تحقيق الأصول - ج ١

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-2501-93-9
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤١٦

الاشتراك

٣٠١
٣٠٢

هل الاشتراك ممكن أو لا؟ أقوال :

قولٌ باستحالة الاشتراك.

وقولٌ بوجوبه.

وقولٌ بإمكانه.

دليل القول الأوّل

لا شبهة في الإمكان الذاتي للاشتراك ، فهو ليس كشريك الباري واجتماع النقيضين مما هو ممتنع بالذات ، بل الكلام في الاستحالة الوقوعيّة أو الاستحالة من الحكيم.

فالمستفاد من كلام المحقق النهاوندي في (تشريح الاصول) (١) هو : إن الوضع جعل الملازمة بين اللّفظ والمعنى ، فيلزم جعل ملازمتين مستقلّتين عرضيّتين ، إحداهما : بين لفظ القرء والطهر ، والأخرى : بين لفظ القرء والحيض ، فيلزم من إطلاق لفظ القرء حضور المعنيين إلى الذهن.

وفيه :

أوّلاً : إنه مبنيّ على كون حقيقة الوضع جعل الملازمة بين اللّفظ والمعنى ، وأمّا على سائر المباني فلا محذور.

__________________

(١) تشريح الاصول : ٤٧.

٣٠٣

وثانياً : أيّ محذور يترتّب حتى على المبنى المذكور؟ إنّ الملازمة بين اللّفظ والمعنى ليست فعليّة ، بل هي اقتضائية ، كما نبّه عليه المحقق الأصفهاني ، بمعنى أنه لو حصل العلم بالملازمة ، فإن التلازم بين اللّفظ والمعنى يوجب حضور المعنى عند الذهن عند التلفّظ بالكلمة ، وجعل اقتضائين في لفظٍ واحدٍ لا يترتب عليه أيّ محال ، لأن معنى الامتناع الوقوعي هو لزوم أمر ممتنع من وقوعه ، بل إن حضور المعنيين ممكن بل واقع ، لأن كلّ تصديقٍ يتوقّف على حضور الموضوع والمحمول والنسبة والحكم ، وكلّ هذه الامور تحصل عند النفس في آن واحد ، إذْ النفس الإنسانية ليس كالموجودات الماديّة التي لا تقبل صورتين في آن واحد.

واستدلّ للاستحالة أيضاً : بأنّ الواضع حكيم ، والغرض من الوضع هو التفهيم ، والاشتراك ملازم للإجمال ، وهو ينافي التفهيم ، فوقوع المشترك ـ لكونه نقضاً للغرض ـ محال من الحكيم.

وقد اجيب عنه بوجهين في (الكفاية) وغيرها :

الأول : إنه لا يلزم نقض الغرض ، لإمكان حصول التفهيم بالقرينة كما في المجاز.

وأشكل عليه شيخنا : بأنّ الاشتراك بنفسه موجب للإجمال ، والقرينة كما ذكر رافعة له ، إلاّ أن الكلام في حكمة ذلك ، وأنه ما الغرض من إيجاد المنافي للغرض ثم رفع المنافي بإقامة القرينة ... لقد كان لهذا حسنٌ في باب المجاز ، فما الدليل على حسنه في باب المشترك؟

والثاني : إنه قد يتعلَّق الغرض بالإجمال.

وأشكل عليه الاستاذ : بإمكان الإجمال لا بوضع المشترك ، فكما يقول :

٣٠٤

«رأيت عيناً» له أنْ يقول «رأيت شيئاً».

وتلخّص : إن القول بالاستحالة العقلائيّة ـ لا العقليّة ـ له وجه وجيه.

دليل القول الثاني

إن المعاني غير متناهية ، بخلاف الألفاظ ، والمتناهي لا يفي باللاّمتناهي ، فلا بدَّ من الاشتراك.

أجاب المحقق الخراساني :

أولاً : إن كليّات المعاني متناهية ، ومن الممكن وضع الألفاظ بإزاء الكليّات ، وإفادة الجزئيّات بواسطة الكليّات ، كما هو الحال في أسماء الأجناس ، كلفظ «الأسد» الموضوع لجنس هذا الحيوان ، مع إمكان إفادة نوعه وفرده بنفس هذا الاسم ، مع كون أفراده غير متناهية.

وأشكل عليه في (المحاضرات) بما حاصله : إن الكليّات أيضاً غير متناهية ، إذا ضمّت إليها القيود المختلفة ، نظير الأعداد ، فإن كلاًّ من العشرة والأحد عشر والثاني عشر ... كلّي ذو أفراد ، وهذه العشرة المضافة إلى شيء غير تلك العشرة المضافة إلى شيء آخر.

وأورد عليه الاستاذ : بأنّ الكلّيات العدديّة اعتباريّة وليست بواقعيّة ، فإنّا نعتبر العشرة مثلاً شيئاً واحداً ونطبّقها على الأشياء المختلفة ، والبحث إنما هو في الكلمات الواقعيّة ، كالإنسان والأسد والفرس وهكذا.

وأيضاً ، فإنّ ضمّ القيد إلى الكلّي لا يجعله غير متناه ، لأنّ القيد كيفما كان متناه ، فما يضاف القيد إليه متناه أيضاً ، وكيف يحصل اللاّمتناهي من ضمّ المتناهي إلى المتناهي؟

ثانياً : بأنّه في وضع اللّفظ المشترك نحتاج إلى أوضاع متعدّدة ، بأنْ

٣٠٥

يجعل اللّفظ مرّة لهذا المعنى ، ومرّة لذاك ، واخرى للثالث ... فلو كانت المعاني غير متناهية فالأوضاع كذلك ، لكنّ صدور الوضع غير المتناهي عن المتناهي محال.

قال في (المحاضرات) عن هذا الجواب بأنه متين جدّاً.

فأشكل شيخنا :

أوّلاً : إن باب الوضع هو باب الجعل ، وإنه لا ريب في أنّ المجعول في القضايا الحقيقيّة أحكام غير متناهية كما فرضوا ، إذ الجعل والمجعول في القضايا الحقيقيّة يتعدّدان بعدد الأفراد بإنشاءٍ واحد ، فأيّ محذورٍ لأنْ يوضع اللّفظ بجعلٍ واحدٍ للمعاني المتعدّدة؟

فهذا إشكال نقضي.

وأيضاً : لازم ما ذكر هو اتحاد العصيان في موارده ، والحال أنّ شرب هذا الخمر معصية ، وشرب ذاك معصية اخرى ، وهكذا الثالث ... وكذلك الإطاعة.

وتلخّص : إن الأحكام متعدّدة بالبرهان ، وباختلاف الإطاعة والعصيان ، وإذا تعدَّد المجعول تعدّد الجعل ، لأن الجعل والمجعول في الحقيقة واحد.

وثانياً : إن صدور الأفعال غير المتناهية من النفس الإنسانيّة لا إشكال فيه ، والدليل عليه نفس الدليل على المجعولات غير المتناهية في القضيّة الحقيقيّة.

وهذا هو الحلّ.

وأجاب المحقق الخراساني ثالثاً : بأنّ الوضع مقدمة للاستعمال ، والاستعمال متناه ، لكونه فعلاً خارجيّاً وليس كالأفعال النفسانية ، فجعل الألفاظ غير المتناهية للاستعمالات المتناهية باطل.

٣٠٦

وأجاب رابعاً : بأن المجاز باب واسع ، ومعه فلا حاجة إلى الاشتراك.

وقال شيخنا

في الجواب عن استدلال القائلين بوجوب وضع المشترك : بأنّ أساس الاستدلال هو عدم تناهي المعاني ، وهذه الدعوى أوّل الكلام ، وما أقاموا عليها من الدليل لا يفي بها ، فقوله تعالى : (مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ) (١) و (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ) (٢) لا ينافي التناهي ، فعدم تناهي المعاني غير مسلَّم ، نعم ، هي كثيرة إلى ما شاء الله.

على أنّ البحث يدور حول الألفاظ الموجودة ، والألفاظ المشتركة الموجودة محدودة ، كلفظ العين والقرء ، وهي لا تفي بالغرض ـ وهو التفهيم ـ بالنسبة إلى المعاني غير المتناهية كما قيل.

فالقول بوجوب الاشتراك باطل قطعاً.

فالحق : إمكان الاشتراك.

تفصيلُ المحقق الخوئي

وأفاد السيد الخوئي تفصيلاً في المقام وهو : استحالة الاشتراك على مبنى التعهّد في حقيقة الوضع وإمكانه على سائر المباني ، أمّا الإمكان ، فلأن الوضع أمر اعتباري ، والاعتبار خفيف المئونة ، فلا مانع من أن يعتبر المعتبر أن يكون اللّفظ الواحد علامةً لمعنيين ، أو يكون موضوعاً لهما ، أو تكون ملازمة بينه وبينهما ...

وأمّا الاستحالة على مبنى التعهّد ، فلأن التعهّد أمر نفساني واقعي غير

__________________

(١) سورة لقمان : ٢٧.

(٢) سورة المدثر : ٣١.

٣٠٧

اعتباري ، إنه يتعهّد متى تلفّظ باللفظ الكذائي أراد تفهيم المعنى الكذائي ، فلو أراد معنىً آخر لزم العدول عن تعهّده بالنسبة إلى المعنى الأوّل.

وأورد عليه الاستاذ دام بقاه : بأنّ البرهان الذي اقيم في مبحث الوضع على هذا المبنى كانت نتيجته التعهّد باستعمال اللّفظ الكذائي عند إرادة المعنى الكذائي ، لا أنّه كلّما تلفّظت باللّفظ الكذائي فإني أقصد المعنى الكذائي ، وكم فرق بين الأمرين ، فإن الثاني ينافي الاشتراك دون الأوّل ، لأنه لا مانع من استخدام اللّفظ كلفظ «العين» عند إرادة الجارية وعند إرادة الباصرة وهكذا ... لعدم المحذور من انضمام تعهّدٍ إلى تعهّد ...

خلاصة البحث

وتلخّص : أنّ الاشتراك ممكن ، لا محال ولا واجب.

إنما الكلام في وقوعه ومنشإ وقوعه ، فأيّ غرض للواضع أنْ يضع اللّفظ الواحد لمعاني عديدة؟ وما الدّليل على ذلك؟

ذكر المحقق الخراساني وجوهاً ، أحدها : نقل أئمة اللّغة.

وفيه : أنّا نريد الوضع التعييني للّفظ الواحد لأكثر من معنى ، ونقلهم لا يثبت هذا.

والثاني والثالث : التبادر وعدم صحة السّلب.

وفيهما ما تقدَّم ، فإنّهما لا يثبتان الوضع التعييني ، فلعلّه تعيّني.

ومن جهة اخرى ، فقد حكى الميرزا النائيني عن جورجي زيدان ـ وارتضاه أنّ منشأ الاشتراك هو اختلاط اللّغات بين القبائل العربيّة ، فلا يرجع الأمر إلى الواضع.

وهذا القول ـ وإن كان عقلائيّاً ـ إلاّ أنه لا دليل عليه ، نعم ، إذا جاء هذا

٣٠٨

الاحتمال كفى في سقوط كلّ الاستدلالات على القول بالاشتراك في اللّغة العربيّة.

الاشتراك في ألفاظ القرآن

بعد أنْ ثبت أن في اللّغة ألفاظاً مشتركة ، وفي الشعر الفارسي :

آن يكى شير است اندر باديه

وان يكى شير است اندر باديه

فهل يوجد في ألفاظ القرآن؟

قيل : لا ، لعدم جوازه ، من جهة أنه إنْ نصبت قرينة على المعنى لزم التطويل بلا طائل ، وهو مناف لشأن كلام الله الموجز والمعجز ، وإنْ لم تنصب لزم الإجمال ، وكلام الباري منزّه عنه.

واجيب : بوجود المجمل في القرآن وهو المتشابه.

قال الاستاذ :

لا يوجد في القرآن الكريم لفظ مجملٌ ، والمتشابهات مبيّناتٌ عند الراسخين في العلم ، فلا مجمل فيه على الإطلاق ، حتى فواتح السّور.

ووجود اللّفظ المجمل في القرآن سواء لأجل الاشتراك أو غيره ، بالنسبة إلى كلّ البشر هو المحذور ، وهذا غير متحقق.

٣٠٩
٣١٠

استعمال اللّفظ في أكثر من معنى

٣١١
٣١٢

مقدّمة :

إنه لا اختصاص لهذا البحث بالألفاظ المشتركة ...

وليس موضوع البحث ومحلّ الخلاف هو المتعدّد الذي اعتبر واحداً واستعمل اللّفظ فيه ، فإن هذا جائز بلا خلاف ، كما لو اعتبر الاثنان أو الجماعة واحداً ، واستعمل اللَّفظ في ذلك الواحد الاعتباري ، كما هو الحال في الألفاظ الموضوعة للجماعة مثل «قوم» و «رهط».

وليس موضوع البحث أن يكون كلّ واحدٍ من المعاني موضوعاً مستقلاًّ للحكم عليه بالنفي أو الإثبات كما ذكر المحقق الرشتي ، لأن مثل لفظ «العشرة» الموضوع لمعنىً واحد ، والمستعمل في معنىً واحد ، تارةً : يقع موضوعاً لحكم واحد ، كقولنا : هؤلاء العشرة فعلوا كذا ، أي : كلّهم مجتمعين ، واخرى : يقع موضوعاً لأحكامٍ متعدّدة ، كقولنا : هؤلاء العشرة علماء ... فليس المراد من استعمال اللّفظ في أكثر من معنى هو وجود أحكام متعدّدة.

بل المراد ـ كما ذكر المحقق الخراساني ـ أن يستعمل اللّفظ في كلٍّ من المعاني ، كما لو كان ـ أي كلّ واحدٍ منها ـ هو وحده المستعمل فيه فقط ... فهل هذا الاستعمال ـ أي : إعمال جميع مقوّمات الاستعمال حالكون المعنى واحداً في مورد تعدّد المعنى ـ ممكن أو غير ممكن؟

٣١٣

والكلام في جهتين :

الاولى : هل يمكن عقلاً أو لا؟

والثانية : هل يمكن عقلاءً أو لا؟

الجهة الاولى

فيها ثلاثة أقوال :

الأوّل : الاستحالة ، وإليه ذهب المحققون : الخراساني والميرزا والأصفهاني والعراقي.

والثاني : الجواز ، وهو مختار شيخنا الاستاذ دام بقاه.

والثالث : التفصيل بين المفرد فلا يمكن ، وبين التثنية والجمع فممكن.

ولعلّ هذا القول يرجع إلى الجهة الثانية.

فالمهمّ القولان :

دليل القول بالاستحالة

واختلفت كلماتهم في بيان الاستحالة العقلية لاستعمال اللّفظ في أكثر من معنى :

١ ـ المحقّق الخراساني :

يستفاد من كلام المحقق الخراساني ثلاثة وجوهٍ للاستحالة :

أحدها : إن الاستعمال إفناء اللّفظ في المعنى ، وذلك لأن اللّفظ غير ملحوظ في ظرف الاستعمال ، بل اللّفظ فانٍ في المعنى فناء المرآة في المرئي ، ولذلك يسري حسن المعنى وقبحه إلى اللّفظ ، وإذا كان هذا حقيقة الاستعمال ، فلا يمكن استعمال اللّفظ الواحد في أكثر من معنى ، لأن إفناء الواحد في الاثنين محال ، لأنه يستلزم إمّا وحدة الاثنين وامّا تعدّد الواحد ،

٣١٤

وكلاهما خلف.

والثاني : إن اللّفظ يكون في مقام استعماله في المعنى ملحوظاً باللّحاظ الآلي ، فإن لوحظ كذلك بالنسبة إلى أحد المعاني احتاج استعماله في المعنى الآخر إلى لحاظه بلحاظٍ آلي آخر ، إذ المفروض إفادته لكلٍّ من المعنيين على سبيل الانفراد والاستقلال ، فيلزم اجتماع لحاظين آليّين على ملحوظ واحدٍ ، وهو من اجتماع المثلين ، وهو محال.

والثالث : إنه في كلّ استعمالٍ يلحظ اللَّفظ ، ولحاظه عين وجوده في الذهن ، وإذا كان المعنى المستعمل فيه اللّفظ متعدّداً ، لزم وجود الماهيّة الواحدة بوجوداتٍ متعددة ، وهذا محال.

عدم ورود اشكال الدرر

قال شيخنا الاستاذ : وبما ذكرنا يتّضح عدم ورود نقض صاحب (الدرر) (١) على صاحب (الكفاية) ، فإنه قد نقض بوجهين :

أحدهما : بالعام الاستغراقي ، فإنّه لفظ واحد ، ولكنّه يحتوي على أحكامٍ كثيرة متوجّهة إلى موضوعات كثيرة.

وثانيهما : بالوضع العام والموضوع له الخاص ، فكما صحّ أنْ يكون اللّفظ الموضوع لمعنىً واحد وجهاً لمعاني كثيرة في عالم الوضع ، فليكنْ اللّفظ الواحد وجهاً لمعاني كثيرة في عالم الاستعمال.

وجه عدم الورود : هو الغفلة عن حقيقة الاستعمال ، فإنه إفناء اللّفظ في المعنى ، كما ذكر المحقق الخراساني ، وإفناء اللّفظ في آنٍ واحدٍ في معنيين مستقلّين محال ، وهذا غير ما ذكر في العام الاستغراقي من وجود موضوعات

__________________

(١) درر الاصول ١ / ٥٧ ط جامعة المدرّسين.

٣١٥

وأحكام متعدّدة ، أو في الوضع العام والموضوع له الخاص ، حيث يكون الشيء الواحد وجهاً للمتكثّرات ... فما ذكره صاحب (الدرر) أجنبي عمّا في (الكفاية).

٢ ـ المحقق النائيني

والطريق الذي سلكه المحقق النائيني يتلخّص في : أنّ حقيقة الاستعمال عبارة عن إلقاء المعنى وإيجاده في الخارج بوجود اللَّفظ ، فلا نظر إلى اللّفظ ، بل ينظر إليه بالنظر التبعي ، كما عبّر مرةً ، أو أنّ النظر إلى اللّفظ هو كنظر القاطع إلى القطع الطريقي ، حيث لا يرى إلاّ المعنى ، كما عبّر مرةً اخرى ، فلو استعمل اللّفظ في أكثر من معنى لزم أن يكون للوجود الواحد وجودات كثيرة.

وعلى كلّ حالٍ ، فإنّ اللّفظ غير ملحوظ لدى استعماله في معناه ، وقد عبَّر تارةً عن الاستعمال بإفناء اللّفظ في المعنى ، كما ذكر في (الكفاية) ، وإفناء الواحد الواحد في الكثير محال.

وعلى الجملة ، فإن تحقّق الأكثر من اللّحاظ الاستعمالي الواحد ـ مع وحدة الاستعمال والمستعمل فيه ـ محال.

اشتباه من المحاضرات

وقد بدّل في (المحاضرات) كلمة «اللّحاظ الاستعمالي» إلى «اللّحاظ الاستقلالي» فأشكل على الميرزا بإمكان اللّحاظين الاستقلاليين ، كما في مقام التصديق بقضيّةٍ ، فإنه يكون بلحاظ الموضوع والمحمول في آنٍ واحد لحاظاً استقلاليّاً ، وهذا شيء ممكن وواقع من النفس الإنسانية بسبب بساطتها (١).

__________________

(١) هذا الجواب عن كلام الميرزا ، هو الجواب الذي ذكره الاستاذ في الدورة السّابقة ، إلاّ أنه في الدورة اللاحقة دقق النظر في كلام الميرزا ، فرأى أن الجواب اشتباه.

٣١٦

أمّا في (أجود التقريرات) (١) حيث قرّر مبنى الميرزا كما ذكرناه ، فقد أشكل في التعليقة على أساس مختاره في حقيقة الوضع ، وهو مسلك التعهّد.

لكنّه إشكال مبنائي.

التحقيق في الجواب عن كلام الآخوند والميرزا

فقال الشيخ الاستاذ : بأنّ الحق في الجواب هو عدم التسليم بأنّ حقيقة الاستعمال إفناء اللّفظ في المعنى ، ونحن ـ بالوجدان ـ عند ما نستعمل الألفاظ لإفادة معانيها لسنا بغافلين عن الألفاظ ، ولا يكون حالها حال القطع الطريقي ، بل نلحظ اللّفظ ونحاول أن نراعي فيه جهات الفصاحة والبلاغة في نفس ظرف استعماله في معناه.

إيراد المحقق الأصفهاني وما فيه

وقد أورد المحقق الأصفهاني على صاحب (الكفاية) بعد التسليم بما ذكره من حقيقة الاستعمال : بأنّ اللّفظ الصادر من المتكلّم الموجود خارجاً لا يمكن أن يكون مقوّماً للّحاظ ، حتى يلزم إفناء الواحد في الكثير أو اجتماع المثلين ، بل المقوّم للحاظ اللّفظ هو الصورة النفسانية لشخص اللّفظ الموجود خارجاً ، ولا مانع من تحقّق صورتين له في النفس ، فلم يلزم إفناء شيء واحدٍ في شيئين.

وقد أجاب عنه شيخنا : بأنّ هذا الذي ذكره المحقق الأصفهاني وإنْ كان معقولاً إلاّ أنه خلاف الواقع ، لأن الصورة النفسانية تابعة للوجود الخارجي وهي ظلٌّ له ، ولمّا كان الموجود خارجاً لفظاً واحداً ، فالمتحقّق في الذهن صورة واحدة ، فيعود الإشكال.

__________________

(١) اجود التقريرات ١ / ٧٦.

٣١٧

٣ ـ المحقّق العراقي

إنّ حقيقة الوضع جعل اللَّفظ مرآة للمعنى ، ثم الاستعمال ليس إلاّ إعمال الوضع. وبعبارة اخرى : إن الوضع يعطي اللَّفظ المرآتيَّة للمعنى بالقوّة ، والاستعمال يعطيه المرآتية له بالفعل ... هذا ، والبرهان على المرآتية سراية الحسن والقبح من المعنى إلى اللّفظ.

وإذا كان مرآة ، فإنه لا يمكن أن يكون الشيء الواحد مرآةً لشيئين.

المناقشة

فقال شيخنا دام بقاه : بأن كلمات هذا المحقق في حقيقة الوضع مشوّشة ، فتارةً يقول بأنه جعل الملازمة بين اللّفظ والمعنى ، واخرى يقول : جعل اللّفظ مرآةً للمعنى ، وهل يمكن الجمع بينهما؟ اللهم إلاّ أن يقال بأنه يريد جعل الملازمة مطابقةً وجعل المرآتية التزاماً.

لكنْ ليس حقيقة الوضع جعله مرآةً للمعنى ، لأن الوضع من فعل الواضع ، ومن يضع الاسم على ولده لا يجعل المرآتيّة ، وجعل الملازمة بين اللّفظ والمعنى لا يلازم المرآتيّة أبداً ، لوجود الملازمة بين النار والحرارة ، مع عدم وجود المرآتيّة.

وسراية الحسن والقبح من المعنى إلى اللّفظ لا يختص بالقول بالمرآتيّة ، فعلى القول بالعلامتيّة ـ الذي اخترناه ـ توجد هذه السّراية أيضاً ، واستعمال اللّفظ في أكثر من معنى بناءً عليه ممكن ، لعدم المانع من أن يكون الشيء الواحد علامةً لشيئين.

٤ ـ المحقق الأصفهاني

وسلك المحقق الأصفهاني مسلكاً آخر لبيان استحالة استعمال اللّفظ

٣١٨

الواحد في أكثر من معنى ، وهو مركّب من أُمور :

الأول : إن للشيء وجودين ، وجود حقيقي ووجود جعلي تنزيلي ، فللمعنى وجود حقيقي في الخارج ، ووجود جعلي يتحقق باللّفظ الموضوع له ، مع كون اللّفظ من الكيف المسموع ، فعند ما نقول «زيد» فإن هذا اللّفظ وجود طبيعة كيف مسموع بالذات ، ووجود جعلي للمسمّى بهذا الاسم.

والثاني : إن حقيقة الاستعمال إيجاد المعنى باللّفظ ، لكنْ بالوجود الجعلي التنزيلي المذكور.

والثالث : إنّ الإيجاد والوجود واحد حقيقةً متعدد اعتباراً ، إذ الحقيقة إنْ اضيفت إلى القابل فهو الوجود ، وإنْ أضيفت إلى الفاعل فهو الإيجاد.

وعلى هذه الأسس ، فإنه يستحيل استعمال اللّفظ في أكثر من معنى ، حتى مع عدم لحاظ اللّفظ أصلاً ، ووجه الاستحالة : إنه لا يوجد عندنا إلاّ لفظ واحد ، وله وجود واحد ، فلما استعمل في المعنى الأوّل حصل له الوجود بالوجود التنزيلي ، فلو اريد استعماله في الثاني أيضاً كان إيجاداً آخر كذلك ، فيكون استعماله في المعنيين محصّلاً للإيجادين ، لكنّ الموجود عندنا واحد لا غير ، فيلزم وحدة الوجود وتعدّد الإيجاد ، وهذا محال ، لكون الوجود عين الإيجاد كما تقدَّم في المقدّمة الثالثة.

مناقشة الاستاذ

وأورد عليه شيخنا دام بقاه بوجوه :

أمّا أوّلاً : فإنّ مختار المحقق الأصفهاني في حقيقة الوضع هو «الوضع في عالم الاعتبار» في قِبال الوضع التكويني ، كوضع العَلَم على المسافة المعيّنة ، وإذا كان كذلك ، فلا يكون اللّفظ وجوداً تنزيليّاً للمعنى. نعم ، هذا

٣١٩

يتمّ على مبنى الفلاسفة في حقيقة الوضع.

وأمّا ثانياً : فإنّ الوضع هو من فعلنا ، ونحن في أوضاعنا ـ كوضع الأسماء على المسمّيات ـ لا نجعل اللَّفظ وجوداً تنزيليّاً للمعنى ، بل إنّ الاسم يوضع على المسمّى لأنْ يكون علامةً له ، ينتقل الذهن بسببه إليه.

وأمّا ثالثاً : فإن قاعدة الوحدة الحقيقيّة بين الإيجاد والوجود من أحكام الموجودات الحقيقيّة ، وعليه ، يستحيل إيجاد الشيئين الحقيقيّين بوجود واحد ، أمّا إيجاد الشيئين في عالم الاعتبار بوجود واحدٍ ، فلا مانع عقلي عنه.

المتحصّل من البحث

فتحصّل من جميع ما تقدَّم : عدم قيام برهان صحيح على استحالة استعمال اللّفظ في أكثر من معنى عقلاً.

بل إنّ المختار في حقيقة الوضع هو جعل اللّفظ علامة للمعنى ، وعلى هذا المبنى لا مانع أصلاً من أن يكون الشيء الواحد علامة لشيئين.

فالحق هو الجواز على المختار.

وأمّا على مبنى التعهّد ، فكذلك ، لعدم المانع من أن يتعهّد باستعمال اللّفظ إذا أراد الشيئين ، وما في (المحاضرات) في مبحث الاشتراك من عدم إمكان الاشتراك على هذا المبنى ، تقدَّم ما فيه ، من أنّ نتيجة هذا المبنى هو التعهّد باستعمال اللّفظ الكذائي متى أراد المعنى الكذائي ، وهذا لا ينافي أن يكون المعنى الكذائي المراد متعدّداً.

فالحق

جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى عقلاً.

هذا تمام الكلام في الجهة الاولى.

٣٢٠