تحقيق الأصول - ج ١

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-2501-93-9
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤١٦

١
٢

٣
٤

كلمة المؤلّف

بسم الله الرحمن الرحم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين .. وبعد

فقد كان من منن الله عليَّ أنْ حبّب إليّ العلم ورغّبني فيه وجعلني من طلاّبه ، ويسّر لي سبل تحصيله وطرق الوصول إليه وهيّأ لي المهم من أسبابه ، فلمّا صرفت فيه عمري وأعطيته كلّي أنالني بعضه ولم يخيّب سعيي.

وكان لي في كلّ مرحلةٍ دراسية أساتذة محقّقون أعلام ، حضرت عليهم بحوثهم وعطف الله عليَّ قلوبهم ، فاعتنوا بي أشدّ عناية واهتمّوا بشأني أبلغ اهتمام ، حتى بلغت المرحلة النهائية التي استفدت فيها من أفذاذ الامّة وكبار الأئمّة ، فكان أوّلهم سيدنا الجد الأعظم آية الله العظمى السيد محمّد هادي الميلاني قدس‌سره ، في مدينة مشهد المقدّسة ، ثم نزلت قم حيث الحوزة العلميّة الكبرى ، فأخذت من أشهر أعيان علمائها في الفقه والأصول ، ولازمت غير واحدٍ منهم ، ودوّنت ما تلقّيته من وافر علومهم ، وأخصّ بالذكر سيّدنا الاستاذ آية الله العظمى السيد محمد رضا الگلپايگاني قدس‌سره ، إذ لازمته في

٥

دروسه الفقهيّة ، وطبعت عدّة مجلّدات ممّا حرّرته منها بأمرٍ منه. وشيخنا الاستاذ آية الله العظمى الوحيد الخراساني دام ظلّه ، الذي لازمته في الفقه والأصول ، وحرّرت إفاداته كلّها.

لقد حضرت على شيخنا في علم الاصول دورةً كاملةً ، وتقرّر إعدادها للنشر لكثرة الطلب لها من الأفاضل ، بعد قراءتها عليه ، ليبدي ملاحظاته حولها وليضيف إليها من المطالب ما لم يتّسع الوقت لإلقائه في مجلس الدرس ، إلاّ أنّه قد توقّف العمل ، لقلّة الفرص ، بسبب قيامه بأعباء المرجعيّة ، ولتبدّل جملةٍ من آرائه في الدورة اللاحقة التي لم اوفّق لحضورها لكثرة الأشغال.

ولمّا راجعني بعض الفضلاء يطلبون منّي الدرس ، وأذن شيخنا بذلك ، جعلتُ موضوع البحث وعنوانه بيان ما قرّرته من إفاداته في الدورة السابقة ، وما حرّرته من أشرطة بحثه في الدورة اللاحقة ، مضيفاً إلى ذلك فوائد من سيّدنا الاستاذ آية الله العظمى السيد محمد الروحاني قدس‌سره من كتاب منتقى الاصول ، وفوائد اخرى من غيره.

وجاء هذا الكتاب حاوياً لأهمّ ما طرحته في الدرس ، وكان ما ذكرته هو السبب في تسميته ب (تحقيق الاصول على ضوء بحوث شيخنا الاستاذ ...) وقد عزمت على نشره بعد الاستخارة عند بيت الله الحرام في الحج عام ١٤٢٢ ه‍.

فإنْ كان فيه نقص أو سهو فهو منّي.

والله أسأل أن ينفع به أهل الفضل ، وأن يحفظنا من الخطأ والزلل ، إنه سميع مجيب.

علي الحسيني الميلاني

٦

تمهيدات

٧

اعتاد الأساتذة الأعلام كصاحب (الكفاية) قدس‌سره وجماعة ، على الابتداء بالبحث عن أمور ، كموضوع علم الاصول ، والمائز بينه وبين غيره من العلوم ، وضابط المسألة الاصوليّة ، وغير ذلك ، وتعرّضوا بهذه المناسبة لموضوع كلّ علم ، والمائز بين العلوم على وجه الإطلاق ، وقضايا أخرى.

فمنهم من أطنب في البحث عن تلك الامور ، ومنهم من اقتصر على قدر الحاجة ، ومنهم من أعرض عن الدخول في ذلك لعدم الفائدة العمليّة.

لكنّا رأينا من الأفضل التعرّض لها بقدر الحاجة ، لئلاّ يخلو بحثنا عن تلك الفوائد العلميّة ... فنقول وبالله التوفيق :

٨

موضوع العلم

قال في (الكفاية) :

«موضوع كلّ علم ـ وهو الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة ، أي بلا واسطة في العروض ـ هو نفس موضوعات مسائله عيناً وما يتّحد معها خارجاً ، وإنْ كان يغايرها مفهوماً ، تغاير الكلّي ومصاديقه والطبيعي وأفراده».

فهنا مطالب :

الأوّل : هل لكلّ علم موضوع؟

أقوال ، فعن المشهور القول بذلك ، وظاهر عبارة (الكفاية) أنه مفروغ عنه بين العلماء.

وقد استدلّ القائلون به بوجهين :

أحدهما : إنّ في كلّ علمٍ غرضاً ، والغرض أمر واحد هو معلولٌ لمسائله المختلفة ، لكنّ الموضوعات المتعدّدة المتباينة لا تؤثر أثراً واحداً ، فلا بد من وجود جامعٍ بينها ، ليكون هو العلة والمؤثر في حصول الغرض الواحد ، لأنّ الواحد لا يصدر إلاّ عن الواحد.

٩

وقد حاول في (المحاضرات) إبطال هذا الاستدلال بما لا يخلو بعضه عن النظر.

والثاني : إنّ تمايز العلوم بتمايز موضوعاتها ، فلو لم يكن لكلّ علم موضوع واحد لتداخلت العلوم فيما بينها.

وهذا الوجه يبتني على كون تمايزها بالموضوعات ، لا بالأعراض ولا المحمولات ، وهذا أوّل الكلام ، وسيأتي توضيح ذلك.

ولما أشرنا إليه من الكلام في الدليلين المذكورين لقول المشهور ، ذهب في (المحاضرات) إلى أنّه لا دليل على اقتضاء كلّ علمٍ وجود الموضوع ، وأنّه لا حاجة إلى ذلك.

رأي الاستاذ

والذي اختاره شيخنا هو أنّه إنْ اريد من قولهم : «لكلّ علم موضوع» ضرورة وجوده لكلّ علمٍ ، بنحو القضيّة الحقيقيّة ـ أي : كلّما وجد وتعنون بعنوان العلم فلا بدّ وأن يكون له موضوع ـ فهذا ما لا دليل عليه. وإنْ اريد منه القضيّة الخارجيّة ، بمعنى أن العلوم المدوّنة ـ كعلمي الطب والهندسة وغيرهما لها موضوعات تجمع بين مسائلها ، فهذا حق ... لكنّ هذا إنّما هو في العلوم ذات المحمولات الحقيقيّة ، وأمّا العلوم الاعتباريّة كعلم الفقه فلا ، ولذا خصّ الشيخ في (الشفاء) وكذا تلميذه بهمنيار والخواجة وغيرهم هذا البحث بالعلوم الحقيقيّة.

أقول :

في كلامه ـ دام ظلّه ـ أمران ، أحدهما : الترديد المذكور في المراد من قول المشهور «لكلّ علم موضوع» ، والآخر : الموافقة على ضرورة وجود

١٠

الموضوع في العلوم المدوّنة الحقيقيّة دون الاعتباريّة منها.

ولعلّ السبب في ذلك هو التسليم للإشكال الرابع من إشكالات (المحاضرات) ، حيث نقض قول المشهور ببعض العلوم ، كعلم الفقه ، إذ لا يعقل وجود موضوع واحد يجمع بين موضوعات مسائله ، لكونها قضايا اعتباريّة ، ولا يعقل الجامع الحقيقي بين القضايا الاعتبارية ، أو لكون موضوعاتها من مقولات متباينة بل متنافرة ، فكيف يكون بينها جامع ذاتي؟ فقال شيخنا : هذا الإشكال حق ، إلاّ أنه يرد على صاحب (الكفاية) القائل بأنّ الموضوع الجامع يتّحد مع موضوعات المسائل اتّحاد الطبيعي مع أفراده ، أمّا المشهور فلا يقولون بهذا كما أشرنا.

وقد اجيب عن الإشكال المذكور بأنّ الأحكام الشرعيّة ، وإنْ كانت قضايا اعتباريّة بلحاظ المعتبَر والمنشأ ، إلاّ أنها حقيقيّة بلحاظ نفس الاعتبار ومبادي الحكم ، لكونها من مقولة الكيف النفساني ، وهي بهذا الاعتبار تكون مورداً لحكم العقل بحقّ الطّاعة والعبوديّة الذي هو الغرض الملحوظ في علم الفقه. وأمّا تباين موضوعات المسائل الفقهيّة فجوابه : إنّه لا بدّ وأن يراد بالموضوع الواحد لكلّ علمٍ وجود محور واحدٍ تدور حوله كلّ بحوث العلم الواحد ، وهذا قد لا يتطابق مع ما يجعل موضوعاً للمسائل بحسب التدوين خارجاً ... فالمقصود من الموضوع الواحد هو المحور الواحد للبحوث في المسائل لا ما جعل موضوعاً لها في مرحلة التدوين ، وهذا المحور لا يلزم أنْ يكون موضوعاً في تلك المرحلة ، فقد تتطابق الموضوعيّة ـ أي المحوريّة ـ مع الموضوعيّة في مرحلة التأليف ، وقد لا تتطابق ، والتطابق بينهما غير لازم (١).

فإنْ كان ما ذكر نظريّةً جديدة ، فقد يمكن المساعدة عليها ، لأنّ وجود

__________________

(١) بحوث في علم الاصول ، مباحث الدليل اللفظي ١ / ٤١.

١١

محورٍ لكلّ علمٍ تدور عليه بحوثه أمر ارتكازي غير قابل للإنكار ، وأمّا إن كان شرحاً وتوجيهاً لقول صاحب (الكفاية) والمشهور ، ففيه تأمّل لأنه لا يتحمَّل هذا التوجيه والتفسير ، وأمّا كلمات أعلام المعقول في المقام ، فلا بدّ من مراجعتها ... والله العالم.

المطلب الثاني :

ما هي حقيقة موضوع العلم؟

قالوا : هو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة ، ثم اختلفوا في المراد من «العرض الذاتي» هنا ، فأمّا «العرض» فالمراد منه : ما كان خارج عن الذات ومحمولاً عليه وإن كان جوهراً كالذات ، كالناطق بالنسبة إلى الحيوان ، حيث يحمل عليه وهو خارج عنه ، وهو نفسه جوهر.

رأي المشهور

أمّا «الذاتي» منه ، فالمشهور على أنّه ما كان خارجاً عن الذات ، لكنه لاحق للذات وثابت له باقتضاء جوهر الذات. وذهب جماعة من المتأخّرين ـ وتبعهم المحقق صاحب (الكفاية) ـ إلى أنّ العرض الذاتي ما لا واسطة له في العروض ، في مقابل ما له واسطة فيه ، ففي قوله رحمه‌الله «أي بلا واسطة في العروض» إشارة إلى اختيار هذا القول خلافاً للمشهور.

ثم إنّ المشهور قسّموا ما كان باقتضاء جوهر الذات إلى قسمين :

أحدهما : ما كان باقتضاء جوهر الذات بلا واسطة في العروض ، وسمّوه بالعارض الذاتي الأوّلي ، كعروض الناطق على الحيوان ، حيث أنه خارج عن ذات الحيوان محمول عليه ، ولا واسطة في هذا الحمل والعروض واللحوق ، اذ علّة لحوق الفصل للجنس ليس إلاّ الجنس ، وعلّة لحوق الجنس للفصل

١٢

ليس إلاّ الفصل.

وثانيهما : ما كان باقتضاء جوهر الذات لكن مع الواسطة في العروض ، والواسطة :

تارةً : أمر مساوٍ للموضوع داخلي ، وهذا منحصر بالفصل ، مثاله : التعجّب العارض على الإنسان بواسطة أمرٍ مساوٍ داخلي وهو الناطق ، لأن الإنسان متعجّب بعلّة كونه ذا نفس ناطقة.

واخرى : أمر مساوٍ له خارجي ، ومثاله : الضاحك العارض على الإنسان بواسطة التعجّب ، والتعجّب واسطة خارجية مساوية للإنسان.

قالوا : وما كان غير ذلك فهو عرض غريب ، فالأعراض الغريبة ثلاثة : ما كان خارجاً عن الذات عارضاً عليه بواسطة أمر أعم ، وهو تارةً : داخل في الذات ، مثل «الحيوان» يكون واسطة لعروض الإرادة على الإنسان ، والحيوان أعم من الإنسان ، واخرى : خارج عن الذات ، «كالجسم» يكون واسطة لعروض التحيّز على الأبيض ، والجسم أعم من الأبيض. فهذا قسمان.

وما كان خارجاً عن الذات عارضاً عليه بواسطة أمر خارجي أخص. وهذا هو القسم الثالث من أقسام العرض الغريب ، كالتعجّب العارض على الحيوان بواسطة الإنسان ، والإنسان أخص من الحيوان.

وعلى الجملة ، فهنا تعريفان ، أحدهما للمشهور ، وهو أن موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ، أي عمّا يلحق الموضوع باقتضاء ذاته ، إمّا بلا واسطة وامّا بواسطة أمرٍ مساوٍ ، سواء كان المساوي داخليّاً أو خارجياً. والثاني : ما اختاره صاحب (الكفاية) من أنّ موضوع كلّ علمٍ ما يبحث فيه عن عوارضه العارضة عليه بلا واسطة.

١٣

ويظهر الفرق بين المسلكين في علم الاصول في كثير من المسائل ، فمثلاً نقول : هل الأمر بالشيء ، الوارد في الكتاب والسنّة ، يقتضي النهي عن ضدّه الخاص أو العام؟ فاقتضاء النهي أو استلزامه يعرض على الأمر ، فعلى مسلك المحقق الخراساني يكون هذا العروض بلا واسطة ، ويكون الاقتضاء حقيقيّاً وبلا عناية ، أما على مسلك المشهور ، فإنّ هذا العروض إنما هو بواسطة أمر أعم ، لأنّ ذلك لا يختص بالأمر الكتابي بل كلّ أمر كذلك ـ بناءً على القول به ـ سواء وقع في الكتاب أو لا ؛ وكذا في السنّة ، فهناك عروض بواسطة أمر أعم ، والعارض على الشيء بواسطة الأمر الأعم من العوارض الغريبة عندهم كما تقدّم.

وأيضاً : لا يلزم بناءً على مذهب صاحب (الكفاية) أنْ يكون العروض باقتضاء ذات المعروض ، إذ الملاك عندهم هو أن لا تكون واسطة في العروض ، وعليه ، فالحجيّة تثبت للخبر مثلاً ، لعدم الواسطة في عروضها عليه ، مع أنها ليست باقتضاء ذاته.

السبب في عدول الكفاية

ثم إنّ السبب في عدول أصحاب هذا القول ـ كصاحب (الكفاية) ـ عمّا قاله المشهور ، هو التخلص من اشكالٍ يلزم عليه ، وتوضيح ذلك هو : إنّ المحمولات في مسائل العلوم تعرض على موضوعاتها ، وتلك الموضوعات هي الواسطة لعروضها على موضوع العلم ، فمثلاً ـ في علم النحو ـ يعرض الرفع على الفاعل ، وبواسطته يعرض على الكلمة التي هي موضوع علم النحو ، لكنّ «الفاعل» أخص من «الكلمة» فيلزم أن يكون هذا البحث في علم النحو بحثاً عن العرض الغريب. وكذا في غيره من العلوم ، كالفقه مثلاً ،

١٤

فبناءً على أن موضوعه «فعل المكلَّف» يكون الوجوب عارضاً على الصّلاة ، وبتوسّط الصلاة يعرض على موضوع العلم الذي هو فعل المكلَّف وهو أعم من الصّلاة. وكما يكون موضوع المسألة أخص من موضوع العلم ـ كما في علمي النحو والفقه كما ذكرنا ـ كذلك قد يكون أعم ، وذلك كما في علم الاصول ، فيكون العروض بواسطة أمر أعم ، لأن الموضوع فيه ـ على المشهور ـ الأدلّة الأربعة ، لكن البحث عن وجوب المقدمة وعدمه ـ مثلاً ـ غير مختص بالخطابات الشرعيّة ، وكذا في مسألة اقتضاء الأمر للنهي عن الضد ، أو ظهور الأمر في الوجوب ، ونحو ذلك.

أمّا بناءً على تفسير العرض الذاتي بما لا واسطة له في العروض ، فالإشكال مندفع ، إذ المناط عدم الواسطة في العروض ، وهو حاصل ، لكون موضوع العلم متحداً وجوداً مع موضوع المسألة ، لأن «الفاعل» متّحد وجوداً مع «الكلمة» ، وكذا «الصّلاة» مع «فعل المكلّف» ، وإنْ اختلفا مفهوماً ، ولذا قال في (الكفاية) : «هو نفس موضوعات مسائله عيناً وما يتّحد معها خارجاً ، وإنْ كان يغايرها مفهوماً ...».

يعني : إن نسبة موضوع المسألة إلى موضوع العلم نسبة النوع إلى الجنس ، فموضوع العلم إنْ لوحظ لا بشرط بالنسبة إلى موضوعات المسائل ، كان العرض فيها عرضاً ذاتيّاً لموضوع العلم ، وإنْ لوحظ بشرط لا ، صار عرضاً غريباً. مثاله : «الحيوان» فإنّه إن لوحظ بشرط لا بالنسبة إلى الناطق والصاهل ، كان التعجّب العارض عليه عرضاً غريباً وإسناد التعجّب إليه مجازيّاً ، وإنْ لوحظ متّحداً مع الناطق وكان وجودهما واحداً ، كان التعجّب العارض بواسطة الناطق عرضاً ذاتيّاً بالنسبة إلى الناطق وبالنسبة إلى الإنسان.

١٥

كان هذا بيان الإشكال وشرح طريق المحقّق الخراساني لدفعه.

وقد حقّق شيخنا دام ظلّه هذا الطريق وفصّل في المقام بما حاصله : أنّ هذا الطّريق إنّما يفيد في الواسطة التي هي أعم ، وعلم الاصول من هذا القبيل كما تقدّم ، إذ العروض وإنْ كان بواسطة أمر أعم ، لكنّ الصّدق حقيقي عرفاً وليس مجازيّاً. أمّا في سائر العلوم التي يكون موضوع المسألة فيها أخص ، فالإسناد ليس حقيقيّاً لا عقلاً ولا عرفاً ، فيكون الإشكال فيها باقياً على حاله.

كما أنّ جواب صدر المتألّهين ـ والمحقق الأصفهاني ـ عن الإشكال ، إنما يفيد فيما إذا كانت الواسطة والعارض موجودين بوجودٍ واحدٍ ، كالجوهرية والجسميّة ، فإنّهما موجودان بوجودٍ واحدٍ ومجعولان بجعل واحد ، الجوهر يوجد بنفس تعلّق الجعل بالجسم ، فالجسم وإنْ عرض على «موجود» بتوسط «جوهر» لكنّ «جوهر» واسطة للعروض بحسب الترتيب العقلي ، إذ الموجود عقلاً يكون ممكناً والممكن يصير جوهراً ، والجوهر يصير جسماً ، لكنّ الإمكان والجوهريّة والجسميّة كلّها موجودة بوجود واحد. فنفس هذه الجسميّة تصير من العوارض الذاتيّة للموجود بتوسط الجوهريّة التي هي عارضة بتوسط الإمكان ـ أي الإمكان الفقري ـ إلاّ أنّ كلّ ذلك عروض ذاتي ، لأنها جميعاً موجودة بوجودٍ واحد.

بخلاف ما إذا كانت الواسطة والعارض موجودين بوجودين ، كالتعجّب العارض على الحيوان بواسطة الإنسان ، فالعارض غريب لا ذاتي ... والإشكال حينئذٍ باق.

والمحقق النائيني حاول دفع الإشكال بالنزاع في الصغرى ، فأنكر أنْ يكون العارض على الجنس بواسطة النوع عرضاً غريباً.

١٦

لكنّ ما ذكره قدس‌سره لا ينسجم مع تصريحات أكابر الفلاسفة ، كالشيخ والخواجة وغيرهما ، في تعريف العرض الذاتي ، وكلّهم يجعلون ما ذكر من العرض الغريب لا الذاتي.

رأي السيد الخوئي

وفي (المحاضرات) ما ملخّصه : إن أساس الإشكال أمران هما : الالتزام بأنّ البحث في العلوم لا بدّ وأن يكون من الأعراض الذاتيّة لموضوع العلم. والالتزام بأن العارض على الشيء بواسطة الخارج الأخص أو الداخل الأعم ، من الأعراض الغريبة لا الذاتيّة.

قال : ويمكننا منع كلا الأمرين على سبيل منع الخلو ، بأنْ يقال : كلّ مسألة ترتّب عليها الغرض الذي لأجله دوّن العلم فهي من مسائل ذاك العلم ، سواء كان المحمول فيها من العوارض الذاتيّة لموضوع العلم أو لا ، والاختصاص في البحث عن الذاتي فقط لا دليل عليه بالخصوص.

قال : ولو سلّمنا لزوم ذلك ، لأمكن دعوى أنّ العارض بواسطة الخارج الأخص أو الداخل الأعم ، من العوارض الذاتيّة.

قال الاستاذ :

أمّا منع الأمر الثاني فكما ترى ، لأنه ينافي ما اصطلحوا عليه.

وأمّا منع الأمر الأول ، فقد سبقه إلى ذلك المحقق الأصفهاني ، حيث ذكر أنّ كثيراً من مسائل العلوم يشتمل على البحث عمّا لا يكون عرضاً ذاتياً لموضوع العلم ، من أجل دخله في الغرض المطلوب من تدوين ذاك العلم وبحوثه.

وقد قرّر شيخنا الاستاذ هذا الإشكال ، حيث ذكر أن أدلّة القوم على تلك

١٧

الدعوى أربعة :

الأول : إن لم يكن كذلك ، لم تكن العلوم متباينة.

والثاني : إن لم يكن كذلك ، لا يكون للعلم موضوع خاص به.

والثالث : أنه إذا بحث في العلم عن العرض الغريب ، لزم أن يكون العلم الجزئي كليّاً.

والرابع : أنّه إذا بحث في العلم عن العرض الغريب ، لزم تداخل العلمين.

ثم ناقش هذه الأدلّة ، وأوضح عدم وفاء شيء منها لإثبات الدعوى المذكورة.

وهذا تمام الكلام في المطلب الثاني.

المطلب الثالث :

في الاتحاد والتغاير بين موضوع العلم وموضوعات المسائل

ذكر المحقق صاحب (الكفاية) : أن موضوع العلم متّحد مع موضوعات مسائله خارجاً ، وإن كان بينهما تغاير مفهوماً ، كتغاير الكلّي ومصاديقه والطبيعي وأفراده.

وقد اورد على الاتّحاد الذي ذكره ، بوجوهٍ لا جواب عن بعضها ، كالإشكال بأنّ موضوع علم الطب هو بدن الإنسان ، ونسبته إلى موضوعات مسائله نسبة الكلّ إلى الأجزاء لا الكلّي إلى المصاديق.

١٨

تمايز العلوم

واختلف الأعلام في الجامع بين موضوعات مسائل العلم الواحد والمائز بين العلوم ، فقيل : الوحدة الاعتبارية ، وقيل : الموضوعات ، وقيل : المحمولات ، وقيل : الأغراض.

وهذا الأخير هو مختار صاحب (الكفاية) حيث قال : «والمسائل عبارة عن جملةٍ من قضايا متشتّتة جمعها اشتراكها في الدخل في الغرض الذي لأجله دُوّن هذا العلم ... وقد انقدح بما ذكرنا أن تمايز العلوم إنّما هو باختلاف الأغراض الداعية إلى التدوين ، لا الموضوعات ولا المحمولات ... وإلاّ كان ...».

فنقول : كلّ علمٍ مدوّن فله موضوع يبحث عنه فيه ، في مسائل متشتّتة متكوّنة من موضوعات ومحمولات ، وهذا التشتّت قد يكون من جهة الموضوع ، وقد يكون من جهة المحمول ، وقد يكون من جهة الموضوع والمحمول معاً ، فما هو الجامع بين هذه المسائل المتشتتة؟ وما هو المائز بين هذا العلم وغيره من العلوم؟

الآراء في المقام :

مذهب المشهور هو أنّ التمايز بالموضوعات ، لأنّ هناك بين مسائل كلّ علمٍ من العلوم جهة اتّحاد ، عبّر عنها الشيخ ابن سينا وغيره بالتناسب ، وهذا التناسب غير حاصل بالمحمولات ، لأنّها إنّما تكون ملحوظة بالعرض ، وكلّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذّات ، وكذا الأغراض ، فلا بدّ وأن يكون

١٩

بالموضوعات ، فهي الجامعة والمائزة.

واختار المحقق البروجردي أنه بالمحمولات ، ونسبه إلى مشهور القدماء.

وبما ذكرنا يظهر ما فيه وفي النسبة إليهم.

وقد خالفهم المحقق الخراساني ، مع قوله بأنّ موضوع كلّ علمٍ ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة ، ومقتضاه : أن تكون الموضوعات هي الجامعة بين شتات المسائل ، لأمرين:

أحدهما : إن في علم الاصول مسائل كثيرة هي من مسائل علوم اخرى ، فجعل الغرض هو الجامع فراراً من هذا المشكل ، لأن المسائل ـ وإنْ تداخلت بين العلوم ـ تختلف من ناحية الغرض الداعي إلى تدوينها ، فلا مانع من كون المسألة الواحدة من مسائل علمين ، وهما متمايزان لاختلاف الغرض.

والثاني : إنّه وإنْ كان لكلّ علمٍ موضوعاً يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة ، إلاّ أنّ لازم القول بتمايز العلوم بالموضوعات أنْ يكون كلّ بابٍ من كلّ علمٍ علماً على حده ، وكذا بناءً على كونه بالمحمولات ، فجعل الغرض هو الجامع فراراً من هذا المشكل.

وفصّل المحقق الخوئي في المقام ، فوافق صاحب (الكفاية) ـ من كون المائز هو الغرض ليس إلاّ ـ في بعض الصور وخالفه في البعض الآخر ، فقال : بأنّه تارةً يراد من التمايز مرحلة الإثبات لمن يجهل العلوم ، واخرى يراد منه التمايز في مرحلة الثبوت وفي مقام التدوين.

أما المقام الأول : فحقيقته أن كلّ شخص إذا كان جاهلاً بحقيقة علمٍ من العلوم وأراد الإحاطة به ولو بصورة إجمالية ، فللعالم بذاك العلم أنْ يميّزه له

٢٠