تحقيق الأصول - ج ١

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-2501-93-9
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤١٦

الحقيقةُ الشرعيّة

٢٠١
٢٠٢

مقدّمات

قبل الورود في البحث :

هل هذا البحث من المسائل الاصوليّة أو من المبادئ التصديقيّة لعلم الاصول؟

قال المحقق الأصفهاني بالثاني.

والتحقيق هو الأوّل ، وذلك لأن المسألة الاصوليّة عبارة عن المسألة التي تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الشرعي ، فإذا ثبتت الحقيقة الشرعيّة فإن الألفاظ تحمل على المعاني الشرعيّة المستحدثة من قبله لا محالة ، وإلاّ فإنّها تحمل على المعاني اللّغوية كما تقرر عندهم ، فالبحث عن الحقيقة الشرعيّة هو في الحقيقة بحث عن الظهور ، كما أن البحث عن دلالة الأمر على الوجوب يرجع إلى البحث عن الظهور ، فيكون من المسائل الاصوليّة.

نعم ، لو كان البحث عن حجيّة الظواهر ، كان البحث عن الحقيقة الشرعيّة من المبادي ، لكن المفروض وقوع البحث عن الحقيقة الشرعيّة بعد الفراغ عن كبرى حجيّة الظواهر ؛ فإذا ثبتت الحقيقة الشرعيّة وجب حمل ألفاظ الشارع على معانيها الشرعيّة ـ دون اللّغوية ـ واستنباط الحكم الشرعي منها ، فهي مسألة تقع نتيجتها في طريق الاستنباط.

٢٠٣

ويتمّ البحث عن الحقيقة الشرعيّة بالكلام في جهات ، وقبل الدخول فيه نقول :

أوّلاً : إن موضوعات الأحكام الشرعية منها : موضوعات خارجيّة ، كالماء والخمر ، في «الماء طاهر» ، و «الخمر حرام» ، ونحو ذلك. ومنها : موضوعات اعتباريّة ، مثل الصّلح في : «الصلح جائز» ، والبيع في : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) ، وهكذا. ومنها : ما عبَّر عنه الشهيد الأوّل ـ رضوان الله عليه ـ بالماهيّات المخترعة ، كالصّلاة والحج والصّوم والاعتكاف ، وأمثال ذلك.

ثانياً : المقصود في البحث هو التحقيق عن أنّه هل للشارع وضعٌ واختراع في التّسمية أو لا ، سواء كانت المعاني مخترعة منه أو غير مخترعة ، فلا يختصّ البحث بالماهيّات المخترعة ، وإن كانت هي مورد البحث وعنوانه عندهم.

وثالثاً : لا إشكال في جريان البحث في ألفاظ العبادات ، إنما الكلام في جريانه في ألفاظ المعاملات مع كون الأدلّة الشرعية فيها إمضاءً لما هو في بناء العقلاء ، وأنها ليست تأسيسيّةً ، إلاّ أنه لمّا كان الشارع قد اعتبر في المعاملات خصوصيّاتٍ زائدةً على ما هو المعتبر عند العقلاء ، وأنّ هذه المعاني مع تلك الخصوصيّات قد انسبقت إلى الأذهان في بعض الأزمنة ، فلا مانع من وقوع البحث حولها من حيث أنّ ألفاظ المعاملات موضوعة لمعانيها بدون الخصوصيّات أو معها.

فالتحقيق جريان البحث في ألفاظ المعاملات أيضاً.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٧٥.

٢٠٤

وبعد :

فإنه وإنْ وقع البحث من عدّةٍ من الأعيان حول القسم الثاني من الموضوعات ، كالبيع والصلح ونحوهما في أنه هل للشارع فيها وضع أو لا ، لكن القسم الثالث ـ وهو الموضوعات المخترعة ـ هو مطرح البحث عند الكلّ ، فهل له فيها وضع أو لا؟

والوضع ـ كما هو معلوم ـ إمّا تعييني وامّا تعيّني ، والتعييني ينقسم إلى القولي والفعلي.

أمّا أنْ يكون للشارع وضع تعييني قولي بالنسبة إلى موضوعات الأحكام ، فهذا ممّا نقطع بعدمه ، لأنه لو كان لنقل إلينا متواتراً.

وأمّا أن يكون له وضع تعييني بالفعل ، كأنْ يولد له ولد فيقول : ايتوني بولدي حسن ، بأنْ يتحقق وضع لفظ «الحسن» اسماً لهذا الولد بنفس هذا الكلام ، وكما في الحديث : «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» بأنْ يقال بأنه قد وضع اسم «الصلاة» على هذه العبادة بنفس هذا الاستعمال ... فهل هو ممكن أو لا؟ وهل هو واقع؟ فالكلام في مقامين :

٢٠٥

١ ـ الكلام في تحقّق الوضع بالاستعمال

أمّا في المقام الأوّل ، فقد ذهب المحقق الخراساني إلى إمكان تحقّق الوضع بالاستعمال ، إلاّ أنه يحتاج إلى قرينةٍ تفيد كونه في مقام الوضع بواسطة الاستعمال ، قال : وهذا الاستعمال ليس بحقيقةٍ ولا مجاز ، أمّا أنه ليس بمجازٍ ، فلأنّ الاستعمال المجازي مسبوقٌ بالوضع للمعنى الحقيقي ، فتقام القرينة لإفادة المعنى المجازي ، والمفروض هنا صيرورة اللّفظ حقيقةً بنفس الاستعمال ، وأمّا أنه ليس بحقيقةٍ ، فكذلك ، لأنّ الاستعمال الحقيقي فرع للوضع ، والمفروض تحقّق الوضع بهذا الاستعمال. هذا ، ولا مانع من أنْ يكون اللّفظ غير متّصف بالحقيقة ولا بالمجاز ، لوجود نظائر له ، كما في استعمال اللَّفظ وإرادة شخص اللّفظ.

اشكال الميرزا على المحقق الخراساني

فأورد عليه المحقق النائيني بأنّ تحقّق الوضع بالاستعمال غير ممكن ، لأنّ مقام الوضع يستدعي لحاظ كلّ من اللّفظ والمعنى باللّحاظ الاستقلالي حتى توجد العلقة الوضعيّة بينهما ، أمّا مقام الاستعمال فمتقوّم بلحاظ اللّفظ باللّحاظ الآلي ، لكونه في هذا المقام طريقاً ومرآةً للمعنى ، فالمعنى هو ما ينظر ، واللّفظ هو ما به ينظر المعنى ، فلو اريد الوضع بالاستعمال لزم اجتماع اللّحاظ الآلي واللّحاظ الاستقلالي في اللّفظ ، واجتماع هذين اللّحاظين في

٢٠٦

الشيء الواحد غير معقول.

رأيُ الاستاذ في الإشكال

قال الاستاذ دام ظله : إنّ هذا الإشكال يبتني على الالتزام بأمرين : أحدهما : توقّف تحقّق الوضع على الإبراز ، والأمر الآخر : كون لحاظ اللَّفظ في ظرف الاستعمال آليّاً وأنه لا يمكن كونه استقلاليّاً.

وحيث أنّ المحقق الخراساني ملتزم بكلا الأمرين ، لأنه يرى بأنّ الوضع لا يكون إلاّ بالقول أو الفعل ، وأنّ الاستعمال إفناء اللّفظ في المعنى ، فالإشكال وارد عليه لا محالة.

جواب المحقق الأصفهاني

وأمّا جواب المحقق الأصفهاني من أنّ اللحاظين غير مجتمعين في مرتبةٍ واحدة حتى يلزم المحذور ، وذلك لأنّ الوضع بالاستعمال يكون من قبيل جعل الملزوم بجعل اللاّزم ، ففي مرحلة الوضع يلحظ اللّفظ بالاستقلال ، وفي مرحلة الاستعمال يلحظه آلةً ، نظير جعل «الملكية» بجعل «السلطنة» فإنّ السلطنة من لوازم الملكيّة ، فإذا قلنا «سلّطتك على هذا» فقد جعلنا الملكيّة له عليه ، فالاستعمال من لوازم الوضع ، وبتحقّق الاستعمال ـ وهو اللاّزم ـ يمكن جعل الوضع وهو الملزوم ، فكان اللحاظ الآلي في مرحلة جعل اللاّزم ، واللّحاظ الاستقلالي في مرحلة جعل الملزوم.

مناقشة الاستاذ

فقد أورد عليه شيخنا : بأنه إنْ اريد من كون الوضع بالاستعمال من قبيل جعل اللاّزم والملزوم : كون الجعل واحداً والمجعول اثنين. ففيه : أن الجعل والمجعول واحد حقيقةً واثنان اعتباراً.

٢٠٧

وإنْ اريد من ذلك أن هنا جعلين ومجعولين ، أحدهما جعل اللاّزم والآخر جعل الملزوم ، وهو الذي صرّح به في (الاصول على النهج الحديث) (١) بأنْ يكون لازم الوضع ، هو استعمال اللّفظ في المعنى بنحوٍ يكون اللّفظ حاكياً عن المعنى بنفسه ـ لا بالقرينة ـ وبجعل هذا اللاّزم يتم جعل الملزوم وهو الوضع ، فكان اللّحاظ الآلي في مرحلة جعل اللاّزم ، واللّحاظ الاستقلالي في مرحلة جعل الملزوم ، فلم يجتمع اللّحاظان.

ففيه : إن هذا خروج عن البحث ، لأن المفروض فيه اتحاد الوضع والاستعمال ، وهذا غير متحققٍ فيما ذكر. هذا أوّلاً. وثانياً : إن نسبة الملزوم إلى اللازم نسبة العلّة إلى المعلول ، فكيف يتصوّر استتباع جعل اللاّزم ـ مع الاحتفاظ على كونه لازماً ـ جعل الملزوم؟ إنّ فرض كونه لازماً هو فرض التأخّر له ، وفرض استتباعه جعل الملزوم هو فرض التقدّم له ، فيلزم اجتماع التقدّم والتأخّر في الشيء الواحد.

جواب المحقق العراقي

وأجاب المحقق العراقي باختلاف متعلَّق اللّحاظين ، فقال ما حاصله ـ كما في آخر بحث الوضع من (المقالات) تحت عنوان «تتميم» (٢) ـ بأنّه في مرحلة الاستعمال يكون الفاني في المعنى هو شخص اللّفظ ، فالملحوظ باللّحاظ الآلي هو شخص اللّفظ ، لكن الملحوظ في مرتبة الوضع هو طبيعة اللّفظ ، لأن الواضع يضع طبيعيّ اللّفظ لطبيعيّ المعنى لا لشخصه ، فما أشكل به المحقق النائيني خلط بين المرتبتين.

__________________

(١) الاصول على النهج الحديث : ٣٢.

(٢) مقالات الاصول ١ / ٦٧.

٢٠٨

مناقشة الاستاذ

فردّ عليه الاستاذ بكونه خروجاً عن البحث كذلك ، فمورد البحث هو تحقّق الوضع بالاستعمال ، وهو ليس من قبيل استعمال الشخص في النوع ، بل المدّعى وضع لفظ «الصّلاة» على العمل المعيّن الشرعي بنفس «صلّوا كما رأيتموني اصلّي».

التّحقيق في الجواب

قال شيخنا دام ظله : والحقُّ في الجواب هو إنكار الأمر الثاني من الأمرين المذكورين في أساس الإشكال ، إذ الاستعمال غير متقوّم في كلّ كلامٍ بكون اللّفظ آلةً وفانياً في المعنى ، فقد يمكن لحاظه بالاستقلال في هذه المرتبة أيضاً ، ولذا نرى أن كثيراً من الناس عند ما يتكلَّمون يتأمّلون في الألفاظ التي يستعملونها في أثناء التكلّم ، ويلتفتون إلى الجهات المحسّنة للألفاظ ويتقيّدون بها.

فالإشكال مندفع.

والوضع بالاستعمال ممكن.

بقي جواب المحقّق الخوئي

وأجاب السيد الخوئي في (المحاضرات) (١) بأنّ الوضع أمر نفساني ، والاستعمال عمل جوارحي ، والوضع يكون دائماً قبل الاستعمال ، فاللّحاظ الاستقلالي يكون في مرحلة الوضع ، واللّحاظ الآلي في مرحلة الاستعمال ، فاختلفت المرتبة ، ولم يجتمع اللّحاظان في مرتبة واحدةٍ.

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه : ١ / ١٣٥.

٢٠٩

رأي الاستاذ في هذا الجواب

وهذا الجواب إنكار للأمر الأوّل من الأمرين ، وقد قرّبه الشيخ الاستاذ في الدّورة اللاّحقة بأنّه إذا كان الوضع أمراً غير إنشائي ، بل يحصل بمجرّد الالتزام النفسي والبناء من المعتبر ، فلو قال «جئني بولدي محمد» قاصداً تسميته بهذا الاسم ، فقد حصل الوضع ووقع الاستعمال من بعده ، فلا يبقى مجال للإشكال ، فهذا الجواب يتُم على مبنى التعهّد ، وكذا على مبنى المحقق الأصفهاني ، وهو التخصيص النفساني للّفظ بالمعنى.

وأمّا قياس السيد الحكيم (١) هذا المورد على مسألة حصول الفسخ للمعاملة بالفعل ، كبيع الشيء المبيع أو وطء الأمة ونحو ذلك ، ففي غير محلّه ، لأن الفسخ من الإيقاعات ، والإيقاع متوقّف على الإنشاء.

لكنّه في الدورة السابقة أورد على هذا الجواب بأنّ العلقة الوضعيّة هي قالبيّة اللّفظ للمعنى ، وهل تتحقّق القالبيّة بمجرَّد الاعتبار النفساني وقبل الإبراز؟ فهل تتحقّق الزوجيّة بين هند وزيد قبل إبرازها بصيغة زوّجت مثلاً؟

كلاّ ، إنّه لا برهان على هذه الدعوى بل الوجدان وبناء العقلاء على خلافها ، فإنّ الوضع عندهم كسائر الامور الاعتباريّة المحتاجة إلى الإبراز ، فهم لا يرون تحقّق الوضع بنفس الاعتبار ومجرد البناء.

وإذا احتاج الوضع وتحقّق العلقة الوضعيّة إلى مبرز عاد الإشكال.

أقول :

وعندي أن الحق ما ذهب إليه في الدورة السابقة ، ويكون حلّ المشكل منحصراً بإنكار الأمر الثاني من الأمرين.

__________________

(١) حقائق الاصول ١ / ٤٨ ط مكتبة البصيرتي.

٢١٠

وتلخّص : إمكان الوضع بالاستعمال ، خلافاً للمحقق النائيني ومن تبعه.

وعلى الإمكان فهل هو حقيقة أو مجاز؟

واختلفوا في هذا الاستعمال المحقق للوضع ، هل هو استعمال حقيقي أو مجازي ، أو لا حقيقي ولا مجازي؟ على أقوال.

قيل : إنه حقيقة ، لأن كون الاستعمال حقيقياً لا يشترط فيه تحقّق الوضع قبل الاستعمال ، فلو تحقّقا معاً كان الاستعمال حقيقيّاً ، إذ الملاك هو الاستعمال في المعنى الموضوع له ، وهذا مع مجرد وجود الموضوع له في ظرف الاستعمال متحقق ، إذ العلة والمعلول يكونان في ظرفٍ واحدٍ زماناً وإن اختلفا رتبةً ، والمفروض كون الاستعمال علّة للوضع فزمانهما واحد ، وباستعمال اللّفظ في المعنى الموضوع له تتحقّق الحقيقة ، وليس الاتحاد في المرتبة مقوّماً للوضع حتى يكون اختلافهما مضرّاً ، هذا ما جاء في (المحاضرات).

وفيه : إن الاستعمال متأخّر عن المعنى المستعمل فيه بالتأخّر الطبعي ، إذ لا يتحقق الاستعمال إلاّ مع وجود ذلك المعنى المستعمل فيه ، بخلاف المعنى ، فقد يوجد من غير استعمالٍ له ، فإن كان المعنى السابق في المرتبة على الاستعمال قد وضع له لفظ في تلك المرتبة ، كان استعمال ذاك اللّفظ فيه حقيقياً ، وإن لم يكن له وضع كان استعمالاً في المعنى المجازي.

لكن المفروض في بحثنا تحقّق الوضع بنفس الاستعمال ، فالاستعمال أصبح علّةً للوضع والوضع معلول له ، فكون المعنى موضوعاً له اللّفظ إنما هو في رتبةٍ متأخرة عن الاستعمال ، والاستعمال متقدّم على كون المعنى موضوعاً له ، والمستعمل فيه مقدَّم على نفس الاستعمال ، فلا محالة يستحيل كون

٢١١

المعنى موضوعاً له ، لأن كونه كذلك في رتبة متأخرة عن الاستعمال لأنه معلول للاستعمال ، لكن كون المعنى مستعملاً فيه في رتبة قبل الاستعمال ، فالمستعمل فيه ليس موضوعاً له ، وحينئذٍ كيف يتّصف الاستعمال بكونه استعمالاً في المعنى الحقيقي؟

والعجب ، أن القائل بهذه المقالة يلتزم بكون الوضع معلولاً للاستعمال ، وأن كون المعنى موضوعاً له يتحقق بتحقّق الاستعمال.

فسقط القول بكونه حقيقةً ، وثبت كونه لا حقيقة ولا مجاز ، كما عليه المحقق الخراساني.

والحاصل ممّا تقدّم هو : أنّ الاستعمال الحقيقي هو استعمال اللّفظ في ما وضع له ، والمفروض هنا تحقّق الوضع بنفس الاستعمال ، فلا معنى حقيقي له فليس باستعمالٍ حقيقي ، وليس بمجازي أيضاً ، لأن الاستعمال المجازي هو استعمال اللّفظ في المعنى المناسب لما وضع له ، والمفروض عدم وجود ما وضع له قبل هذا الاستعمال ، فليس بمجاز.

وقد اختار شيخنا هذا القول في الدّورة اللاّحقة.

أمّا في الدّورة السابقة ، فقد أشكل عليه بأن لفظ «الصلاة» ـ مثلاً ـ قد استعمل في لسان الشارع في المعنى الشرعي الجديد ، وهذا الاستعمال مجاز ، لأنّ لهذه اللّفظة معنىً حقيقيّاً في اللّغة قبل المعنى الحادث ، ومن المعلوم وجود التناسب بين المعنى الحقيقي اللغوي لهذه اللّفظة وبين المعنى الحادث المستعمل فيه ، فيكون مجازاً.

أقول :

لكن الصحيح ما اختاره في الدورة المتأخرة ، فإنه ليس مطلق التناسب

٢١٢

بين المعنيين بمصحّحٍ للاستعمال المجازي ، إذ المقصود من هذا التناسب هو علاقة الكلّ والجزء ، لكون «الصلاة» بالمعنى الشرعي مشتملةً على «الدعاء» وهو معنى الكلمة لغةً ، لكن ليس كلّ علاقة الكلّ والجزء بمصحّح للاستعمال المجازي ، فالرقبة جزء الإنسان وتستعمل هذه الكلمة في الإنسان بالعلقة المذكورة ، وليس سائر أجزاء الإنسان كذلك.

٢١٣

٢ ـ الكلام في وقوع الوضع بالاستعمال

وبعد الفراغ من مقام الثبوت وبيان الإمكان ، فهل هو واقع أو لا؟

قد تقدم سابقاً أن البحث يدور حول وضع اللّفظ على المعاني الشرعيّة من قبل الشارع ، سواء كانت معاني الألفاظ موجودةً من قبل أو لا ، وعليه ، فوجودها قبل شرعنا لا ينفي الحقيقة الشرعيّة ، وفي القرآن الكريم آيات تدلّ على وجودها كذلك ، وأنها كانت بنفس هذه الألفاظ ، كقوله عزّ وجلّ (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) (١) (وكُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) (٢) و (أَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً) (٣) ، فهذه الآيات تدل على وجود هذه المعاني من قبل ، وبنفس هذه الألفاظ ، ويشهد بذلك أنهم لم يسألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه ما ذا كان الصّيام؟ وما ذا كان الصّلاة ...؟

وعليه ، فلا معنى للوضع ، إلاّ إذا كان المعنى حادثاً ، كالأشياء المخترعة الآن ، أو كانت المعاني لا بهذه الألفاظ ... ونتيجة ذلك أن لا وضع من الشارع في مقام الإثبات ، بل إنه قد استعمل الألفاظ في نفس تلك المعاني ، غاية الأمر أنه اعتبر فيها بعض الخصوصيّات ... نعم ، مقتضى قوله تعالى : «وَمَا كَانَ

__________________

(١) سورة الحج : ٢٧.

(٢) سورة البقرة : ١٨٣.

(٣) سورة مريم : ٣١.

٢١٤

صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً» (١) هو التغاير بين صلاتهم وصلاتنا تغايراً جوهريّاً ، فللبحث في مثل هذا مجال ، أمّا أن يدّعى أن المعاني كلّها مستحدثة ـ كما عن المحقق الخراساني ـ فدون إثباتها خرط القتاد.

وذهب المحقق العراقي ـ وتبعه السيد الخوئي ـ إلى وقوع الوضع بالاستعمال ، فقال المحقق المذكور : بأن الطريقة العقلائية قائمة على أنه لو اخترع أحد شيئاً فإنه يضع عليه اسماً ، ولو أنّ الشارع قد تخلَّف عن هذه الطريق لنبّه وبيّن ، وحيث أنه قد تحقّق منه الوضع التعييني ولم يكن بالقول ، فهو لا محالة بالاستعمال.

هذا حدّ دليله ، ولا يخفى ما فيه ، فإن الطريقة العقلائيّة هذه ليست بحيث لو تخلَّف عنها أحد وقع من العقلاء موقع الاستنكار ، بل قد يخترع أحد شيئاً ويستعمل فيه لفظاً مجازيّاً ، ثم يشتهر المجاز فيصير حقيقة.

والألفاظ في شرعنا لمّا استعملت في معانيها الشرعيّة بكثرةٍ ، أصبحت حقيقةً فيها ، ودلّت عليها بلا قرينة.

فتحصّل : أن وقوع الوضع بالاستعمال في الشرعيّات لا دليل عليه ، بل إن الشارع في بدء أمره استعمل تلك الألفاظ في معانيها اللغويّة ، ثم إنها على أثر كثرة الاستعمال في المعاني الشرعيّة أصبحت حقائق فيها ، حتى في زمن الشارع ، فلفظ «الصلاة» مثلاً في اللّغة عبارة عن العطف والتوجّه ، وفي هذا المعنى استعمله الشارع ، ثم بيّن الخصوصيّات المعتبرة في هذا المعنى بدوالٍّ اخر ، فقوله «صلّوا كما رأيتموني اصلّي» معناه : ادعوا وتوجّهوا إلى الله ، لكنْ

__________________

(١) سورة الأنفال : ٣٥.

٢١٥

بالكيفيّة التي رأيتموني أدعو وأتوجّه إليه ، ثم بعد فترةٍ غير طويلة ومع تكرار اللّفظ مراراً في هذا المعنى ، أصبح المعنى الجديد الخاص هو المتبادر منه ....

هذه حقيقة الأمر ، ولا ملزم للالتزام بالاستعمال المجازي ، كما لا دليل على الوضع الحقيقي منه له بالنسبة إلى المعنى الشرعي ، والشاهد على ذلك ما نراه من عمل الرؤساء وكبار الشخصيّات المتنفّذين وأعلام العلماء ، فمثلاً : قد استعمل الشيخ الأنصاري كلمة «الورود» في معناه الخاص المصطلح في علم الاصول ، ثم بعد يومين أو ثلاثة ـ مثلاً ـ أصبحت هذه الكلمة محمولة على هذا المعنى الجديد الاصطلاحي كلّما سمعت في الأوساط العلميّة.

٢١٦

ثمرة البحث

واختلفوا هل لهذا البحث ثمرة أو لا؟

ذهب المحقق الخراساني ـ وتبعه المحقق العراقي ـ إلى الأوّل ، وحاصل كلام المحقق الخراساني هو :

إنه إنْ قلنا بثبوت الحقيقة الشرعيّة تظهر ثمرة البحث إذا علمنا بتاريخ وضع اللّفظة واستعمالها ، فنحمل اللّفظة الصادرة عن لسان الشارع قبله على المعنى اللغوي والصادرة بعده على المعنى الشرعي. وإن قلنا بعدم ثبوتها تحمل الألفاظ الصادرة على المعنى اللغوي. أمّا لو جهلنا تاريخ الاستعمال فمقتضى القاعدة هو التوقّف ، إذ لا طريق لدعوى كون الاستعمال متأخّراً عن زمان الوضع الشرعي إلاّ أصالة تأخر الاستعمال ، بتقريب أنه قد صدر الوضع والاستعمال من الشارع يقيناً ، والاستعمال أمر حادث ، فنستصحب عدم تحقّق الاستعمال إلى زمان الوضع. ولكن هذا الاستصحاب فيه :

أوّلاً : إنه أصل مثبت ، إذ ليس الاستعمال حكماً شرعيّاً ولا موضوعاً لحكم شرعي ، ولازم عدم الاستعمال إلى زمان تحقّق الوضع هو كون اللّفظ مستعملاً في المعنى الشرعي ، وهذا لازم عقلي.

وثانياً : إنه معارض باستصحاب عدم الوضع إلى زمان الاستعمال ، لأن الوضع أيضاً أمر حادث.

٢١٧

وإنْ اريد التمسّك ببناء العقلاء لحمل الاستعمال على الحقيقة ، بدعوى أنهم مع الشك في كونه حقيقة أو مجازاً يحملونه على الأوّل ، ففيه : إن هذا البناء موجود عندهم ، بالإضافة إلى أصل النقل عن المعنى اللّغوي إلى المعنى الشرعي ، أما مع العلم بتحقق النقل والشك في تاريخه فلا يوجد هكذا بناء.

ثم إنه أمر بالتأمّل.

وقال السيد الحكيم (١) في وجه التأمّل : لعلّه وجود البناء منهم في مورد العلم بالنقل والشك في تاريخه كما نحن فيه ، فتكون النتيجة الحمل على المعنى اللّغوي.

قال شيخنا : لا ريب في توقّف العقلاء في مثله ، فليس هذا وجه التأمّل ، بل الأولى أن يقال : لعلّه يتأمّل في أصل المطلب ، وهو ترتّب الثمرة في صورة العلم بالتاريخ ، وأنه يحمل على المعنى الشرعي إذا علم تاريخ الاستعمال ، لإمكان الحمل في ما صدر قبل الوضع الشرعي على المجاز المشهور بسبب كثرة الاستعمال لا الحمل على المعنى الحقيقي اللّغوي.

أو لعلّه أراد التنبيه على الخلاف بينه وبين الشيخ في مثل المورد ، حيث أن الشيخ يرى تعارض الأصلين فيه ، وهو يقول في مثله بعدم المقتضي للجريان ، فلا تصل النوبة إلى المعارضة ، إذ مع الجهل بتاريخهما لا يحرز اتّصال المشكوك بالمتيقَّن.

هذا تمام الكلام على وجه ترتّب الثمرة.

وذهب المحقّق النائيني ومن تبعه إلى نفي الثمرة من أصلها ، وقال بعدم ترتّبها حتّى مع ثبوت الحقيقة الشرعيّة ، وذلك لعدم الشك عندنا في كون

__________________

(١) حقائق الاصول ١ / ٥٢ ط مكتبة البصيرتي.

٢١٨

المراد بهذه الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة هو المعاني الشرعيّة ، أمّا الآيات فلا ريب في كون المراد من «الصلاة» و «الزكاة» وغيرهما هو المعاني الشرعيّة لا اللغويّة ولا المعاني التي اريدت منها في الشرائع السابقة. وأمّا الروايات ، فالوارد منها من طرق المخالفين ليس بحجّة عندنا ، والوارد من طريق الأئمّة فإنّهم قد بيّنوا معانيها ، وقد ثبت لزوم حملها على المعاني الشرعيّة.

وقد أشكل على الميرزا : بأنّ «الصلاة» في قوله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) (١) مرددة بين المعنى اللّغوي والشرعي ، فالبحث عن الحقيقة الشرعيّة يثمر فيها.

وفيه : إنه قد جاءت روايات عديدة في أن المراد منها هي الزكاة بعد صلاة الفطر ، منها صحيحتا زرارة وأبي بصير (٢) ، فلا شبهة في المراد منها ، وليس هناك غيرها مورد للشبهة ، فالإشكال يندفع.

وأشكل الاستاذ في الدورة السابقة : بأنّه ليس كلّ ما ورد عن طريق المخالفين فليس بحجّة ، إذ الملاك للحجيّة هو الوثوق بالصدور ، فتظهر ثمرة البحث عن الحقيقة الشرعيّة فيها.

وهذا الإشكال لم يذكره في الدورة اللاّحقة ، ولعلّه لعدم حصول الوثوق بالصّدور من طرقهم ، أو لعلّه لعدم كفاية الوثوق بالصدور ، أو لعلّه لوجود ما ورد عن طرقهم مورداً للوثوق بالصدور في طرقنا مع تبيين الأئمة له.

هذا ، وقد اختار شيخنا عدم ترتّب الثمرة ، من جهة أن ترتّبها يتوقّف

__________________

(١) سورة الأعلى : ١٤.

(٢) وسائل الشيعة ٩ / ٣١٨ الباب ١ من أبواب زكاة الفطرة ، رقم : ٥.

٢١٩

على العلم بالتاريخ كما تقدَّم ، ولا طريق لنا إلى ذلك ، وعليه ، فمن المحتمل صدورها قبل صيرورتها حقيقةً في المعنى الشرعي ، ومع وجود هذا الاحتمال ـ حتى مع القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة ـ لا يمكن حمل الألفاظ على المعاني الشرعيّة.

نعم ، الألفاظ الصادرة في أواخر عهد الرسالة كلّها محمولة على المعاني الشرعيّة قطعاً ، سواء قلنا بثبوت الحقيقة أو لا ، كذلك.

فالحقّ أنه لا ثمرة للبحث.

تتمّة

هناك في الأبواب الفقهيّة المختلفة روايات أجاب فيها الأئمة عليهم‌السلام عن السؤال عن معاني ألفاظٍ معيّنة ، كلفظ «الكثير» و «الجزء» و «السهم» و «الشيء» و «القديم».

فلو أوصى بمالٍ كثيرٍ لشخص فما معنى «الكثير»؟ في الخبر أنه «ثمانون» استناداً إلى قوله تعالى : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ) (١) بلحاظ أن المراد من «المواطن» هو غزوات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد كانت ٨٠ غزوة.

ولو أوصى بسهمٍ من ماله لفلان ، ففي الخبر أنه يعطى «الثمن» لقوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ) (٢) فالسّهام في الآية ثمانية.

ولو أوصى بجزءٍ من ماله ، ففي خبر إنه «العُشر» وفي آخر «السُّبع».

ولو أوصى بشيء ، حكم ب «السُّدس».

__________________

(١) سورة التوبة : ٢٥.

(٢) سورة التوبة : ٦٠.

٢٢٠