمكنه تطبيق القاعدة أو الأصل على المورد المشكوك فيه ، واستنتاج الحكم الشرعي المتعلّق به ، من غير فرقٍ بين الفقيه والعامي ... فهذا القسم من القواعد والأصول خارج.

وأمّا ما يجري في الشبهات الحكمية ، فالأصل العملي الجاري في الحكم الأصولي لا ريب في اصوليّته ، كاستصحاب حجيّة العام بعد التخصيص ، أو استصحاب عدم تحقّق المعارِض للرواية ، فهذا القسم من الاصول العمليّة الجارية في الشبهات الحكميّة خارج عن البحث.

إنّما الكلام في الاصول العمليّة والقواعد الفقهيّة التي يتشاركان في التطبيق على الموارد واستخراج الأحكام الكليّة الفرعيّة منها ، فما الفارق بينهما؟ وكيف تخرج الثانية عن المسائل الاصوليّة؟

ولك أنْ تقول : إن تعريف علم الفقه ـ وهو : العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة ـ كما ينطبق على القواعد الفقهية فتكون من مسائله ، كذلك ينطبق على الاصول العملية الجارية في الشبهات الحكميّة ، إذ الحكم بنجاسة الماء المتغيّر بالنجاسة الزائل تغيّره ، حكم شرعي فرعي ، أنتجه الاستصحاب المستفاد عن دليلٍ تفصيلي ، وهو صحيحة زرارة مثلاً ، الدالّ على بقاء الحكم السابق في الماء المذكور ، وعلى الجملة : فكما أن قاعدة ما لا يضمن حكم فرعي ، كذلك الحكم ببقاء نجاسة الماء ، وكما أنها مستنبطة من الدليل التفصيلي وهو الإجماع ، كذلك الحكم المذكور مستنبط من الدليل

٥٢

التفصيلي وهو الأخبار. فانطبق عليها تعريف علم الفقه ، فتكون هذه الاصول العملية خارجة عن علم الاصول وداخلة في علم الفقه ، فما هو الجواب؟

جواب الشيخ الأعظم والميرزا

أجاب الشيخ الأعظم بأنّ إجراء الاصول العملية في الأحكام الكليّة الفرعية من عمل المجتهد ووظيفته ، بخلاف القواعد الفقهية. وهذا هو الفرق (١) ، وعن الميرزا النائيني موافقته في ذلك (٢).

وقد أشكلوا عليه بأنّ القواعد الفقهية ـ كالاصوليّة ـ لا يمكن إلقاؤها إلى العامّي ، فأيّ عامي يمكنه تشخيص الشرط المخالف للكتاب من غيره ، كي يطبق قاعدة : كلّ شرط خالف الكتاب والسنّة فهو باطل؟ وهكذا القواعد الاخرى.

جواب المحقق العراقي

وأجاب المحقق العراقي بأنّ كلّ قاعدةٍ تُعمل في استخراج الأحكام الكليّة الإلهيّة من دون اختصاصٍ لها ببابٍ دون بابٍ من أبواب الفقه ، فهي مسألة اصوليّة ، فيخرج مثل قاعدة الطهارة بلحاظ عدم سريانها في جميع أبواب الفقه (٣).

وأشكل عليه شيخنا دام بقاه بعدم الدليل ، وبالنقض ببعض المسائل الاصوليّة من جهة كونها مختصّةً ببعض الأبواب ، كمسألة الملازمة بين النهي والفساد ، لوضوح اختصاصها بأبواب العبادات فقط.

__________________

(١) الرسائل ٣١٩ ـ ٣٢٠. أوّل رسالة الاستصحاب ، وليلحظ كلامه فإنه طويل مفيد.

(٢) محاضرات في اصول الفقه ١ / ١١.

(٣) نهاية الأفكار ١ / ٢٠ ـ ٢١. ويلاحظ أنّه أرجع اليه جواب الشيخ ، من جهة اشتراط تطبيق قاعدة الطّهارة بالفحص ، واشتراط تطبيق قاعدة الشروط بمعرفة الكتاب والسنّة ، ومن الواضح أن لا سبيل في ذلك للعامي الذي لا يتمكن من الفحص ولا يعرف ظواهر الكتاب والسنّة.

٥٣

جواب المحقق الخوئي

وأجاب المحقق الخوئي بأنّ الفرق أمّا بين القواعد الفقهية الجارية في الشبهات الموضوعية ، وبين القواعد الأصوليّة ، فبأنّ القواعد الفقهيّة تنتج في تلك الشبهات الأحكام الجزئيّة الشخصيّة ، كقاعدتي الفراغ والتجاوز ، وقاعدة اليد ، ونفي الضرر ... فقاعدة الفراغ مثلاً تفيد عدم الاعتناء بالشك بعد الفراغ من العمل ، وهذه الكبرى إذا انضمّت إلى صغراها وهو عمل الشخص المشكوك في صحّته ، أنتجت صحّة ذاك العمل. هذا حال هذا القسم من القواعد الفقهية. وأمّا المسائل الاصوليّة ، فالناتج منها حكم كلّي عام ثابت لجميع المكلّفين ، كمسألة حجيّة خبر الواحد.

وأمّا القواعد الفقهيّة الجارية في الشبهات الحكمية ، كقاعدة ما لا يضمن ، فإنّها وإنْ انتجت حكماً كليّاً ـ كالقواعد الاصولية ـ إلاّ أن الفرق عدم وقوعها في طريق الاستنباط ، وإنّما هي أحكام مستنبطة تطبّق في مواردها ، بخلاف القواعد الاصوليّة ، فإنّها تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي أو تكون مرجعاً للفقيه في تعيين الوظيفة العمليّة. فهذا هو الفرق(١).

أقول : وقد أورد عليه تلامذته ، كالسيد الصدر وشيخنا الاستاذ بالنقض والحلّ.

وحاصل الكلام عدم تماميّة هذا الجواب ، لكون بعض القواعد الفقهيّة الجارية في الشبهات الموضوعيّة تفيد حكماً كليّاً لا جزئيّاً (٢) ، كما أنّ من

__________________

(١) مصابيح الاصول ١١ ـ ١٣.

(٢) قد وقع الخلاف بين الأعلام في مفاد أدلة قاعدتي نفي الضرر والحرج ، في أن الحرج والضرر المنفيّين شخصيّان أو نوعيّان ، فالسيّد الخوئي مثّل بهما لإفادة الحكم الشخصي بناءً على كونهما شخصيين ، والمستشكل عليه يشكل بأنهما يفيدان الحكم الكلي بناءً على كونهما نوعيّين. فالحاصل كون الاستدلال والإشكال كليهما على المبنى.

٥٤

المسائل الاصوليّة ما يطبّق في مورده وليس واسطةً في الاستنباط ، ومن ذلك الاستصحاب والبراءة والاحتياط ، وهذه من أهم المسائل ، ففي الاحتياط مثلاً نستنبط من «احتط لدينك» و «قف عند الشبهة» حكماً شرعيّاً ثم نطبّقه على مورده ومصداقه.

جواب المحقق الأصفهاني

وأجاب المحقق الأصفهاني عن السؤال على ضوء ما ذهب إليه في تعريف علم الاصول وعلم الفقه ، فعلم الفقه عنده : إقامة الحجّة على الحكم الشّرعي. وعلم الاصول عنده : هو العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الاحكام الشرعيّة ، بمعنى : إن القواعد الاصوليّة واسطة في إثبات التنجيز للأحكام الشرعية ، والإعذار للعبد أمام الشارع المقدّس [لا بمعنى كونها واسطة في إثبات الحكم الشرعي ، المستلزم لخروج كثير من المسائل عن علم الاصول ، لعدم كونها واسطةً كذلك ، كقاعدة الاشتغال مثلاً].

وعلى الجملة ، فعلم الاصول تحصيل الحجّة ، وعلم الفقه تطبيق الحجّة وإقامتها. وهكذا يظهر الفرق بوضوح ، ففي الاستصحاب مثلاً : جعل الشارع اليقين السابق منجّزاً للبقاء ، فيكون البحث عن المنجزيّة والمعذريّة.

نعم ، يبقى حديث الرفع ، فهناك لا تنجيز ولا تعذير ، بل رفع للحكم. وكذا أصالة الحلّ ، حيث جعل الشارع هناك الحليّة ، فلا تنجيز ولا تعذير. ولذا يلتزم قدس‌سره بكون البراءة الشرعية وأصالة الحلّ من المسائل الفقهية لا أنهما من المسائل الاصولية.

هذا مطلب المحقق الأصفهاني.

٥٥

اختاره شيخنا الاستاذ مع تعديل

وهذا مختار شيخنا الاستاذ مع تعديل لما ذكره ، بحيث تدخل البراءة وقاعدة الحلّ ، إذ المختار عنده أن علم الاصول هو كلّ المسائل التي لها دخل في تشكيل وتحقيق النّسبة بين الموضوع والمحمول في صغرى قياس الاستنباط وكبراه ، وإنْ بحث عن بعض ذلك في خارج علم الاصول.

وأمّا ما ذكره المحقق الأصفهاني في تعريف الفقه فلم يناقشه فيه.

فكان مختاره في الفرق بين القواعد الاصولية والقواعد الفقهيّة ـ في كلتا الدورتين ـ :

إن كلّ قاعدة ذات خلفيّة تكون حجّةً لله على العبد أو للعبد أمام الله ، فهي قاعدة أصوليّة ، وكلّ قاعدة ليست كذلك ، فهي قاعدة فقهيّة.

أقول :

لكنّ لازم هذا المبنى أن يكون إجراء القواعد الفقهيّة والقواعد الاصوليّة معاً بيد المجتهد فقط ، إذ لا سبيل للعامي للفحص عن «ما وراء» القاعدة ، وتشخيص ما يكون له «ما وراء» ممّا لا يكون ، ثم معرفة «ما وراء» القاعدة ... والحال أنّ بعض القواعد الفقهيّة يجريها العوام بلا توقّف. فتدبّر.

٥٦

فائدة علم الاصول

لا يخفى أن لعلم الاصول جهة آليّة ، وأنّه ليس البحث عن المسألة الاصوليّة إلاّ وسيلةً ، فمعرفة مسائل هذا العلم ليست بمطلوبٍ نفسي ، بل مطلوب غيري ، وذلك المطلوب هو تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي ، ففائدة هذا العلم ونتيجته تتعلّق بعلم الفقه ومعرفة الأحكام الشرعيّة ، لأن الفقه ـ كما عرّفوه ـ هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلّتها التفصيليّة.

إلاّ أنْ الفقه في اصطلاح الكتاب والسنّة هو أعمّ من الأحكام الشرعيّة ، ويشمل المعارف الدينيّة والأخلاق أيضاً.

في علم الاصول يبحث عن النسب الواقعة بين الأحكام الشرعيّة ، والنصوص المتعلّقة بها في الكتاب والسنّة ، لتفهم تلك النسبة فهماً تحقيقيّاً لا تقليدياً.

فعلم الاصول وسيلة لفهم نصف الدين ، وهو الفقه.

فهذه فائدة هذا العلم.

وهذا تمام الكلام في التمهيدات.

٥٧
٥٨

حقيقة الوضع

٥٩
٦٠