تحقيق الأصول - ج ١

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-2501-93-9
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤١٦

ولو أوصى بعتق كلّ عبد قديمٍ من عبيده ، اعتق من كان عنده منذ «ستة أشهر» أو أكثر.

واختلفت كلمات العلماء في هذه الموارد ، فالسيد عبد الله شبّر حملها على الحقيقة الشرعيّة ، وبناءً على ذلك ، فإن هذه الألفاظ تحمل على المعاني المذكورة أينما جاءت في لسان الأدلّة. أمّا بناءً على إنكار الحقيقة الشرعيّة فإنها تكون خاصّة بمواردها ويؤخذ بها من باب التعبّد.

وقال صاحب (الجواهر) (١) في المسألة الخامسة من كتاب العتق ـ بعد كلام المحقق في معنى «القديم» بأنّ هذه النصوص محمولة على المعاني العرفيّة ، فكأن الإمام عيَّن للّفظ المصداق العرفي ، (قال) : وكل لفظٍ شك في معناه العرفي أوكل الأمر في معناه إلى الله والراسخين في العلم ، ثم جعل هذه الألفاظ نظير «الوجه» و «المسافة» و «الركوع».

وعلى الجملة ، فهو ينفي الحقيقة الشرعيّة فيها ، ويرى أن هذه الألفاظ تحمل على تلك المعاني في سائر الموارد لأنها المعاني العرفيّة لها.

قال شيخنا : والحق هو القول بلزوم الأخذ بالخبر إذا صحّ سنده في خصوص مورده تعبّداً ، فلا يصح التعدّي عنه إلى سائر الموارد ، لعدم الحقيقة الشرعيّة ، وعدم تماميّة كلام صاحب (الجواهر) ، المبني على كون الواضع للألفاظ هو الله تعالى ، وقد تقرّر بطلان هذا المبنى.

__________________

(١) جواهر الكلام ٣٤ / ١٣٣.

٢٢١
٢٢٢

الصَّحيح والأعم

٢٢٣
٢٢٤

ويقع البحث في الصحيح والأعم في المقدمات ، والأدلّة ، والثمرة.

مقدّمات البحث

أما المقدّمات فهي كما يلي :

المقدمة الاولى

(في جريان البحث بناءً على عدم الحقيقة الشرعيّة أيضاً).

الحقّ : جريان هذا البحث على جميع الأقوال في مسألة الحقيقة الشرعيّة ، لإمكان تصوير الثمرة على كلّ واحدٍ منها.

أمّا بناءً على القول بأنّ الألفاظ مستعملة في معانيها الشرعيّة استعمالاً حقيقيّاً ، وهو القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة ، فجريان البحث واضح ، فإنه يقال : هل الشارع قد وضع الألفاظ لخصوص المصاديق الصحيحة من المعاني أو للأعم منها ومن الفاسدة ، فإن كان الموضوع له خصوص الصحيح فلا يتمسّك بالإطلاق لدى الشك ، وإنْ كان للأعم تم التمسّك.

وأمّا بناءً على القول بعدم الحقيقة الشرعيّة ، وأن الألفاظ استعملت في هذه المعاني استعمالاً مجازيّاً ، فإنّه يقال : أن الشارع الذي استعمل لفظ «الصلاة» مثلاً في هذا المعنى الجديد مجازاً ، هل استعمله أولاً في خصوص

٢٢٥

الحصّة الصحيحة بمعونة القرينة ، والقرينة التي أقامها على المجاز هي قرينة عامّة بالنسبة إلى الصحيح فقط ، أو أنه استعمله في الأعم وكانت القرينة عامّة بالنسبة إلى الأعم.

فإن كانت القرينة المصحّحة للاستعمال المجازي في المعنى الشرعي ، ـ مع كون اللّفظ موضوعاً للمعنى اللّغوي ـ قد لوحظت أوّلاً بين المعنى الحقيقي وخصوص الفرد الصحيح ، احتاج استعماله في الأعم إلى قرينةٍ اخرى ، وكذا بالعكس.

فعلى الأوّل ـ وهو الاستعمال المجازي في خصوص الصحيح ـ لا يجوز التمسك بالإطلاق عند الشك ، وعلى الثاني يجوز.

وأمّا بناءً على القول الثالث ـ وهو قول الباقلاّني ـ من أنّ الألفاظ مستعملة في لسان الشارع في معانيها اللّغويّة ، لا الشرعيّة ، لا حقيقة ولا مجازاً ، إلاّ أنه قد أفاد الخصوصيّات الجديدة المعتبرة من قبله بألفاظٍ أخرى ، كما في أعتق رقبةً مؤمنةً ، حيث استعمل لفظ الرقبة في معناه ، ولمّا أراد خصوص المؤمنة دلّ عليه بلفظ آخر ، فكان دالاّن ومدلولان ، وفي لفظ «الصلاة» كذلك ، فإنه أراد المعنى اللّغوي فقط ، وهو الدعاء ، أما بقية الأجزاء والشرائط المعتبرة فقد دلّ على إرادتها بدوالٍّ اخر ، فيقال : هل الدوالّ الأخر اريد منها خصوص الأجزاء الصحيحة أو الأعم منها ومن الفاسدة؟ فإن اريد الصحيح لزم الإتيان بدوالٍّ أُخر عند إرادة الأعم ، وهكذا العكس.

إذن ، يجري هذا البحث على جميع المباني في مسألة الحقيقة الشرعيّة ، ويمكن تصوير الثمرة على كلّ واحدٍ منها ، وإنْ قيل بانتفائها بناءً على القول الأخير ، من جهة أنه إن كانت الدوالّ الأخر مفيدةً لإرادة الأجزاء والشرائط

٢٢٦

كلّها ، فلا شك حينئذٍ حتى يتمسّك بالإطلاق ، وإن كانت مجعولة منه بنحو الإهمال فكذلك ، فلا ثمرة للبحث. لأنّا نقول بناءً على هذا القول : هل الدوالّ التي استخدمها الشارع لإفادة الخصوصيّات الزائدة على المعنى اللّغوي ، جاءت لتفيد تلك الخصوصيّات الملازمة لتماميّة الأجزاء والشرائط أو للأعم من الأجزاء والشرائط التامّة وغير التامّة؟ إن كان الأول فلا يتمسك بالإطلاق ، وإن كان الثاني تمّ التمسّك به.

المقدّمة الثّانية

(في معنى الصحيح والفاسد)

اختلفت كلمات العلماء في معنى «الصحيح» و «الفاسد».

فعن أهل الحكمة : أن «الصحيح» هو المحصّل للغرض ، وما ليس بمحصّلٍ له ففاسد.

وعن المتكلّمين : إن «الصحيح» هو الموافق للأمر أو الشريعة ، والفاسد غيره.

وعن الفقهاء : إن «الصحيح» هو المسقط للإعادة والقضاء ، والفاسد غيره.

وقال المحقق الأصفهاني : إن «الصحّة» هي : التماميّة من حيث الأجزاء والشرائط ، ومن حيث إسقاط الإعادة والقضاء ، ومن حيث موافقة المأتي به للمأمور به.

قال شيخنا : بل الحقّ هو أنّ «الصحّة» تماميّة الأجزاء والشرائط ، فالبحث في الحقيقة هو : هل الألفاظ موضوعة لتامّ الأجزاء والشرائط أو للأعم منه ومن الفاقد لبعضها ، فالصحيح عندنا هو الواجد لها ، والفاسد ما فقد جزءاً أو قيداً ، فيكون «الصحة» و «الفساد» أمرين إضافيّين ، فالصلاة قصراً

٢٢٧

بالإضافة إلى المسافر صحيحة وإلى الحاضر فاسدة.

فالصحّة عبارة عن التماميّة والفساد عدم التماميّة ، ومن الواضح أن من آثار التماميّة ولوازمها : سقوط الإعادة والقضاء ، وموافقة المأتي به للمأمور به ، ومحصّليّة الغرض ، فهذه الامور لوازم وليست بمقوّمات ، ويشهد بذلك تخلّل الفاء التفريعيّة حيث نقول : كانت هذه العبادة تامّة الأجزاء والشرائط فهي محصّلة للغرض ، فهي موافقة للمأمور به ، فهي مسقطة للإعادة والقضاء ، ولا يصح أن يقال مثلاً : قد سقط الأمر فالعبادة كانت تامّة الأجزاء والشرائط ...

المقدمة الثالثة (١) (في عدم دخول ما يتفرّع على الأمر في البحث)

لا ريب في دخول الأجزاء في محلّ النزاع ، بأن يقال : هل اللّفظ موضوع لواجد جميع الأجزاء ـ الذي هو المراد من الصحيح ـ أو الأعمّ منه ومن فاقد بعضها؟

وكذلك الشرائط ، سواء قلنا بأن التقيّد داخل والقيود خارجة أو قلنا بأن القيود أيضاً داخلة ، إذْ لا فرق بين الأجزاء والشرائط من هذه الناحية ، لكون الأجزاء والشرائط في مرتبةٍ واحدة وإن اختلفا في كيفيّة التأثير ، حيث بالجزء يتمّ المقتضي وبالشرط يتمُّ فاعليّة المقتضي في المقتضى ، وعليه ، فإنه يمكن تصوير النزاع بأن لفظ «الصلاة» موضوع للمركّب الجامع للأجزاء فقط أو لها بضميمة الطهور مثلاً ، أو بضميمة عدم الاستدبار ، مثلاً؟

إنّما الكلام في مثل قصد القربة وقصد الوجه ـ على مسلك صاحب الجواهر وغيرهما من الامور المتفرّعة على الأمر ، فهل هذه أيضاً داخلة في محلّ النزاع ، بأنْ يقال : هل لفظ «الصلاة» موضوع للحصّة الصحيحة ، أي

__________________

(١) هذه المقدمة لم تذكر في الدورة السابقة.

٢٢٨

الواجدة لقصد القربة أو للأعم منها والفاقدة؟

وكذا بالنسبة إلى عدم المزاحم ، فإنه يعتبر في صحّة الصلاة أن لا تكون مزاحمة بالأمر بإزالة النجاسة عن المسجد ـ إلاّ أنْ تصحّح عن طريق الترتّب ـ فهل عدم المزاحم يدخل في محل النزاع بأن يقال : هل لفظ الصلاة موضوع للحصّة الصحيحة أي غير المزاحمة بالأمر بالإزالة أو للأعم منها ومن المزاحمة؟

الحق ـ وفاقاً للمحقق النائيني ـ هو عدم الإمكان ، بتقريب : إن الابتلاء بالمزاحم وعدم الابتلاء به متوقّف على الامتثال ، فهو من انقسامات مقام الامتثال ، ومقام الامتثال فرع وجود الصّلاة وتعلّق الأمر بها ، فإذا كان هناك أمر وتعلّق بالصّلاة واتّفق وجود مزاحم لها في مقام الامتثال ، فإنّ رتبة المزاحمة متأخّرة عن الأمر بالصّلاة ، والأمر بها متأخّر عنها ، فلا يعقل أن يكون عدم الصحّة ـ الناشئ من وجود المزاحم ـ مأخوذاً في معنى الصّلاة.

فظهر أنّه بناءً على إنكار الترتّب ، وأنّ الأمر بالإزالة يوجب عدم الأمر بالصّلاة أو النّهي عنها ، فالصّلاة فاسدة.

نعم ، يمكن تصوير النزاع في عدم المزاحم بأن يقال : قد تعلّق بكلٍّ من الركوع والسجود والقراءة وسائر الأجزاء إلى التسليم أمرٌ بضميمة عدم المزاحم ، ثم جعل لفظ «الصلاة» على هذه المجموعة.

إلاّ أن هذا لا واقعيّة له في الشّريعة ، وبحثنا إنما هو في دائرة ما هو الواقع فيها.

وتلخّص :

عدم إمكان أخذ الصحّة من ناحية عدم المزاحم ، كما عليه الميرزا ، ولا

٢٢٩

يرد عليه شيء.

المقدمة الرابعة (في تصوير الجامع)

إنّه ـ سواء قلنا بالوضع لخصوص الصحيح أو الأعم ـ لا بدّ من تصوير جامع بين الأفراد ، وذلك ، لأن الوضع الخاص والموضوع له العام غير معقول ، وكذلك الوضع الخاص والموضوع له الخاص ، لأنّ الالتزام بوضع لفظ «الصّلاة» لكلّ حصّةٍ حصّةٍ من الصلاة ، يستلزم أوضاعاً كثيرة ويلزم الاشتراك اللّفظي ، وهذا لا يلتزم به أحد ؛ بقي الوضع العام والموضوع له العام ، والوضع العام والموضوع له الخاص ، وإذا كان الوضع عامّاً لزم تصوير الجامع بين الأفراد ليكون هو الموضوع له لفظ «الصلاة».

فإن قيل ـ كما ذكر شيخنا في الدورة السّابقة ـ : إن الجامع العنواني كعنوان «الناهي عن الفحشاء والمنكر» يجمع بين مصاديق الصّلاة ، وهي المعنون له ، ولا حاجة إلى تصوير جامع بين الأفراد ليكون هو الموضوع له لفظ «الصلاة».

قلنا : المقصود تصوير جامع يكون الموضوع له لفظ «الصلاة» ويمكن تصوير الثمرة معه ، وأمّا الجامع العنواني كما ذكر فلا ثمرة للبحث معه ، لأنّ اللّفظ إن كان موضوعاً للعنوان لزم القول بعدم الوضع للمعنون ، وإن كان موضوعاً للمعنون بواسطة العنوان أصبح الموضوع له خاصّاً ، فيكون اللّفظ مستعملاً في الخاص ، والخاصّ لا إطلاق فيه ولا إجمال ، فلا ثمرة للبحث.

إنّ المهمّ تصوير جامع بحيث يتمكن من التمسّك بالإطلاق معه ، لأنه ـ على القول بالصحيح ـ يكون الخطاب مجملاً ، بخلاف ما إذا قلنا بالوضع للأعم ، فإنه يتمكن من التمسك بالإطلاق ، لكون الموضوع له معلوماً وكذا

٢٣٠

المستعمل فيه ، فلو شك في اعتبار جزءٍ أو شرطٍ في الصلاة فلا ريب في صدق الطبيعة على ما عدا المشكوك فيه ، وحينئذٍ أمكن التمسّك بالإطلاق لرفع الشك ، بخلاف ما إذا قلنا بالوضع لخصوص الصحيح ، فإنه يحتمل دخل الجزء أو الشرط المشكوك فيه في ذات الموضوع له وصحة العمل ، فيكون المعنى مجملاً ، فلا مجال حينئذٍ للتمسك بالإطلاق ، لدفع جزئيّة المشكوك فيه أو شرطيته ، لأنَّ شرط التمسّك به إحراز صدق المعنى.

إذن ، لا بدَّ من تصوير جامع ذاتي ليكون محور البحث في الصّدق وعدم الصّدق على كلا القولين ، والجامع العنواني لا يصلح لذلك ، لكون الوضع فيه إمّا للعنوان فالمعنون لا اسم له ، وامّا للمعنون فيكون فرداً فلا جامع له.

وكيف كان ... فلا بدَّ من تصوير الجامع على كلا المسلكين.

٢٣١

تصوير الجامع على الصّحيح

١ ـ تصوير المحقق الخراساني

إنا نرى أنه يترتّب على الصلاة ـ بعنوان أنها صلاة ـ أثر واحد ، من غير فرقٍ بين الحالات والكيفيّات ، مع عرضها العريض ، من الصلاة التي تقع بتكبيرة واحدةٍ فقط ، حتى الصلاة التامّة الأجزاء والشرائط ، وذاك الأثر هو كونها عمود الدين ـ مثلاً.

فهذه مقدّمة.

والمقدّمة الاخرى هي : إنه لا بدّ من السنخيّة بين المقتضي والمقتضى ، والأثر والمؤثر.

والمقدمة الثالثة هي : أن بين الواحد بما هو واحد ، والكثير بما هو كثير تعاند وتقابل ، للتقابل بين الوحدة والكثرة ، ومعه يستحيل صدور الواحد عن الكثير ، فيستحيل صدور «عمود الدين» الواحد بالوحدة النوعيّة عن المتكثّرات ، إذن ، لا بدّ وأنْ تنتهي الكثرة إلى وحدة ، كي تتم السنخيّة بين الأثر والمؤثّر.

إذن ، يوجد بين جميع أشخاص وأصناف الصّلاة الصحيحة جامع يكون هو المنشأ لهذا الواحد النوعي من حيث الأثر ، وهو الموضوع له لفظ «الصلاة».

٢٣٢

واورد عليه :

إنّ القاعدة المقرّرة عند أهل الفن من أن الأثر الواحد لا بدّ وأن ينتهي إلى مؤثّر واحدٍ ـ ببرهان امتناع صدور الواحد عن الكثير ـ إنّما تتعلَّق بالواحد من جميع الجهات والحيثيّات ، أي البسيط الحقيقي ، فموردها الواحد الشخصي البسيط ، وأمّا فرض المحقق الخراساني فهو الواحد النّوعي ، فإن «معراج المؤمن» و «الناهي عن الفحشاء» ونحو ذلك ليس واحداً شخصيّاً.

وفيه :

إن المذكور عند أهل الفن قاعدتان ، إحداهما : القاعدة المذكورة ، وموردها الواحد الشخصي والبسيط من جميع الجهات والحيثيات كما ذكر ، والأخرى : قاعدة لزوم السنخيّة بين المعلول والعلّة ، الأثر والمؤثر ، وموردها مطلق الواحد لا خصوص الواحد الشخصي ، فالواحد النوعي مثل «معراج المؤمن» إذا كان أثراً يلزم أن يكون بينه وبين المؤثّر له سنخيّة ، فلا بدّ من وجود وحدة نوعيّة بين أفراد الصّلاة المختلفة ، ـ من صلاة الحاضر الجامعة بين الأجزاء والشرائط ، والمسافر التي هي قصر ، والمريض الذي يصلّي من جلوس ، والمحتضر ، والغريق ـ تكون تلك الوحدة هي العلّة لهذا المعلول «معراج المؤمن» والمؤثر لهذا الأثر.

فهذا مقصود المحقق الخراساني ، ولا يرد عليه الإشكال.

وأورد عليه :

بأن الواحد المذكور ليس بواحدٍ نوعي ، بل هو واحد عنواني ، والبرهان المذكور لا يجري في الواحد العنواني ، إذ إن الواحد العنواني لا يتّحد مع أفراده ، لا في الوجود ولا في المفهوم ، فعنوان «الربط» مثلاً لا يقبل الاتحاد

٢٣٣

مع مصاديق الرّبط وأفراده ، لكونه معنًى اسميّاً والمصاديق معانٍ حرفيّة ، ومصاديق الواحد النوعي متّحدة حقيقةً ، أما مصاديق الواحد العنواني كعنوان «الناهي عن الفحشاء» الذي هو من عناوين «الصلاة» مختلفة بالحقيقة ، ومنها : الزنا والكذب وشرب الخمر والغيبة والسرقة ...

وفيه :

إن الأثر للجامع هو «النهي» فقط ، وهو الزجر ، وهذا أثر نوعي ، إلاّ أنّ متعلَّقات النهي مختلفات ، لكنّ الأثر شيء ومتعلَّقه شيء آخر ، وما نحن فيه من قبيل «العلم» ، فإنّه حقيقة واحدة ، لكنّ متعلّقه يختلف فيكون جوهراً تارةً وعرضاً اخرى ...

فالإشكال غير وارد.

وأورد عليه :

بأنّ تأثير المتكثّرات في الأثر الواحد الفعلي محال ، أمّا تأثيرها في القابليّة فلا مانع منه ، فالنهي عن الفحشاء بالفعل لا يمكن صدوره من متعدّد ، أمّا القابلية للنهي فيمكن ، بدليل أن عدم المانع ووجود الشرط أمران متغايران ، إلاّ أنهما يؤثّران في القابليّة ، بأن يكون المحلّ قابلاً لأنْ يتحقق فيه أثر المقتضي وهو المقتضى. إذن ، يمكن تصوير قابليّة النهي عن الفحشاء المترتبة على الصّلاة ، فترتّب الأثر الواحد من المتعدّد.

وفيه :

إن القابليّة من الامور الإضافيّة ، فهناك قابل ومقبول وقابليّة ، ومقولة الإضافة من الأعراض الموجودة بعين وجود الموضوع كالفوقيّة والتحتيّة ـ ومن الأعراض ما يوجد بغير وجود الموضوع لكنه قائم بالموضوع كالبياض

٢٣٤

والسواد ـ وإذا كانت من الأعراض الوجودية ، فكيف يكون الأمر العدمي ، أعني عدم المانع ، مولّداً للأثر؟

هذا أوّلاً.

وثانياً : إن القابليّة الحاصلة من الشرط غير القابليّة الحاصلة من عدم المانع ، فمن كلٍّ منهما تحصل درجة من الأثر ، فلم يتحقق الواحد من المتعدّد.

الإشكال العمدة

هو ما تعرّض له المحقق الخراساني وحاول ذبَّه ، وهو في (تقريرات) (١) الشيخ الأعظمقدس‌سره :

إن هذا الجامع إما مركّب وإما بسيط ، وعلى الثاني فإمّا هو عنوان «المطلوب» أو عنوان ملزوم لعنوان «المطلوب». فهو غير خارج عن هذه الشقوق ، وكلّها باطلة ، فالتصوير باطل .. وذلك لأنه :

إن كان مركّباً ، فإن كلّ مركّب فرض فهو مردّد بين الصحيح والفاسد ، لأنه بالإضافة إلى حالٍ أو مكلَّف صحيح وبالإضافة إلى آخر فاسد ، فكان جامعاً بين الصحيح والفاسد لا الصحيح فقط.

وإن كان بسيطاً ، وكان عنوان «المطلوب» فيرد عليه :

أوّلاً : إن هذا العنوان إنما يحصل في رتبة الطلب ، فلولاه لم تكن مطلوبيّة ، والمعنى والمسمّى دائماً مقدَّم رتبةً على الطلب والمطلوبيّة ، فكلّما وجدت المطلوبيّة وجد المعنى بتلك المرتبة ، فلو كان الجامع هو عنوان «مطلوب» يلزم تقوّم ذات المعنى بعنوانٍ متأخّر بالذات عن المعنى.

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٦.

٢٣٥

وثانياً : إنه يلزم الترادف بين لفظ «الصلاة» ولفظ «مطلوب» وهو باطل كما لا يخفى.

وثالثاً : إنه يرد عليه ما يرد على الشق الأخير الآتي.

وإن كان بسيطاً ، وكان عنواناً ملزوماً مساوياً لعنوان «المطلوب» ، فإنّه حينئذٍ يصير معلوماً ، ولا يقع فيه الشك كي يتمسّك بالبراءة عن وجوب ما شك في جزئيته أو شرطيّته ، لأن البسيط ليس فيه أقل وأكثر حتى يدور الأمر بينهما فيتمسّك بالبراءة ، والحال أن القائل بالصحيح يتمسّك بها.

وأيضاً : فإن مجرى البراءة هو صورة عدم معلوميّة التكليف بنحوٍ من الأنحاء ، ومع العلم به بعنوانٍ من العناوين يتنجّز ، فلا موضوع للبراءة.

وهذا ما يرد على الشق السابق ـ وهو كون العنوان هو «المطلوب» ـ لأنّ العنوان المذكور ليس فيه أقل وأكثر.

وكيف كان ، فإنه مع العلم بالعنوان الذي تعلَّق به الأمر ، وجب على المكلَّف الاحتياط ، كي يحرز تحقّق ذلك العنوان.

هذا هو الإشكال.

جواب المحقق الخراساني

فأجاب باختيار الشقّ الأخير ، لسلامته عن اشكال تقدّم ما هو المتأخّر ، وعن إشكال الترادف ، ويبقى إشكال سقوط البراءة ، فأجاب بجريانها ، لأن العنوان وإن كان في نفسه بسيطاً لا أقلّ وأكثر له ، إلاّ أنه متّحد مع الأجزاء والشرائط بنحوٍ من الاتحاد ، ولما كانت مردّدة بين الأقل والأكثر كانت البراءة جاريةً بلا إشكال.

٢٣٦

قال شيخنا :

إذن ، فمختار المحقق الخراساني كون الجامع بسيطاً لا مركّباً ، ويكون المحذور منحصراً بعدم جريان البراءة ، وقد أجاب عنه بما تقدّم. وتوضيحه : إنه إن كانت النسبة بين العنوان البسيط ومتعلّق التكليف نسبة السبب والمسبب ، كالنسبة بين الغسلات والمسحات وبين الطّهارة ـ بناءً على أنّ الطهارة وهي عنوان بسيط هي المأمور به ـ فهنا يرجع الشك إلى المحصّل ، وهو مجرى قاعدة الاشتغال. وأمّا إنْ لم يكن العنوان البسيط المأمور به مسبّباً عن أجزاء المركّب ، بل كان متّحداً معها فلا مناط للاشتغال ، بل مع الشك في الأكثر تجري البراءة.

وفيما نحن فيه ، يكون عنوان «الصحيح» هو ملزوم «المطلوبيّة» وهذا العنوان ليس نسبته إلى الأجزاء نسبة «الطهارة» إلى «الغسلات والمسحات» بل هو خارجاً متّحد مع أجزاء المركّب ووجوده عين وجودها ، فمتعلّق الأمر حينئذٍ هو المعنون بعنوان الصحيح ، وهو الموجود في الخارج ، ويتردّد أمره بين الأقل والأكثر ، وتجري البراءة بلا إشكال.

فالجامع هو الصحيح ، وهو البسيط الماهوي ، والبراءة أيضاً جارية.

فهذا حاصل ما ذكره الشيخ والمحقق الخراساني.

لكنْ يرد عليه :

أوّلاً :

إنه كيف يكون اتّحاد الواحد البسيط مع المركّبات المختلفة؟

لقد ذكر أنهما يتّحدان نحو اتّحاد ، لكنّ الاتّحاد لا يخلو إمّا هو اتّحاد الماهيّة مع الوجود ، وهذا لا مورد له هنا ، وامّا الاتحاد بين الأمر الانتزاعي مع

٢٣٧

منشأ انتزاعه في الوجود ، وامّا الاتّحاد بين الكلّي والأفراد ، وهذان منتفيان أيضاً هنا ، فلقد صوّر صاحب (الكفاية) الاتحاد بين الجامع الواحد البسيط ، وبين المركّبات المختلفات ، إذْ «الصلاة» مشتملة على مقولاتٍ مختلفة كالوضع والكيف والأين ـ بناءً على دخولها في الصلاة ـ وهي مركّبة من أجزاء ، فمقولة الكيف مثلاً فيها هي القراءة وهي مركّبة من أجزاء.

فمع وجود هذا الاختلاف المقولي ، ومع وجود التركيب ، فإنّه يلزم إمّا تركّب البسيط ـ وهو الجامع المفروض ـ وامّا بساطة المركّب ، إمّا وحدة الكثير وامّا كثرة الواحد ، وكلاهما محال ، لأن النسبة بين البساطة والتركّب وبين الوحدة والتعدّد والاختلاف ، هي نسبة التقابل ، واتّحاد المتقابلين محال.

وعلى الجملة ، فإن كلامه في المقام ـ حيث صوّر الجامع الواحد البسيط بين أفراد الصلاة ، والاتحاد بينه وبينها بنحوِ اتّحادٍ ـ يستلزم محالين : اتّحاد البسيط مع المركّب ، وإتّحاد البسيط الواحد مع المقولات المختلفة.

وثانياً :

إن الجامع المحتمل هنا لا يخلو عن أحد أقسامٍ ثلاثة : فإمّا هو الجامع العنواني ، وامّا الجامع النوعي ، وامّا الجامع الجنسي. أمّا الأوّل فغير مقصود منه ، لأن الجامع العنواني غير قابل للاتّحاد مع المعنون ، لأن موطنه هو الذهن فقط ، مثل عنوان «مفهوم النسبة» ل «لواقع النسبة». وأمّا الثاني والثالث فكذلك ، لأن أجزاء الصّلاة أنواع من أجناس مختلفة ، فالرّكوع من مقولة الوضع والقراءة من مقولة الكيف ، والمقولات أجناس عالية ، وإذا كانت أجناساً عالية فالجامع الجنسي غير ممكن ، ومع عدم إمكانه لا مورد لاحتمال الجامع النوعي. فما هو الجامع الذي تصوّره جامعاً بسيطاً متّحداً مع المركّبات

٢٣٨

نحو اتّحاد؟

وثالثاً :

إن المقصود تصوير الجامع بناءً على الصحيح ، وهذا مستحيل ، لأنّ كونه على الصحيح يعني أخذ جميع الخصوصيّات ، وكونه جامعاً يعني إلغاء الخصوصيّات ، مثلاً : صلاة المسافر متقوّمة بخصوصيّة «بشرط لا» بالنسبة إلى الركعتين ، وصلاة الحاضر متقوّمة بخصوصيّة «بشرط شيء» بالنسبة إليهما ، فكيف يصوَّر الجامع بينهما مع حفظ الصحّة؟ كيف يجمع بين رفض الخصوصيّات وأخذها؟

ولا يخفى ورود هذا الإشكال ، سواء كان الجامع ذاتيّاً كما عليه المحقق الخراساني ، أو عرضيّاً كما عليه الشيخ الحائري وتبعه السيد البروجردي. وسيأتي ذكره.

ورابعاً :

إن الغرض من الوضع هو التفهيم ، فباستعمال اللّفظ يتمّ إحضار المعنى إلى الذهن ويتحقّق التفهيم ، والوضع لمعنىً مستخرجٍ ببرهانٍ فلسفي لا يصلح لأنْ يكون سبباً لإحضار المعنى في الذهن وحصول التفهيم ، وكيف يأتي إلى أذهان المتشرّعة معنى «معراج المؤمن» و «الناهي عن الفحشاء» و «عمود الدين» من لفظ «الصّلاة»؟

إن هذا التصوير لا يناسب عرف المتشرّعة.

وهذا الإشكال يرد على التصويرات الآتية أيضاً.

٢ ـ تصوير المحقّق العراقي

وذهب المحقق العراقي إلى الجامع الوجودي ، فراراً مما ورد على

٢٣٩

التّصوير السابق ، فأثبت وجود الجامع بين الأفراد الصحيحة عن طريق الأثر كما ذكر صاحب (الكفاية) ، لكن مع إصلاحٍ له ، بإرجاع الآثار المتعددة من «معراج المؤمن» و «قربان كلّ تقي» و «الناهي عن الفحشاء» إلى أمرٍ واحدٍ بسيط ، وهو بلوغ العبد في الصلاة إلى مرتبةٍ يحصل له فيها جميع هذه الخصوصيّات ، من القربانيّة والمعراجيّة وغير ذلك ، فكان الأثر واحداً كالمؤثر.

وأثبت الجامع بين الأفراد الصحيحة بأنه مرتبة من الوجود تجمع بين المقولات المختلفة والكيفيّات المتشتّتة ، حيث أنّ لكلّ صلاةٍ أفراداً عرضيّة وأفراداً طوليّة ، وكلّ صلاة تشتمل على مقولات ، لكنّ تلك المرتبة من الوجود يكون صدقها على الأفراد العرضية بنحو التواطي ، وعلى الأفراد الطوليّة بنحو تشكيكي.

فالجامع بين الأفراد هو مرتبة من الوجود ، بنحو الوجود الساري ، مع إلغاء الخصوصيّات ، فإن لكلّ ماهيّة من الماهيّات الموجودة وجوداً خاصّاً ، فإذا الغيت خصوصيّة موجودٍ وخصوصيّة موجود آخر ، تحقّق وجودٌ جامعٌ بينهما سارٍ فيهما ، في قبال الموجودات الاخرى.

إن الوجود الخاص في الحين الذي مع السجود قد تضيَّق بالسجود ، وكذا الذي مع الركوع ، والقراءة ، وغيرهما ، فإذا الغيت هذه الخصوصيّات ، ولم يكن الركوع والسجود والقراءة وغيرها قيوداً ، لم تكن داخلةً في المسمّى ، بل يكون المسمّى بلفظ «الصّلاة» هو ذلك الوجود الواحد المجتمع مع هذه الامور بنحو القضية الحينيّة ، وهذا صادق على جميع الأفراد ، العرضيّة والطوليّة ، إلاّ أن الصّدق على العرضيّة بنحو التواطى وعلى الطوليّة بنحو

٢٤٠