تحقيق الأصول - ج ١

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-2501-93-9
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤١٦

الجهة الثانية

وبعد الفراغ عن جهة الثبوت ، تصل النوبة إلى جهة الإثبات والظهور العرفي.

والحق : إن استعمال اللّفظ الواحد في أكثر من معنى خلاف الأصل العقلائي ، وإطلاق اللّفظ الواحد وإرادة المعاني المتعددة منه بدون نصب قرينةٍ ، شيء غير متعارف عند أهل المحاورة ، فإنهم لا يقصدون ذلك حتى في الألفاظ المشتركة ، بل لا بدّ من نصب قرينةٍ ، يقول الشاعر :

بُز وشمشير هر دو در كمرند

فكلمة «كمر» وإنْ كانت مشتركة بين «سفح الجبل» و «ظهر الإنسان» لكنّ المعنى ظاهر ، لأن «بز» وهو المعز يكون على «سفح الجبل» و «شمشير» وهو السيف يكون على «ظهر الإنسان».

فلو لم يكن المعنى ظاهراً مفهوماً لم يجز الاستعمال عقلاءً ، بل يكون مقتضى القاعدة عند عدم القرينة على التفصيل الآتي :

إن لم يكن اللّفظ مشتركاً بين معانٍ متعددة بالوضع ، فلا شبهة في حمله على المعنى الحقيقي الواحد ، بمقتضى أصالة الحقيقة ، فإنْ كان له معنى مجازيّاً مشهوراً ، والمفروض عدم القرينة ، فلا يحمل ، لا على المعنى الحقيقي ولا على المجاز المشهور ، بل يكون مجملاً.

وإن كان مشتركاً بين معانٍ عديدة ، كان محكوماً بالإجمال.

فإن علم بتعدّد المعنى المراد ، لكنْ تردّد الأمر بين إرادة المجموع وإرادة الجميع ، كما لو كان للمولى عبدان باسم «غانم» وقال : بعت غانماً بدرهمين ،

٣٢١

فعلمنا إجمالاً ببيعه كلّ واحدٍ أو بيعه كليهما معاً ، قال في (المحاضرات) (١) : لا أصل لفظي يرجع إليه ، بل المرجع هو الأصل العملي.

فقال الاستاذ : إنه بناءً على كون حجيّة أصالة الحقيقة من باب التعبّد فالمرجع هو أصالة الحقيقة ، وعليه ، يحمل الكلام على العام المجموعي ، لأن المفروض إمكان استعمال اللّفظ في أكثر من معنى ، والمفروض كونه حقيقة في كلا الفردين ، وعليه يحكم باشتغال ذمّة المشتري بأربعة دراهم.

وأمّا بناءً على القول بحجيّة أصالة الحقيقة من باب الظهور ، فالمفروض عدم الظّهور ، لكون مثل هذا الاستعمال على خلاف الأصل العقلائي في مقام المحاورة.

وإنْ كان اللّفظ حقيقةً في كلٍّ من الفردين ومجازاً في المجموع ، فالكلام حينئذٍ مجمل.

إلاّ أن هذا التفصيل غير وارد في (المحاضرات) ، لأنه ذهب إلى استحالة الاشتراك ، على مسلكه في الوضع وهو التعهّد ، فلا مورد لأصالة الحقيقة بناءً عليه.

تفصيل صاحب المعالم

وفصّل صاحب (المعالم) (٢) بين اللّفظ المفرد والتثنية والجمع ، فقال بأنّ استعمال اللّفظ في أكثر من معنى إن كان مفرداً فمجاز ، وإن كان مثنّى أو جمعاً فحقيقة.

والحق : عدم الفرق ، لأن هيئة التثنية تدلّ على تعدّد مدلول المفرد ، فإن

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ / ٢٢١.

(٢) معالم الاصول : ٥٢ ط دار الفكر.

٣٢٢

جاز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى حقيقةً فلا فرق ، وإنْ لم يجز فلا فرق كذلك ، فلفظ «العيون» يدل على تعدّد «العَين» المفروض كونه موضوعاً بأصل اللّغة لأكثر من معنى ، لا أنه يدل على «عَينٍ» و «عين» و «عين» ... بأن يراد من اللّفظ الأوّل الباصرة ، ومن الثاني : الجارية ، ومن الثالث : عين الشمس ... وهكذا ...

ثمرة البحث في استعمال اللّفظ في أكثر من معنى

هذا ، وللبحث عن استعمال اللّفظ في أكثر من معنى ثمرات :

منها : ما تقدَّم في مثال بيع غانم ، وكذا عتقه ، وكذا لو كان له زوجتان باسم هند ، فطلَّق هنداً ، وهكذا في جميع الألفاظ المشتركة ، الواقعة في إنشاءٍ ، من البيع والوصيّة والصّلح والهبة والطلاق.

ومنها : البحث في مدلول قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام» (١) هل يفيد جعل الحليّة فقط ، أو يفيد جعلها وجعل استمرارها متى شك فيه؟

ومنها : البحث في مدلول قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر» (٢) فالبحث المشار إليه جارٍ فيه كذلك.

وعلى الجملة ، هل الخبران يجعلان الحلّ والطّهارة فقط ، أو يصلحان لجعلهما وجعل استصحابهما لدى الشك في بقائهما؟

ومنها : في قوله عليه‌السلام : «لا ينقض اليقين بالشك» (٣) هل يمكن

__________________

(١) انظر : وسائل الشيعة ١٧ / ٨٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، رقم : ٤.

(٢) المستدرك ٢ / ٥٨٣ ، الباب ٣٠ من أبواب كتابة الطهارة عن المقنع ، وفي وسائل الشيعة ، باب ٣٧ من أبواب النجاسات عن التهذيب ، وفيه «نظيف» بدل «طاهر».

(٣) الكافي ٣ / ٣٥٢.

٣٢٣

إرادة «قاعدة اليقين» و «الاستصحاب» معاً منه ، بأنْ يكون لفظ «اليقين» مستعملاً في معناه الحقيقي الكائن في قاعدة اليقين ، والمسامحي الكائن في الاستصحاب ، أو لا يمكن ذلك؟

قالوا : ومن الثمرات : جواز قصد إنشاء الدعاء والقراءة معاً في (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) (١) مثلاً ، بناءً على جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى عقلاً.

لكنّ الاستاذ ناقش بأنّ : القراءة في الصّلاة هي حكاية ما نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعنوان القرآن واستعمال ذاك اللّفظ ، وليست استعمال لفظٍ في لفظ القرآن الكريم ، فهذا خارج عن البحث ، ولا يعدّ من ثمراته.

نعم يصح طرح البحث بأنّه هل يمكن التلفّظ بكلام الغير وإبراز القصد به أيضاً أو لا؟

الحق : إنه ممكن ، وفاقاً للمحقق الأصفهاني ، فيجوز اجتماع قصد القراءة مع قصد الإنشاء.

الكلام في بطون القرآن

وتعرّض صاحب (الكفاية) إلى ما ورد في أن لألفاظ القرآن الكريم بطوناً ، وذلك بمناسبة أنّها تدلُّ على وقوع استعمال اللّفظ في أكثر من معنى في القرآن الكريم ، وأدلّ دليلٍ على إمكان الشيء وقوعه ، وقد ذهب هو إلى الامتناع.

رأي المحقّق الخراساني

وأجاب عن ذلك بوجهين :

__________________

(١) سورة الفاتحة : ٦.

٣٢٤

الأول : إن مدلول هذه الأخبار ، أنّ الله تعالى قد أراد ـ في ظرف إرادة المعنى الواحد من اللّفظ ـ معاني اخرى غيره ، فليس اللّفظ مستعملاً في سبعة معانٍ ، بل استعمل في معنى واحدٍ واريدت الستة الاخرى مقارنةً لهذا المعنى.

قال شيخنا دام بقاه : وهذا أمر ممكن ، لكنّه لا يتناسب مع مدلول تلك الأخبار ، وهو كون بعض المعاني ظاهر اللّفظ وبعضها باطنه ، وأين هذا ممّا ذكره؟

والثاني : إن المعنى المطابقي للّفظ هو معنى واحد ، وسائر المعاني التي اشير إليها في الأخبار إمّا لوازم له وامّا هي ملزومات له ، فليس الدّلالة من باب الاستعمال ، بل من باب الدّلالة الالتزامية ، ولا مانع من أن يكون للّفظ الدالّ على معناه مطابقةً معان عديدة يَدل عليها التزاماً.

وقد استحسن جماعة من الأعلام هذا الوجه.

وخالف شيخنا فقال : بأنّه جيّد موجبةً جزئيّة ، وإلاّ ففي المعاني التي هي من بطون القرآن ـ بحسب الروايات ـ موارد كثرة ليست دلالة اللّفظ عليها من باب الدلالة الالتزامية.

إن اللوازم على قسمين ، فمنها : لازم جليّ ، كالحرارة بالنسبة إلى النار ، فمع استعمال لفظ النار في معناه ودلالته عليه وهي الذات بالمطابقة ، توجد له دلالة على الحرارة أيضاً ، ولكنَّ هذه الدلالة لا تسمّى «باطناً» لأنّ الملازمة جليّة لكلّ أحدٍ.

ومنها : لازم خفي ، وفي هذا القسم يمكن قبول كلام صاحب (الكفاية) ، إلاّ أن أخبار بطون القرآن لا ظهور فيها لكون الدلالة بالالتزام ، ففي قوله تعالى

٣٢٥

(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ) (١) قد ورد أنهما الحسن والحسين عليهما‌السلام (٢) ، وأين الملازمة بين «البحرين» و «الحسن والحسين» ، ليدل اللَّفظ عليهما بالدلالة الالتزامية؟ وفي قوله تعالى (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) (٣) ورد أن المراد هو زيارة الإمام ولقاؤه بعد أعمال الحج (٤) ... وأين الملازمة بين ذلك وما هو المدلول المطابقي للفظ «التفث» أي : أخذ الشارب وقصّ الظفر؟.

وتلخّص : إن ما ذكره صاحب (الكفاية) لا يحلّ المشكل.

رأي جماعةٍ من المحقّقين

وأجاب المحقق النائيني والمحقق العراقي ـ وذكره الفيض الكاشاني في أوّل (تفسيره) ـ بأنّ المراد من هذه الأخبار هو : أن المعنى المستعمل فيه اللّفظ هو معنىً كلّي ، وأن مصاديقه متعددة ، لكنّها مخفيّة على غير أهل الذكر الذين هم الراسخون في العلم ، العالمون بتأويل القرآن ، فإنّهم يعلمون بتطبيقات تلك الكليّات.

وعلى الجملة ، فإن بطون القرآن من قبيل استعمال اللّفظ الكلّي وإرادة المصاديق ، كلفظ «الميزان» فإنه لم يوضع هذا اللّفظ لهذه الآلة التي توزن بها الأشياء في السّوق ، بل الموضوع له هذا اللّفظ هو «ما يوزن به» وحينئذٍ يصدق على الإمام المعصوم عليه‌السلام ، لوصفه بالميزان في الأخبار ، وعلى القرآن ، وعلى علم المنطق ، وعلى العقل ، وعلى الميزان المعروف ... وميزان كلّ شيء بحسبه.

__________________

(١) سورة الرحمن : ١٩.

(٢) تفسير الصافي ٥ / ١٠٩ ط الأعلمي.

(٣) سورة الحج : ٢٩.

(٤) تفسير الصافي ٣ / ٣٧٦ ط الأعلمي.

٣٢٦

وأورد شيخنا : بأنه أيضاً لا ينطبق على جميع الموارد ، مثلاً قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) (١) لا يوجد للفظ «الصلاة» معنىً كلّي ، لينطبق على هذه «الصلاة» ذات الأقوال والأفعال ، وعلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ولا يوجد جامع بين الأمرين ، اللهم إلاّ الجامع الانتزاعي مثل «ما يتوجَّه به إلى الله» لكنّه غير موضوع له لفظ «الصَّلاة» بالوضع الحقيقي ، وإنْ قلنا بجواز استعماله فيه مجازاً ، لزم القول بكونه في جميع موارد استعماله في القرآن مجازاً ، وهذا لا يلتزم به.

رأي السيد البروجردي

وذكر السيد البروجردي معنىً آخر ، وهو : إنّ للقرآن مراتب بحسب مراتب النفوس الإنسانية ، فهي معانٍ طوليّة يدركها الأشخاص بحسب مراتبهم النفسيّة ، فكلّما تقدّمت النفس في الكمال تمكّنت من درك وفهم المعنى الأرقى والأدق ، كلفظ «التقوى» مثلاً ، حيث يفهم الصدّيقون منه ما لا يفهمه غيرهم.

فقال الاستاذ دام ظلّه : هذا الوجه متين ، والنفس كلّما تقدّمت في الكمال أدركت المعاني والحقائق الأدق والأعمق والأجل ، لكنّ المشكل هو أنه لا بدَّ من تصحيح وتوجيه استعمال الألفاظ القرآنية في تلك المعاني المختلفة المتعدّدة ، وتصحيح الاستعمال فيها لا يكون إلاّ عن طريق دعوى كون الألفاظ موضوعةً للمعاني الكليّة ، ويكون كلّ واحد من المعاني مصداقاً له ، أو دعوى كونها موضوعة لمعانيها الحقيقية المنفردة الواحدة ، وتلك المعاني لوازم ، وصاحب هذا الوجه قد أبطل كلتا الدعويين ، ولم يوافق على

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٤٥.

٣٢٧

ذينك الوجهين.

رأي السيد الحكيم

وعلى الجملة ، فإن هذا الوجه لا يحلّ المشكلة من جهة تصحيح الاستعمال ، فإن اللّفظ الدالّ على تلك المراتب بأيّ وجهة يدل؟ إن كانت دلالته حقيقيةً ، كان موضوعاً للكلّي والمراتب مصاديق ، وإنْ كانت دلالته مجازيّةً ، فلازمه أنْ تكون ألفاظ القرآن هذه كلّها مجازاً ، ولا يجوز الالتزام به وإنْ التزم به السيد الحكيم ، حيث قال (١) بأن بطون القرآن من قبيل استعمال اللّفظ في مجموع المعاني ، فكلّ واحدٍ منها ليس الموضوع له بل استعماله فيه مجازي.

وهذا الوجه ممنوع جدّاً.

هذه عمدة الوجوه المذكورة في حلّ المطلب ، ولم يرتض شيخنا شيئاً منها.

فقال شيخنا :

إن لسان الروايات في بطون القرآن مختلف ، فمنها : ما يفيد أنّ الظاهر عبارة عمّن نزل فيه القرآن ، والباطن عبارة عن الذين يعملون أعمال من نزل فيه ، ومنها : ما يفيد أن ظاهر بعض الآيات هو القصّة والباطن هو الموعظة ، ومنها : ما يفيد أن الظاهر هو التنزيل والباطن هو التأويل ، ومنها : ما يفيد أن الباطن عبارة عن التطبيقات العددية ، ومنها : ما يفيد أن المراد من البطون هو الوجوه السبعة ، ومنها : ما جاء فيه : إن بطون القرآن عجائبه وغرائبه ، ومنها : ما جاء فيه من أنها التخوم ... ومنها : ما يستفاد منه غير ذلك.

__________________

(١) حقائق الاصول ١ / ٩٥ ط البصيرتي.

٣٢٨

وعلى كلّ حالٍ ، فما ذكره الاصوليون في معنى هذه الروايات الكثيرة الثابتة لا ينطبق إلاّ على بعضها بنحو الموجبة الجزئيّة.

والحق ـ بناءً على المختار في حقيقة الوضع من أنه العلامتيّة ـ هو جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى ، إذ لا مانع من أن يكون اللّفظ الواحد علامةً لمعاني عديدة ، واسماً لعدّة امور.

أقول : لكن المشكلة هي أنه إذا كان اللّفظ علامةً لعدّةٍ من المعاني في عرضٍ واحدٍ ، فكيف لم يعلم أهل اللسان إلاّ بواحدٍ منها وهو المعنى الظاهر فيه اللَّفظ ، والمعاني الاخرى التي هي البواطن لا يعلم بها إلاّ الراسخون في العلم وهو معدودون؟ ومن الواضع للّفظ على تلك المعاني الباطنة التي استعمل فيها؟

وهذا تمام الكلام في استعمال اللّفظ في أكثر من معنى.

٣٢٩
٣٣٠

المشتق

٣٣١
٣٣٢

وفي هذا البحث بلحاظ المسائل المطروحة فيه ، أعظم فائدة للفقيه ، كما قال المحقق الرشتي.

مقدّمات البحث

ولا بدَّ قبل الورود فيه ، من ذكر مقدمات :

المقدّمة الاولى (في أنّ البحث لغوي وكبروي)

المشهور هو أنّ هذا البحث بحثٌ لغوي ، لأنّه يبحث من الجهة اللّغوية عن أنّ هيئات المشتقات ، هل هي موضوعة في اللّغة بأنْ تكون حقائق لغويّة أو في العرف لحصّة من الذات ، وهي خصوص المتلبّسة بالمبدإ بالفعل ، أو هي موضوعة للأعم منها ومن غيرها؟

وعليه ، فالمحكّم في البحث هو العلائم المقرّرة في باب الحقيقة والمجاز.

أمّا على ما ذهب إليه الأكثر من عدم كون الذات مأخوذةً في مفهوم المشتق ، وأنّ مدلوله هو العرض لا بشرط ، القابل للإتّحاد مع الذات ، فعنوان البحث هو : هل الموضوع له المشتق هو العرض المتّحد بالفعل أو الأعم منه ومن غيره؟

وقد وقع الاتّفاق على أنّ الإطلاق على الذات المتلبّسة بالفعل إطلاق

٣٣٣

حقيقي ، وعلى ما تتلبّس في المستقبل مجازي ، وإنما الخلاف في الذات التي انقضى عنها التلبّس بالمبدإ.

قول المحقّق الطّهراني بأن البحث عقلي

وخالف الشيخ هادي الطهراني في (محجة العلماء) فقال : بأن هذا البحث عقليّ وليس لغويّاً ، لاتّفاق الأخصّي والأعمّي في مفهوم المشتق ، وإنما الاختلاف في كيفية الحمل ، فالأخصّي يراه من قبيل حمل هو هو ، والأعمّي يراه من قبيل حمل ذو هو ، الذي يكفي في صحّته وقوع التلبّس بالمبدإ بنحو الموجبة الجزئيّة.

مناقشة الاستاذ

لكنّ البحث عند الاصوليين ـ كما أشرنا ـ إنما هو في أنّ الموضوع له هيئة «فاعلٌ» ـ مثلاً ـ عبارة عن خصوص الحصّة المتلبّسة بالفعل بالمبدإ ، أو أن الموضوع له هو الجامع بين المتلبّس ومن انقضى عنه التلبّس ... وهذا بحثٌ لغوي.

هذا ، ويرد عليه ـ كما ذكر المحقق الأصفهاني أيضاً (١) أن كلامه يخالف اصطلاح المناطقة كذلك ، فإنّ الحمل الهوهو عندهم لا يختص بالجوامد مثل : «الجدار جسم» ، بل الحمل في مثل «الجدار أبيض» ونحوه من قبيل الهوهو ، بلا فرق.

ثم إن الخلاف بين الأخصّي والأعمّي كبروي وليس بصغروي ، يقول الأخصّي : بأنّ صحّة إطلاق المشتق تدور مدار اتّصاف الذات وتلبّسها بالمبدإ في ظرف الإطلاق ، بخلاف الأعمّي القائل بعدم لزوم ذلك ، وأنه يكفي في

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ١٧٠ ط مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٣٤

صدق المشتق حقيقة تلبّسُ الذات بالمبدإ في وقتٍ من الأوقات ، وإنْ كان منتفياً عند الإطلاق.

تجويز المحقق البروجردي كون البحث صغرويّاً

وقد جوّز السيد البروجردي أن يكون الخلاف صغرويّاً ، فقال (١) ما حاصله : إن صدق أيّ عنوانٍ على ذاتٍ من الذوات ، متوقّف على وجود الملاك المصحّح للحمل ، وهو كون الذات مصداقاً لذلك العنوان المحمول عليها ، فلو فقد الملاك لزم صدق كلّ مفهومٍ على كلّ ذاتٍ ، أو الترجيح بلا مرجّح ، ففي قولنا : «الجدار أبيض» يعتبر كون «الجدار» مصداقاً لعنوان «الأبيض» وإلاّ فلِمَ لا يصدق هذا العنوان على الجدار غير الأبيض؟

وإلى هنا لا خلاف بين الطرفين ، غير أنّ القائل بأن المشتق أعمّ من المتلبّس في الحال ومن انقضى عنه المبدا ، يقول : بأنّه يكفي في تحقّق المِصداقيّة ـ التي هي المصحّحة للحمل ـ تلك الحيثيّة الاعتبارية الحاصلة للذات الصادر عنها «الضرب» مثلاً ، بسبب صدوره عنها في وقتٍ من الأوقات ، وهي حيثيّة باقية ، كعنوان «من صدر عنه الضرب» على تلك الذات ، وإنْ لم يكن هناك اتّصاف بالضرب عند الإطلاق. ويقول القائل بوضع المشتق لخصوص المتلبّس : بأنّ المصحّح للحمل والملاك للمصداقيّة ليس إلاّ الاتّصاف بالضاربيّة الفعلية حين الإطلاق ، وأمّا وصف الذات بلحاظ اتّصافها سابقاً وحمل الضارب عليها فمجاز ...

وعليه ، فيكون الخلاف صغرويّاً.

__________________

(١) نهاية الاصول : ٥٨ ط المصطفوي.

٣٣٥

مناقشة الاستاذ

وتنظّر الاستاذ دام بقاه في هذا الكلام : بأنّه ناشئ من الخلط بين الحمل الحقيقي الفلسفي والحمل الحقيقي العرفي ، فما ذكره يتم بالنظر الفلسفي ، لأنّهم يقولون بمجازيّة : الجدار أبيض ، لأن الحمل الحقيقي عندهم هو : البياض أبيض ، لكنّ البحث في المشتق يدور مدار النظر العرفي وقولنا : الجدار أبيض ، حقيقة عرفيّة بلا ريب.

وأمّا لزوم الترجيح بلا مرجّح ، أو حمل كلّ شيء على كلّ شيء ، ففيه : إنه إنما يلزم ذلك لو لم يكن التلبّس بالمبدإ في وقتٍ من الأوقات كافياً للحمل وتحقّق المصداقيّة ، والحال أنّ هناك فرقاً بين من اتّصف به كذلك وبين من لم يتّصف أصلاً ، فلا ترجيح بلا مرجّح.

وأمّا قوله بضرورة وجود العنوان الانتزاعي بناءً على القول بالأعم ، ففيه :

أوّلاً : إن اتّصاف الذات بالمبدإ وتلبّسها به في وقتٍ من الأوقات ، ليس عنواناً انتزاعيّاً ، بل هو عنوان واقعي ، فقد صدر منه الضرب مثلاً سابقاً حقيقةً ، وليس في البين اعتبار من أحدٍ ـ ليدور الاتّصاف به مداره ـ أصلاً.

وثانياً : إن الملاك في الصّدق هو الصدق العرفي كما تقدّم ، ولفظة «القائم» في الفارسيّة ترادف «ايستاده» وليس مفهومها هو الاتصاف بالقيام في وقتٍ من الأوقات.

وتلخّص :

١ ـ إنّ البحث لغوي ، وليس بعقلي.

٢ ـ إنّ البحث كبروي ، وليس بصغروي.

٣٣٦

المقدّمة الثانية (في تحرير محلّ النزاع)

تارة : يكون لمجموع الهيئة والمادّة ـ من الألفاظ ـ وضع واحد.

واخرى : يكون لكلٍّ من الهيئة والمادّة وضع مستقل.

فما يكون من القسم الأوّل ، يسمّى بالجامد ، والوضع فيه شخصي.

وما يكون من القسم الثاني ، يسمّى بالمشتق ، والوضع في طرف الهيئة نوعي ، وفي المادّة قولان.

وكلّ من القسمين ينقسم إلى قسمين ، فالمشتق ينقسم إلى :

١ ـ قسم قابلٍ للحمل على الذات والاتحاد معها ، كاسم الفاعل واسم المفعول.

٢ ـ قسم لا يقبل ذلك ، كالأفعال والمصادر وأسماء المصادر.

ولا خلاف بينهم في أنّ مورد البحث هو القسم الأوّل ، أمّا الثاني فخارج ، فيكون موضوع البحث في المشتق أخص من العنوان.

إلاّ أنّ الظاهر من كلام صاحب (الفصول) (١) اختصاص البحث باسم الفاعل وما يشبهه فقط ، فلا يعمّ كلّ ما هو قابل للحمل ، كأسماء الآلات ، لأن «المفتاح» مثلاً يصدق حتى مع عدم تحقّق الفتح بالفعل ، فالموضوع له فيه أعمّ من المتلبّس وما انقضى عنه التلبّس. إلاّ أن الحق ـ وفاقاً لصاحب (الكفاية) وغيره ـ عموم البحث لمثله ، لوقوع النزاع فيه ، غير أن مبادئ المشتقات تختلف ، فقد يكون فعلاً ، وقد يكون حرفةً ، وقد يكون ملكةً ، وقد يكون شأنيّةً ، ويختلف التلبّس والانقضاء فيها بحسب اختلاف المبدا.

فإن كان المبدا هو الحدث ، فالتلبّس يكون تلبّس الفعليّة وانقضاؤه بانقضائها ، وإنْ كان حرفةً أو ملكة فليس المبدا هو الفعليّة ، فلذا يصدق

__________________

(١) الفصول الغروية : ٦٠.

٣٣٧

عنوان «البقّال» على صاحب هذه الحرفة وإنْ كان نائماً مثلاً ، وكذا يصدق عنوان «المجتهد» على صاحب تلك الملكة ، وهكذا ...

والجامد ينقسم إلى :

١ ـ ما ينتزع من مقام الذّات والذاتيّات.

٢ ـ ما ينتزع من امورٍ لاحقةٍ متأخّرةٍ عن الذات ، وهذا ينقسم إلى قسمين :

أ ـ الامور المنتزعة المتأخّرة عن الذات واقعاً ، كالأعراض ، مثل الفوقيّة والتحتيّة.

ب ـ الامور المنتزعة المتأخّرة عن الذات اعتباراً ، كالزوجيّة والحريّة والرقيّة ...

واتّفقوا على خروج القسم الأوّل ـ وأنّ محل البحث هو القسم الثاني بقسميه (١) ـ إذْ لا معنى لأنْ يبحث عن صدق «الإنسان» بعد أنْ صار تراباً ،

__________________

(١) ومراد صاحب (الكفاية) ـ في كلامه ص ٤٠ ـ من «العرض» عبارة عن الأعراض المتأصّلة التي يوجد بإزائها شيء في الخارج ، مثل البياض والسواد وغيرهما ، ومراده من «العرضي» ليس الامور الاعتبارية فقط ، بل كلّ ما لا يوجد في الخارج بإزائه شيء ، أعم من أنْ يكون واقعياً كالفوقيّة والتحتيّة أو اعتباريّاً كالملكيّة والزوجيّة.

فمراده ما ذكرناه ـ وهو مقتضى التأمّل في كلامه حيث مثّل بالزوجية والرقيّة وقال في آخره : من الاعتبارات والإضافات ، لا ما ذكره بعض المحشّين على (الكفاية) كالمشكيني والسيد الحكيم من أن مراده من العرض هو الأمر الواقعي ، ومن العرضي الأمر الاعتباري.

ولا يتوهّم : أنه بناءً على كون مقولة الاضافة من الاعتباريات كما هو مسلك بعضهم ، فما ذكراه في معنى العبارة صحيح ، وذلك ، لأن صاحب (الكفاية) جعل الإضافات مقابلةً للاعتباريات ، فأفاد أن الاضافات غير داخلة عنده في الاعتبارات.

وعلى الجملة ، فمراده من العرض كلّ مبدإ له ما بإزاء خارجاً ، ومن العرضي ما ليس له ذلك ، سواء كان اعتبارياً كالزوجية والملكية أو غير اعتباري كالفوقية والتحتيّة.

ولا يخفى : أنّ هذا اصطلاح من المحقق الخراساني في العرض والعرضي ، غير اصطلاح المناطقة حيث المراد من العرض عندهم هو المبدا ومن العرضي هو المشتق.

٣٣٨

لوضوح أنّ البحث إنّما هو عن الهيئة ، من جهة أنها موضوعة لخصوص الذات المتلبّسة أو للأعم منها ومن التي انقضى عنها التلبّس ، كما في مثل «العالم» و «القائم» ونحوهما ، وأمّا في المثال المذكور ونحوه من العناوين الذاتيّة ، فليس وراء الإنسانية أو الكلبيّة شيء حتى يبحث عنها ، نعم ، تبقى الهيولى ، وليست بذاتٍ ... فالذّات قد زالت ، وما بقي شيء لكي يبحث عن التلبّس والانقضاء فيه (١).

فموضوع البحث كلّ لفظٍ توفّر فيه أمران :

١ ـ القابليّة للحمل على الذات.

٢ ـ الواجديّة للتلبّس والانقضاء (٢).

فلا كلّ مشتق بداخلٍ في البحث ، ولا كلّ جامدٍ بخارج عن البحث.

هذا تحرير محلّ النّزاع.

__________________

(١) فما في كلام البعض من أنّ هذا البحث لغويّ ، ولا مجال فيه لمثل هذا الاستدلال العقلي ، وأن من الجائز طرح البحث في موردٍ ليس التبدّل فيه من قبيل تبدّل الذات ، كالخمر إذا انقلب خلاًّ ، بأن يبحث هل هذا خمر أو لا؟ غير وارد.

لأنّ البحث وإنْ كان لغويّاً ، إلاّ أنه يدور حول المفهوم الموضوع له اللّفظ ، ومن حيث أنه هو الحصّة الخاصّة من الذات أو مطلق الذات ، فالمورد الذي لا توجد الذات خارج عن البحث موضوعاً ، سواء كانت حقيقة الشيء بصورته أو بمادّته.

وأمّا الجواب عن النقض بمثل الخلّ والخمر ، فإنهما وإنْ كان شيئاً واحداً عقلاً ، إلاّ أن الخمر والخلّ من الحيثية النوعيّة أمران متغايران.

(٢) بالنظر إلى الهيئة لا المادّة ، بأنْ تكون الهيئة قابلةً لأن يبحث عن أنها موضوعة لخصوص المتلبّس أو للأعم ، كهيئة «فاعل» و «مفعول» و «مفعَل» وإنْ كانت الهيئة في مادّةٍ ليس لها انقضاء مثل «الناطق» حيث المادة هنا نفس الذات ، فلا يخرج مثله عن النزاع ، خلافاً للمحقق النائيني ، كما لم يخرج هيئة «مفعل» ، خلافاً لصاحب الفصول. وعلى الجملة ، فمورد البحث هو الهيئة مطلقاً ، سواء كانت المادّة المشتملة عليها من قبيل «القائم» أو من قبيل «الناطق».

٣٣٩

مطالب متعلّقة بتحرير محلّ النزاع

وهنا مطالب متعلّقة بتحرير محلّ النزاع :

١ ـ الفرع الفقهي الذي استشهد به صاحب الكفاية لعموم البحث

ثم إن صاحب (الكفاية) استشهد لعموم بحث المشتق بالنسبة إلى بعض الجوامد ، وتأكيداً لسقوط القول بعدم دخول الجوامد مطلقاً ، بكلام فخر المحققين في (إيضاح الفوائد) (١) في شرح أحد فروع الرّضاع ، وهو ما لو كان لرجلٍ زوجتان كبيرتان واخرى صغيرة ترضع ، فأرضعتها إحدى الكبيرتين الرضاع الكامل ، فقال الأصحاب بحرمة الكبيرة والصغيرة كلتيهما على الزوج ، لأنّ الصغيرة حينئذٍ ابنته من الرّضاع ، وإنه يحرم من الرّضاع ما يحرم من النسب ، والكبيرة امّ زوجته ، أو تحرم الصغيرة لكونها ربيبته.

ثم لو أرضعت الكبيرة الاخرى بعد ذلك هذه الصغيرة ، بني القول بحرمة الكبيرة الثانية على الزوج على المختار في مسألة المشتق ، فإن كان حقيقةً في خصوص المتلبّس ، لم تحرم بسبب الرّضاع ، لأنها قد أرضعت من كانت زوجةً للرجل ، وهي حين الرضاع ابنته أو ربيبته ، وإنْ كان حقيقةً في الأعمّ من المتلبّس ومن انقضى عنه التلبّس ، حرمت ، لأنّها أصبحت أمّ الزوجة ، كما كانت الكبيرة الاولى.

__________________

(١) إيضاح الفوائد في شرح القواعد ٣ / ٥٢.

٣٤٠