تحقيق الأصول - ج ١

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-2501-93-9
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤١٦

ردع الشارع عنها.

فظهر أن التبادر عند أهل اللّسان حجّة على الوضع ، لا أنه يفيد العلم بالوضع.

ثم إن المتبادر هو المعنى الحقيقي حقيقةً عرفيّة ، إذ المفروض تبادره عند أهل اللّسان ، وأمّا الحقيقة اللغوية بأنْ تكون هي الموضوع له ، فلا يثبت ، لإمكان كونه منقولاً لغةً.

وإذا كانت ألفاظ الكتاب والسنّة ملقاة إلى العرف وأهل اللّسان ، والمعاني المنسبقة منها محمولة على الحقائق العرفيّة ، فكيف يثبت أن هذه المعاني المنسبقة هي نفس ما كان ينسبق من الألفاظ في زمن الصّدور؟

قد يتمسّك لإثبات اتّصال الظهور الفعلي بزمن المعصوم ، بالاستصحاب القهقرائي وأصالة عدم النقل.

لكن فيه : إن الاستصحاب الذي هو أصل عملي ، له ركنان ، أحدهما اليقين السابق والآخر الشك اللاّحق ، وهذا المورد بالعكس ، فلا تشمله أدلّة الاستصحاب.

فقيل : نستصحب الظهور ـ لا عدم النقل ـ ونقول : هذا اللّفظ ظاهر الآن في المعنى الكذائي بحكم التبادر ، فنستصحبه قهقرائياً حتى زمن الإمام عليه‌السلام ، فيكون ظاهراً في معناه تارةً بالوجدان واخرى بالتعبّد.

وفيه : إنّه لا ريب في أنّ الظهور هو موضوع ترتيب الأثر عند العقلاء ، وأنّ الشارع قد أمضى هذه السيرة العقلائيّة ، إلاّ أن المهم هو تشخيص هذا الظهور ، وأنّه الظهور الأعم من الوجداني والتعبّدي أو الظهور الوجداني فقط؟

إنه لا شك في أن الظهور الذي هو الموضوع في السيرة العقلائية لترتيب

١٨١

الآثار هو الظهور الوجداني ، وهذا هو الذي أمضاه الشارع ، لكن الاستصحاب لا يفيد إلاّ الظهور التعبّدي ، فلا مجال لجريانه في المقام.

إذن ، سقط التمسّك بالاستصحاب مطلقاً.

لكنّ الأصل العقلائي في أصالة عدم النقل ، لا يمكن إنكاره ، أي : أن ديدن العقلاء هو أنهم متى رأوا كلمةً ظاهرةً في معنى ، حملوها على هذا المعنى في سائر الأزمنة ، ولا يحتملون تبدّل المعنى فيه ، والشارع المقدَّس قد أمضى هذه السّيرة ، وبذلك أمكن دعوى ظهور الكلمة في ذلك المعنى في زمان الأئمة عليهم‌السلام.

إلاّ أن المشكلة هي : أنّ هذا الوجه ـ المعبَّر عنه بأصل تشابه الأزمنة ـ لإثبات عدم النقل ، أخصّ من المدّعى ، وذلك لأنه وإن كان مقتضى الأصل عندهم تقديم الظهور العرفي على الظهور اللّغوي ، وكذا تقديم العرف الخاص ـ كالحقيقة الشرعيّة ـ على العرف العام ، ولكن قد يقع التعارض بين المعنى العرفي الثابت عن الطريق المذكور وبين المعنى اللّغوي الثابت عن طريق تنصيص أئمة اللّغة أو عن طريق التتبّع لموارد استعمال الكلمة ، ففي هذه الصورة لا يوجد سيرة على تقديم المعنى الحقيقي العرفي استناداً إلى تشابه الأزمنة.

فتنحصر فائدة الأصل العقلائي المذكور بموارد عدم المخالفة بين الظهور العرفي والظهور اللّغوي.

هذا أوّلاً.

وأمّا ثانياً : فإن الظاهر أنّ هذه السيرة العقلائية ليست تعبّدية ، وإنما قامت السيرة على حمل الألفاظ على معانيها الظاهرة فيها ـ استناداً إلى الأصل

١٨٢

المذكور ـ عند اطمئنانهم بعدم النقل ، ولذا فإنهم يتوقّفون بمجرّد احتمال كون معنى اللّفظ في بعض الأزمنة السابقة مخالفاً لما هو الآن ظاهر فيه.

هذا ، والتحقيق في خصوص الروايات الواردة عن الأئمة الطاهرين عليهم‌السلام جريان أصالة عدم النقل فيها ، لخصوصيةٍ فيها ، وهي إن علماء الامة قد نقلوا هذه الروايات في مختلف الطبقات ، ولم يختلفوا في المعاني الظاهرة فيها ، ونحن يمكننا التمسّك بأصالة عدم النقل إلى زمن الشيخ الأنصاري مثلاً ، وقد رأينا أنّه يحمل ألفاظ الروايات على ما هي ظاهرة فيه الآن ، ومن زمنه إلى زمن الشيخ المجلسي ، ثم من هذا الزمان إلى زمان العلاّمة مثلاً ، وهكذا إلى زمن الشيخ ، والكليني ، وحتى زمن الأئمة ، وفي كلّ طبقة نراهم يستظهرون من ألفاظ الأخبار نفس ما نستظهره نحن الآن.

فالمتبادر من هذه الألفاظ في جميع القرون والطبقات واحد.

إذن ، لا توجد عندنا مشكلة في خصوص الروايات المشتهرة والمنقولة في الكتب ، عن أئمة العترة الطاهرة.

هذا تمام الكلام على التبادر.

وهل عدم التبادر علامة للمجاز؟

قيل : نعم.

وقيل : تبادر الغير علامة المجاز.

قال شيخنا دام ظلّه : أما عدم التبادر فالصحيح أنه ليس علامة للمجاز ، لعدم تبادر أحد معاني اللّفظ المشترك مع أنه حقيقة في كلّها. وأمّا تبادر الغير فكذلك ، إذ من الممكن أنْ يغلب استعمال اللّفظ المشترك في أحد المعنيين أو المعاني ، فيتبادر ذلك المعنى منه ، والمفروض كونه مشتركاً قد وضع له

١٨٣

ولغيره معاً.

وخلاصة البحث في التبادر في خطوط :

١ ـ إن التبادر عند أهل اللّسان هو العلّة ، لأنه معلول للعلم بالوضع ، وهم عالمون بالوضع.

أما التبادر عند المستعلم فهو مبتلى بإشكال الدور وغيره.

٢ ـ والمتبادر هو المعنى الحقيقي عند العرف العام.

٣ ـ والدليل الصحيح على ذلك هو السيرة العقلائيّة.

٤ ـ فلا كشف إنّي ، بل إن السيرة تكون حجّةً عقلائيّة على المعنى الحقيقي.

٥ ـ لكنْ المعنى الحقيقي الموضوع له اللّفظ بالوضع التعيّني لا التعييني.

٦ ـ وبشرط أنْ لا يحتمل الاستناد إلى القرينة العامّة التي يصعب نفيها ، بخلاف القرينة الخاصة ، فإن نفيها سهل.

٧ ـ إنما الكلام في اتّصال هذه السيرة إلى زمن المعصوم وعدم ردعه عنها ، فالاستصحاب لا يجري أو لا يفيد.

٨ ـ بل الصحيح إنّه أصل عقلائي ، لكنه مشروط بشرطين ، أحدهما :

حصول الاطمئنان بعدم النقل ، والآخر : عدم المعارضة من ناحية اللّغة.

٩ ـ وعدم التبادر ليس علامةً للمجاز ، وكذا تبادر الغير.

١٠ ـ وإنّه لا مشكلة عندنا في خصوص الروايات عن المعصومين عليهم‌السلام ، من جهة أصالة عدم النقل بالتقريب الذي قدّمناه ، لكن تبقى مشكلة احتمال وجود القرينة ، لسببين :

أحدهما : التقطيع الواقع في الروايات ، فإنه ربما يورث الشك في

١٨٤

جريان الأصل المذكور ، لأنه قد يؤدّي إلى وقوع الفصل بين القرينة وذي القرينة أو ضياعها ، ومع وجود هذا الاحتمال في الروايات كيف يتمّ الظهور فيها واستنباط الحكم الشرعي منها؟

والثاني : ضياع كثيرٍ من روايات أصحابنا عن الأئمة الأطهار ، ككتب ابن أبي عمير ، فإذا احتملنا اشتمالها على قرائن لهذه الروايات الموجودة بين أيدينا ، كيف يتمّ ظهور هذه في معانيها لتكون مستنداً للأحكام الشرعية؟

أمّا الأمر الأوّل ، فيمكن حلّ المشكل من جهته ، بأن العلماء قد جمعوا الروايات ، وأرجعوها إلى أحوالها السابقة بضمّ بعضها إلى البعض الآخر.

ويبقى الأمر الثاني ، ولا بدّ من التأمّل فيه!

١٨٥

٢ ـ ٣ صحّة الحمل وعدم صحّة السّلب

قالوا : إن صحة الحمل وعدم صحة السلب علامتان للحقيقة ، وعدم صحة الحمل وصحة السلب علامتان للمجاز.

وتوضيح ذلك :

إن الحمل على ثلاثة أقسام : حمل هو هو ، حمل ذو هو ، الحمل الاشتقاقي ، مثال الأول : زيد إنسان ، والثاني : الجدار ذو بياض ، والثالث :

الجدار أبيض.

وفي تقسيم آخر ـ وهو المقصود هنا ـ : ينقسم الحمل إلى قسمين :

١ ـ الحمل الأوّلي.

٢ ـ الحمل الشائع الصناعي.

ولا بدَّ في كلّ حملٍ من وحدة بين الموضوع والمحمول من جهةٍ ، ومن تغايرٍ بينهما من جهةٍ اخرى ، ففي الحمل الأوّلي الذاتي يكون الاتحاد بينهما في المفهوم والتغاير بالاعتبار ، مثل قولنا : الإنسان حيوان ناطق ، فباللّحاظ الإجمالي هو «الإنسان» وباللحاظ التفصيلي هو «الحيوان الناطق». أما في الحمل الشائع ، فالاتحاد بينهما يكون في المصداق ، والتغاير في المفهوم ، كقولنا : زيد إنسان.

والحمل بكلا قسميه علامة للحقيقة ، أمّا في الحمل الأوّلي : فإنا إذا جهلنا معنى اللّفظ ، نجعله محمولاً للّفظ الذي نعلم بمعناه ، فإن صحّ الحمل

١٨٦

من دون قرينة في البين ، ظهر كون الموضوع والمحمول في تلك القضيّة بمعنى واحد ، وتبيّن المعنى الموضوع له المحمول.

وأمّا في الحمل الشائع فتقريب الاستدلال هو : أنا لمّا علمنا بأنّ «زيد» فرد لطبيعةٍ من الطبائع ، وكان جهلنا في أن تلك الطبيعة هي طبيعة الإنسان أو طبيعة اخرى ، فحينئذٍ نحمل «الإنسان» على «زيد» ، فإنْ صحّ الحمل ظهر أن «زيد» فرد من هذه الطبيعة.

* وقد أورد في (المحاضرات) أمّا على الحمل الأوّلي فبما ملخّصه : إن المستعمل يرى قبل الحمل الاتحاد بين الموضوع والمحمول ، لأنه يتصوّرهما بالتفصيل ، فالمعنى الحقيقي منكشف عنده ولا جهل له به ليرتفع بالحمل ، فصحّة الحمل لا تكون من أمارات كشف المعنى الحقيقي.

وأجاب عنه شيخنا في الدورة السابقة : بأنه إن كان الغرض من الحمل في «الإنسان حيوان ناطق» هو الإخبار وإفهام الغير ، فالإشكال وارد ، لأن المخبر لا بدّ وأن يكون عالماً بمعنى كلامه ، ولكنْ قد يكون الغرض من الحمل استكشاف الاتّحاد بين الموضوع والمحمول ، بأنْ تكون فائدة الحمل تبدّل العلم الارتكازي بالوضع الموجود عند المستعلم إلى العلم التفصيلي ، كما كان الحال في التبادر ، حيث رأى أن المعنى ينسبق إلى ذهنه من حاقّ اللّفظ من غير استنادٍ إلى قرينةٍ ، فأصبح علمه الارتكازي بالمعنى علماً تفصيليّاً ، كما ذكر المستشكل نفسه في مبحث التبادر ، وعلى هذا ، فالإشكال غير وارد.

* وأورد عليه في (المحاضرات) أيضاً : بأن مقام الحمل يكشف عن المفاهيم بما هي مفاهيم ، وعن المصاديق بما هي مصاديق ، ولا ربط له بالمستعمل فيه حتى يكون علامةً على المعنى الحقيقي ، فالحمل الأوّلي

١٨٧

يحمل فيه المفهوم على المفهوم بما هما مفهومان ، ويشهد بذلك وجود الحمل عند غير المتمكّن من التلفّظ ، فإن الأخرس يرى مفهوم «الحيوان الناطق» وهو مفهوم تفصيلي ، ويرى مفهوم «الإنسان» وهو مفهوم إجمالي ، ثم يحمل هذا على ذاك ويحكم بالاتحاد. فالحمل الأوّلي يكشف عن الاتحاد بين المفهومين ، وبحث الحقيقة والمجاز إنما يكون في عالم الاستعمال بالنظر إلى المستعمل فيه بما هو مستعمل فيه.

وأمّا في الحمل الشائع ، فإن هذا القسم من الحمل ينتج كون هذا مصداقاً لذاك أو ليس بمصداقٍ له ، كقولنا : «زيد إنسان» وقولنا : «زيد ليس بجماد» ، وهذا لا علاقة له بالمستعمل فيه اللّفظ ، سواء كان حقيقةً أو مجازاً.

وهذا الإشكال قد ذكره الاستاذ في الدورة السابقة ، وأجاب عنه بما ذكره المحقّق الأصفهاني في كتاب (الاصول على النهج الحديث) من أن الحمل يكشف عن الاتحاد المفهومي ـ كما في الأوّلي ـ أو الوجودي ـ كما في الشائع ولكنْ ربما يحصل منه المعنى الحقيقي في حال كون المحمول مجرّداً عن القرينة. وأوضحه شيخنا بأنّا لا ندّعي أن مطلق الحمل يكشف عن المعنى الحقيقي ، بل هو فيما إذا كان اللّفظ فانياً في المعنى ومحمولاً على الموضوع بلا قرينةٍ ، فإنّه حينئذٍ يكشف عن المعنى الحقيقي.

أمّا في الدورة اللاّحقة ، فقد أورده ، وبه أسقط صحّة الحمل عن كونه علامةً ، والظاهر أنّ هذا هو الصحيح ، فإني لا أرى كلامه المزبور وافياً بالجواب.

وأسقط شيخنا هذه العلامة في الدورة السابقة ـ بعد الجواب عمّا أورد عليها ـ بأن القابل للاستدلال هو الحمل الشائع ، لكنه ـ كما قال المحقق الأصفهاني ـ يرجع إلى التبادر ، وليس علامةً غيره.

١٨٨

٤ ـ الاطّراد

وليس المراد منه كثرة الاستعمال وشيوعه ، فإن ذلك موجود في المجاز المشهور أيضاً ، بل المراد ـ كما ذكر المحقق الأصفهاني ، ولعلّه خير ما قيل في المقام ـ هو : إطلاق اللّفظ بلحاظ معنىً كلّي على مصاديق واطّراده ـ أي الإطلاق عليها مع اختلاف أحوالها وتغيّر الخصوصيّات فيها ، فإنه يكشف عن كون المعنى هو الموضوع له اللّفظ حقيقةً ، فمثلاً : لفظ «العالم» يصح اطلاقه على «زيد» بلحاظ كونه متّصفاً بالعلم ، وكذا على «عمرو» و «بكر» وغيرهما ، مع ما هناك من الاختلاف بين هؤلاء في الخصوصيّات والأحوال ، فلما رأينا صحّة هذا الإطلاق واطّراده فيهم ، علمنا أنّ المعنى الموضوع له لفظ «العالم» هو «من قام به العلم» ، فكان الإطراد علامةً للحقيقة ، بخلاف لفظ «الأسد» فإنّه يتفاوت اطلاقه بين «الحيوان المفترس» وبين «زيد» و «عمرو» و «بكر» بلحاظ وجود الأمر الكلّي فيهم وهو «الشجاعة» ، فهو في الرجل الشجاع مجاز لعلاقة المشابهة.

وعلى الجملة ، فإنّ انطباق اللّفظ على المصاديق على حدّ سواء ـ المعبَّر عنه بالاطّراد ـ لا يكون إلاّ لعلقةٍ بين اللّفظ والمعنى ، وبما أنه لا توجد علقة مجازيّة مطّردة ، فالصّدق على الأفراد باطّراد هو من جهة العلقة الوضعيّة ، فهو كاشف عن المعنى الحقيقي.

١٨٩

وقد وقع هذا التفسير للاطّراد وعدمه موقع الإشكال ، من جهة أنّ عدم الاطّراد في طرف المجاز إنّما هو لقصور المقتضي ، فمثلاً : في علاقة الكليّة والجزئيّة ، لم يرخّص في استعمال كلّ «كلّ» في كلّ «جزءٍ» ليصح الاعتماد عليها في كلّ استعمال ، وفي علاقة السببيّة ـ مثلاً ـ ليس كلّ سببيّة ومسبّبية بمصحّحة للاستعمال ، فالأب سبب لوجود الابن ، إلاّ أن إطلاق الأب على الابن أو بالعكس ـ اعتماداً على تلك العلقة الموجودة بينهما ـ غير صحيح ... وهكذا سائر العلائق ... فالعلقة المصحّحة للاستعمال محدودة ، وهذا هو السبب لعدم الاطّراد ، فليس عدم الاطّراد علامةً للمجاز.

ولرفع هذا الإشكال أضافوا قيد «بلا تأويل» أو «على وجه الحقيقة» فقالوا : بأنَّ شيوع الاستعمال على وجه الحقيقة وبلا تأويلٍ علامة الحقيقة.

إلاّ أنّه مستلزم للدور ، لأنّ الاطّراد على وجه الحقيقة موقوف على العلم بالوضع ، والمفروض أنّ العلم بالوضع متوقف على الإطراد على وجه الحقيقة.

ولا يندفع ذلك بما تقدّم في التبادر في دفع الدور بالاختلاف بالإجمال والتفصيل ، لأنّ العلم الإجمالي بوجود العلامة للحقيقة لا فائدة له للكاشفيّة عن المعنى الحقيقي.

وكيف كان ، فإنه يرد على تقريب الاطّراد بما ذكر :

أوّلاً : بالنقض بالمجاز المشهور ، فإنه عبارة عن شيوع استعمال اللّفظ واطّراده في المعنى المجازي ، بحيث يكون مانعاً عن تبادر المعنى الحقيقي مجرّداً عن القرينة إلى الذهن ، كلفظ «الطهارة» مثلاً في لسان الشارع. فما ذكر إنما يتم في سائر المجازات دون المجاز المشهور.

١٩٠

وثانياً : إن ما ذكر إنما يتمّ فيما لو كان مصحّح الاستعمال عبارة عن العلائق المقرّرة في فنّ البلاغة ، لكن مسلك المتأخّرين أن صحة الإطلاق المجازي يدور مدار الاستحسان الذّوقي ، ولذا ، فقد لا تطرّد العلاقة ويكون الاستعمال المجازي مطّرداً بحسب الذوق السليم.

وقال السيد البروجردي في تقرير الإطراد ـ بناءً على مسلك السكّاكي ـ ، بأنّه دلالة اللّفظ على المعنى وعدم تخلّفه عنها في أيّ تركيبٍ وقع وبانضمام أيّ لفظٍ كان ، كما هو حال لفظ «الأسد» بالنسبة إلى «الحيوان المفترس» بخلافه في «الرجل الشجاع» ، فإنّا نرى صحّة قولنا «زيد أسد» وندّعي كونه حقيقةً فيه ، لكن لا يصحّ ذلك في كلّ مورد ، فلا يقال مثلاً : كُل هذا الطّعام يا أسد.

فملاك الحقيقة في الإطراد : صحّة استعمال اللّفظ في كلّ تركيب وهيئة ، بخلاف المجاز ، فإنّه وإنْ اطّرد استعمال اللّفظ فيه ، لكن لا يصح في كلّ موردٍ ، كما في المثال المذكور.

وأورد عليه شيخنا :

أوّلاً : بأنّ مآله إلى كلام المحقّق الأصفهاني ، وما ذكره المحقق القمي ، من أن علاقة السببيّة مثلاً قد تكون موجودة ولا يصح الاستعمال استناداً إليها ، كما بين الأب والابن.

وثانياً : بأنّ من الممكن أنْ يقال ـ بناءً على ما ذكره ـ : لفظ «الأسد» موضوع للرجل الشجاع ، لا في كلّ تركيبٍ وسياق ، بل مقيّداً بخصوصيّات ، وعليه ، فيكون عدم الإطراد ناشئاً من هذا التقييد في الوضع ، فلا يكون علامةً.

١٩١

خلاصة البحث في العلائم

وتلخّص : إنّ ما يمكن أن يكون علامةً هو التبادر عند أهل اللّسان فقط ، علامة عقلائية ، وبالسيرة غير المردوعة شرعيّة ، مع لحاظ النقاط المذكورة فيه.

هذا ، وإنّ الأخذ بعلائم الحقيقة والمجاز والاستفادة منها عمل اجتهادي للوصول إلى المعنى الحقيقي الموضوع له اللّفظ متى وقع الجهل به ، إلاّ أن المطلوب في هذا البحث هو قالبيّة اللّفظ للمعنى وعدمها ، كما في لفظ «الأسد» مثلاً ، فإنه ليس قالباً للرجل الشجاع بل للحيوان المفترس ، فإذا قصد المتكلّم منه الرجل الشجاع احتاج إلى إقامة القرينة ، وعليه :

فإن كان اللّفظ قالباً للمعنى دالاًّ عليه منسبقاً منه بلا قرينة ، فذاك المعنى هو المعنى الحقيقي عند أهل اللّسان ، فلو تكلّم المتكلّم وتردّدنا في أنه هو المقصود أو غيره ، فلا ريب في وجوب حمل كلامه عليه ، إذ المفروض كونه المعنى المنسبق منه إلى الذهن بلا قرينة.

وأمّا مع احتمال وجود القرينة ، أو وجود شيء يحتمل القرينيّة ، فهنا مسلكان :

أحدهما : إنّ أصالة الحقيقة حجّة تعبّديّة ، وعليه ، فلا يضرّ احتمال وجود القرينة ، بل اللّفظ يحمل على معناه الحقيقي المنكشف بالتبادر.

والآخر : إن أصالة الحقيقة حجّة من باب إفادة الظهور العرفي ، وهذا هو

١٩٢

المختار ، وعليه ، فلا مناص من نفي احتمال وجود القرينة أو قرينيّة الموجود ، حتى ينعقد الظهور ، ولا مجال لنفي الاحتمال بالاستصحاب ، بأنْ نتمسّك باستصحاب عدم وجود القرينة أو باستصحاب العدم الأزلي لنفي قرينيّة الموجود ، لأنّ المطلوب هو الظهور العرفي ، وهو موضوع الأثر في بناء العقلاء غير المردوع عنه شرعاً ، وهو لازم عقلي لكلا الاستصحابين ، فالأصل مثبت.

وحينئذٍ ، ينحصر الأمر بالرجوع إلى بناء العقلاء ، وهو على التوقّف في حال وجود ما يتحمل كونه قرينةً تحفُّ بالكلام ، وعلى عدم الاعتناء باحتمال وجود القرينة.

هذا ، ولا يخفى أنّ هذا البحث كلّي. أمّا في خصوص ألفاظ الروايات فالأمر مشكل جدّاً على كلا المسلكين ، لعلمنا بضياع كثير من الكتب ووقوع التقطيع في نصوص الأخبار وغير ذلك من العوارض ، وكذا الكلام في الأحاديث النبويّة ، إذ لا ريب في تحريف اليهود وغيرهم لكثير من الأحاديث ودسّهم فيها ما ليس منها ، ومع هذه الأحوال كيف يستند إلى الأصل المذكور في فهم معاني الألفاظ الواردة في تلك النصوص؟

هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بعلائم الحقيقة والمجاز ، وطرق كشف المعنى الحقيقي وتمييزه عن المعنى المجازي.

تتميمٌ

فإنْ تميّز المعنى الحقيقي عن المجازي وشك في الإرادة الاستعمالية ، بأنْ دار الأمر في الكلام بين حمله على هذا أو ذاك ، فهل من أصلٍ يرجع إليه؟ قيل : إن مقتضى الأصل أن يكون الاستعمال على الحقيقة ، وقيل :

١٩٣

الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، وهذا هو الصحيح ، فلا يجوز حمل الكلام على المعنى الحقيقي لمجرّد كونه مستعملاً ، سواء في ألفاظ الكتاب أو السنّة أو غيرهما.

وإنْ تميّز أحدهما عن الآخر وشك في الإرادة الجديّة ، تمسّكوا بأصالة الجدّ ، وبه نفوا احتمال كونه هازلاً أو كونه في مقام الامتحان وغير ذلك.

إلاّ أنه يتوقف على نفي احتمال وجود قرينةٍ منفصلةٍ مانعة عن الحمل على الإرادة الجديّة ، ونفيه بالاستصحاب لا يجدي ، فالمرجع بناء العقلاء.

والتحقيق : إن بناء العقلاء في كلام كلّ متكلّمٍ كان من دأبه بيان مقاصده بالتدريج ، هو الفحص عن القرينة المانعة عن الظهور ، فإن لم يعثروا عليها بنوا على أصالة الجدّ ، ومن كان دأبه بيانها دفعةً تمسّكوا في كلامه بالأصل المذكور بلا فحص عن القرينة.

١٩٤

تعارض الأحوال

١٩٥
١٩٦

ذكروا للّفظ أحوالاً : كالاشتراك ، والتجوّز ، والنقل ، والتخصيص ، والإضمار ، والنسخ ، والاستخدام ...

وذلك ، لأن اللّفظ ينقسم إلى أقسامٍ عديدةٍ ، فمن حيث كون المعنى الموضوع له واحداً أو أكثر ، ينقسم إلى المشترك وغير المشترك ، ومن حيث الاستعمال في معناه وغير معناه ، ينقسم إلى الحقيقة والمجاز ، ومن حيث الإضمار في الإسناد وعدم الإضمار ، ينقسم إلى المضمر وغير المضمر ، ومن حيث طروّ النقل على المعنى ، ينقسم إلى المنقول وغير المنقول ، ومن حيث كون المعنى مقيّداً أو غير مقيَّد ، ينقسم إلى المطلق والمقيَّد ، وهكذا.

ولدوران الأمر صورتان :

الصورة الاولى :

أنْ يدور أمر اللّفظ بين كلّ من المتقابلين ، كأن يدور بين الإطلاق والتقييد ، أو بين الحقيقة والمجاز ، ونحو ذلك ، ففي هذه الصورة لا بدّ من أصلٍ أو قاعدةٍ يرجع إليها :

فإن دار الأمر بين الاشتراك وعدمه ، بأنْ يكون اللّفظ موضوعاً لمعنىً خاصّةً أو له ولغيره معاً بنحو الاشتراك ليكون حقيقةً فيهما ، فلا مجال لأصالة الحقيقة ، لأنها المرجع لتمييز الحقيقة عن المجاز ، والمفروض أنْ لا مجاز في البين ، كما لا مجال للأصل العملي كالاستصحاب ، لكونه أصلاً مثبتاً ، بل

١٩٧

المرجع هو بناء العقلاء ، فإن قام على حمل الكلام على الاختصاص دون الاشتراك فهو ، وإلاّ فلا أصل يرجع إليه. قال المحقق العراقي بوجود هذا البناء عندهم ، والتحقيق خلافه ، بل نجدهم في مثل ذلك يتوقّفون.

ولو دار الأمر بين الحقيقة والمجاز ، فلا شبهة في تحكيم أصالة الحقيقة.

ولو دار الأمر بين الإضمار وعدمه ، فلا ريب في البناء على عدم الإضمار.

ولو دار الأمر بين الإطلاق والتقييد ، فبناء العقلاء على الإطلاق بلا كلام ، فإن فرض وجود محتمل القرينيّة لم يضرّ بالتمسّك بالإطلاق بناءً على حجيّة أصالة الإطلاق من باب التعبّد ، أمّا بناءً على حجيّة أصالة الإطلاق من باب إفادة الظهور ، فلا يندفع الاحتمال بالتمسّك به لينعقد الظهور ، وحيث أن الحق هو هذا المبنى ، فمع وجود محتمل القرينيّة لا بدّ من التوقّف.

ولو دار الأمر بين النقل وعدمه ، بأنْ يكون اللّفظ ظاهراً في المعنى الآن ويشك في ظهوره فيه في الزمان السابق ، أو يكون بالعكس ، فبناء العقلاء على عدم النقل ، إمّا على الإطلاق كما عليه سائر العلماء ، وامّا مقيّداً بحصول الاطمئنان كما هو المختار عند الاستاذ.

فإنّ علم بوقوع النقل ، فتارةً يجهل بتاريخ الاستعمال وتاريخ النقل معاً ، بأن استعمل اللّفظ في معنىً وعلم بنقله عنه ، ثم لم يعلم أيّهما المقدّم ، واخرى يكون تاريخ الاستعمال معلوماً وتاريخ النقل مجهولاً ، وثالثة عكس الثانية.

قال المحقق العراقي في الصورة الاولى بوجود البناء العقلائي على عدم

١٩٨

النقل ، وفي الثانية والثالثة بالتوقّف.

فقال شيخنا بأنّهم يتوقّفون في جميع الصور الثلاثة.

الصورة الثانية :

في دوران الأمر بين الأحوال.

وقد ذكر العلماء وجوهاً لتقديم البعض على الآخر ، لكن الحق ـ كما ذكر المحقق الخراساني ـ أن تلك الوجوه كلّها خطابيّة استحسانية.

فالتحقيق : متابعة الظهور أينما حصل ، وإلاّ فالكلام مجمل.

مثلاً : لو دار الأمر بين الاشتراك والنقل ، كأن يتردّد لفظ «الصلاة» بين الاشتراك ، فيكون حقيقةً في المعنى اللّغوي والمركّب الشرعي ـ بناءً على الحقيقة الشرعيّة ـ وبين النقل عن معناه اللّغوي إلى المركّب الشرعي ، فإنْ كان مشتركاً بين المعنيين كان : «الطواف بالبيت صلاة» ونحوه مجملاً ، وإنْ كان منقولاً ، حكم بلزوم الطهارة للطواف.

أو دار الأمر بين الاشتراك والتخصيص ، كما في قوله تعالى : (وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم»)(١) لو كان لفظ «النكاح» مشتركاً بين «الوطء» و «العقد» أو مختصّاً ب «العقد» ، فعلى الاختصاص تكون معقودة الأب ـ ولو بدون الدخول موضوعاً للحرمة ، أما على الاشتراك فيشكّ في تحقّق موضوع الحرمة.

أو دار الأمر بين الاشتراك والإضمار في مثل : «في خمسٍ من الإبل شاة» فإن كانت «في» مشتركة بين الظرفيّة والسببيّة ، فإنّه يتردّد الحكم بين «الشاة» أو مقدار الشاة ، لأنه على الظرفيّة يلزم إضمار كلمة «مقدار» ، أمّا على السببيّة فلا يلزم ، بل الواجب إعطاء نفس الشّاة.

__________________

(١) سورة النساء : ٢٢.

١٩٩

أو دار الأمر بين العموم والاستخدام كما في قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوَءٍ ... وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ)(١) .

وعلى الجملة ، فما ذكروه من الوجوه للترجيح كلّه ظنّي ، والظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً ، ما لم يصل اللّفظ إلى حدّ القالبيّة للمعنى.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٢٨.

٢٠٠