الرّحلة الحجازيّة

الأمير شكيب أرسلان

الرّحلة الحجازيّة

المؤلف:

الأمير شكيب أرسلان


المحقق: حسن السماحي سويدان
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار النوادر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٩

فيه ري لأهل مكة ، وقد غرمت في ذلك غرما عظيما ، فبلغها ، فأمرت جماعة من المهندسين أن يجرّوا لها عيونا من الحلّ (أي من الأرض الخارجة عن الحرم) وكان النّاس يقولون : إنّ ماء الحل لا يدخل الحرم ، لأنه يمر على عقاب وجبال ، فأرسلت بأموال عظام ، ثم أمرت من يزن عينها الأولى ، فوجدوا فيها فسادا ، فأنشأت عينا أخرى إلى جانبها ، وأبطلت تلك العيون ، فعملت عينها هذه بأحكم ما يكون من

__________________

حدود معروفة من كل جهة بأعلام مبنية ، كالذي بين جدة ومكة ، وبين المزدلفة وعرفة ، فعرفات من الحلّ ، لا يحرم فيها الصيد على غير المحرم.

[قال محقق «أخبار مكة» (٢ : ٣٠٩) تحت عنوان حدود الحرم ، وأودية الحل والحرم ، ومواقيت الحج : قد نصبت على حدود الحرم أعلام في جهات ست ، كما ذكر الأزرقي ، وهي كما يلي :

(١) التنعيم : في طريق المدينة الغربي ، والأنصاب في هذه الطريق على رأس ثنية ذات الحنظل ، فما كان من وجهها في هذا الشق فهو حرم ، وما كان في ظهرها فهو حلّ.

(٢) الحديبية : في طريق جدة ، والأنصاب في هذه الطريق على رأس التخابر ، والتخابر يصبّ في الأعشاش ، وما أقبل من الأعشاش على بطن مرّ فهو حل ، وما أقبل على المرير فهو حرم.

(٣) إضاءة لبن : على طريق اليمن من جهة تهامة ، والأنصاب على رأس جبل غراب ، والجبل بعضه في الحل وبعضه في الحرم.

(٤) ذات السليم : في طريق عرفات والطائف واليمن من جهة جبل كرا ، والأنصاب في هذه الطريق على رأس الضحاضح ، وهي ثنية ابن كريز ، بعضها في الحل وبعضها في الحرم.

(٥) المقطع أو الصفاح : في طريق نجد والعراق ، والأنصاب على رأس ثنية الخل منتهى الحرم.

(٦) المستوفرة : في طريق الجعرانة ، وعلى رأسها أنصاب الحرم ، فما سال منها على ثرير فهو حل ، وما سال منها على شعب بني عبد الله بن أسيد فهو حرم].

٨١

العمل ، وعظمت في ذلك رغبتها ، وحسنت نيتها ، فلم تزل تعمل فيها حتى بلغت ثنية خل ، فإذا الماء لا يظهر في ذلك الجبل ، فأمرت بالجبل فضرب فيه ، وأنفقت في ذلك من الأموال ما لم تكن تطيب به نفس كثير من الناس ، حتى أجراها الله عزوجل لها ، وأجرت فيها عيونا من الحلّ ، منها عين من المشاش (١) ، واتخذت لها بركا تكون السيول إذا جاءت تجتمع فيها ، ثم أجرت لها عيونا (٢) من حنين ، واشترت حائط حنين ، فصرفت عينه إلى البركة ، وجعلت حائطه سدا يجتمع في السيل ، فصارت لها مكرمة لم تكن لأحد قبلها ، وطابت نفسها بالنفقة فيها ، بما لم تكن تطيب نفس أحد غيرها به ، فأهل مكة والحاج إنما يعيشون بها بعد الله عزوجل.

ثم أمر أمير المؤمنين المأمون صالح بن العباس في سنة عشر ومئتين أن يتخذ له بركا في السوق خمسا ، لئلا يتعنّى أهل أسفل مكة والثنية وأجيادين (بالتثنية) والوسط إلى بركة أم جعفر ، فأجرى عينا من بركة أم جعفر من فضل مائها في عين تسكب في بركة البطحاء ، عند شعب ابن يوسف ، في وجه دار ابن يوسف ، ثم يمضي إلى بركة عند الصفا ، ثم يمضي إلى بركة عند الحناطين ، ثم يمضي إلى بركة بفوهة سكة الثنية ، دون دار أويس ، ثم يمضي إلى بركة عند سوق الحطب بأسفل مكة ، ثم يمضي فيسرب ذلك إلى ماجل أبي صلابة (٣) ، ثم إلى الماجلين اللذين

__________________

(١) جاء في «معجم البلدان» : المشاش بالضم قال عرام : ويتصل بجبال عرفات جبال الطائف ، وفيها مياه كثيرة أوشال وعظائم قني ، منها المشاش ، وهو الذي يجري بعرفات ، ويتّصل إلى مكة.

(٢) [قال محقق «أخبار مكة» : (٢ : ٢٣١) : وهي عين ميمونة ، وعين الزعفران ، وعين البرود ، وعين الصرفة أو الطارقي ، وعين ثقبة ، وعين الخريبات].

(٣) [قال محقق «أخبار مكة» : (٢ : ٢٣٢) : المعروف اليوم ببركة ماجل ، وقد حرفها العوام فقالوا : بركة ماجد].

٨٢

في حائط ابن طارق بأسفل مكة.

وكان صالح بن العباس لما فرغ منها ركب بوجوه النّاس إليها ، فوقف عليها حين جرى فيها الماء ، ونحر عند كل بركة جزورا ، وقسّم لحمها على الناس. انتهى.

وقال ابن خلكان (١) : أمّ جعفر زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم ، هي أم الأمين محمد بن هارون الرشيد ، وكان لها معروف كثير ، وفعل خير ، وقصتها في حجّها ، وما اعتمدته في طريقها مشهورة ، فلا حاجة إلى شرحها.

قال الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي في «كتاب الألقاب» : إنها سقت أهل مكة الماء بعد أن كانت الراوية عندهم بدينار ، وإنها أسالت الماء عشرة أميال بحطّ الجبال ، ونحت الصخر ، حتى غلغلته من الحل إلى الحرم ، وعملت عقبة البستان ، فقال لها وكيلها : يلزمك نفقة كثيرة ، فقالت : اعملها ، ولو كانت ضربة فأس بدينار ، وكانت وفاتها سنة ست عشرة ومئتين في جمادى الأولى ببغداد رحمها الله تعالى. انتهى.

وأما ابن جبير الأندلسي (٢) ، وقد كانت حجته في سنة (٥٧٩) فإنّه ذكر زبيدة في كلامه الذي يلي : فاجتمع بعرفات من البشر جمع لا يحصي عدده إلا الله عزوجل. ومزدلفة بين منى وعرفات ، من منى إليها مثل ما من مكة إلى منى ، وذلك نحو خمسة أميال ، ومنها إلى عرفات مثل ذلك ، أو أشفّ قليلا ، وتسمّى المشعر الحرام ، وتسمى جمعا.

قال الحريري في «مقاماته» :

وقلت لعاذلي مهلا فإنّي

سأختار المقام على المقام

__________________

(١) [«وفيات الأعيان» : ٢ : ٣١٤)].

(٢) [«رحلة ابن جبير» (١٣٤)].

٨٣

وأنفق ما جمعت بأرض جمع

وأسلو بالحطيم عن الحطام

فلها ثلاثة أسماء.

وقبلها بنحو الميل وادي محسّر ، ومضت السّنّة بالهرولة فيه ، وهو حدّ بين مزدلفة ومنى ، لأنّه معترض بينهما.

ومزدلفة بسيط من الأرض فسيح بين جبلين ، وحوله مصانع وصهاريج كانت للماء في زمان زبيدة رحمها الله.

أقول : هذه الخمسة الأميال من عرفات إلى منى أخذت معنا أكثر من خمس ساعات من بعد المغرب إلى نصف الليل ، على أننا كنا في سيارة ، وهذا مع سعة الطريق ، الذي هو أحيانا سهل أفيح ، ولا عجب فإنّ نحوا من مئتي ألف نسمة كانوا مفيضين ذلك المساء في وقت واحد من عرفات إلى مزدلفة ، فمنها قطر الجمال بالألوف لا بالمئات ، وعليها الهوادج يخيّل لرائيها من كثرتها وارتفاعها وحركة الأباعر من تحتها أنّ هناك مدينة سائرة على متون الأيانق ، وهناك الركبان والفرسان ، والمشاة على الأقدام ، وبالاختصار محشر من الخلائق ، وقد يبلغ الحاجّ في بعض الأعوام ثلاثمئة ألف ، وأربعمئة ألف ، وجميعهم لا بدّ لهم من الإفاضة في وقت واحد.

وقد يتأخّر حجّاج الشيعة ليلة أخرى إن لم تثبت عندهم هم رؤية الهلال ، وبعضهم يرى أنّه يسعهم ما وسع أهلّ السنة ، وعندي أنّ الأولى ترك النّاس وحريتهم في أمور كهذه ، إذ ليس في ذلك مخالفة للشرع ، وإنما هو مجرّد اجتهاد لا غير (١).

__________________

(١) أما تركهم وشأنهم فذلك ما جرت ولا تزال تجري عليه الحكومات من أهل السنة ـ وأما هدي أئمة السلف ، وهو اللائق بالوحدة الإسلامية ، فهو عدم الخلاف ، واجتناب التفرّق في الشعائر الإسلامية العامة ، وذلك بأن يترك أمر إثبات أوّل ذي الحجة إلى حكومة الحجاز ، ولا يحاول الشيعة إثبات ذلك فيها بشهادة من يشهد منهم برؤية الهلال في حال إمكان الرؤية الخ.

وإنما كان يعمل كل أحد باجتهاده الشخصي في المسائل الشخصية ، وحكم

٨٤

روعة موقف عرفات العام

ومواكب الحج فيها أيام دول الإسلام

ووصف ابن جبير الأندلسي لها في القرن السادس

لا أنسى منظر عرفات ليلا ، فهو من أبهج ما ارتسم في خاطري من مناظر هذه الدنيا الفانية ، مع كثرة ما شاهدت في حياتي ، وما تقلبت في الأمصار والعواصم ، فقد أقبلنا عليها غلسا ، آتين من منى ، فكانت أشبه بسماء في كواكبها وطرائقها منها بسهول وهضاب في خيامها وقبابها المضروبة ، ومصابيحها المعلقة ، ونيرانها المشبوبة ، فكان منظرا قيّد النواظر ، لا يشبع منه الرائي تطلّعا ، ولا يزداد به إلا ابتهاجا.

وليست عرفات في النهار بأقلّ حسنا وجلالا في تموّج جموعها ، وتراصّ قبابها ، ولا سيما في مناظر الخشوع التي تأخذ بالألباب ، ومسامع الأدعية التي ليس بينها وبين الله حجاب.

وصف ابن جبير لموقف عرفات

وإني أترك وصف عرفات في مثل ذلك اليوم لكاتب شهير لا يلتفت إلى فقير فقراتي بجانب مليء أماليه ، ولا يؤبه بحقير خرزاتي في معرض بديع لآليه ، ألا وهو ابن جبير الكناني الأندلسي برّد الله ثراه ، قال (١) :

فأصبح يوم الجمعة المذكور في عرفات جمعا لا شبيه له إلا الحشر ،

__________________

الحاكم يرفع الخلاف في المسائل الاجتهادية المتعلّقة بمصلحة الأمة ، وتفصيل الموضوع ليس هذا محلّه. مصححه

(١) [«رحلة ابن الجبير» ١٣٦ ـ ١٣٨)].

٨٥

لكنّه إن شاء الله حشر للثواب ، مبشّر بالرحمة والمغفرة يوم الحشر للحساب.

زعم المحققون من الأشياخ المجاورين أنّهم لم يعاينوا قط في عرفات جمعا أحفل منه ، ولا أرى كان من عهد الرشيد ـ الذي هو آخر من حجّ من الخلفاء ـ جمع في الإسلام مثله ، جعله الله جمعا مرحوما معصوما بعزته.

فلمّا جمع بين الظهر والعصر يوم الجمعة المذكور ، وقف النّاس خاشعين باكين ، وإلى الله عزوجل في الرحمة متضرّعين ، والتكبير قد علا ، وضجيج الناس بالدعاء قد ارتفع ، فما رؤي يوم أكثر مدامع ، ولا قلوبا خواشع ، ولا أعناقا لهيبة لله خوانع خواضع ـ من ذلك اليوم.

فما زال النّاس على تلك الحالة ، والشمس تلفح وجوههم إلى أن سقط قرصها ، وتمكّن وقت المغرب ، وقد وصل أمير الحاجّ مع جملة من جنده الدارعين ، ووقفوا بمقربة من الصخرات (١) عند المسجد الصغير ، وأخذ السّرو اليمانيون مواقفهم بمنازلهم المعلومة لهم في جبال عرفات ، المتوارثة عن جد فجد من عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا تتعدّى قبيلة على منزل أخرى.

وكان المجتمع منهم في هذا العام عددا لم يجتمع قطّ مثله ، وكذلك وصل الأمير العراقي في جمع لم يصل قط مثله ، ووصل معه من أمراء الأعاجم الخراسانيين ، ومن النساء العقائل المعروفات بالخواتين ، ومن السيدات بنات الأمراء كثير ، ومن سائر العجم عدد لا يحصى ، فوقف

__________________

(١) هذه الصخرات التي يتكّرر ذكرها معروفة ، وهي التي وقف النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وسلم عندها في حجّة الوداع ، ولكنه قال : «وقفت هاهنا وعرفة كلّها موقف» رواه مسلم [رقم (١٢١٨ ـ ١٤٩) من حديث جابر رضي‌الله‌عنه] يعني أنّ وقوفه هنالك إتفاقيّ ، لا لفضيلة في المكان ، لئلا يتهافت النّاس بعده عليه ، ولكنهم يفعلون ذلك ما استطاعوا. مصححه

٨٦

الجميع ، وقد جعلوا قدوتهم في النّفر الإمام المالكي ، [لأن مذهب مالك رضي‌الله‌عنه يقتضي أن لا ينفر حتى يتمكن سقوط القرص ، ويحين وقت المغرب](١) ... إلى أن يقول : فلما حان الوقت أشار الإمام المالكي بيديه ، ونزل عن موقفه ، فدفع النّاس بالنّفر دفعا ، ارتجّت له الأرض ورجفت الجبال ، فيا له موقفا ما أهول مرآه ، وأرجى في النفوس عقباه ، جعلنا الله ممن خصّه فيه برضاه ، وتغمّده برحماه ، إنّه منعم كريم ، حنّان منّان.

وكانت محلة الأمير العراقي جميلة المنظر ، بهية العدّة ، رائقة المضارب والأبنية ، عجيبة القباب والأروقة ، على هيئات لم ير أبدع منها منظرا ، فأعظمها مرأى مضرب الأمير ، وذلك أنّه أحدق به سرادق كالسّور من كتان ، كأنه حديقة بستان ، أو زخرفة بنيان ، وفي داخله القباب المضروبة ، وهي كلّها سواد في بياض ، مرقّشة ملوّنة ، كأنّها أزاهير الرّياض ، وقد جلّلت صفحات ذلك السرادق من جوانبه الأربعة كلها أشكال درقية (٢) من ذلك السواد المنزّل في البياض ، يستشعر الناظر إليها مهابة ، يتخلّلها درقا لمطية (٣) قد جلّلتها مزخرفات الأغشية.

لهذا السرادق الذي هو كالسور المضروب أبواب مرتفعة ، كأنّها أبواب القصور المشيّدة ، يدخل منها إلى دهاليز وتعاريج ، ثم يفضى منها إلى الفضاء الذي فيه القباب ، فكأنّ هذا الأمير ساكن في مدينة ، قد أحدق بها سور ، تنتقل بانتقاله ، وتنزل بنزوله ، وهي من الأبّهات الملوكية المعهودة.

وداخل تلك الأبواب حجّاب الأمير وغاشيته ، وهي أبواب مرتفعة ،

__________________

(١) [زيادة من رحلة ابن جبير].

(٢) [الدرقة هي الترس].

(٣) [نسبة إلى قبيلة (لمطة) في المغرب الأقصى عندهم أحسن التراس].

٨٧

يجيء الفارس برايته ، فيدخل عليها دون تنكيس ولا تطأطؤ ، قد أحكمت ذلك كلّه أمراس وثيقة من الكتان ، تتصل بأوتاد مضروبة ، أدير ذلك كلّه بتدبير هندسي غريب.

ولسائر الأمراء الواصلين صحبة هذا الأمير مضارب دون ذلك ، لكنّها على تلك الصفة ، وقباب بديعة المنظر ، عجيبة الشكل ، قد قامت كأنّها التيجان المنصوبة ، إلى ما يطول وصفه ، ويتسع القول فيه من عظيم احتفال هذه المحلة في الآلة والعدّة ، وغير ذلك مما يدلّ على سعة الأحوال ، وعظيم الانخراق (١) في المكاسب والأموال.

ولهم أيضا في مراكبهم على الإبل قباب تظلّهم ، بديعة المنظر ، عجيبة الشكل ، قد نصبت على محامل من الأعواد ، يسمّونها القشاوات ، وهي كالتوابيت المجوفة ، هي لركابها من الرجال والنساء كالأمهدة للأطفال ، تملأ بالفرش الوثيرة ، ويقعد الراكب فيها مستريحا ، كأنّه في مهاد ليّن فسيح ، وبإزائه معادله أو معادلته في مثل ذلك من الشقة الأخرى ، والقبة مضروبة عليهما ، فيسار بهما وهما نائمان لا يشعران ، أو كيفما أحبا ، فعندما يصلان إلى المرحلة التي يحطّان بها ضرب سرادقهما للحين ، إن كانا من أهل الترفّه والتنعّم ، فيدخل بهما إلى السرادق وهما راكبان ، ينصب لهما كرسيّ ينزلان عليه ، فينتقلان من ظلّ قبة المحمل إلى قبة المنزل ، دون واسطة هواء يلحقهما ، ولا خطفة شمس تصيبهما ، وناهيك من هذا الترفيه ، فهؤلاء لا يلقون لسفرهم وإن بعدت شقّته نصبا ، ولا يجدون على طول الحل والترحال تعبا.

ودون هؤلاء في الراحة راكبو المحارات ، وهي شبيهة الشقادف ، لكن الشقادف أبسط وأوسع ، وهذه أضمّ وأضيق ، وعليها ظلائل تقي

__________________

(١) [التوسعة].

٨٨

حرّ الشّمس ، ومن قصرت حاله عنها في هذه الأسفار ، فقد حصل على نصب السفر ، الذي هو قطعة من العذاب الخ ا ه.

أقول : وكم رأت طريق البيت الحرام من هذه المحارات وهذه الشقادف ، وكم رأت من راكب وفارس ، وحاف وناعل ، وكم تطهّرت نفوس ، وتهذّبت أرواح ، وصفت قلوب ، وزكت أعمال ، وخزيت شياطين ، وحقنت دماء ، وكفكفت دموع ، وصينت أموال ، كلّ ذلك بسبب هذه الآية الكريمة (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧] وكم عاشت بهذه الآية مخلوقات ، ودخلت على الحجاز أموال ، اللهم إنّ كلّ ذلك لمما هو فوق تصوّر العالمين.

أما النعمة والرفاهية اللتان أشار إليهما ابن جبير من حال حجّاج العراق وفارس وخراسان في ذلك الوقت ، فلم يبق منها شيء تقريبا إلى الأعصر الأخيرة ، لأنّ تلك الحال تحولت بسبب الحروب المتواصلة ، ولا سيما غارة المغول التي أتت على الحرث والنّسل ، ونسفت عمران المشرق نسفا ، فأقفرت البلاد ، وتقلّصت الزراعة ، وتشتت العباد ، ونضبت مواد التجارة ، وجاء فتح ترعة السويس في الزمن الخير ، فتحولت به تجارة الهند والصين عن فارس والعراق والشام ، واستأثر بها الأوربيون رأسا (١) ، مع أنّ ثروة بغداد والبصرة وشيراز وإصفهان وسيراف الخ كانت أيّام العباسيين مما تعجز عن وصفه الأقلام ، وتتقاصر الأرقام ، وتلك الأيام نداولها بين الناس.

__________________

(١) [كانت رحلات ماركو بولو وماجلان وغيرهما من الرحالة الأوربيين بداية الحصار الاقتصادي على العالم الإسلامي ، تبعها تحويل طرق التجارة البرية والبحرية عنه ، فلما ضعف المسلمون اقتصاديا ، وافتقروا ، جاءهم الغزو العسكري والفكري ، فاحتل بلدانهم ، وشوّش أفكارهم ، فصاروا متخبطين لا يدرون إلى أيّ وجهة يسيرون ، وهذا حالهم إلى اليوم ، انظر كلام الأمير ص (٩٨ ـ ١٠١)].

٨٩

ولقد أخطر ببالي ذكر المحامل التي ينتقل منها إلى المنازل بدون أن يخرج الراكب من الظل إلا إلى الظل عمل الملك ليوبولد ملك بلجيكة السابق ، فقد رأيت له في بروكسل قصرا حوله حديقة فيحاء ، وكان أنشأ فرعا من سكة الحديد إلى الحديقة فالقصر ، داخلا في نفق تحت الأرض إلى ما تحت القصر ، فيأتي القطار الخاصّ بالملك من الخارج ، فيدخل إلى ما تحت القصر ، ويخرج الملك من العربة التي هو جالس فيها بخطوة واحدة إلى المصعد ، الذي هو محاذ لباب العربة ، فيرقى به المصعد توّا إلى غرفة نومه الخاصة ، وهكذا ينتهي من سكة الحديد إلى غرفة مبيته ، دون أن يتكلّف لا مشيا ولا صعودا ، ولا نعلم هل كانت عنده آلة ترفعه من أرض الغرفة إلى السرير!؟

* * *

٩٠

الوزير جمال الدين الجواد الأصفهاني

وزير صاحب الموصل أتابك زنكي

من حيث إننا في ذكر المعمّرين (عمّر المنزل بالتشديد جعله آهلا) والمثمّرين (ثمّر المال بالتشديد أيضا كثّره) والمسدين للمبرات ، والسابقين إلى الخيرات ، والمشيدين للممالك ، والممهدين للمسالك ، وإن سيرة مثل هذه الطبقة في الإسلام هي أحسن السير ، وبها يحسن المبتدأ ، ويعطر الخبر ، فليسمح لنا القرّاء بنشر شيء من سيرة الجواد الأصفهاني ، وزير صاحب الموصل أتابك زنكي بن آق سنقر.

فهو الوزير أبو جعفر محمد بن علي بن أبي منصور (١) ، اتصل بخدمة أتابك زنكي في الموصل في الثلث الأول من القرن السادس للهجرة ، وبعد أن قتل الملك المذكور على قلعة جعبر ، استوزره سيف الدين غازي بن أتابك زنكي ، وفوّض الأمور وتدبير أحوال الدولة إليه.

قال ابن خلكان : فظهر حينئذ جود الوزير المذكور ، وانبسطت يده ، ولم يزل يعطي ويبذل الأموال ، ويبالغ في الإنفاق ، حتى عرف بالجواد ، وصار ذلك كالعلم عليه ، حتى لا يقال له إلا جمال الدين الجواد ـ إلى أن قال ـ وأثر آثارا جميلة ، وأجرى الماء إلى عرفات أيّام الموسم من مكان بعيد ، وعمل الدرج من أسفل الجبل إلى أعلاه (٢) ،

__________________

(١) [كتب الدكتور صادق أحمد جودة كتابا لطيفا في سيرة هذا الوزير سماه «الجواد الأصفهاني وزير الموصل والشام»].

(٢) يعني الجبل الذي في وسط عرفات المعروف بجبل الرحمة ، فإنّه مقسّم إلى

٩١

وبنى سور مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما كان خرب من مسجده ، وكان يحمل في كلّ سنة إلى مكة شرّفها الله تعالى والمدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام من الأموال والكسوات للفقراء والمنقطعين ، ما يقوم بهم مدة سنة كاملة.

كان له ديوان مرتّب باسم أرباب الرسوم والقصّاد لا غير ، ولقد تنوع في فعل الخير حتى جاء في زمنه بالموصل غلاء مفرط ، فواسى الناس حتّى لم يبق شيئا.

وكان إقطاعه عشر مغلّ البلاد ، على جاري عادة وزراء الدولة السلجوقية ، إلى أن قال عن وفاته : توفي في العشر الأخير من شهر رمضان المعظم ـ وقيل من شعبان ـ سنة تسع وخمسين وخمسمئة ، وصلّي عليه ، وكان يوما مشهودا من ضجيج الضعفاء والأرامل والأيتام حول جنازته ، ودفن بالموصل إلى بعض سنة ستين ، ثم نقل إلى مكة حرسها الله تعالى ، وطيف به حول الكعبة ، وكان بعد أن صعدوا به ليلة الوقفة إلى جبل عرفات ، وكانوا يطوفون به كلّ يوم مرارا مدّة مقامهم بمكة شرّفها الله تعالى ، وكان يوم دخوله مكة يوما مشهودا من اجتماع الخلق والبكاء عليه ، وقيل : إنه لم يعهد عندهم مثل ذلك اليوم ، وكان معه شخص مرتّب ، يذكر محاسنه ، ويعدّد مآثره إلى أن قال ـ ثم حمل إلى مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودفن فيها بالبقيع ، بعد أن أدخل المدينة ، وطيف به حول حجرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرارا ، وأنشد الشخص الذي كان مرتبا معه (١) :

__________________

درج [مصاطب] بعضه فوق بعض ، كما يرى من وقوف الناس عليه طبقة فوق طبقة ، وهذا الدرج هو الذي كان يسمّى إلا لا ـ بكسر الهمزة ، وحكي فتحها.

(١) [البيتان من قصيدة للقاضي أبي يعلى حمزة بن عبد الرزاق بن أبي حصين يرثي بها مخلص الدولة مقلد بن نصر بن منقذ الكناني ، وهي من فائق الشعر ، وقد ذكرها ابن خلكان بتمامها في «الوفيات» (٥ : ٢٧٠ ـ ٢٧٣)].

٩٢

سرى نعشه فوق الرّقاب ، وطالما

سرى جوده فوق الرّكاب ونائله

يمرّ على الوادي فتثني رماله

عليه ، وبالنادي فتبكي أرامله

انتهى كلام ابن خلكان (١).

وانظر إلى ما يقوله عن هذا الوزير ومآثره ـ الرحالة ابن جبير الأندلسي (٢) ، وقد عاش في ذلك العهد ، وهو : ولهذه البلدة المباركة (أي مكة) حمّامان.

أحدهما : ينسب للفقيه الميانشيّ أحد الأشياخ المحلّقين (٣) بالحرم المكّرم.

والثاني : وهو الأكبر ، ينسب لجمال الدين ، وكان هذا الرجل كصفته جمال الدين ، له ـ رحمه‌الله ـ بمكة والمدينة ـ شرّفهما الله ـ من الآثار الكريمة ، والصنائع الحميدة ، والمصانع المبنية في ذات الله المشيدة ما لم يسبقه أحد إليه فيما سلف من الزمان ، لا أكابر الخلفاء فضلا عن الوزراء.

وكان رحمه‌الله وزير صاحب الموصل ، تمادى على هذه المقاصد السنية ، المشتملة على المنافع العامة للمسلمين ، في حرم الله تعالى وحرم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أكثر من خمس عشرة سنة ، لم يزل فيها باذلا أموالا لا تحصى ، في بناء رباع بمكة ، مسبلة في طرق الخير والبر ، مؤبّدة محبّسة ، واختطاط صهاريج للماء ، ووضع جباب في الطريق ، يستقرّ فيها ماء المطر ، إلى تجديد آثار من البناء في الحرمين الكريمين.

وكان من أشرف أفعاله أن جلب الماء إلى عرفات ، وقاطع عليه بني شعبة سكان تلك النواحي المجلوب منها الماء بوظيفة من المال كبيرة ،

__________________

(١) [«وفيات الأعيان» : (٥ : ١٤٤)].

(٢) [رحلة ابن جبير : (٩١ ـ ٩٣)].

(٣) [الذين لهم حلقات للعلم].

٩٣

على أن لا يقطعوا الماء عن الحاجّ ، فلما توفي الرّجل رحمة الله عليه عادوا إلى عاداتهم الذميمة من قطعه.

ومن مفاخره ومناقبه أيضا أنّه جعل مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت سورين عميقين ، أنفق فيهما أموالا لا تحصى كثرة.

ومن أعجب ما وفّقه الله تعالى إليه أنّه جدّد أبواب الحرم كلّها ، وجدّد باب الكعبة المقدسة ، وغشّاه فضة مذهبة ، وهو الذي فيها الآن ، حسبما تقدّم وصفه ، وجلّل العتبة المباركة بلوح ذهب إبريز ، وقد تقدّم ذكره أيضا ، فأخذ الباب القديم ، وأمر بأن يصنع له منه تابوت يدفن فيه ، فلما حانت وفاته ، أوصى بأن يوضع في ذلك التابوت المبارك ، ويحجّ به ميتا ، فسيق إلى عرفات ، ووقف به على بعد ، وكشف عن التابوت ، فلما أفاض النّاس ، أفيض به ، وقضيت له المناسك كلها ، وطيف به طواف الإفاضة ، وكان الرجل رحمه‌الله لم يحج في حياته (١).

ثم حمل إلى مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وله فيها من الآثار الكريمة ما قدّمنا ذكره ، وكاد أشرافها يحملونه على رؤوسهم ، وبنبت له روضة بإزاء روضة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفتح فيها موضع يلاحظ الروضة المقدسة ، وأبيح له ذلك ـ على شدّة الضّنانة بمثله ـ لسابق أفعاله الكريمة ، ودفن في تلك الروضة ، وأسعده الله بالجوار الكريم ، وخصّه بالمواراة في تربة التقديس والتعظيم ، والله لا يضيع أجر المحسنين. ا ه.

__________________

(١) هذه الأعمال من نبش القبر ، والسفر بالجثة أو العظام وأعمال المناسك والزيارة والندب كلّها محرّمة في الإسلام ، فهل أنكرها العلماء ولم يسمع لهم كلام؟ أم اشتركوا مع الحكام والعوام؟

والعبرة في هذا أنّ بذل المال في المنافع العامة ولا سيّما عمران الحرمين الشريفين ، وتسهيل الحج ، والزيارة فيهما ، له أكبر شأن في قلوب المسلمين ، ويكبرون من شأن صاحبه حيا وميتا ما يرفعونه على العلماء والخلفاء والسلاطين. مصححه

٩٤

ثم يعود إلى سيرته أيضا فيقول : ولهذا الرجل رحمه‌الله من الآثار السنية ، والمفاخر العلية ـ التي لم يسبقه إليها أكابر الأجواد ، وسراة الأمجاد ، فيما سلف من الزمان ـ ما يفوت الإحصاء ، ويستغرق الثناء ، ويستصحب طول الأيام على الألسنة الدعاء ، وحسبك أنّه اتسع اعتناؤه بإصلاح عامة طرق المسلمين بجهة الشرق ، من العراق ، إلى الشام ، إلى الحجاز ، حسبما نذكره ، واستنبط المياه وبنى الجباب ، واختطّ المنازل في المفازات ، وأمر بعمارتها مأوى لأبناء السبيل وكافّة المسافرين.

وابتنى بالمدن المتصلة من العراق إلى الشام فنادق عينّها لنزول الفقراء أبناء السبيل ، الذين يضعف أحدهم عن تأدية الأكرية (١) ، وأجرى على قومة تلك الفنادق والمنازل ما يقوم بمعيشتهم ، وعيّن لهم ذلك في وجوه تأبّدت لهم ، فبقيت تلك الرسوم الكريمة ثابتة على حالها إلى الآن ، فسارت بجميل ذكر هذا الرجل الرّفاق ، وملئت ثناء عليه الآفاق.

وكان مدة حياته بالموصل ـ على ما أخبرنا به غير واحد من ثقات الحجّاج التجار ، ممن شاهد ذلك ـ قد اتخذ دار كرامة واسعة الفناء ، فسيحة الأرجاء ، يدعو إليها كلّ يوم الجفلى (٢) من الغرباء ، فيعمهم شبعا وريا ، ويرد الصادر والوارد من أبناء السبيل في ظله عيشا هنيا ، لم يزل على ذلك مدة حياته رحمه‌الله ، فبقيت آثاره مخلّدة ، وأخباره بألسنة الذكر مجدّدة ، وقضى حميدا سعيدا ، والذكر الجميل للسعداء حياة باقية ، ومدّة من العمر ثانية. ا ه.

العبرة بتعمير السلف وتخريب الخلف

قلت : ولو لم تكن آثار هذا الرجل مخلدة ، وأخباره بألسنة الذكر

__________________

(١) [الأجرة].

(٢) [دعوة جفلى : وليمة عامة].

٩٥

والشكر مجددة ، لما جئنا نحن بعد سبعمئة وثمان وثمانين سنة نجدّدها وننوّه بها ، ونجعلها منارا للمهتدين ، وقدوة للمقتدين ، ولا شكّ أنّ التاريخ إنما يشرف ويكرم بتراجم رجال كهؤلاء ، جعلوا أنفسهم مصداق الحديث الشريف «الخلق كلّهم عيال الله فأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله» (١).

فتأمّل في هذا الرجل ، وما أجراه من الخيرات العامة ، وما برّد من حّر ، وما أغنى من فقر ، وما آوى من قفر ، وما آمن من خوف ، وما قوّى من ضعف.

وتبصّر فيما شاده من الفنادق في الطرقات ، وما بناه من المنازل في الفلوات ، وما حبس على هذه المؤسسات الخيرية من الأوقاف الدارّة ، إلى غير ذلك من المآثر التي يتحلّى بها تاريخ الإسلام ، وتطيب بقراءتها الأنفس ، وترتفع الأرؤس.

وقابل هذا الصبر على الخير ، وهذا الجلد في الإنسانية ، وهذا الثبات في الفعل الجميل بما تعرفه من غيره ، ممن هم ـ ويا للأسف ـ أكثر عددا في ولاة الأمور وأعزّ نفرا ، وذلك في صرفهم أموال المسلمين إلى جيوبهم ، وإنفاقهم ريع أوقافهم وغلة رباعهم على شهوات أنفسهم ، وفي إعراضهم عن المصالح العامة إلى المنافع الخاصة ، بل المنافع الخاصة الخسيسة ، والمطامع الشخصية الدنيئة ، ولهوهم بسفساف الأمور عن معاليها ، وخيانتهم الأمة في أماناتها التي حملوها بالأجرة ، وتراهم لا تهتزّ لهم أريحية إلى ميرة ، ولا تسمو لهم همّة إلى عمل شريف ، ولا إذا تداعى جدار جدّدوا بناءه ، ولا إذا توعّرت طريق أزالوا حرشتها (٢) ، ولا إذا جفّت عين أسالوا غيرها ، ولا إذا تشعّثت قناة بادروا

__________________

(١) رواه أبو يعلى والبزّار من حديث أنس ، والطبراني من حديث ابن مسعود.

[وهو حديث ضعيف جدا كما قال في «ضعيف الجامع» رقم (٢٩٤٥)].

(٢) [الحرشة : الوعورة].

٩٦

إلى رمّها. لا يهمهم حفظ الماضي على حاله ، فضلا عن أن يبدأوا مآثر ، ويفترعوا مفاخر ، بل دأبهم في ولاية أمور المسلمين كما جاء في المثل العامي «يأكلون الخضراء ، ويقطعون اليابسة» ، وكأنما أورثهم الله خراج المسلمين لينفقوه في السّرف والسّفه ، ولذات الكروش والفروج ، كأنما هو تراث آبائهم وأجدادهم ، بل لو كان تراث آبائهم وأجدادهم ما ساغ لهم ذلك فيه ، ولمنعهم القضاة العادلون عن هذا السّفه ، ولكن أين القضاة العادلون وأين العلماء العاملون ، الذين يقولون الحق في وجه الملوك ، ويخاطرون بأنفسهم ومصالحهم لأجل نصح الأمة!؟

فو الله ما أفسد أمر الإسلام إلا أمراؤه ـ إلا من رحم ربك ـ وما أفسد هؤلاء الأمراء إلا العلماء الذين أخذت عليهم المواثيق بأن لا يقارّوا على معصية ، ولا يواطئوا على معرّة (١) ، فكانوا يقارّون على المعاصي ، ويتزلّفون إلى الأمراء بالأباطيل ، ويفتون لهم بتأويل النصوص الشرعية بغير معناها الحقيقي ، ويسهّلون لهم الموبقات بأجمعها ، والمرديات بحذافيرها ، طمعا في الدنيا الفانية ، والمطاعم الوبيئة الذاهبة.

وهكذا تحوّل أمر هذه الأمة من العظمة إلى الصغار ، ومن التمكن في الأرض إلى البوار ، ومن المآثر والمباني إلى الدمار ، ومن أحاديث المعالي إلى أقاصيص العار والشنار (٢).

__________________

(١) [الأذى والسماءة والمكروه].

(٢) [الأمر المشهور بالشّنعة والقبح].

٩٧

الإسلام دين العمران بريء من تبعة الانحطاط

الذي عليه المسلمون الان

وتاريخ سلفهم المعمّرين حجة على خلفهم المخرّبين

ولما كان يستحيل أن تسوء الإدارة في الداخل بدون أن يستأسد العدو من الخارج ، لأن الأمم المتجاورة بعضها لبعض بالمرصاد ، يهتبل الغرّة ، ويقتحم العورة ، لم يلبث ظلم الأمراء بتساهل العلماء ، وما نشأ عن ذلك من اضطراب الدّهماء ـ أن أحدث الأثر المنتظر ، وأتى بالنتيجة البديهية من امتداد يد الغريب ، وطمعه في ممالك المسلمين ، واقتطاعه العالم الإسلامي قطرا بعد قطر ، وضربه على المسلمين الذّل والمسكنة ، بعد أن كانوا سادة الأرض وحلفاء النصر ، وما أحس قول شوقي في مخاطبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

أقطعتهم غرر البلاد فضيّعوا

وغدوا وهم في أرضهم غرباء

لم يخسر المسلمون بلدانهم فقط ، وما تسلّط عليها الأجنبيّ ، وأخذ كلّ ما فيها أخذ عزيز مقتدر فحسب ، بل خسروا في نظر الناس حقائقهم وفضائلهم ، ومعاليهم وأحسابهم وآدابهم ، وصار الناس يمارون في مآثرهم السوابق ، ومعاليهم السوامق ، ويجادلون في صحة نظرياتهم الاجتماعية ، ويرونهم من أبعد الخلق عن العمران ، وينسبون ذلك إلى الدين الإسلامي وإلى القرآن ، وإلى التوحيد ، وإلى عقيدة القضاء والقدر ، وإلى غير ذلك من الأسباب التي يعلمها من له ألفة بكتب الإفرنج ، أو من يجالس الناشئة الحاضرة في الشرق.

٩٨

وصدّق هذه الأقاويل كثير من المسلمين أنفسهم ، واتخذوا تلك السفسطة قضية مسلّمة ، ونبذوا الإسلام بتاتا ، وأوشك آخرون أن ينبذوه بحجة أنّه مصدر الانحطاط.

ونسوا أنّه ما من أمة على وجه الأرض إلا وقد سعدت وشقيت ، وعلت ونزلت ، وتداولتها أدوار مختلفة ، وكانت ديانتها واحدة في دوري علوها وهبوطها ، وأنّ الإسلام لهو أجدر من غيره بأن لا يكون مسؤولا عن انحطاط أحد ، وأنّه طالما نهض بأهله إلى الدرجات العلى ، عند ما كانوا يعملون بمقتضاه حقّ العمل ، وإنما كان المسؤول عن هذا الانحطاط ، المسلمون لا الإسلام ، والقّراء لا الكتاب ، والحملة لا المحمول ، والخزنة لا المخزون ، وهؤلاء هم الذين فقدوا الممالك ، وخسروا المجد القديم ، وجنوا هذه الجناية على الشريعة الإسلامية ، والمبادىء القرآنية ، والآداب العربية ، والثقافة الشرقية ، وجعلوا كلّ أولئك مسؤولا عن أمور لا مسؤول فيها غير الأشخاص في الحقيقة ، ولا مجرم غير الخلف الفاسد ، الذي أضاع الصلاة ، واتبع الشهوات ، ولقي الغيّ.

وإنك لتجد كلّ كلمة من القرآن شاهدة عليهم ، وكلّ نصّ من الشرع حاكما بسوء سيرتهم ، ولو أنفقت ما في الأرض جميعا لم تقدر أن تطبق أعمال هؤلاء الملوك والخلفاء والوزراء ، والقضاة والعلماء من المسلمين ـ الذين وصلوا بالأمة إلى ما وصلت إليه ـ على آية واحدة من القرآن الكريم مفهومة حقّ الفهم ، أو حديث مشهور ، لا يتطرّق إلى إسناده الشك ، بل خالفوا قواعد الإسلام من أولها إلى آخرها ، واتخذوا كتاب الله لمجّرد الترتيل والتجويد ، ولم يعملوا بعشر معشار ما فيه من الأوامر والنواهي ، ورجعوا يعاتبون الله على الخذلان الذي هم فيه ، والله قد أجابهم من قبل على اعتراضهم ، وقال لمثلهم : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) [محمد : ٧].

٩٩

مثل هذه الأحوال من رجال الإسلام الموكول إليهم أمر الأمة قد أوسع للطعن أشداقا ، وللنظر بالازدراء أحداقا ، وصار الأوربيون يقولون لنا : أنتم لا تعرفون إلا التخريب ، وليس لكم حظّ من العمران ، ولا من سداد الإدارة ، وما الإدارة عندكم إلا فوضى ، وبينكم وبين النظام ما بين المشرق والمغرب ، إلى غير هذا من المثالب.

وكذلك انهال أكثرهم بالطعن على الإسلام نفسه ، يقولون فيه : لو كان خيرا لكان أهله قد أثّلوا مدنية ، ووفّقوا إلى حضارة حقيقية ، والشجرة إنما تعرف من ثمارها.

ولم ينفرد بهذا القول الضابط الإفرنسي سيكار ، ولا اليسوعي لامنس ، ممن نشرنا كلامهم في «مجلة المنار» مردودا عليه بالبراهين الساطعة ، والحجج الدامغة ، التي أجبرت سيكار نفسه أن يعترف بأهميتها ، ولكن تشدّق بهذا الكلام كثيرون من علماء الإفرنج ومؤلفيهم ، وزعموا أنّ الإسلام والمدنية هما على طرفي نقيض ، حتى قالوا : إنّ المدنية التي يقال لها في التاريخ : المدنية الإسلامية ، لم يكن منها شيء من علم المسلمين ، وكابروا في هذه القضية المحسوس ، وأنكروا بدائه الأمور ، وكلّ هذا من أجل أنّهم أدركوا أعمال هؤلاء الظلمة الخاسرين من أولياء أمور الإسلام ، وساحوا في بلاد المسلمين ، فوجدوا الغربان تنعق في الأماكن التي كانت معمورة في القديم بملايين البشر ، ووجدوا الآثار الجميلة الباقية من الماضي أشبه بواحات في وسط صحارى من القذارة والشناعة والغبرة ، ووجدوا الطرقات لا يكاد السالك يسلكها من الدعارة (١) وفقد الأمنة ، ووجدوا شوارع المدن لا يقدر السائر فيها أن يسير إلا محوّلا نظره ، سادا أنفه من كثرة ما فيها من الأوضار

__________________

(١) [الفساد].

١٠٠