تحقيق الأصول - ج ١

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-2501-93-9
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤١٦

وأمّا على القول بالتركّب ، فاستدلاله يختلف عمّا ذكره المحقق النائيني ، قال :

إنّ مدلول المشتق بناءً عليه إمّا «مَن حَصَلَ منه الفعل» كما عليه العلاّمة في (تهذيب الاصول) ، وامّا «من كان له الفعل» كما عليه صاحب (الفصول) ، مع إهمال النسبة بين المبدا والذات ، وكيف كان ، فيرد عليه :

أوّلاً : إن لازم ذلك صدق المشتق على من سيتلبّس بالمبدإ حقيقةً ، لأن النسبة المهملة تصدق على الجميع ، مع اتّفاقهم على أنه مجاز وليس بحقيقة.

وثانياً : إن حقيقة النسبة ليس إلاّ الخروج من العدم إلى الوجود ، فخروج المبدا من العدم إلى الوجود هو النسبة ، وهو عين الفعليّة ، فلا يتصوَّر وجود جامعٍ ولا يعقل الوضع للأعم.

النظر في مناقشة السيّد الخوئي

وقد أجاب في (المحاضرات) (١) عن استدلال استاذه النائيني ، لأجل إثبات الإمكان بناءً على التركّب ، بما حاصله : إنه لا حاجة إلى كون الجامع بين المتلبّس ومن انقضى عنه المبدا جامعاً حقيقيّاً ، ليرد عليه ما ذكر ، بل يكفي الجامع الانتزاعي ، كعنوان «أحدهما» ، فإنه ممكن ، بأنْ يلحظ الواضع الذات المتلبّسة بالمبدإ ، والذات التي انقضى عنها المبدا ، وينتزع منهما جامعاً هو «أحدهما» ويكون كلٌّ منهما مصداقاً له ، وذلك ، لأن حقيقة الوضع هي الحكم وهو اعتبارٌ لا غير ، فكما يمكن جعل الوجوب مثلاً للجامع الانتزاعي ، بأن يكون الواجب «أحد الامور الثلاثة» ، فكذا وضع اللّفظ للجامع الانتزاعي بين المتلبس وما انقضى عنه التلبس بالمبدإ.

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ / ٢٦٤.

٣٨١

وأمّا بناءً على البساطة ، فإن أصل المبنى باطل ، إذ المشتق مركّب لا بسيط.

وإلى هذا يعود ما أجاب به في (المحاضرات) عن بيان المحقق الأصفهاني.

وأورد عليه شيخنا دام ظلّه :

بأنَّ هذا الجواب غير صحيح ، لأن الميرزا وإنْ جوّز ـ في بحث الواجب التخييري ـ جعل الوجوب على أحد الامور ، كما في خصال الكفّارة ، إلاّ أنه قال بأنه خلاف ظواهر الأدلَّة.

أمّا هنا ، فله أن يقول : إنّ حكمة الوضع هي الدّلالة على المعاني والتفهيم بإحضار المعاني بواسطة الألفاظ عند الأذهان ، فلو كان المشتق موضوعاً حقيقةً لعنوان «أحدهما» الجامع بين الحصّتين ، لكان هذا المعنى هو الآتي إلى الذهن ، إذ من المحال أنْ يوضع المشتق لهذا المعنى من دون أن يكون له حكاية عنه ، مع أنّ هذا العنوان لا يحضر إلى الذهن من المشتق ، كالعالم والضارب وغيرهما.

فإن قيل : إن الموضوع هو مصداق أحدهما وواقعه ، لا المفهوم.

قلنا : هذا خلاف نصّ كلام المستشكل ، لأنه يقول بالجامع الانتزاعي ، وليس فيه ذكرٌ لواقع الجامع الانتزاعي ، وأيضاً ، هذا خلف ، لأنّ مورد البحث عند كافّة العلماء هو : هل الموضوع له الحصّة أو الأعم؟ فالموضوع له عامّ ، و «واقع أحدهما» فردٌ ، فيكون الموضوع له خاصّاً.

التحقيق في الجواب

قال شيخنا دام بقاه : والتحقيق في الجواب أن يقال : أمّا على البساطة

٣٨٢

فغير ممكن كما قالا ، لأنَّ الموضوع له بناءً عليه هو نفس المبدا والمادّة ، فلا يتصوّر فيه المتلبّس وما انقضى عنه ، وتصوير المحقق العراقي بأن الموضوع له هو المادّة المنتسبة ، مخدوش بأنه خروج عن البساطة ورجوع إلى التركّب. إذاً ، لا يجري النزاع في المشتق بناءً على هذا القول.

وأمّا بناءً على القول بالتركّب ، فتارةً : نقول بأنه يوجد لمدلول هيئة المشتق ـ الذي هو عبارة عن النسبة ـ له قدر مشترك وجامع ، واخرى : نقول بأنه معنىً حرفي ، والمعنى الحرفي لا جامع له إلاّ الجامع العنواني ، وموطنه الذهن.

فبناءً على الثاني ، لا يمكن تصوير الجامع ، لأن الموضوع له حينئذٍ خاص ، ولا يعقل أن يصير جامعاً بين النسبتين ، إذن ، يسقط البحث.

أمّا بناءً على الأوّل ـ والقول بأنّ الوضع في الحروف عام والموضوع له عام كذلك ـ فإنّه يصوَّر وضع هيئة المشتق للأعم ، وعليه ، يمكن تصوير الجامع ، لأنا في هذا المقام لا نحتاج إلاّ إلى ذاتٍ تنطبق على كلتا الحصّتين ـ المتلبّس وما انقضى عنه ـ ، وهو الذات المبهمة من جميع الجهات إلاّ من حيث الاتّصاف بالمبدإ ، أي الاتّصاف به الموصوف بالوجود ، في قبال الذات التي لم تتّصف بالمبدإ أصلاً ، لوضوح أن هناك ذاتاً لم تتّصف بالعلم أصلاً ، وذاتاً اتّصفت وزال عنها العلم ، وذاتاً اتّصفت به وما زالت متلبّسةً به ، فالذات التي تنطبق على الحصّتين ـ الثانية والثالثة ـ هي الجامع الموضوع له المشتق ، أي : الذات التي هي في قبال التي لم تتّصف أصلاً.

إن تصوير هذا بمكانٍ من الإمكان ، ولا يترتب عليه أيّ محذور ثبوتي.

وقوله : إنه ليس الجامع إلاّ الزمان ، في غير محلّه ، لعدم الحاجة إلى

٣٨٣

الزمان بالنظر إلى ما ذكرناه.

هذا فيما يتعلَّق بكلام الميرزا رحمه‌الله.

والعمدة ما ذكره المحقق الأصفهاني رحمه‌الله.

فأمّا إشكاله الأوّل ، وهو أنّه إذا كانت النسبة مهملة وجب الصدق على من سيتلبّس بالمبدإ في المستقبل. فيجاب عنه : بأنّ النسبة متعيّنة من تلك الجهة ، وإهمالها هو من الجهتين الاخريين ، وليس الإهمال من جميع الجهات.

وأمّا إشكاله الثاني ، وهو أن حقيقة النسبة هو الخروج من العدم إلى الوجود ، وهذا عين الفعليّة. فيجاب عنه : إنه لا ريب في وجود النسبة في «الممتنع» و «المعدوم» وما شابه ذلك ، مع أنّ الامتناع والعدم ونحوهما يستحيل خروجها إلى الوجود ، كما أنّ الخروج من العدم إلى الوجود لا معنى له في المجرّدات ، مع وجود النسبة فيها كما هو واضح ، ولا وجه للالتزام في هذه الموارد بالمجاز ...

فظهر بما ذكرنا ... أن المقتضي ثبوتاً موجود.

الجهة الثانية

ويقع الكلام في الإثبات :

بعد تصوير الجامع في مقام الثبوت ، والمراد منه هو الجامع القابل للإثبات العرفي ، فإنْ قام الدليل في مقام الإثبات على الوضع لخصوص الصحيح أو الأعم فهو ، وإلاّ كان الكلام مجملاً والمرجع هو الأصل.

وفي هذه الجهة أقوال ، وعمدتها قولان :

١ ـ الوضع لخصوص المتلبّس مطلقاً.

٣٨٤

٢ ـ الوضع للأعم من المتلبّس وما انقضى عنه التلبّس مطلقاً.

وسائر الأقوال تفصيلات :

كالتفصيل بين ما إذا كان المشتق محكوماً به أو محكوماً عليه.

والتفصيل بين ما إذا كان المبدا فيه الملكة أو الحرفة أو الشأنيّة وما ليس من هذا القبيل.

ولم يتعرّض المحقّق صاحب (الكفاية) للتفصيلات ، وهذا هو الصحيح ، لأنّها ناظرة إلى مبدإ الاشتقاق ، وموضوع البحث ـ كما تقرّر سابقاً ـ هو الهيئة ، ولا أثر لاختلاف المواد.

وإليك أدلّة القولين والتحقيق حولها :

أدلّة القول بالوضع للمتلبّس

واحتجّ للقول بوضع المشتق لخصوص المتلبّس ـ وهو قول المشهور ـ بوجوهٍ ، ذكر في (الكفاية) ثلاثة منها :

١ ـ التبادر

بدعوى أنَّ المتبادر والمنسبق إلى الذهن من المشتقّ ، هو عبارة عن الحصّة المتلبّسة والصّورة التلبّسية ، ولا دخل في تبادر هذا المعنى منه لشيءٍ من خارج حاقّ اللّفظ ، وهذا هو علامة الحقيقة.

وتقريب ذلك : أمّا من ناحية الصّغرى ، فلأنّا نرى انسباق هذا المعنى خاصّةً من المشتق ، على جميع المباني في الموضوع له فيه ، من أنّه الحدث لا بشرط ، أو الحدث مع النسبة ، أو الذات مع النسبة ، أو الثلاثة معاً ...

ونرى أيضاً انسباقه منه في جميع صور استعمالاته ، كأن يكون مفرداً

٣٨٥

مثل «ضارب» أو يكون مضافاً إلى لفظٍ آخر ، في نسبةٍ تامّة مثل «زيد ضارب» أو ناقصة مثل «ضارب زيد».

فعلى جميع الأقوال ، وفي مختلف التركيبات ، لا يفيد المشتق إلاّ معنًى واحداً ، وهو خصوص المتلبّس ، ولا يتبادر إلى الذهن منه غيره ... فيكون هو الموضوع له حقيقةً.

وأمّا من ناحية الكبرى ، فمناط دليليّة التبادر هو : أن انسباق المعنى من اللَّفظ أمر حادث ، فلا يكون بلا علّةٍ ، فإنْ كانت العلّة هي القرينة ، فالمفروض عدمها ، وإن كان الوضع الواقعي ، فالوضع كذلك ليس بعلّةٍ وإلاّ لزم حصول التبادر عند الجاهل بالوضع ، وبعد بطلان كلا الشقين ، ينحصر الأمر بالعلم بالوضع ، ولا فرض آخر.

والحاصل : أنا كلّما غيّرنا موقع استعمال المشتق ، وجدنا تبادر المعنى منه ، بلا فرق ، ممّا يدلّ على عدم استناد الانسباق إلى أمرٍ خارجٍ من قرينةٍ أو غيرها ... وإنما يستند إلى الوضع فقط.

هذا تقريب الاستدلال بالتبادر ، وإنّ مراجعة الكتب اللّغويّة في اللّغات المختلفة لتؤيّد هذا المعنى ، لأن مداليل الهيئات لا تختلف في اللغات ، والمتبادر من «العالم» في سائر اللّغات هو خصوص المتلبّس بالعلم ، وهكذا غيره من المشتقات ...

لكنْ لا بدَّ من إثبات كون هذا الانسباق من حاق اللَّفظ ، ولا يتم ذلك إلاّ بدفع شبهتين :

(الشبهة الاولى) هي : إن المطلوب هو تبادر المعنى وانسباقه من حاقّ اللّفظ ، وذلك علامة الحقيقة ، ولكنه قد ينشأ من الإطلاق ، بمعنى أنه كلّما

٣٨٦

يستعمل اللّفظ الفلاني خالياً عن القيود يستفاد منه المعنى الفلاني ، أو بمعنى أنّ كثرة استعماله في ذاك المعنى يوجب انسباقه منه ، وهذا هو المستفاد من كلام المحقق صاحب (الكفاية) (١) ، فلعلّ كثرة استعمال المشتق في المتلبّس هي السبب في انسباق خصوص هذا المعنى منه إلى الذهن ، في كلّ موردٍ اطلق فيه المشتق.

وإذا جاء احتمال استناد الانسباق إلى أمرٍ خارجٍ ، سقط الاستدلال بالتبادر على المدّعى.

وقد أجاب في (الكفاية) عن هذه الشّبهة بأنّ استعمال المشتق في الأعمّ ، إن لم يكن أكثر منه في المتلبّس ، فليس بأقل ، فالتبادر هنا من حاقّ اللّفظ لا من الإطلاق ، لأنّ التبادر الإطلاقي إنما هو حيث يكون الاستعمال في أحد المعنيين كثيراً وفي الآخر نادراً.

فوقع في إشكال آخر ، وذلك أن ما اعترف به من كثرة استعمال المشتق في المعنى المجازي ، أي الأعم ، على حدّ استعماله في المعنى الحقيقي ـ إنْ لم يكن أكثر ـ لا يتلائم مع حكمة الوضع المقتضية لاستعمال اللَّفظ في المعنى الحقيقي الموضوع له ، وبالمنافاة بين كثرة المجاز كذلك وبين حكمة الوضع ، يستكشف عدم وجود كثرة استعمال المشتق في الأعم ، بل هي في خصوص المتلبّس ، وحينئذٍ يعود احتمال استناد التبادر والانسباق إلى كثرة الاستعمال هذه ، فيرجع الإشكال ويسقط الاستدلال.

فأجاب أوّلاً : إن مجرَّد الاستبعاد غير ضائر بالمراد ، أي الوضع

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٧ ط مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلام ، ذيل ارتكازية التضاد ، وهو الوجه الثالث من وجوه الاستدلال للقول الأوّل.

٣٨٧

لخصوص المتلبّس.

وثانياً : إنما يلزم غلبة المجاز ، لو لم يكن استعماله فيما انقضى بلحاظ حال التلبّس ، مع أنه بمكانٍ من الإمكان ، فيراد من «جاء الضارب» ـ وقد انقضى عنه الضرب ـ : جاء الذي كان ضارباً قبل مجيئه حال التلبس بالمبدإ ، لا حينه بعد الانقضاء لكي يكون الاستعمال بلحاظ هذا الحال وجعله معنوناً بهذا العنوان فعلاً بمجرّد تلبّسه قبل مجيئه ، ضرورة أنه لو كان للأعم لصحّ استعماله بلحاظ كلا الحالين ...

وأفاد الاستاذ دام ظله بعد أن شرح هذا الكلام : بأنه على هذا أيضاً يعود الإشكال ، لأنّه لمّا صار الاستعمال فيما انقضى بلحاظ التلبّس قليلاً ، وفي المتلبّس كثيراً ، رجع احتمال كون التبادر والانسباق ناشئاً من كثرة الاستعمال في المتلبّس ، ومن هنا ذكر المحققون من المحشّين على (الكفاية) من تلامذته أن حاصل كلامه تسجيل الإشكال على نفسه.

وأمّا ما ذكره من أنّ كثرة الاستعمالات المجازيّة غير ضائر ، ففيه : إنّه إذا كان اللّفظ يستعمل في معاني مجازية متعددة ، فهذا لا إشكال فيه ولا ينافي حكمة الوضع ، لكنّ كثرة الاستعمال المجازي في مقابل المعنى الحقيقي ، كأنْ يوضع لفظ «الأسد» للحيوان المفترس ثم يستعمل ـ في الأكثر ـ في الرجل الشجاع ، فهذا ينافي حكمة الوضع ، وما نحن فيه من هذا القبيل.

ثم قال الاستاذ :

والتحقيق في المقام : إن التبادر على قسمين : التبادر عند المستعلم ، والتبادر عند أهل اللّسان ، فإن كان المعيار هو القسم الأوّل ، فإن مجرَّد احتمال كونه ناشئاً من كثرة الاستعمال يسقطه عن الاعتبار ، إلاّ أنْ يحصل القطع بعدم

٣٨٨

دخل كثرة الاستعمال في التبادر ، لكنّ حصول مثل هذا القطع بعيد ، ولو اريد التمسّك بأصالة عدم استناد التبادر إلى كثرة الاستعمال ، ولازمه كونه مستنداً إلى حاقّ اللّفظ ، كان من الأصل المثبت ، على أنه معارض بأصالة عدم استناده إلى حاقّ اللّفظ.

وأمّا إن كان المعيار هو التبادر بالمعنى الثاني ، وهو الصحيح ، كما ذكرنا في محلّه ، فالإشكال مندفع ، لسقوط احتمال استناد التبادر عند أهل اللّسان إلى كثرة الاستعمال ، لأنَّ سيرة العقلاء ـ في استكشاف المعاني الحقيقيّة للألفاظ ـ قائمة على الرجوع إلى أهل اللّسان وأخذ المعاني منهم ، فيرجعون إلى استعمالاتهم للَّفظ في الموارد المختلفة والتركيبات المتفاوتة ، فإذا رأوا ثبوت المعنى واطّراده وعدم تغيّره بتغيّر الاستعمالات والحالات ، وأنه هو الذي ينسبق إلى أذهانهم في جميع المقامات ، حصل لهم اليقين باستناد المعنى إلى حاقّ اللّفظ لا إلى شيء آخر.

فحلّ الإشكال يتمّ بأمرين :

أحدهما : أن الحجّة من التبادر ما كان عند أهل اللّسان ، لا ما كان عند المستعلم.

والثاني : إن بناء العقلاء على الرجوع إلى أهل اللّسان في استكشاف المعاني الحقيقيّة للألفاظ ، لا إلى المستعملين.

فهذا هو الحلّ للإشكال ، لا ما ذكره صاحب (الكفاية) ومن تبعه ، فافهم واغتنم.

(الشبهة الثانية) هي : شبهة الأولويّة العقليّة ، وبيانها : إن الواضع لو كان قد وضع المشتق للأعم ، فإنّ مناط وضعه له هو جهة التلبّس ، إذ لولاه لم يكن

٣٨٩

وضع ، غاية الأمر هو أن الأخصي يقول بأن الوضع لخصوص المتلبّس ، والأعمي يقول : ذاك أصبح مناطاً والوضع للأعم منه ، إذن ، يكون لصدق المشتق على المتلبّس أولويّة عقليّة بالنسبة إلى الأعم ، ولعلّ هذه الأولويّة هي السّبب في انسباق المتلبّس خاصّةً ، ومعه لا يقين بكونه مستنداً إلى حاقّ اللّفظ ، ليكون حجةً.

قال شيخنا دام ظلّه :

وهذا الاحتمال لا دافع له ، إلاّ بأنْ يقال : بأن المهمّ ـ كما تقدّم ـ هو الرجوع إلى أهل اللّسان ، لا إلى المستعلم ، وإنه ليس في ارتكازات أهل اللّسان مثل هذه الأولويّة العقليّة في دلالات الألفاظ.

فيكون التبادر ناشئاً من حاقّ اللّفظ لا من غيره.

٢ ـ صحّة السّلب

قال في (الكفاية) بعد التبادر : وصحّة السلب مطلقاً عما انقضى عنه ، كالمتلبّس به في الاستقبال ، وذلك ، لوضوح أن مثل «القائم» و «الضارب» و «العالم» وما يرادفها من سائر اللّغات ، لا يصدق على من لم يكن متلبّساً بالمبادئ وإنْ كان متلبّساً بها قبل الجري والانتساب ، ويصحّ سلبها عنه ، كيف؟ وما يضادّها ـ بحسب ما ارتكز من معناها في الأذهان ـ يصدق عليه ، ضرورة صدق «القاعد» عليه في حال تلبّسه بالقعود بعد انقضاء تلبّسه بالقيام ، مع وضوح التضادّ بين «القاعد» و «القائم» بحسب ما ارتكز لهما من المعنى ، كما لا يخفى.

وهذا الاستدلال لا يخلو من إبهام ، فإنّ صحّة الحمل وصحة السّلب على قسمين : صحّة الحمل والسّلب المفهومي ، وصحّة الحمل والسّلب

٣٩٠

المصداقي. فصحّة الحمل المفهومي بالحمل الأوّلي علامة الحقيقة ، وصحة السّلب كذلك علامة المجاز ، وصحّة الحمل المصداقي بالحمل الشائع علامة الحقيقة ، ويقابله صحة السلب كذلك ، فإنه علامة المجاز ، والتقرير المذكور في (الكفاية) وغيرها إنما هو صحة السّلب بالحمل الشائع الصناعي ، لأنّ «زيداً» الذي انقضى عنه «الضرب» نسلب عنه ذلك بماله من المعنى ، ثم نقول : لو كان الموضوع له «الضارب» هو الأعم ، لكان زيد المنقضي عنه التلبس بالضرب مصداقاً له ، إلاّ أن صحّة سلب ذلك عنه دليلٌ على أنّ هذا الفرد ليس مصداقاً لكلّي «الضارب» فيثبت أن الطبيعة غير متحققة فيه ، ويثبت أنه غير موضوع له ، بل هو المتلبّس فقط.

هذا توضيح الاستدلال ، وسيأتي تحقيق الحال في ذلك عند النظر في كلام المحقق الأصفهاني.

إشكال المحقق الرشتي وجواب الكفاية

ثم إنّ صاحب (الكفاية) تعرّض لإشكال المحقق الرشتي قائلاً : ثم إنه ربما أورد على الاستدلال بصحة السلب بما حاصله : إنه إنْ اريد بصحّة السلب صحّته مطلقاً فغير سديد ، وإنْ اريد مقيَّداً فغير مفيد ، لأنَّ علامة المجاز هي صحة السّلب المطلق.

توضيح الإشكال : إن الإهمال في مقام الحمل والسلب غير معقول ، فإمّا أن نسلب المطلق ، أو نسلب المقيّد ، مثلاً : لمّا نقول : «زيد ليس بضاربٍ الآن» إن كان المسلوب هو «الضارب» المقيَّد ب «الآن» كان السلب المقيَّد غير مفيدٍ للسلب المطلق ، فلا يثبت الوضع لخصوص المتلبّس ، فلعلّه ليس بضاربٍ الآن ، لكنه ضارب ، فهذا غير مفيد. وإن كان المسلوب هو

٣٩١

«الضارب» المطلق ، فهذا أوّل الكلام ، لأنّا لا نسلب «الضارب» بقولٍ مطلق عن «زيد» في ظرف الانقضاء ، فهي دعوى بلا برهان ، وهي غير سديدة.

وملخّصه : إنْ قلنا : زيد غير ضاربٍ مطلقاً ، فهذا غلط ، لأنه ضارب موجبةً جزئية ، وإنْ قلنا : إنه الآن ليس بضاربٍ ، فهذا نفي للأخص ، وهو لا ينفي الأعم فلا ينتفي الوضع له.

وقد أجاب المحقّق صاحب (الكفاية) بما توضيحه : إن قيد «الآن» في قضيّة «زيد ليس بضاربٍ الآن» لا يخرج عن ثلاثة أحوال ، فإمّا هو قيدُ المسلوب وهو «الضارب» أي : ليس زيد ضارباً الآن. وامّا هو قيد المسلوب عنه وهو «زيد» أي : زيد الذي هو في الآن غير ضارب. وامّا هو قيد السلب ، أي : زيد ليس الآن بضارب.

فعلى التقدير الأوّل ، تسقط صحة السّلب عن كونها علامةً ، ويتوجّه إشكال المحقق الرشتي ، لأنه ليس بسلبٍ للضّارب المطلق عن زيد.

أمّا على التقديرين ـ الثاني والثالث ـ فلا يرد إشكاله ، بل يكون الحمل فيهما أمارةً على أنّ «الضارب» غير موضوع للأعم.

كلام المحقق الأصفهاني

وللمحقق الأصفهاني في هذا المقام كلام دقيق ، وحاصله : إنّ السّلب يعتبر تارةً : بالحمل الأوّلي الذّاتي ، وهو السّلب المفهومي ، واخرى : يعتبر بالحمل الشائع. فإنْ اعتبر بالحمل الأوّلي ، كان اللاّزم سلب ما ارتكز في الأذهان أو تعارف في عرف أهل اللّسان من المعنى الجامع ـ لا من خصوص ما انقضى عنه المبدا ، فإنّ سلبه لا يستدعي السلب عن الجامع ـ ويكون هذا السّلب علامة المجاز ، وحيث أنه بلحاظ المفهومين ، فلا حاجة فيه إلى التقييد

٣٩٢

بالزمان ، كي يورد عليه بما ذكره المحقق الرشتي.

وإنْ اعتبر السّلب بالحمل الشّائع ، فتارةً : يلحظ الزمان قيداً للسّلب ، وهو علامة عدم الوضع للجامع ، وإلاّ لما صحَّ سلبه عن مصداقه في حينٍ من الأحيان ، واخرى : يلحظ المسلوب عنه في حال الانقضاء ويسلب عنه مطلقاً مطلق الوصف ، وثالثة : يلحظ المسلوب في حال الانقضاء فيسلب عن الذات مطلقاً ، فإن ما لا أماريّة لصحّة سلبه هي المادّة المقيّدة ، فإن عدم كونه ضارباً بضرب اليوم لا ينافي كونه فعلاً ضارباً بضرب الأمس ، بخلاف الهيئة المقيَّدة ، فإنّ عدم كونه ضاربَ اليوم ـ ولو بضرب الأمس ـ ينافي الوضع للأعم.

فإذن ، تصحُّ أماريّة صحة السلب مقيّداً للمجازيّة ، سواء كان القيد قيداً للسلب أو المسلوب أو المسلوب عنه.

وأمّا ما ذكره المحقّق الرشتي ـ وسلّم به المحقق الخراساني ـ من أن القيد إنْ رجع إلى المسلوب ـ أي الضارب ـ فلا أماريّة ، فإنّما يسلّم به فيما إذا كان للوصف بلحاظ حال الانقضاء فردان ، فإنّ سلب أحد الفردين لا يستلزم سلب المطلق ، لإمكان وجوده في الفرد الآخر ، مع أنّ المدّعى كون الوصف في حال الانقضاء فرداً في قبال حال التلبّس ، فإنْ صحّ سلبه في حال الانقضاء فقد صحَّ سلبه بقولٍ مطلق ، لانحصاره فيه.

فيسقط إشكال المحقق الرشتي ، وكذا تسليم المحقق الخراساني.

ثم جعل يردُّ على المحقق صاحب (الكفاية) قائلاً :

والتحقيق : عدم خلوص كلّ ذلك عن شوب الإشكال ، لأنّه أفاد أن قيد «الآن» يمكن إرجاعه إلى المسلوب عنه «زيد» ويكون أمارةً على المجازيّة في الأعم ، وكذا إنْ رجع إلى نفس السّلب ، فقال المحقّق الأصفهاني : بأنّ

٣٩٣

«زيداً» المسلوب عنه غير قابل للتقيّد بالزّمان ، لعدم معنىً لتقيّد الثابت وتحدّده بالزمان ، فإنه مقدَّر الحركات والمتحرّكات ، وأمّا الثوابت والجوامد فلا تقدَّر به حتى بناءً على القول بالتجدّد في الجوهر.

قال : وأمّا تقييد السلب ، فغير سديد ، لأنّ العدم غير واقع في الزمان ولو كان مضافاً إلى شيء ، لأنّ الزمان ليس مقداراً لكلّ موجودٍ مهما كان ، بل هو مقدار للموجودات التي فيها الحركة والتصرّم ، فلا يصحُّ جعل «الآن» قيداً ل «ليس» (١).

رأي الشيخ الاستاذ

هذا ما حقّقه المحقق الأصفهاني ، فقال الاستاذ دام بقاه بعد تقريبه : لكن الإشكال في أصل المبنى.

فأمّا الحمل الأوّلي فهو عبارة عن الاتّحاد بين الموضوع والمحمول مفهوماً ، فهو إنما يوجب اتّحادهما في المفهوم وإنْ كان بينهما تغاير بالإجمال والتفصيل مثلاً ، ولا يتكفّل كون اللّفظ في المعنى حقيقيّاً أو مجازيّاً ، وبعبارة اخرى : إنه لا يرتبط بعالم اللّغة وكيفيّة الوضع أصلاً ، وإنّما يكون في عالم المفاهيم والمعاني والموجودات ، سواء كان هناك لفظٌ أو لا.

وأمّا الحمل الشائع ، فهو ناظر إلى الاتّحاد الوجودي بين مفهومي الموضوع والمحمول ، سواء وجد لفظٌ في البين أو لا ، كذلك.

وعلى الجملة ، فإنّه صحّة الحمل وصحّة السلب يرتبطان بالمفاهيم بما هي مفاهيم ، والحقيقة والمجاز يرتبطان بالمفاهيم بما هي مداليل للألفاظ ، وما يرتبط بالمفاهيم بما هي لا يكون دليلاً على ما يرتبط بالمعاني بما هي

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ١٩٧ ـ ١٩٩.

٣٩٤

مداليل للألفاظ.

والحاصل : إن الحمل يعطينا نتيجةً عقليّةً لا لغويّة ووضعيّة.

وعليه ، يسقط هذا الوجه من الأساس.

٣ ـ التضادُّ بين المفاهيم

وهذا الوجه ذكره صاحب (الكفاية) كتتمّة للوجه الثاني ، ثم قال : «وقد يقرَّر هذا وجهاً على حده ويقال : لا ريب في مضادّة الصّفات المتقابلة المأخوذة من المبادي المتضادّة على ما ارتكز لها من المعاني ، فلو كان المشتق حقيقةً في الأعمّ ، لما كان بينها مضادّة بل مخالفة ، لتصادقها فيما انقضى عنه المبدا وتلبَّس بالمبدإ الآخر. فزيد الذي كان قائماً ثم قعد يصدق عليه الآن عنوان «القاعد» ، فلو كان المشتق حقيقةً في الأعم لصدق عليه الآن عنوان «القائم» أيضاً ، وكونه قائماً وقاعداً في الآن الواحد اجتماعٌ للضدّين ارتكازاً ، فهذا التضادّ الارتكازي يكشف عن أن صدق المشتق على من انقضى عنه التلبس مجاز وليس بحقيقةٍ.

وفيه :

إن غاية ما يدلّ عليه هذا الوجه وقوع التضادّ على أثر تبادر خصوص المتلبّس من المشتق ، ولو لا تبادره منه لما وقع ، فلا يكون هذا الوجه دليلاً على حدة ، وإنما يتفرّع على الوجه الأوّل.

هذه هي الوجوه التي احتجّ بها صاحب (الكفاية) وغيره من القائلين بالقول الأوّل ، وعمدتها هو الوجه الأوّل ، وقد عرفت اندفاع الشبهات عنه ، فالقول الأوّل هو المختار.

٣٩٥

أدلّة القول بالوضع للأعم

واحتجَّ للقول الثاني ، وهو أن المشتق موضوع للأعم من المتلبس وما انقضى عنه ، بوجوه كذلك :

الأوّل : التبادر

فالمنسبق إلى الذهن من المشتق هو المعنى الأعم.

وفيه :

إن هذه الدعوى مردودة ، إذ لا ريب في انسباق القائم بالفعل من لفظ «القائم» وهكذا غيره من المشتقات ، نعم لهم أنْ ينكروا ذلك ، وينتهي الأمر إلى الإجمال ، أمّا دعوى تبادر الأعم ، فغير مسموعة أصلاً.

الثاني : عدم صحة السّلب

فلا يصح السّلب في مثل «مقتول» و «مضروب» ونحوهما من أسماء المفاعيل ، عمّن انقضى عنه المبدا ، وإذا لم يصح في اسم المفعول ، فلا يصح في غيره من الهيئات.

والجواب :

إنه لا شبهة في أنّ النسبة بين حيثيّة الصدور وحيثيّة الوقوع هي نسبة التضايف ، فلا يمكن الانفكاك بين صدور القتل من القاتل ووقوعه على المقتول ، فإذا كان «المقتول» مثلاً صادقاً على من انقضى عنه التلبّس بالقتل وقوعاً عليه ، لزم صدق «القاتل» حقيقةً على من انقضى عنه التلبّس بالقتل صدوراً منه ، لكن «القاتل» لا يصدق إلاّ على المتلبّس بالقتل بالفعل.

فإن كان «المقتول» صادقاً على من انقضى عنه التلبس ، فذلك لأنّ المراد من المبدا فيه ، أي القتل ، معنىً آخر ـ غير معناه الحقيقي ـ يكون

٣٩٦

التلبّس به باقياً في الحال ولو مجازاً ، بأنْ يراد منه زهوق الرّوح ، فعدم صحّة السلب في «المقتول» هو لأجل بقاء التلبّس بالمبدإ بالمعنى المذكور فعلاً.

أقول : قد يقال : إن هذا مصادرة بالمطلوب ، لأن دعوى عدم صدق اسم الفاعل على غير المتلبّس حقيقةً ، موقوفة على تبادر المتلبّس خاصّةً من المشتق ، وهذا أوّل الكلام.

الثالث : قوله تعالى : «لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ»

والوجه الثالث : استدلال الإمام عليه‌السلام بقوله تعالى : (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) على عدم لياقة من عبد صنماً أو وثناً لمنصب الإمامة والخلافة ، تعريضاً بمن تصدّى لها ممّن عبد الصّنم ، ومن الواضح توقّف ذلك على كون المشتق موضوعاً للأعم ، وإلاّ لما صحَّ التعريض ، لانقضاء تلبّسهم بالظلم وعبادتهم للصنم ، حين التصدّي للخلافة.

قاله صاحب (الكفاية) قدس‌سره.

جواب صاحب الكفاية

وأجاب عنه بما ملخَّصه : إنّ العناوين الواقعة موضوعاتٍ للأحكام الشرعيّة على ثلاثة أقسام :

(أحدها) أنْ يكون أخذ العنوان لمجرّد الإشارة إلى ما هو في الحقيقة موضوع الحكم ، لمعهوديّته بهذا العنوان ، من دون دخلٍ لاتّصافه به في الحكم أصلاً ، كأن يقول : أكرم من في المسجد ، إذا كان موضوع الحكم ذوات الأشخاص ، وكان عنوان «الكون في المسجد» عنواناً مشيراً إليهم.

(ثانيها) أنْ يكون لأجل الإشارة إلى عليّة المبدا للحكم ، مع كفاية

٣٩٧

مجرّد صحّة جري المشتق عليه ، ولو فيما مضى ، كما في قوله تعالى : (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا) (١) وقوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) (٢) حيث أنّ نفس حدوث السّرقة والزنا علّة لترتّب الحكم ، ولا دخل لبقائهما فيه.

(ثالثها) أنْ يكون لأجل الإشارة إلى عليّة المبدا للحكم ، مع عدم كفاية مجرّد صحّة جري المشتق فيما مضى ، بل يكون الحكم دائراً مدار صحّة الجري عليه واتّصافه به حدوثاً وبقاءً ، كما في دوران حكم وجوب التقليد مدار وجود الاجتهاد ـ مثلاً ـ حدوثاً وبقاءً ، وعدم كفاية وجوده حدوثاً في بقاء الحكم.

قال في (الكفاية) : إذا عرفت هذا فنقول : إن الاستدلال بهذا الوجه ، إنما يتم لو كان أخذ العنوان في الآية الشريفة على النحو الأخير ، ضرورة أنه لو لم يكن المشتق للأعمّ لما تمّ بعد عدم التلبّس بالمبدإ ظاهراً حين التصدّي ، فلا بدّ أن يكون للأعمّ ليكون حين التصدّي حقيقةً من الظالمين ولو انقضى عنه التلبس بالظلم. وأمّا إذا كان على النحو الثاني فلا ، كما لا يخفى ، ولا قرينة على أنه على النحو الأوّل ، لو لم نقل بنهوضها على النحو الثاني ...

قال شيخنا الاستاذ : فقد وافق صاحب الكفاية على ابتناء الاستدلال بالآية على بحث المشتق ، لو كان أخذ العنوان فيها على النحو الثالث.

جواب الميرزا النائيني

لكنّ جواب المحقق النائيني أدقّ من الجواب المزبور وهو : إن عنوان

__________________

(١) سورة المائدة : ٣٨.

(٢) سورة النور : ٢.

٣٩٨

«الظالم» المأخوذ في الآية المباركة ، قد أخذ في الموضوع بنحو القضيّة الحقيقيّة ، فهو علّة للحكم وليس بعنوانٍ مشير ، ويكون تحقّقه دخيلاً في الحكم ، فكلّ من تحقّق منه الظلم وتلبّس به فلا يكون أهلاً لأنْ تناله الإمامة ، فلا ارتباط لاستدلال الإمام عليه‌السلام بالآية بالنزاع في المشتق ، وإنما يبتني على كيفيّة دخل العنوان وعليّته للحكم ، وأنه هل يكفي حدوث التلبّس بالظلم لعدم النيل أو يعتبر معه بقاء التلبّس؟

نعم ، لو كانت القضيّة خارجيّة لا حقيقيّة ، كان للنزاع حول المشتق مجال فيها ، لأن الحكم في القضيّة الخارجيّة يتوجّه إلى الأفراد المحقّقة الوجود ، فإن كان المشتق حقيقةً في الأعم وقع النزاع في شمول الحكم لمن انقضى عنه التلبس بالمبدإ ، فمن انقضى عنه التلبّس بالعلم ، يبتني شمول الحكم بوجوب إكرام العلماء وعدم شموله له ، على النزاع في مسألة المشتق.

ولو تردّد الأمر في القضيّة الحقيقيّة بين كفاية حدوث التلبّس وعدم كفايته بل يعتبر البقاء أيضاً ، فمقتضى الأصل الأوّلي هو أن حدوث العنوان دخيل في حدوث الحكم وبقاؤه دخيل في بقائه ، إلاّ إذا قامت القرينة على خلافه ، وقد دلَّت القرينة في آية السرقة ، وآية الزنا ، ونحوهما ، على كفاية حدوث التلبّس بالمبدإ في ترتّب الحكم وهو الحدّ.

والأمر في قوله تعالى : (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) كذلك ، والقرينة في هذه الآية هي مناسبة الحكم والموضوع ، وذلك عظمة مقام الإمامة وجلالة قدرها ، ورفعة محلّها ، فمن تلبّس بالشرك وعبادة الأوثان ولو آناً ما فهو ظالم ، و (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) وهو غير لائق لتصدّي الإمامة ، حتّى لو لم نقل

٣٩٩

باشتراط العصمة في الإمام ، لتنفّر الناس منه ، واستهانتهم به (١).

ردّ الاعتراض على الاستدلال بالآية

ثم إنّه قد أورد على الاستدلال بالآية المباركة على عدم لياقة من تقمّص الإمامة والخلافة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها ، برواية :

«الإسلام يجبُّ ما قبله» ، لكنه مردود سنداً ودلالةً.

أمّا سنداً ، فلأنّ الأصل في رواية هذا الحديث هو أحمد بن حنبل ، في قضيّة عمرو بن العاص ، حيث قال عند ما أسلم : فما الذي يعصمني من كفري؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإسلام يجبّ ما قبله (٢).

وفي هذا الحديث أيضاً : «الهجرة تجبّ ما قبلها».

ودعوى انجبار ضعف السند بعمل الفريقين بهذا الخبر في عدّة أبوابٍ من الفقه ، كما ترى ، لأنَّ عمل العامّة لا يؤثّر في خروج الرواية عن الضعف ، وأمّا عمل أصحابنا ، فقد ذهب صاحب (الجواهر) والمحقق الهمداني وآخرون إلى أنه يجبر الضعف ، إلاّ أن التحقيق خلافه كما يُقرّر في محلّه (٣) ، على أنَّ الكلام هنا في الصغرى ، إذ يعتبر في الجبر إحراز عملهم بالخبر واستنادهم في الفتوى إليه ، وذاك أوّل الكلام ، لوجود أخبار وأدلّة اخرى في تلك الأبواب.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ١٢١ ـ ١٢٢.

(٢) مسند أحمد بن حنبل ٤ / ١٩٨ ـ ١٩٩.

(٣) وسيأتي ـ إن شاء الله ـ أن الأقوال في المسألة ثلاثة : أحدها : إن عمل الأصحاب جابر وكاسر ، وهو المشهور وعليه بعض مشايخنا ، والثاني : إنه لا يجبر ولا يكسر ، وعليه السيد الخوئي وبعض مشايخنا من تلامذته ، والثالث : التفصيل فهو يكسر ولا يجبر ، وعليه الشيخ الاستاذ دام بقاه.

٤٠٠