تحقيق الأصول - ج ١

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-2501-93-9
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤١٦

عن غيره من العلوم بما شاء من التمييز ، بالموضوع أو المحمول أو الغرض ، كأن يقول له في مقام تعريف علم النحو : إن موضوعه الكلمة والكلام ، أو يقول : غايته حفظ اللسان عن الخطأ من المقال ، أو يقول : محموله الإعراب والبناء.

وأمّا المقام الثاني : فلأن المؤلّف والمدوّن للعلم يختلف تمييزه له عن غيره باختلاف الدواعي.

فتارة : يكون هناك غرض خارجي يترتب على العلم والمعرفة بتلك المسائل التي دوّنها ، فلا بدَّ من البحث عن كلّ مسألةٍ اشتملت على ذلك الغرض ، كما أن التمييز حينئذٍ لا بدّ وأن يكون بالغرض ، وليس له التمييز بالموضوعات ، إذ لا عبرة ـ في الغرض ـ بوحدة الموضوع وتعدّده ، على أنه يقتضي أن يكون كلّ باب بل كلّ مسألة علماً على حدة ، كما ذكر صاحب (الكفاية).

وأخرى : يكون الداعي إلى التدوين نفس العلم والمعرفة ، دون أنْ يكون هناك غرض خارجي يدعوه إلى تدوين المسائل. وهذا يكون على نحوين ، فتارةً هناك موضوع يريد أن يبحث عن أحواله ، كما في علم الطب ، فلا بدّ من التمييز بالموضوع ، واخرى هناك محمول يريد أن يبحث عمّا يعرض عليه ذلك المحمول ، كالحركة والسكون ، فلا بدّ من التمييز بالمحمول فقط (١).

وحاصله : الموافقة مع صاحب (الكفاية) في خصوص ما إذا كان الغرض من التدوين هو غرض خاص ، كالصحّة والمرض في علم الطب ،

__________________

(١) تعليقة أجود التقريرات ١ / ١١ مؤسّسة صاحب العصر عليه‌السلام ، مصابيح الاصول ١٩ ـ ٢٠.

٢١

وحفظ اللّسان في علم النحو ، وصيانة الفكر في علم المنطق ، والمخالفة فيما إذا لم يكن الغرض من التدوين إلاّ المعرفة.

مناقشة الاستاذ

وأورد شيخنا الاستاذ على دليل مائزيّة الغرض بنحو الإطلاق ـ كما عليه في (الكفاية) ، أو موجبةً جزئيّة كما عليه المحقق الخوئي ـ بأنّ ما ذكر من : لزوم كون كلّ باب علماً على حده لو كان التمايز بالموضوع ، لازم القول بمائزيّة الغرض كذلك ، لأنّ الغرض الحاصل من حجيّة الاستصحاب مغاير للغرض الحاصل من مسألة منجّزية العلم الإجمالي ، هذا في علم الاصول ، وفي المنطق كذلك ، إذ الغرض الحاصل من مباحث المعرّف مغاير للغرض الحاصل من مباحث القضايا ، فهما غرضان ، وهكذا.

فإن قيل : الأغراض المترتبة على المباحث والأبواب لها جامع ، وذلك الغرض الجامع غير داخل تحت غرض جامع آخر ، فالأغراض المترتّبة على الأبواب في علم الاصول وإن كانت مختلفة ، لكنّها كلّها تجتمع تحت غرضٍ واحدٍ جامعٍ لها ، وهو التمكّن من استنباط الوظيفة الشرعية ـ بالمعنى الأعم ، من العلم والعلمي والأصل العملي ـ وليس هناك غرض فوقه.

وكذا الأمر في علم المنطق وغيره.

قلنا : القائل بكون التمايز بالموضوعات أيضاً يقول نظير هذا ، فهو يقول بأنّ هناك موضوعاً جامعاً بين موضوعات المسائل والأبواب ، يبحث في العلم عن العوارض الذاتيّة لذلك الموضوع ، فالافتراق بين العلوم يكون باختلاف الموضوعات في العوارض الذاتيّة ، حيث أنّ في كلّ أبواب هذا العلم يبحث عن العوارض الذاتية للموضوع الجامع بين الموضوعات ، ذلك الموضوع

٢٢

الذي لا يبحث في غير هذا العلم عن عوارضه ... وبالجملة : فإنّه لا يقع في علم آخر بحث عن العوارض الذاتية للموضوع المبحوث عن عوارضه في هذا العلم ، وهذا الملاك موجود في موضوعات العلوم ، ولا يوجد في موضوعات الأبواب.

فما ذكره صاحب (الكفاية) ـ ووافقه في (المحاضرات) موجبةً جزئية ـ مخدوش نقضاً وحلاًّ.

آراء الاستاذ

ثم إن شيخنا الاستاذ اختلفت كلماته في هذا المقام ، فقد اختار في الدورة الاولى : أن الفرق بين الأبواب والمسائل ، وبين العلوم ، بأن العلوم يمكن أنْ تتعدّد بتعدّد الموضوعات ، لعدم الجامع المشترك بين الموضوعات الموجبة لتعدّد العلوم ، بخلاف الأبواب والمسائل ، فقولهم ـ في علم النحو مثلاً ـ الفاعل مرفوع ، والمفعول منصوب ، والمضاف إليه مجرور ، يمكن تصوير جامع بينها وهو الكلمة والكلام ، لصدقه على كلّ من الموضوعات الثلاثة على حدّ سواء.

ثم إنّه عدل عن هذا ، لكونه إنّما يتمّ في بعض العلوم دون الجميع ، فقد تكون النسبة بين موضوعي علمين نسبة العموم والخصوص كالطب والطبيعي ، فبينهما جامع مشترك كالجامع بين البابين من العلم الواحد أو المسألتين ، فليس الموضوع ما به التمايز في مثل ذلك.

واختار في الدورة الثانية ـ التي حضرناها : أنّ التمايز يمكن أن يكون بالموضوعات ، كما ذكر المشهور ، أمّا في المسائل والأبواب من العلم الواحد فالمحمولات فيها عوارض ذاتيّة للموضوع دائماً ، فلا يلزم من كون الموضوع

٢٣

ملاكاً للتمايز أنْ تكون الأبواب والمسائل من كلّ علمٍ علوماً على حده ، كما ذكر صاحب (الكفاية).

لكنّ هذا إنّما يتم على مبنى المشهور في حقيقة موضوع كلّ علم.

وأفاد في الدورة المتأخّرة ـ في مقام المناقشة مع مبنى صاحب (الكفاية) ـ أن هناك ـ بالضرورة ـ ارتباطاً بين الأغراض المختلفة والمسائل المختلفة ، وهذا الارتباط في العلوم الاعتبارية ـ كعلم النحو ـ اعتباري ، وفي العلوم غير الاعتبارية كعلم الطب ذاتي ، والذاتي إمّا هو من ارتباط الشيء بمقتضيه وامّا من ارتباط الشيء بشرطه ، فالغرض الحاصل من العلم يحصل من ترتّب المحمولات على الموضوعات ، وهذا الترتّب إنما يكون لأجل الارتباط ، كما أنّ حصول الغرض لا يكون إلاّ بارتباطٍ بينه وبين الموضوع.

ومقتضى القاعدة أنْ يكون التمايز في الدرجة الأولى بما هو متقدّم على الغرض ، وهو المنشأ في تمايز الأغراض ، وهو المسائل.

أقول : فيكون ما ذهب إليه أخيراً قولاً آخر في البحث ، وحاصله : أنّه إن كان للعلم موضوع ـ كعلم الطبيعي الذي موضوعه الجسم من حيث الحركة والسّكون ـ فالتمايز بينه وبين غيره يكون بموضوعه الجامع بين موضوعات مسائله ، وإن لا يكون له موضوع بسبب اختلاف مسائله اختلافاً لا جامع ذاتي بينها ينطبق على موضوعات مسائله ، فالتمايز يكون بالمسائل.

ثم ذكر إشكال المحقق الخراساني في (الكفاية) بأنّه لو كان الامتياز بالمسائل لم يبق أيّ تداخل لعلم الاصول مع بعض العلوم في بعض المسائل ، مع وجود هذا التداخل بالضّرورة وكونها مشتركة بينه وبينها ... فاضطرّ إلى إنكار الاشتراك قائلاً ما حاصله : بأنّ المسألة المطروحة في علم الاصول وغيره

٢٤

وإنْ كانت متّحدةً في ظاهر لفظها وعنوانها ، إلاّ أن الجهة المبحوث عنها في كلّ علم تختلف عن الجهة المبحوث عنها في غيره ، ومثّل لذلك بمسألة جواز اجتماع الأمر والنهي المطروحة في الاصول والفقه والكلام معاً ، وأفاد بأنّها وإنْ كانت بهذه الصيغة إلاّ أنها في الحقيقة تعدّ في كلّ علمٍ مسألة مستقلّة عنها في غيره.

أقول : لكنْ يمكن المناقشة فيه : بأنّ المسألة تتشكّل من الموضوع والمحمول والنسبة ، وكما أنّ المسألة متقدّمة على الغرض ، وما به الامتياز يكون قبل الغرض ، كذلك الموضوع فهو متقدّم على المحمول وعلى المسألة المتشكّلة منهما ، فلولا الموضوع لم يكن المحمول ولا المسألة ، وبالجملة ، فالذي ذكره في جواب مسلك صاحب (الكفاية) ينفي ذلك المسلك ولا يثبت ما ذهب إليه ، بل يقوّي مبنى التمايز بالموضوعات كما اختاره في الدورة الثانية ، وفي بعض العلوم في الدورة المتأخّرة ...

وأمّا ابتناء ذلك على مسلك المشهور من ضرورة وجود الموضوع لكلّ علم ، فواضحٌ أنّ جميع هذه البحوث إنما هي على أساس ذاك المبنى ، وإلاّ فقد تقدم منه دام ظلّه أنْ لا برهان على ضرورة وجود موضوع جامع بين موضوعات المسائل ، وعلى أن البحث في العلوم لا بدَّ وأنْ يكون عن الأعراض الذاتيّة.

القول بالوحدة الاعتباريّة :

وأمّا القول بالوحدة الاعتباريّة ، فقد جاء في (نهاية الدراية) ـ لدى الجواب عن إشكال صاحب (الكفاية) على قول المشهور بلزوم كون كلّ باب من أبواب علم واحدٍ بل كلّ مسألة منه علماً برأسه لتمايز موضوعاتها ـ ما

٢٥

حاصله : إن تمايز العلوم يمكن أن يكون بالموضوع الجامع بين المسائل ، لأن العلم عبارة عن مركّب اعتباري من قضايا متعدّدة بينها وحدة اعتبارية ، والموضوع الجامع بين مسائله هو المائز بينه وبين غيره من العلوم ، ولا يلزم من ذلك أن يكون كلّ بابٍ أو كل مسألةٍ علماً على حدة ، لوجود نوع سنخيّة بين أبواب كلّ علم ، بالإضافة إلى اشتراكها جميعاً في تحصيل الغرض الواحد.

وقد أجاب عنه شيخنا الاستاذ بأنّه ـ في الحقيقة ـ التزام بما جاء في (الكفاية) وليس جواباً عنه ، إذ اللاّزم حينئذٍ هو التحقيق عن منشأ تلك الوحدة والتعدّد ، وأنها لوحدة الموضوع وتعدّده أو لوحدة الغرض وتعدّده.

القول بالتمايز بالمحمولات :

وأمّا القول بكون التمايز بالمحمولات ، فقد اختاره السيد البروجردي ، وعليه حمل كلام القدماء ، قال : «الحق مع القدماء حيث قالوا : إن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ، إذ المراد بموضوع العلم هو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ، وليس هو إلاّ عبارة عن جامع محمولات المسائل الذي يكون تمايز العلوم بتمايزه» (١).

وقد مهّد لتوضيح هذا القول خمس مقدمات ، ولعلَّ عمدة كلامه في بيان مرامه هو : «إن جامع محمولات المسائل في كلّ علمٍ هو الذي ينسبق أوّلاً إلى الذهن ويكون معلوماً عنده ، فيوضع في وعاء الذهن ، ويطلب في العلم تعيّناته وتشخّصاته التي تعرض له ، مثلاً : في علم الإلهي بالمعنى الأعم يكون نفس الوجود معلوماً لنا وحاضراً في ذهننا ، فنطلب في العلم تعيّناته

__________________

(١) نهاية الاصول : ٨.

٢٦

وانقساماته اللاحقة له ، من الوجوب والإمكان ... فصورة القضيّة وإنْ كان هو قولنا : الجسم موجود مثلاً ، ولكن الموضوع حقيقةً هو عنوان الموجودية ، وكذلك في علم النحو ، فإنّ أوّل ما ينسبق إلى ذهن المتتبّع لاستعمالات العرب إنما هو إعراب آخر الكلمة ، فيطلب في علم النحو الخصوصيات التي بسببها يتحقّق الإعراب واختلافاته ، فالموضوع حقيقةً في «الفاعل مرفوع» هو وصف المرفوعية ، وكذا في غير هذا المثال.

فالحاصل : إن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ، أعني بها جامع محمولات المسائل ، وتمايز المسائل بتمايز الموضوعات فيها».

وهذا الذي ذكرناه عنه هو عمدة كلامه رحمه‌الله وربما يوجد بين هذا الكلام ، وما ذكره في المقدّمة الأولى ـ حول موضوع علم الإلهيات بالمعنى الأعم ـ منافاة ، ومن هنا أشكل الشيخ الاستاذ على المقدّمة الأولى ، فراجع ، ولكنّ هذا الكلام إنّما يتمّ في علم الاصول فقط ، حيث أنّ المتبادر إلى الذهن فيه والذي يبحث عن تعيناته هو «الحجّة» ، إلاّ أنّ الواقع في سائر العلوم هو أخذهم الشيء موضوعاً ثمّ بحثهم عن خصوصياته وتعيّناته ، فالموضوع في علم الحساب هو «العدد» وفي علم النحو «الكلمة والكلام» وفي الإلهيّات بالمعنى الأعم هو «الوجود» باتّفاق الفلاسفة ، فلم يكن «الوجود» عندهم محمولاً أصلاً ، ونسبة القول بكون الموضوع هو الجامع بين المحمولات إلى القدماء غير تامّة كما ذكر شيخنا الاستاذ دام ظلّه.

٢٧

موضوع علم الاصول

لا يشترط أن يكون لكلّ علمٍ موضوع ، لعدم الدليل التام على ذلك ، مؤيّداً بما حكاه شيخنا عن الشفاء وشرح الإشارات وأساس الاقتباس والجوهر النضيد ، من أن العلوم تارةً تتشكّل من موضوع واحدٍ واخرى من موضوعات.

وعلى هذا ، فلا يعتبر أن يكون لعلم الاصول موضوع خاص ، بل لا يكون له موضوع لأمرين :

أحدهما : إن علم الاصول ليس من العلوم المطلوب منها المعرفة فقط ، بل الغرض منه هو التمكّن من استنباط الأحكام الكليّة الإلهيّة ، وكلّ علمٍ يدوَّن لغرضٍ ، فالمقصود تحصيل الغرض والوصول إليه ، سواء كان له موضوع أو لم يكن.

والآخر : إنَّ موضوعات مسائل هذا العلم مختلفة وغير قابلة لتصوير جامع بينها ، إذ يستحيل تصوير جامع بين الخبر والشهرة واليقين ـ وهو موضوع الاستصحاب ـ والوجوب ، وهو موضوع مسألة مقدمة الواجب ...

وهكذا ..

رأي صاحب الكفاية

ومن هنا أيضاً يظهر ما في مختار (الكفاية) من وجود الجامع ، وأنّ نسبته إلى موضوعات المسائل نسبة الكلّي إلى المصاديق ، وإنْ لم يكن له عنوان خاص واسم مخصوص .... فَجَعَلَ موضوع علم الاصول : الكلّي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتّتة.

٢٨

رأي المشهور

ومنه أيضاً يظهر ما في القول المعروف من جعله «الأدلّة الأربعة» ، على الوجوه الأربعة وهي : احتمال أن تكون هي الموضوع بوصف الدليليّة ، وأنْ تكون هي الموضوع لا بوصف الدليليّة ، فالدليليّة على الأول جزء من الموضوع وعلى الثاني من أحواله ، واحتمال أن يكون المراد من «السنّة» منها هو المحكي بها ، وهو قول المعصوم وفعله وتقريره ، ويكون المراد منها الأعم من المحكي والحاكي ، وهو الخبر.

مضافاً إلى وجود الإشكال في كلّ من هذه الوجوه الأربعة.

وتوضيح الإشكال في ذلك هو أنّه :

إن كانت الأدلّة الأربعة موضوع العلم بوصف دليليّتها ، بمعنى أن البحث يكون عمّا يعرض الدليل بعد الفراغ عن دليليّته ، كما عن المحقق القمّي ، ففيه : أنّه لا يتناسب مع قولهم : لكلّ علم موضوع جامع بين موضوعات مسائله ، يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة ، إذ لا جامع بين العقل والإجماع ، كما أن «السنّة» عنوان مشير إلى «القول والفعل والتقرير» وليس جامعاً ، إذ لا جامع بين الثلاثة.

فهذا الوجه ينافي قولهم بذلك ، لكن صاحب (الحاشية) جمع بين هذين المتنافيين.

وأيضاً : فإن لازم هذا الوجه خروج أكثر مسائل علم الاصول ، عدا مباحث الألفاظ ، إذ البحث عن الخبر والشهرة والاستصحاب وغيرها إنّما هو عن أصل الدليليّة والحجيّة.

وإنْ كانت هي الموضوع لكنْ لا بوصف الدليليّة ، كما عليه صاحب

٢٩

(الفصول) ، ارتفع الإشكال الثاني ، بناءً على كون المراد من «السنّة» هو الأعم من الحاكي ، بالنسبة إلى قسم من المسائل ، وهي التي يكون البحث فيها عن أصل الدليليّة ، لكن مباحث الاستلزامات العقلية ، ومباحث الإطلاق والتقييد ، والعموم والخصوص ، ونحوها من مباحث الألفاظ ، كلّها تخرج ، لأنّ البحث ليس عن عوارض الأدلة الأربعة ، فيكون من العوارض الغريبة ، لكون الموضوع في كل هذه المباحث أعمّ من الكتاب والسنّة ، كما أنّ الشهرة أيضاً تخرج ، إلاّ أن تدخل في السنّة ، لكونها ـ كالخبر ـ حاكية.

وأمّا بناءً على كون المراد من «السنّة» خصوص المحكي ، وهو «القول والفعل والتقرير» فيضاف الإشكال بخروج مباحث حجيّة الخبر ، ومباحث باب التعارض ، لأنّ البحث هناك إنما هو عن حجيّة الخبر الحاكي ، والمفروض عدم كونه سنّةً ، فلا يكون البحث بحثاً عن عوارض الأدلة الأربعة.

وقد حاول الشيخ الأعظم دفع هذا الإشكال بإرجاع البحث عن خبر الواحد إلى البحث عن ثبوت السنّة ، بأنّ البحث في الحقيقة : أنّه هل السنّة ـ التي هي عبارة عن قول المعصوم وفعله وتقريره ـ كما تثبت بالخبر المتواتر وبالقرينة القطعية ، تثبت بخبر الواحد الثقة أو لا تثبت؟ فيكون بحثاً عن عوارض السنّة.

لكنّ هذه المحاولة غير مفيدة ، لأنّه إنْ اريد بالثبوت : الثبوت الواقعي الخارجي ، فقد أورد عليه شيخنا ـ تبعاً للمحقق الخوئي ـ بأن الخبر حينئذٍ حاك وكاشف عن السنّة ، والكاشف عن الشيء في رتبةٍ متأخرة عنه ، ويستحيل أن يكون علةً له.

٣٠

وأمّا ما أجاب في (الكفاية) ـ وتبعه الميرزا والعراقي ـ من أنّه حينئذٍ بحث عن الثبوت بمفاد كان التامة وليس بحثاً عن عوارض السنّة ، الذي هو بحث عن العوارض بمفاد كان الناقصة ، فقد أجاب عنه شيخنا بإمكان إرجاعه إلى العوارض ، لأنّ البحث ليس عن الوجود الخارجي للشيء ، بل هو عن وجوده بعلّةٍ خاصّة ، وأنّه هل توجد السنّة وتثبت خارجاً بالخبر أو لا؟ فهو بحث بمفاد كان الناقصة.

وإن اريد بالثبوت : الثبوت العلمي ، بأنْ يكون الخبر واسطةً في الإثبات ، أي علةً للعلم بالسنّة ـ لا لوجودها ـ فيكون بحثاً عن العوارض ، وعن مفاد كان الناقصة. ففيه : إنّ المبحوث عن حجيّته وهو خبر الواحد ـ يقبل الصّدق والكذب ، ولا يوجب العلم كما في المتواتر والمحفوف بالقرينة.

وإنْ اريد بالثبوت : الثبوت التعبّدي ، بمعنى أنّ الشارع هل جعل خبر الواحد حجةً كاشفةً عن ثبوت السنّة؟ كان البحث بحثاً عن العوارض ، لكن عن عوارض الخبر لا عن عوارض السنّة التي هي الموضوع.

قاله في (الكفاية) وتبعه غيره.

وأجاب الميرزا : بأنْ عنوان كون السنّة محكيّة يعرض لها بواسطة الخبر الذي هو مباين لها ، فيكون من العوارض الغريبة (١).

قال شيخنا دام ظلّه : أمّا جواب (الكفاية) عن كلام الشيخ فوارد ، لكنْ بناءً على أن مدلول أدلّة اعتبار خبر الثقة هو إنشاء الحكم المماثل. فهو جوابٌ مبنائي. وأمّا جواب الميرزا ففيه : إنّ حجية الخبر على مسلكه اعتبار الشارع الخبر علماً ، لكنّ حصول هذه الصفة للخبر ـ أي : صفة العلمية الاعتبارية له ـ

__________________

(١) أجود التقريرات ١ / ٩ ـ ١٠.

٣١

إنما كان باعتبار الشارع ، فكان اعتبار الشارع واسطة في ثبوته ، وعليه ، فإن هذا المعتبر يكون عرضاً غريباً للخبر.

ثم إنّ المحقق الأصفهاني حاول توجيه كلام الشيخ ـ على فرض إرادة الثبوت التعبّدي ـ على المسلكين : إنشاء الحكم المماثل ، والمنجزيّة والمعذريّة ، أمّا على الأول : فبأنّ الحكم الذي يجعل من قبل الشارع على طبق الحكم الذي أتى به المخبر كقول زرارة : صلاة الجمعة واجبة ، له وجود حقيقي ، فالحكم وإنْ كان اعتبارياً ، إلاّ أن الوجوب الصادر طبق قول زرارة وجوب حقيقي للحكم الظاهري الذي أخبر به زرارة ، وهذا الوجود الحقيقي وجود تنزيلي للسنّة ، فالبحث عن ثبوت السنّة بخبر الواحد بحث عن الثبوت التنزيلي لها بخبر الواحد ، أي : هل السنّة تثبت تنزيلاً بالخبر أو لا؟

وأمّا على الثاني ، فإنّ المنجزيّة والمتنجزيّة متضايفتان ، فجعل الخبر منجزاً يلازم جعل السنّة متنجّزة ، فيصحّ البحث عن كلٍّ منهما ، بل الثبوت التعبّدي أكثر مساساً بالسنّة من التنجّز ، حيث أن اعتبار الثبوت هو اعتبار كون الخبر وجوداً للسنّة (١) ، والحاصل : إنّ المسألة تكون اصوليّة ، لأن البحث يقع عن أنه هل السنّة تصير متنجّزة بالخبر أو لا؟

لكن لا يخفى أنّ ما ذكره طاب ثراه إخراجٌ لعناوين المسائل المطروحة في العلم عن ظواهرها ، وإرجاعٌ لها إلى قضايا ومعانٍ اخرى ، لأنّ موضوع العلم ـ كما هو مفروض ـ هو «السنّة» والمسألة هي : هل خبر الواحد حجة أو لا؟ فالحجيّة محمولة على الخبر ، وهو حاكٍ عن السنّة وليس بمصداقٍ لها ... ولو أنّا أردنا إرجاع صور القضايا في العلم إلى قضايا اخرى ، للزم خروج كثير

__________________

(١) نهاية الدراية ١ / ٣٧.

٣٢

من مسائله عنه ، فلو أرجعنا قولنا في الاصول : هل وجوب ذي المقدّمة يستلزم وجوب المقدّمة أو لا؟ إلى قولنا : هل مقدمة الواجب واجبة أو لا؟ لخرجت المسألة عن الاصول ودخلت في الفقه.

قال الاستاذ :

والتحقيق : إن الإشكال لا يندفع على أيّ المسالك الموجودة في باب حجيّة خبر الثقة ، وهي أربعة :

أحدها : ما ذهب إليه المشهور ، وهو إنشاء الشارع الحكم في مورد الخبر وغيره من الأمارات ، كما قال العلاّمة : ظنّية الطريق لا تنافي قطعيّة الحكم ، واختاره المحقق الخراساني والمحقق العراقي في باب المجعول في الاستصحاب.

والثاني : انّ المجعول في مورد الأمارات هو المنجزيّة والمعذريّة. وهو ما يستفاد من بعض كلمات المحقق الخراساني.

والثالث : إن مدلول أدلّة اعتبار الخبر مثلاً جعله علماً وكاشفاً عن الواقع ، وهو ما يعبّر عنه بمسلك تتميم الكشف ، وهو مختار الميرزا.

والرابع : تنزيل المؤدّى منزلة الواقع.

والبحث عن حجيّة الخبر ـ على جميع هذه المسالك ـ بحث عن عوارضه لا عن عوارض السنّة ... وهذا هو مقتضى الأدلة أيضاً ، كقوله عليه‌السلام : «لا عذر لأحدٍ من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا» (١) وقوله عليه‌السلام : «العمري ثقتي ، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي وما قال لك عنّي

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ / ١٥٠ ط مؤسّسة آل البيت ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي رقم : ٤٠.

٣٣

فعنّي يقول» (١) والتشكيك من عوارض الخبر لا من عوارض السنّة ، ومقتضى الخبر الثاني هو تنزيل كلام الراوي منزلة كلامه ، لا أنّ كلامه يثبت بكلام الرّاوي.

وتلخص : عدم تمامية القول بموضوعيّة الأدلّة الأربعة للاصول ، مطلقاً. هذا ، ولا يخفى أن هذا ما استقرّ عليه رأي شيخنا أخيراً ، أمّا في الدورة السابقة التي حضرناها ، فقد اختار أنّ الموضوع ذوات الأدلة مع أعميّة السنّة ، وأجاب عن الإشكال بخروج عدّةٍ من المباحث المهمة كالشهرة ومباحث الألفاظ والاستلزامات العقليّة ، بأنّه يبتني على القول بكون العرض الداخلي غريباً لا ذاتيّاً ، وهو خلاف التحقيق ، لعدم الواسطة في العروض في هذه المسائل ، وعدم صحّة السّلب.

لكنّ هذا الجواب إنما يتمُّ في مباحث الألفاظ ونحوها ، أمّا في الشهرة مثلاً فلا ، ولذا التزم بكون البحث عنها في علم الاصول استطراديّاً ، وهو كما ترى.

وأمّا ما ذهب إليه صاحب (الكفاية) ـ وتبعه الميرزا ـ من أنه كلّي منطبق على جميع موضوعات مسائله ... فغير صحيح أيضاً ، لما عرفت من أن الصحيح أنْ لا جامع بين موضوعات مسائل علم الاصول.

رأي السيد البروجردي والمحقق الأصفهاني والكلام حولهما

وذهب المحقق البروجردي إلى أنّ الموضوع هو «الحجّة في الفقه» وتلقّاه بعضهم بالقبول وتعبيره : «ما هو الدليل على الحكم الشرعي» ، وسيأتي

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ / ١٣٨ ط مؤسّسة آل البيت ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي رقم : ٤.

٣٤

ذكر رأي المحقق الأصفهاني.

وتقريب الاستدلال كما في تقرير بحثه (١) هو : إنا نعلم بوجود الحجج الشرعيّة على الأحكام الشرعيّة ، فلكلّ حكم من الأحكام دليلٌ ، غير أنّا نجهل بتعيّنات تلك الأدلة والحجج ، وقد جعل علم الاصول للبحث عنها ، وأنّه هل الدليل والحجة على الأحكام الفقهية العملية هو خبر الواحد أو لا؟ ظاهر الكتاب أو لا؟ الشهرة أو لا؟ وهكذا. فالموضوع في الحقيقة هو ما يكون عندنا معلوماً ، والمحمول ما يكون مجهولاً ونريد رفع الجهل عنه ، مع لحاظ أن المراد من «العارض» هنا هو العارض المنطقي لا الفلسفي ، فالمقصود ما كان خارجاً عن الشيء ومحمولاً عليه ، أي : فكما يكون الوجود خارجاً عن ذات الجوهر ومحمولاً عليه كذلك نقول : الخبر حجة ، بمعنى أن الحجيّة خارجة عن ذات الخبر ومحمولة عليه.

والكلام على هذا الرأي يقع في جهتين ، جهة الكبرى وأصل المبنى في موضوع كلّ علمٍ ، وجهة التطبيق على علم الاصول ، أمّا الجهة الأولى ، فقد تقدّم الكلام عليها. وأمّا في الجهة الثانية ، فقد طبق رحمه‌الله ما ذكره على الخبر والشهرة والإجماع ، وهذا لا كلام فيه.

أمّا على القطع ، فيرد عليه أنّ القطع بالحكم الشرعي إنّما هو نتيجة المسألة الاصوليّة ، أي : إن المسائل في هذا العلم مبادي تحصيل القطع بالحكم الشرعي وانكشافه ، والنتيجة دائماً متأخرة ، فلا يصح جعل حجيّة القطع مبحثاً من مباحث علم الاصول.

وكذا على المفاهيم ، فإنه يرد عليه بأنّ المراد من «الحجة» في باب

__________________

(١) نهاية الاصول : ١١.

٣٥

المفاهيم هو أصل وجود المفهوم لا حجيّته ـ بعد وجوده ـ كما في باب الأخبار مثلاً.

ثم إنه يرد على ما أفاده خروج مباحث الألفاظ من الأوامر والنواهي ، والعام والخاص ، والمطلق والمقيّد ، والمشتق ، والصحيح والأعم ... لأنّ البحث في هذه المسائل ليس عن تعيّنات الحجّة.

والنكتة المهمّة الجديرة بالذكر هي : جعله تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي هو الغرض من علم الاصول ، فيكون الموضوع لهذا العلم هو «الحجة» لأنه الموافق للغرض ، مع أنّ شأن علم الاصول ، بالنسبة إلى الأحكام الفقهيّة ، شأن علم المنطق بالنسبة إلى الفكر الصحيح والاستدلال المتين في سائر العلوم ، فعلم الاصول كالآلة بالنسبة إلى علم الفقه ، ولذا عبّر المحقق الخراساني بالصّناعة ، كما سيأتي ... فعلم الاصول ـ بالنظر الدقيق ـ هو المبادئ التصديقيّة لمحمولات موضوعات الفقه ، ففي الاصول يتمّ وجه صحّة حمل «الوجوب» على «الصلاة» مثلاً ... وهناك تقوم الحجة على ثبوته لها ... وهكذا.

فالحق في المسألة : إنّ لموضوع علم الاصول خصوصيّة الصّلاحيّة للاتّصاف بالحجيّة للحكم الشرعي ، وكلّ مسألةٍ يكون لموضوعها هذه الخصوصيّة فهي مسألة اصوليّة ، والجامع بين هذه الموضوعات عرضي وليس بذاتي ، وحينئذٍ لا يرد الإشكال الثالث بخروج كثير من المباحث ، لأن الموضوع في مسألة «الإجزاء» هو إتيان المأمور به ، فإذا ثبت كونه مجزياً كان حجةً على صحّة العمل وسقوط القضاء ، فكان الموضوع المذكور صالحاً لانطباق عنوان الحجة عليه ، والموضوع في مسألة المقدّمة يصلح ـ بعد ثبوت

٣٦

الاستلزام ـ لأنْ يكون حجةً ، على القول بوجوب المقدمة ، والخبر موضوع يصلح ـ بعد ثبوت حجيّته ـ لأن يكون حجةً على الحكم الشرعي.

وعلى هذا الأساس قال المحقق الأصفهاني بأنه ليس لعلم الاصول موضوع معيَّن ، بل هو موضوعات مختلفة لها جامع عرضي ، وهو كونها منسوبة إلى غرض واحدٍ هو إقامة الحجّة على الحكم الشّرعي ، نظير علم الطب الذي لا جامع ذاتي بين موضوعات مسائله ، وإنّما يجمعها عنوان عرضي ، وهو ما يعبّر عنه بما يكون منسوباً إلى الصحّة.

ولا يرد على هذا البيان شيء مما ذكر ، وإن كان في التنظير بين الاصول والطب نظر ، نظراً إلى أن ما ذكره يتم في علم الطب ، فكلّ ما يكون له علاقة بصحّة البدن فهو من مسائله ، لكنْ ليس كلّ ما له علاقة بإقامة الحجّة يعدّ من مسائل علم الاصول ، فعلم الرجال ـ مثلاً ـ له نسبة وعلاقة بإقامة الحجة على حكم العمل ، مع أنّه علم مستقل عن الاصول.

إنما الكلام في كيفيّة هذه العلاقة والدخل ، فإنا إذا قلنا بأنْ المعتبر أنْ تكون العلاقة مباشرة والدخل بلا واسطة ، لزم خروج عمدة المباحث الاصولية ، لكون دخلها في إقامة الحجة مع الواسطة ، فلا يبقى تحت التعريف إلاّ مثل الخبر والشّهرة مما يكون دخله بالمباشرة ، وتحمل «الحجيّة» عليه بلا واسطة ، أمّا مثل مباحث العام والخاص والإطلاق والتّقييد وظهورات الأوامر والنواهي ، فلا يكون شيء منها حجةً ما لم تنطبق عليها ويضمّ إليها حجيّة الظاهر ، فعندئذٍ يمكن إقامة الحجّة على الحكم الشرعي بها ... نظير علم الرّجال فإنّه إذا ثبت وثاقة زيد احتيج إلى كبرى حجيّة خبر الثقة ، فيكون دخيلاً في إقامة الحجّة على الحكم الشرعي.

٣٧

ثم لا يخفى الفرق بينه وبين مسلك المحقق البروجردي ، فإنه اتّخذ عنوان الحجّة في الفقه جامعاً بين محمولات المسائل وجعل المحمول الكلّي موضوعاً ، أمّا المحقق الأصفهاني ، فقد جعل الموضوع جامعاً بين موضوعات المسائل ، فهو من هذه الجهة موافق للمشهور غير أنه جعله عرضياً لا ذاتيّاً خلافاً لصاحب (الكفاية).

والحاصل : إنه وإنْ لم يقم برهان على ضرورة وجود الموضوع الجامع بين موضوعات العلم ، إلاّ أن البيان المذكور غاية ما يمكن أنْ يقال.

أقول :

هذا ما أفاده مدّ ظلّه ، لكنّ ما أورده في الدورة السابقة باق على حاله ، وحاصله : إن الجامع العنواني لا يتّحد مع معنونه في الخارج ، لأن موطنه الذهن دائماً ، فجعله موضوعاً ـ والحال هذه ـ يؤول إلى إنكار الموضوع ، فليتدبّر.

٣٨

تعريفُ علم الاصول

واختلفت كلماتهم في تعريف علم الاصول :

فقال المشهور : هو العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة. وقال في (الكفاية) : صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أنْ تقع في طريق الاستنباط أو التي ينتهى إليها في مقام العمل.

وقال الشيخ الأعظم : هو القواعد التي تطبيقها بيد المجتهد.

وقال الميرزا : هو العلم بالقواعد التي إذا انضمّت إليها صغرياتها أنتجت نتيجةً فقهية.

وقال المحقق الأصفهاني : هو العلم بالقواعد التي تقع في طريق إقامة الحجّة على حكم العمل.

وقال المحقق العراقي : هو العلم بالقواعد التي تقع في طريق تعيين الوظيفة العمليّة.

تعريف المشهور

وقد أشكل على تعريف المشهور بزيادة لفظة «العلم» ، لأنّ هذه القواعد علم سواء علم بها أولا ، وبزيادة «الممهّدة» ، لعدم دخل التمهيد في العلم ، فهي العلم سواء كانت ممهّدة للاستنباط أو لا ، وفي جملة «لاستنباط الأحكام الشرعية» بأنها مستلزمة لخروج كثير من الأدلة الدالة عليه ، يطبّق في

٣٩

موارده الخاصة به ، وتخرج الاصول العملية العقليّة ، كقبح العقاب بلا بيان ، وكالتخيير عند دوران الأمر بين المحذورين ، وكالظنّ الانسدادي بناءً على الحكومة لا الكشف ، فإنّها أحكام عقليّة تطبَّق في مواردها.

تعريف الكفاية

ولهذه الامور عدل صاحب (الكفاية) إلى التعريف الذي ذكره ، فيكون جامعاً بالقيد الذي أضافه لما كان يخرج من تعريف المشهور ، ولا يرد عليه شيء مما ورد عليه ... لكن يرد على تعريفه : أوّلاً : إنه قال «صناعة» لإفادة آليّة علم الاصول كما أشرنا سابقاً ، لكنّ علم الاصول هو نفس القواعد لا أنّه صناعة تعرف بها القواعد. وثانياً : ان ما يعرف به القواعد ، يكون من المبادي التصديقيّة ، وهي خارجة عن مسائل العلم. أورده السيد الحكيم (١).

ثمّ إنّ المحقق الأصفهاني [بعد أنْ بيّن وجه الأولويّة في قول (الكفاية) : «الأولى تعريفه بأنه صناعة يعرف بها القواعد ..» ـ بأنّ من وجوه الأولويّة تبديل تخصيص القواعد بكونها واسطة في الاستنباط ـ كما عن القوم ـ بتعميمها لما لا يقع في طريق الاستنباط ، بل ينتهي إليه الأمر في مقام العمل ، وذكر أن وجه الأولويّة استلزام التخصيص خروج جملة من المسائل المدوّنة في الاصول ، لأنه لا ينتهي إلى حكم شرعي ، بل ظن به أبداً ، وإنما يستحق العقاب على مخالفته عقلاً كالقطع ، ومثل الاصول العمليّة في الشبهات الحكميّة ، لكون مضامينها بأنفسها أحكاماً شرعيّة وليست واسطةً في استنباطها في الشرعية منها. وأمّا العقليّة فلا تنتهي إلى حكم شرعي أبداً] أجرى الإشكال الذي يستلزمه التخصيص ـ كما عن القوم ـ في جلّ مسائل الاصول ،

__________________

(١) حقائق الاصول ١ / ١٦.

٤٠