تحقيق الأصول - ج ١

السيّد علي الحسيني الميلاني

تحقيق الأصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-2501-93-9
ISBN الدورة:
964-2501-52-X

الصفحات: ٤١٦

نقد مختار المحقق الخوئي في الجملة الخبرية

ثم إن شيخنا الاستاذ تنظر في مبنى السيد الخوئي في حقيقة الجملة الخبرية فقال : بأنْ المذكور مكرّراً في تقرير بحثه وفي تعليقته هو «إن مدلول الجملة الخبريّة قصد الحكاية» ولا يقول بأن مدلولها هو «الحكاية» ومن الواضح أن «قصد الحكاية» غير «الحكاية» ، فالمدلول هو قصد الحكاية بالدّلالة الوضعيّة ـ إلاّ إذا أقام قرينة على الخلاف ، كأنْ يكون في مقام المزاح مثلاً ـ وقصد الحكاية لا تعلّق له بالخارج ، وما لا تعلّق له بالخارج لا يوصف بالصّدق والكذب ، فكيف تتّصف الجملة الخبريّة بالصّدق والكذب؟.

هذا أوّلاً.

وثانياً : إن المناط في باب الدّلالات اللّفظية هو التبادر ، والحق أن المتبادر من قولنا «زيد قائم» هو نسبة القيام إلى زيد ، لا قصد حكاية المتكلّم عن تلك النسبة. نعم ، المتكلّم الملتفت له قصد ، لكنّ هذا غير كون مدلول اللّفظ هو القصد.

وثالثاً : إن قصد الحكاية بدون الحكاية محال ، والحكاية بدون الحاكي محال أيضاً ، فلو كانت الهيئة دالّةً على قصد حكاية النسبة ، فأين الدالّ والحاكي عن ثبوت النسبة؟

هذا إن كان المدلول قصد الحكاية.

وأمّا لو أراد أنه «الحكاية» نفسها لا قصدها ، فقد تقدَّم أن الحكاية بدون الحاكي محال ، فإن كان الحاكي عن ثبوت النسبة هو الصّورة الذهنيّة ، فهذا هو قول المشهور ، وإلاّ فلا حاكي ، لأن مدلول اللّفظ هو نفس النسبة ، فيلزم الحكاية بلا حاكي.

١٦١

فظهر بطلان مبناه حتّى لو كانت اشكالاته على مبنى المشهور واردةً ، ولكنّك قد عرفت اندفاعها.

هذا تمام الكلام في الجملة الخبرية.

رأي السيّد الخوئي في الجملة الانشائية وموافقة الاستاذ

وأمّا في الجملة الإنشائية فالآراء المهمّة هي :

رأي المحقق الأصفهاني

وقد تقدم أنّه لا يمكن المساعدة عليه.

رأي المشهور

وهذا الرأي وجيه ثبوتاً ، فمن الممكن أنْ يجعل ويعتبر الواضع الجملة الإنشائية وسيلةً وسبباً لتحقق المادّة ، كالبيع في «بعت» والصلح في «صالحت» والزوجيّة في «زوّجت» وهكذا ... في عالم الاعتبار.

إنّ كون الصيغة سبباً اعتبارياً لتحقّق الأمر الاعتباري في النكاح والبيع ...

أمرٌ معقول ، ولكن لا دليل إثباتي عليه ، لا من الواضع ولا من العقلاء.

رأي المحقق الخوئي

وهذا هو المختار ، ففي كلّ هذه الموارد اعتبار وإبراز للاعتبار النفساني.

والمحقّق الأصفهاني ـ وإنْ اختار الإيجاد كما تقدّم ـ قد صرّح بذلك في مبحث الاستصحاب في الأحكام الوضعيّة ، في معنى الملكيّة. ولكنّ التحقيق جريانه في جميع الموارد وعدم اختصاصه بالملكيّة.

والدليل عليه هو الارتكاز العقلائي من المعتبر ، ثم إمضاء العقلاء ، والشارع قد أمضى ذلك ورضي به ، فللشارع أيضاً اعتبار مماثل.

هذا تمام الكلام في الإخبار والإنشاء.

١٦٢

أسماء الإشارة والضمائر والموصولات

١٦٣
١٦٤

هنا ثلاثة آراء أساسيّة :

الأوّل : رأي المحقق الخراساني

قال : إنه لا اختلاف في المفهوم والمدلول بين لفظ «هذا» و «المفرد المذكّر» المشار إليه ، فالمفهوم الموضوع له فيها واحد ، وكذا المفهوم الموضوع له لفظ «أنت» فهو نفس المفهوم والمعنى في «المفرد المذكّر المخاطب» لكنّ الإشارة في الأوّل وخصوصيّة الخطاب في الثاني خارجان عن حدّ ذات المعنى الموضوع له ، غير أنّ الواضع اشترط أن يستعمل لفظ «هذا» مع الإشارة ، ولفظ «أنت» مع الخطاب ، فالخطاب والإشارة قيدان من الواضع في ظرف الاستعمال ، ومن الواضح أنّ ما يكون قيداً في ظرف الاستعمال ليس له دخل في المعنى الموضوع له.

إلاّ أن ظاهر كلامه ـ حيث بدأ به بكلمة «يمكن» ـ هو إمكان كون المخاطبيّة والمشارية جزءاً من المعنى الموضوع له لفظة «هو» ولفظة «أنت» ، إلاّ أنه لا دليل عليه في مقام الإثبات عنده.

وعلى الجملة ، فإنّه لا فرق في المعنى بين «هذا» و «المفرد المذكر» وكذا في «أنت» ، غير أنه متى ما أراد هذا المعنى لا مع الإشارة ، استعمل «المفرد المذكّر» وتحقّق مفهومه ، ومتى ما أراده مع الإشارة إليه استعمل

١٦٥

«هذا». تماماً كما في المعنى الحرفي ، مع فرق أنه لا إمكان هناك لأن يوضع للمعنى الملحوظ باللّحاظ الآلي ، ولذا افتتح كلامه هناك بكلمة «التحقيق» وهنا الإمكان موجود ، فعبّر ب «يمكن».

وعلى هذا ، يكون الموضوع له في هذه الموارد عاماً كالوضع.

مناقشة الاستاذ

وفيه :

أوّلاً : إن ما ذهب إليه دعوى بلا دليل.

وثانياً : لو كان المعنى في «هذا» و «المفرد المذكر» واحداً ، والخصوصيّة بالإشارة تحصل في مقام الاستعمال ، كان اللاّزم إمكان استعمال كلّ من اللّفظين في مكان الآخر ، وهذا غير صحيح كما هو واضح.

الثاني : رأي المحقّق الأصفهاني

إنّ لفظ «هذا» ـ مثلاً ـ موضوع للمعنى مع الإشارة ، فكون الشيء مشاراً إليه داخل في المعنى الموضوع له ، ولذا لا تستعمل هذه اللّفظة إلاّ توأماً مع الإشارة باليد أو العين أو الرأس أو غيرها. إذن ، فالموضوع له هو حصّة من المعنى ، وهي المشار إليه ، فالموضوع له خاص لدخل الخصوصيّة.

مناقشة الاستاذ

وفيه : إنه دعوى بلا دليل ، كسابقه.

الثالث : رأي المحقق البروجردي

إنّ هذه الأسماء موضوعة لنفس الإشارة ، فبلفظ «هذا» نشير ، لا أنه موضوع للمفرد المذكر المشار إليه الخارجي ، فلفظ «هذا» إشارة لفظيّة ، كما أنّ تحريك اليد مثلاً إشارة فعليّة. نظير إنشاء المعاملة الذي هو تارة باللّفظ

١٦٦

«بعت» واخرى بالفعل وهو «المعاطاة».

المختار عند الاستاذ

فقد ظهر أنّ الأقوال المهمة في المقام ثلاثة :

١ ـ إن الموضوع له هو المفهوم.

٢ ـ إن الموضوع له هو المفهوم المشار إليه.

٣ ـ إن الموضوع له هو الإشارة.

والمختار هو الثالث ، وعليه الارتكاز ، وهو الذي نصّ عليه علماء الأدب والعربية ، كقول ابن مالك :

بذا لمفردٍ مذكّرٍ أشر

فإنه يقول ب «ذا» أشر ، فإنه يقوم مقام الإشارة الفعليّة ، لا سيّما إشارة الأخرس غير المتمكّن من التلفّظ.

وقد استدلّ السيد البروجردي بروايتين.

ثم إن انضمام الإشارة باليد إلى التلفّظ ب «هذا» إنما هو للتأكيد ودفع الالتباس عن المشار إليه ، فلا يكون قرينةً على أنْ لا يكون الموضوع له «هذا» هو نفس الإشارة.

وأمّا الموصولات فموضوعة للإشارة كذلك ، غير أنها للإشارة إلى المبهم.

١٦٧
١٦٨

الحقيقة والمجاز

١٦٩
١٧٠

مقدّمات :

* ذكر السكاكي في مبحث الاستعارة من كتابه : إن اللّفظ يستعمل في المعنى الحقيقي لا غير ، فلفظ «الأسد» لا فرق بين استعماله في الحيوان المفترس أو في الرجل الشجاع ، غير أنه في الأول حقيقة واقعاً وفي الثاني حقيقة ادّعاءً ، فكأنّ دائرة المعنى الحقيقي تتوسّع لتشمل الرجل الشجاع كذلك.

وقد وافقه بعض الأعلام كالسيد البروجردي. وهو مطلب متين.

وعلى هذا ، فإن عملنا في المجاز هو تعميم دائرة الموضوع له اللّفظ بالنّسبة إلى فردٍ آخر ، لمناسبةٍ بينه وبين الموضوع له ، كما بين «الرجل الشجاع» و «الحيوان المفترس» في مفهوم لفظ «الأسد» ، لكنْ مع إقامة القرينة على هذا الادّعاء على مذهب السكاكي ، أو على الاستعمال في غير ما وضع له اللّفظ من قبل الواضع ، على مذهب المشهور.

* إن مورد الكلام في مبحث الحقيقة والمجاز هو :

١ ـ ما إذا كان أصل معنى اللّفظ غير معلوم.

٢ ـ ما إذا كان المعنى معلوماً ، لكن المراد منه غير معلوم.

١٧١

* والحقيقة في مقابل المجاز هي :

تارة : الحقيقة اللّغوية.

واخرى : الحقيقة الشرعيّة.

وثالثة : الحقيقة العرفيّة.

والحقيقة العرفيّة تارة : هي الحقيقة العرفيّة العامّة. وأخرى : الحقيقة العرفيّة الخاصة.

وكلّ هذه الأقسام مورد حاجةٍ وابتلاء للفقيه.

وهناك حقيقة متشرعيّة ، يبحث عنها في مبحث الحقيقة الشرعيّة.

فعلى الفقيه أوّلاً أنْ ينظر في كلّ موردٍ ، فقد يكون للّفظ حقيقة شرعيّة ، وقد يكون اللّفظ قد استعمل على أساس حقيقة عرفيّة خاصّة ، فإنه في هذه الحالة لا يرجع إلى اللّغة والعرف العام ، لأنّ العرف الخاص يتقدّم على العرف العام في تشخيص مراد المتكلّم ، فإن لم يوجد العرف الخاص أو لم يقصد ، يرجع إلى الحقيقة العرفيّة العامّة.

* والمهم للفقيه هو تشخيص الحقائق العرفيّة ، ورجوعه إلى اللّغة إنما هو مقدّمة لذلك ، وهو يحتاج إلى ذلك لاستنباط الأحكام الشرعيّة من الأدلّة اللّفظيّة من الكتاب والسنّة ، ومن الأدلّة غير اللّفظية كالإجماع إنْ كان معقده لفظاً من الألفاظ ، فلا بدّ للفقيه من استكشاف معنى تلك اللّفظة الواردة في الكتاب والسنّة والإجماع ـ على ما ذكر ـ ليرتّب الأثر الشرعي عليها ، مثلاً : عليه أن يحقّق عن معنى لفظة «الصعيد» هل هو مطلق وجه الأرض أو خصوص التراب؟ ولفظة «الشرط» هل هو مطلق الالتزام ، أو خصوص الالتزام في ضمن الالتزام؟ ولفظة «العقد» هل هو مطلق العقد الأعم من الجائز واللازم أو

١٧٢

خصوص اللاّزم؟ و «الزنا» يختصُّ بوطي القبل أو يعمّ الدبر؟ وكذلك الكلام في «الوطن» و «الكنز» و «المعدن» ومئات الألفاظ من هذا القبيل الواردة في الأدلّة الشرعيّة.

ويحتاج إلى ذلك أيضاً في الموضوعات ، فعنوان «المضاربة» الذي هو أحد العقود العرفيّة الممضاة شرعاً ، ما معناه؟ ومن هو المدّعي؟ ومن المنكر؟ ولهذا بحثوا عن أن العقود تنعقد بالمجازات أو لا؟ فقال المحقق الثاني في ذيل قول العلاّمة في (القواعد) في العقد وأنّه لا بدّ وأن يكون بالصيغة ، قال : «أي : المفيدة لذلك بمقتضى الوضع» (١) وقد يظهر من كلمات بعضهم دعوى الإجماع على أن العقود اللاّزمة لا تنعقد بالمجازات.

* وقد ذكر لتشخيص المعاني الحقيقيّة عن المعاني المجازيّة طرق كثيرة ، منها قطعيّة ومنها ظنيّة ، اقتصر صاحب (الكفاية) من القطعيّة منها على أربعة هي : التبادر وصحة الحمل وعدم صحة السلب والاطراد ، ولم يتعرّض للظنيّة التي منها : تنصيص أهل اللّغة ، ذكره المحقق العراقي ، غير أنه أجاب بأن اللّغوي يذكر موارد الاستعمال لا الحقيقة عن المجاز ، لكنّ مثل المحقق الكاظمي في كتاب (المحصول) يدّعي الإجماع على ثبوت الحقيقة بتنصيص أهل اللّغة ، ويقول العلاّمة في (النهاية) : المعنى الحقيقي يثبت بأخبار الآحاد.

والحق : إن تجاوز تنصيص أئمة اللّغة على أنّ اللّفظ الفلاني موضوع لكذا ، مشكل.

ثم إنّ التنصيص على المعنى الحقيقي قد يكون مبنيّاً على مسلك

__________________

(١) جامع المقاصد ١ / ٥٧ ط مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٧٣

خاص ، كالقول بعدم وجود المجاز في لغة العرب ، كما عليه أبو إسحاق الإسفرائني ، أو القول بأن الأصل هو الحقيقة وأن المجاز خلاف الأصل ، فيكون مقتضى الأصل هو الحكم بكون المعنى حقيقيّاً ، كما عليه التّاج السّبكي ، أو كان التنصيص مستنداً إلى أمارات غير معتبرة ، كأن يكون مستنداً إلى التبادر مثلاً وهو غير معتبر عندنا بالفرض ، ففي مثل هذه الموارد لا يكون التنصيص حجةً.

أمّا إنْ كان النصّ من أهل الخبرة ، فاعتباره مبني على الشروط المقرّرة في مسألة حجية خبر الثقة في الأحكام ، لأنّ المراد ليس خصوص الأحكام ، بل الأعم ، ليشمل كلّ لفظٍ وقع موضوعاً للأحكام الشرعيّة ، كلفظ «العقد» و «الشرط» ونحوهما ، والموضوعات من العدالة والتعدّد والوثاقة.

والمختار : أنه إنْ كان ثقةً كان خبره حجةً ، ولا يعتبر التعدّد والعدالة فضلاً عن الإيمان.

نعم ، دعوى حجيّة قول اللغوي مطلقاً ممنوعة.

وبعد :

فإنّ هناك مراحل ، فالاولى مرحلة أصل المعنى الموضوع له اللّفظ ، ثم مرحلة الإرادة الاستعمالية من اللّفظ ، ثم مرحلة الإرادة الجديّة ، فإنْ اجتمعت هذه المراحل فلا إشكال ، وأمّا إن تخلّف بعضها ، كأنْ جهل أصل المعنى ، أو وقع الشك في أصل الإرادة أو الإرادة الجديّة ، فلا بدّ من قواعد وطرق يرجع إليها.

والطرق المطروحة في (الكفاية) وغيرها من كتب الاصول لكشف المعنى الحقيقي في المرحلة الاولى هي :

١٧٤

١ ـ التبادر

وقد ذكروا نحوين من التبادر لمعرفة المعنى الحقيقي :

أ ـ التبادر عند أهل اللسان.

ب ـ التبادر عند المستعلم نفسه.

ثم إن المعنى الذي ينسبق إلى الذهن ويتبادر ، لا بدَّ وأنْ يكون تبادره من نفس اللّفظ ، بأنْ نقطع بكون الانسباق منه لا من غيره ، لأنّه قد ينسبق المعنى من اللّفظ بقرينةٍ ، والقرينة إمّا حاليّة وامّا مقاليّة ، وكلّ منهما : إمّا خاصّة مثل «يرمي» في : رأيت أسداً يرمي ، وإما عامّة كمقدمات الحكمة.

فالتبادر الكاشف عن المعنى الحقيقي الموضوع له اللّفظ هو ما إذا علمنا بعدم كونه لأجل قرينةٍ من القرائن ، ومجرّد احتمال دخل قرينةٍ في حصول الانسباق يسقطه عن الدليليّة على الحقيقة.

الدليل على دليليّة التبادر

وبما ذكرنا ظهر أنّ دليليّة التبادر على المعنى الحقيقي وكاشفيّته عنه هي من قبيل كشف العلّة عن المعلول ، فهي دلالة إنّية ، في مقابل الدلالة اللميّة ، التي هي كشف المعلول عن العلة ، وتسمّى بالبرهان.

فيقال في وجه دلالة التبادر على المعنى الحقيقي :

إن انسباق المعنى إلى الذهن هو أحد المعاليل والحوادث ، فلا بدّ له من

١٧٥

علّةٍ ، في أصل وجوده ، وفي خصوص تبادر هذا المعنى المعيَّن من هذا اللّفظ المعيَّن ، فما هي تلك العلّة؟

إن العلّة لا تخلو عن الرابطة الذاتيّة بين اللّفظ والمعنى ، أو القرينة ، أو الرابطة الوضعيّة. أمّا الاولى فغير معقولة ، لأن دلالة الألفاظ على معانيها جعليّة وليست بعقلية ولا طبعيّة ، وأمّا الثانية فمنتفية ، لأن المفروض عدم دخل القرينة في الانسباق ، فتبقى الثالثة ، وتكون النتيجة كشف التبادر عن الوضع ، فهو علامة للمعنى الحقيقي للمستعلم.

المناقشة

لقد كان مبنى هذا الوجه هو الكشف الإنّي ، لكنّ التبادر أمر نفساني ، والعلقة الوضعيّة بين اللّفظ والمعنى أمر اعتباري ، وقد سبق أن حقيقة الوضع هو التعهّد ، أو جعل اللّفظ وجوداً للمعنى ، أو تخصيص اللّفظ بالمعنى ، أو اعتبار الملازمة بين اللّفظ والمعنى ، أو جعل اللّفظ علامة للمعنى.

فالوضع ـ على كلّ تقدير ـ أمر حاصل في الخارج ، وهو معلوم تارةً ومجهول اخرى ، وإذا كان الوضع علّةً للتبادر لزم أن يكون الأمر الخارجي علّةً للأمر الذهني ، وقد تقرّر في محلّه أن الموجود الخارجي لا يمكن أن يكون مؤثّراً في الوجود الإدراكي.

على أنه لو كان التبادر معلولاً للوضع ، فإنه لا بدّ من وجوده ، سواء علم بالوضع أو لا ، لأنه أثر الوضع.

فثبت أن التبادر ليس معلولاً للوضع وكاشفاً عنه ، بل هو معلول للعلم بالوضع.

فالذي أفاده التبادر هو العلم بالوضع لا الوضع ، نعم يكون للوضع أثر

١٧٦

الإعداد لحصول العلم به.

هذا ، مضافاً إلى أنهم قد ذكروا : إن هذا التبادر المدّعى ينشأ من العلم الارتكازي بالمعنى عند المستعلم ، وعليه نقول : إذا كان منشأ التبادر هو العلم الارتكازي ، فإن من الممكن حصول هذا العلم من سببٍ فاسدٍ ـ كالاطراد الذي سيأتي أنه ليس علامةً للحقيقة ـ كما يمكن حصوله من سببٍ صحيح ، وإذا جاء احتمال استناد التبادر إلى العلم الارتكازي الحاصل من سببٍ فاسد ، سقط التبادر عن كونه علامةً للمعنى الحقيقي.

ثم إنّه قد أشكل على هذه العلامة باستلزامها للدور ، وذلك : لأن التبادر لا يتحقق بدون العلم بالوضع ، فمن كان جاهلاً لا يمكن تبادر المعنى إلى ذهنه ، فالتبادر موقوف على العلم بالوضع ، ولكنّ العلم بالوضع متوقّف على التبادر ، من باب توقّف ذي العلامة على العلامة ، وهذا دور.

وقد أجيب : بأن الموقوف عليه في التبادر عند المستعلم هو علمه الارتكازي الإجمالي ، والموقوف هو علمه التفصيلي ، فالعلم الذي يتوقّف عليه التبادر غير العلم الناشئ من التبادر والمعلول له ، والغيريّة والتفاوت بالإجمال والتفصيل رافع للإشكال (١).

والحاصل : أن العلم الذي هو علّة للتبادر هو العلم البسيط الموجود في خزانة النفس ، والعلم الحاصل من التبادر هو العلم المركّب التفصيلي ، بأنْ نعلم بأنا عالمون بالمعنى.

__________________

(١) مصطلح العلم الإجمالي والعلم التفصيلي في علم الاصول معروف ، وقد يطلق «العلم الإجمالي» ويراد به العلم الموجود في الارتكاز بنحو الإجمال ، ويقابله العلم التفصيلي ، كما ذكر في المتن ، وقد يطلق على أساس تعقّل الوحدة في الكثرة والكثرة في الوحدة ، وقد يطلق ويراد به العلم بالوجه في قبال العلم بالكنه.

١٧٧

فالمتعلّم عالم لكنه جاهل بعلمه ، ثم يعلم بكونه عالماً ، ولا مانع من أن يكون الإنسان عالماً بشيء مع الجهل بوجود هذا العلم عنده ، إذ العلم في ذاته طريق إلى الواقع ، فإذا رأى الإنسان الواقع بسبب العلم لا يلتفت إلى علمه ولا ينظر إليه بالنظر الموضوعي. وعن بعض الأكابر : إن العلم كالنور ينظر به ولا ينظر إليه ، لكن فيه : عدم إمكان النظر إلى الأشياء به مع عدم النظر إليه.

والتحقيق : إن ما ذكر لا يدفع إشكال الدّور عند المستعلم ، فإنه لا معنى للجهل في العلوم الارتكازية ولو بالنسبة إلى العلم نفسه ، لكون العلم الارتكازي علماً إلاّ أنه مغفول عنه وغير ملتفت إليه ، ومن الواضح أن هذا غير الجهل ، فالمحتاج إليه في العلم الارتكازي هو الالتفات إليه لا تحصيله والوصول إليه. وهذا نظير ما ذهب إليه المتأخّرون من الفقهاء في مسألة النيّة ـ خلافاً للمحقق قدس‌سره ـ من عدم وجوب الإرادة التفصيلية وأنّ الواجب هو الداعي ، ويكفي في وجوده أنه إنْ سئل عمّا يفعل أجاب بأنّي اغتسل مثلاً ، وهذا الداعي هو الإرادة الارتكازية التي يلتفت إليها بأقل مناسبة ، وما نحن فيه كذلك ، فإن العلم الارتكازي بالوضع موجود ، وهو يكون المنشأ للالتفات وارتفاع الغفلة عن المعنى الموضوع له.

فالحق : أنه إنْ كان عالماً بالوضع فلا معنى لتحصيله بالتبادر ، بل اللاّزم هو الالتفات إلى علمه ، كما أن السائر على الطريق يعلم ارتكازاً بمقصده ، فلو غفل عن المقصد لا يسأل عنه ليعلم به ، بل لأنْ ترتفع عنه الغفلة.

فالإشكال عند المستعلم لم يندفع.

وهذا الإشكال غير وارد على التبادر عند أهل المحاورة العالمين بالوضع ، لوضوح التغاير بين الموقوف والموقوف عليه ، إذ التبادر عند أهل

١٧٨

اللّسان علّة لعلم الفرد الجاهل بالوضع ، فعلمه معلول للتبادر عندهم ، وليس التبادر عندهم معلولاً لعلم الفرد.

فالحق : إن التبادر حجّة عند أهل المحاورة فقط ، وعلى الجاهل بالمعنى أنْ يرجع إلى أهل اللّسان ، ومن انسباق المعنى إلى أذهانهم بدون الاستناد إلى قرينةٍ ، يستكشف المعنى الحقيقي للّفظ ، ودليل اعتباره هو السيرة العقلائية.

هذا ، وقد ذكر دام ظلّه «السيرة العقلائية» دليلاً آخر على أن التبادر علامة الحقيقة ، وذكر أنّه عن طريق الاستدلال الأول ـ وهو كون التبادر أحد المعاليل ـ يستكشف نفس المعنى الحقيقي ، أما الاستدلال بالسيرة فيفيد قيام الحجّة العقلائية على المعنى الحقيقي.

وكيف كان ، فلا بدّ من إثبات هذه السيرة وبيان اعتبارها وحدّ دلالتها.

ذكر بعضهم كالمحقّق الأصفهاني : أن التبادر عند أهل اللّسان علامة للجاهل بالمعنى ، وهو يفيد العلم بالمعنى الموضوع له ، لأن المفروض عدم وجود قرينةٍ في البين ، فلا محالة يكون من الحيثيّة المكتسبة من العلقة الوضعيّة ، فهو ـ إذن ـ علامة تفيد القطع بالمعنى.

وقد أورد عليه شيخنا بوجهين :

أوّلاً : إنه لا ريب في أن التبادر لدى العارف باللّسان العالم بالوضع ، ليس بحاكٍ عن الوضع التعييني للّفظ ، فالذي يمكن تصوّره هو أن يكون عالماً بالوضع التعيّني الناشئ من كثرة الاستعمال ، فيستعمل اللّفظ في معناه بكثرةٍ حتى يصل إلى حدّ صيرورة اللّفظ قالباً للمعنى. وعلى هذا ، فكيف يمكننا إحراز أنّ هذا العارف باللّسان كان انسباق المعنى إلى ذهنه غير ناشئ عن كثرة الاستعمال؟ إن هذا الاحتمال لا طريق إلى نفيه.

١٧٩

وبعبارةٍ اخرى : لقد اشترطنا في التبادر أن لا يكون مستنداً إلى قرينةٍ ، والقرينة إمّا خاصّة وامّا عامّة ، والقدر الممكن نفيه من القرائن هو القرائن الخاصّة ، لأنّا نعلم بعدم وجود كليّةٍ وجزئيّة ، وسببيّة ومسبّبية ، وكذا غير ذلك من القرائن الخاصة ، وأمّا القرائن العامّة ـ كالشهرة في المجاز المشهور ـ فلا سبيل لنفيها.

وقول المحقق العراقي بأن الملاك في مثلها هو الاطراد وعدمه ، بمعنى أنه إنْ كان المعنى ينسبق من اللّفظ في جميع موارد استعماله على حدّ سواء ، فهو المعنى الحقيقي. ففيه : إنه لا يتصوّر الاطّراد وعدمه في القرائن العامة ، لأنها دائماً موجودة مع اللّفظ ، ولا يمكن تجريده عنها ، فمن الصعب تحقّق صغرى التبادر في موارد احتمال وجود القرينة العامّة ، فيكون الكلام مجملاً ، وأمّا احتمال انسباق المعنى إلى ذهن العارف باللّسان على أثر كثرة استعمال اللّفظ فيه ، التي هي مقدّمة للوضع التعيّني ، فلا دافع له.

وثانياً : إنه لو تنزّلنا عمّا ذكر ، وسلّمنا انسباق المعنى من حاقّ اللّفظ بلا دخل لكثرة الاستعمال ، لكن السؤال هو : إن انسباقه من حاقّ اللّفظ أمر حادث لا بدّ له من علّة ، ولا علّة لهذا الانسباق إلاّ العلم بالوضع ، فالجاهل بالوضع لا يحصل له انسباق ، لكنّ العلم بالوضع يحتمل أن يكون ناشئاً من التبادر الذي قد عرفت الكلام فيه ، فكيف يحصل القطع بالوضع والمعنى الحقيقي؟

فالبرهان المذكور على قطعيّة هذه العلامة كما ذكره المحقّق الأصفهاني مردود بهذين الوجهين.

والذي يمكن الموافقة عليه وإقامة البرهان له هو : إن التبادر عند أهل اللّسان حجّة للجاهل وحجّة عليه ، لأنه مورد السيرة العقلائية القطعيّة مع عدم

١٨٠