الرّحلة الحجازيّة

الأمير شكيب أرسلان

الرّحلة الحجازيّة

المؤلف:

الأمير شكيب أرسلان


المحقق: حسن السماحي سويدان
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار النوادر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٩

وإن لم يبق لنا عذر من قبل الدّين والعرف ، رجعنا نلتمس لأنفسنا المعاذير من عدم إجابة الطبيعة نفسها إلى ما نريد.

وأجيب ـ بشأن عرفة ـ بأنّ صحراءها رملية ، وأنها بحذاء جبال عالية ، وكلّ من رآها يحكم بأنّ في باطن أرضها مياها ، لا بل فيها آبار قديمة مسمولة (١) ، تدلّ على وجود المياه ، فما علينا إلا أن نجرّب عملية الآبار الإرتوازية في عدة مظانّ منها ، فإن رأينا الأرض لم تبضّ بالماء في كل ذلك السهل الأفيح ، تركنا المشروع من أساسه.

ولقد بلغني أنّ الملك ابن سعود ـ أيده الله ، ووفقه إلى كل خير ـ قد أذن لأناس من الهولنديين أن يجرّبوا حفر آبار إرتوازية بين جدة ومكة ، فشكرت لجلالته هذا الإذن ، ورجوت أن تثمر هذه التجربة بما ينشّط الملك على الأمر بالحفر في مواضع كثيرة من هذه البلاد ، من جملتها عرفة والمزدلفة ومنى ، والله قد جعل من الماء كلّ شيء حيّ في الأقاليم الباردة ، فكيف في الحجاز؟ والأرض الرملية التي مثل عرفة هي أسرع نباتا ، وأبدر إلى الخضرة ، فإذا جاءها الماء لم تكن إلا سنة واحدة حتى اهتزّت وربت ، وأنبتت من كلّ زوج بهيج.

وقد يؤتى من البلاد الحارة كالهند وجاوة بأشجار سريعة البسوق ، ورياحين باكرة السموق ، لا تمضي سنوات حتى ترى فروعها في السماء ، وأغصانها لا حقة بالأرض ، فتنقلب عرفات من هذه الغبرة الباسرة ، إلى الخضرة الناضرة ، التي لا تضرّ شيئا بمناسك الحجاج ، بل تزيدهم من الفرح والابتهاج.

__________________

شيء ، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة ، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء» رواه مسلم [١٠١٧] مصححه.

(١) [قليلة المياه].

٦١

عرفة في القديم

إنّ في صحراء عرفة آبارا معطّلة ، احتفرها آباؤنا ، وأهملناها نحن ، فدلّت على أنّ الأبناء قصّروا عن شأو الآباء ، وأنّ الأبناء إنما ارتفقوا بما عجز الحدثان عن طمسه من مآثر الآباء ، ولكنّهم لم يزيدوا عليها شيئا ، بل هم لم يصلحوا ما عطّله الدهر من حلاها ، والحال أنّ الآخر حقيق بأن يزيد على الأول ، وأنّ الذي يتسنّى للخلف بما استفادوا من عبر الدهر المتراكمة ، واستثمروه من التجارب المتكررة ، لم يكن يتسنّى للسلف ، فنحن ترانا بعكس القاعدة ، نعجز في عنفوان المدنية عن مباراة ما حققه أجدادنا في حداثتها ، وليت شعري لو لم تكن زبيدة امرأة هارون الرشيد جرّت مياه نعمان إلى عرفات ، من يقول : إنّ رجلا من مسلمي اليوم ، فضلا عن امرأة ، تسمو همته إلى القيام بمشروع كهذا؟

فعرفات التي هي ما هي اليوم من القحولة واليبوسة ، والتي كان الحاجّ يظمأ فيها إلى الموت ، لو لا قناة عين زبيدة المارة بها ، قد كانت في الماضي ذات رياض وغياض ، وسقايات وحياض ، انظر ما في «معجم البلدان» (٤ : ١٠٤) بشأن عرفات ، فهو يقول : قال ابن عباس : حدّ عرفة من الجبل المشرف على بطن عرنة إلى جبالها ، إلى قصر آل مالك ووادي عرفة.

وقال البشاري : عرفة قرية فيها مزارع وخضر ومباطخ ، وبها دور

٦٢

حسنة لأهل مكة ، ينزلونها يوم عرفة ، والموقف منها على صيحة عند جبل متلاطىء (أي متدان إلى الأرض) وبها سقايات وحياض وعلم قد بني يقف عنده الإمام الخ.

خبر عبد الله بن عامر بن كريز

وقد ذكروا في أخبار عبد الله بن كريز العبشمي ، الذي كان من شجعان الصحابة ، وأسود فتوحات الإسلام ، وهو الذي فتح فارس ، وخراسان ، وسجستان وكابل (بضم الباء) أنّه اتخذ النّباج (١) ، وغرس فيها ، فهي تدعى نباج ابن عامر ، واتخذ القريتين ، وغرس بها نخلا ، وأنبط عيونا ، تعرف بعيون ابن عامر ، بينها وبين النباج ليلة على طريق المدينة ، وحفر الحفير ، ثم حفر السّمينة ، واتخذ بقرب قباء قصرا ، وجعل فيه زنجا ليعملوا فيه ، فماتوا ، فتركه ، واتخذ بعرفات حياضا ونخلا ، وولي البصرة لعثمان بن عفان ، فاحتفر بها نهرين ، وحفر نهر الأبلّة ، وكان يقول : لو تركت لخرجت المرأة في حداجتها على دابتها ترد كلّ يوم ماء وسوقا ، حتى توافي مكة ، وكان علي بن أبي طالب يقول عنه : إنّه فتى قريش ، مات سنة (٥٩).

فالإسلام ولا سيّما العرب في أشد حاجة اليوم إلى رجال كعبد الله بن عامر بن كريز العبشمي الفاتح الماتح ، المعمّر المثمّر ، الذي كان مغرما بالعمارة حيث حلّ ، وأينما ارتحل ، وناهيك بمن يقول فيه أمير المؤمنين علي كرّم الله وجهه : إنه فتى قريش (٢).

__________________

(١) هو بالكسر ككتاب اسم قرية.

(٢) قال الحافظ ابن حجر في ترجمته من «الإصابة» : ولد على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتي به إليه وهو صغير ، فقال : هذا أشبهنا ، وجعل يتفل عليه ، ويعوّذه ، فجعل يتبلّع ريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّه لمسقيّ» وكان لا يعالج أرضا إلا ظهر

٦٣

ولنا الرجاء في معالي همة جلالة ابن سعود ، الذي حضّر طائفة كبيرة من الأعراب ، وبنى لهم الهجر (١) وحملهم على الحرث والزرع ، ولا يزال يشوّق النّاس إلى الحضارة ـ أن تنصرف تلك الهمة الشماء ، إلى استنباط المياه ، واحتفار الآبار الإرتوازية في الصحارى المحرقة ، حتى يعود بها الغامر عامرا ، واليابس ناضرا ، والموات حيّا ، والجماد غضّا طريّا.

ولنذكر شيئا عن البقاع التي عمّرها الصحابي الجليل عبد الله بن عامر بن كريز : فالنّباج كما نقله ياقوت عن أبي منصور [الأزهري] نباجان :

أحدهما : على طريق البصرة ، يقال له : نباج بني عامر ، وهو بحذاء فيد.

والآخر : نباج بني سعد بالقريتين.

وقال أبو عبيد الله السكوني : النباج من البصرة على عشر مراحل.

وقال : النباج استنبط ماءه عبد الله بن عامر بن كريز ، شقّ فيه عيونا ، وغرس نخلا ، وولده به ، وساكنه رهطه بنو كريز ، ومن انضمّ إليهم من العرب. انتهى (٢).

__________________

له الماء ، حكاه ابن عبد البر ا ه ثم قال : وهو أول من اتخذ الحياض بعرفة ، وأجرى إليها العين.

(١) جمع هجرة ، وأصل معنى المهاجرة ـ في العربية ـ النزوع من البادية إلى الحاضرة ، ثمّ عمّ استعماله في كلّ تحوّل من مكان سكنى إلى غيره ، ومنه هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رضي‌الله‌عنهم من مكة إلى المدينة ، ولفظ الهجرة اسم للمهاجرة ، واسم المكان ماجر بفتح الجيم ، بوزن اسم المفعول ، وفي نجد يسمونه هجرة.

(٢) معجم البلدان ٥ : ٢٥٥.

٦٤

وأما الحفير ، فإنه اسم لأكثر من عشرين بئرا ومنزلا في بلاد العرب ، هذا على تقدير أنّه بوزن فعيل بفتح الأول وكسر الثاني.

وأما إذا كان لفظه مصغّر حفر ، أي بضم الأول وفتح الثاني ، فهو اسم لمنازل عدة أيضا (١).

وقال الحفصي : إذا خرجت من البصرة تريد مكة فتأخذ بطن فلج ، فأول ماء ترد الحفير. قال بعضهم :

ولقد ذهبت مراغما

أرجو السّلامة بالحفير

فرجعت منه سالما

ومع السّلامة كل خير

وأما السّمينة ـ بضم الأول وفتح الثاني على التصغير ـ ففي «المعجم» أنّه أول منزل من النباج للقاصد إلى البصرة.

وأما قباء التي اتخذ بها عبد الله بن عامر بن كريز قصرا ، فلا نظنّها قباء التي في المدينة على مسافة ميلين منها على يسار القاصد إلى مكة ، والتي فيها المسجد الذي أسّس على التقوى من أول يوم ، ولكنّي أظنّها قباء التي يقول عنها ياقوت في «معجمه» : إنّها موضع بين مكة والبصرة ، والدليل على ذلك أنّ عبد الله بن عامر ولي البصرة لعثمان بن عفان ، فأكثر من البناء والحفر والغراس على الطريق المؤدية من البصرة إلى مكة ، فالنّباج والحفير (بضم ففتح على التصغير) والسمينة (بالتصغير أيضا) كلّها على هذا السمت ، فالأشبه أن تكون قباء التي بنى عبد الله فيها صرحا هي قباء التي موقعها بين مكة والبصرة.

__________________

(١) قال في «المصباح» : والحفر بفتحتين بمعنى المحفور ، مثل العدد والخبط والنفض بمعنى المعدود والمخبوط والمنفوض ، ومنه قيل للبئر التي حفرها أبو موسى بقرب البصرة : حفر ، وتضاف إليه فيقال : حفر أبي موسى ، وقال الأزهريّ : الحفر اسم المكان الذي حفر كخندق أو بئر ، والجمع أحفار ، مثل سبب وأسباب ، والحفيرة ما يحفر في الأرض ، فعيلة بمعنى مفعولة ، والجمع حفائر ، والحفرة مثلها ، والجمع حفر ، مثل غرفة وغرف ا ه.

٦٥

لقد أورد ياقوت بعد ذكره قباء التي بين مكة والبصرة أبياتا للسّري بن عبد الرحمن بن عتبة بن عويمر بن ساعدة الأنصاريّ ، مما يوهم أنّ هذه الأبيات قيلت في قباء هذه.

والأولى أن تكون قباء المقصودة في شعر السّري بن عبد الرحمن الأنصاري هي قباء المدينة المنورة ، لأنّ الأنصار كان لهم مساكن فيها ، ولأنّه يصف فيها ماء بئر عروة ، الشهيرة بالعذوبة ، والتي يقال : إنّه كان يحمل من مائها إلى هارون الرشيد وهو بالرقة ، وبئر عروة هي في ضواحي المدينة كما هو معلوم ، وعندها بستان لطيف ، وقد قسم الله لي النزهة ـ أو القيلة كما يقول أهل الحجاز ـ عند هذه البئر منذ خمس عشرة سنة قبل الحرب العامة بقليل (١) ، ووجدت من خفّة مائها وحلاوته ما تذكرته هذه المرة عند شربي من بئر جعرانة ، التي في ضواحي مكة.

أما الأبيات التي استشهد بها ياقوت فهي هذه :

ولها مربع ببرقة خاخ

ومصيف بالقصر ، قصر قباء

كفّنوني إن متّ في درع أروى

واغسلوني من بئر عروة مائي

سخنة في الشّتاء ، باردة الصّي

ف ، سراج في الليلة الظّلماء

وخاخ هي روضة خاخ بقرب حمراء الأسد من المدينة ، كانت من الأحماء التي حماها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخلفاء الراشدون ، يقال : إنّها في حدود العقيق بين الشوطي والناصفة ، وقد أكثر من ذكرها الشعراء ، وكانت فيها منازل الأئمة من آل البيت وغيرهم من أعيان المدينة.

وأما نهر الأبلّة ، الذي يقال : إنّ عبد الله بن عامر شقّه ، فهو نهر بالبصرة ، وهو إحدى جنان الدنيا الأربع بحسب قول بعضهم ، وهيّ : غوطة دمشق ، وصغد سمرقند ، وشعب بوّان ، ونهر الأبلّة.

وحكي أنّ بكر بن النطاح مدح أبا دلف العجلي بقصيدة ، فأثابه عليها

__________________

(١) [عام ١٩١٣].

٦٦

عشرة آلاف درهم ، فاشترى بها ضيعة بالأبلّة ، ثم جاء بعد قليل وأنشده :

بك ابتعت في نهر الأبلّة ضيعة

عليها قصير بالرّخام مشيد

إلى جنبها أخت لها يعرضونها

وعندك مال للهبات عتيد

فقال أبو دلف : وكم ثمن هذه الضيعة الأخرى؟ فقال : عشرة آلاف درهم ، فأمر أن يدفع ذلك إليه ، فلمّا قبضها ، قال له أبو دلف : اسمع مني يا بكر ، إنّ إلى جنب كلّ [ضيعة ضيعة] أخرى إلى الصين ، وإلى ما لا نهاية له ، فإياك أن تجيئني غدا وتقول : إلى جنب هذه الضيعة ضيعة أخرى ، فإنّ هذا شيء لا ينقضي.

خاف أبو دلف أن تصير ضياع بكر بن النطاح مثل مستعمرات الإنكليز ، كلّ واحدة تجرّ جارتها ، وهلم جرا.

* * *

٦٧

المناهل في مكة

وذكر الاعتداء على الأوقاف التي وقفها السلف

نعود إلى عرفات التي كنّا فيها ، وإلى عبد الله بن عامر بن كريز المغرم ـ كان ـ بالعمارة وإحياء الأرضين ، فنقول : قال ابن حوقل ـ صاحب كتاب «المسالك والممالك» الذي عاش في أوائل القرن الرابع للهجرة ، وهو من أشهر جغرافي العرب : وعرفة ما بين وادي عرنة إلى حائط بني عامر (الحائط : البستان) إذا ما أقبل على الصخرات التي يكون بها موقف الإمام ، وإلى طريق حصن. وبحائط بني عامر نخيل ، وكذلك في غربي عرفة بقرب المسجد الذي يجمع فيه الإمام بين صلاتي الظهر والعصر في يوم عرفة.

ونخل الحائط والعين تنسب إلى عبد الله بن عامر بن كريز ـ إلى أن يقول ـ وليس بمكة ماء جار إلا شيء قد أجري إليها من عين قد عمل فيها بعض الولاة ، واستتمّ في أيام المقتدر ، ويمتح (أي يمتدّ) إلى مسيل قد جعل إلى باب بني شيبة في قناة عملت هناك ، وكانت أكثر مياههم من السماء إلى مواجن بها كانت عامرة ، فخرّبت باستيلاء المتولين على أموال أوقافها ، واستئثارهم به ، وليس لهم آبار تشرب ، وأطيبها زمزم ، ولا يمكن الإدمان على شربه.

هذا ما يقوله ابن حوقل ، ولا أعلم هل يقصد بهذه العين قناة زبيدة ، أم عينا غيرها (١) ، وكنت أودّ لو سألنا عن ذلك القرشيّ العريق ،

__________________

(١) الراجح أنّه يعنيها ، إذ لم يكن ثمّ غيرها يطلق الكلام عليها دونها.

٦٨

والعبدريّ العتيق ، الشيخ عبد القادر الشيبي زعيم بني شيبة سدنة البيت الكريم ، ومقام إبراهيم ، والذين إليهم مفاتيح الكعبة بمحكم الذكر الحكيم ، فإنّ الشيخ الشيبيّ من أعلم النّاس بخطط مكة ، وأهل مكة أدرى بشعابها ، فكيف إذا كانوا من أعرق بيت فيها؟

وأما (المواجن) فالظاهر أنّه يريد بها ما نسميه اليوم بالسبل ، ولكننا لم نجد في متون اللغة المواجن بهذا المعنى ، وإنما (المواجن) جمع (ميجنة) وهي مدقة القصّار ، كما لا يخفى ، نعم يوجد في اللغة (ماء مجّان) أي كاف مستفيض ، ويوجد (مجّان) أي بدون ثمن ، وكلاهما يطابق هذا المعنى ، ولكن على هذا يكون ابن حوقل عدل عن (فعال) إلى (فاعل) ولو أنّ المؤلف ذكرها مرة واحدة في كتابه لكنا نقول : لعلّها من غلط النسخ أو الطبع ، ولكنّها وردت في كلامه مرارا بالجمع (مواجن) وبالمفرد (ماجن) وكلّ ذلك بالنون.

وأما الأزرقيّ أبو الوليد محمد صاحب كتاب «أخبار مكة» (١) فقد أوردها باللام ، فهو يقول عند ذكر العيون التي أجريت إلى الحرم : ومنها : حائط خرمان ، وهو من ثنية إذا خرّ إلى بيوت جعفر العلقمي ، وبيوت ابن أبي الرزام ، وماجله قائم إلى اليوم ، وكان فيه النخل والزرع حديثا من الدهر ، وكانت له عين ومشرع يرده الناس.

ويقول في موضع آخر (٢) : وكانت عيون معاوية تلك قد انقطعت وذهبت ، فأمر أمير المؤمنين الرشيد بعيون منها فصلت وأحييت ، وصرفت في عين واحدة يقال لها : الرشاد ، تسكب في الماجلين ، اللذين أحدهما لأمير المؤمنين الرشيد بالمعلاة ، ثم تسكب في البركة التي عند المسجد الحرام ا ه.

__________________

(١) [أخبار مكة : (١ : ٢٢٩)].

(٢) [أخبار مكة : (٢ : ٢٣١)].

٦٩

وفي «القاموس» : الماجل كلّ ماء في أصل جبل أو واد ، وقال الزّبيدي في «التاج» : إنّ بعض ثقات اللغة رواه بدون همز ، وإن الآخرين تحفظه بالهمز.

وجاء في «القاموس» ما هو أصرح ، وهو أن الماجل موضع بباب مكة ، يجتمع فيه الماء ، يتحلّب إليه.

واستدرك صاحب «التاج» في هذه المادة بقوله : وفي حديث أبي واقد ، كنّا نتماقل في ماجل أو صهريج ، قال ابن الأثير : هو الماء الكثير المجتمع ، وقيل : هو معرب.

و (التماقل) لتغاوص في الماء.

وبالاختصار الماجل هو في مكة ما يسمّونه اليوم بالبازان ، وهي (Bacin) الإنكليزية ، أو (Bassin) الإفرنسية. وهكذا الألفاظ مثل سائر الأشياء ، تحيا وتموت بآجال مقدّرة ، ففي دور من الأدوار يقولون : حوض ، وفي آخر : بازان الخ ، والمعنى واحد ، ولعلّهم في زمان ابن حوقل (نحو سنة ٣٣٠) كانوا حرّفوا هذه اللفظة من اللام إلى النون ، كما قالوا في جبريل جبرين (١) ، وأما في زمان الأزرقي (نحو المائتين للهجرة) فقد كانوا يلفظونها باللام.

* * *

__________________

(١) لا شكّ في تحريف الكلمة ، وأنّ أصلها باللام ، والأرجح أنّ المحرّف لها الناسخ ، ويحتمل أن يكون ابن حوقل نفسه ، فقد قال صاحب «كشف الظنون» : إنّه لم يضبط الأسماء.

٧٠

سوء تصرف المسلمين في أوقاف سلفهم

وأكلها بالباطل

وأما الذي لم نجده ـ مع الأسف ـ تحرّف ولا تغيّر ، فهو أكل أموال الأوقاف ، حتى التي على حياض الماء ، فقد رأيت كيف أنّ ابن حوقل يذكر خراب تلك المواجن أو المواجل ، باستيلاء المتولّين على أموال أوقافها واستئثارهم [بها] ، وهذه شنشنة قلّ أن يخلو منها بلد من بلدان الإسلام ، وبسببها تعطّلت هذه البلدان من الحلي التي تجدها في بلاد الإفرنج.

فآباؤنا لم يقصّروا في حبس العقارات الدارّة على كلّ ما يخطر في البال من طرق الإنسانية ، ووسائل المدنية ، ولكنّ الخلف ـ إلا من رحم ربك ـ خانوا أمانات السلف ، وخاسوا بعهدهم ، وتركونا خجالى أمام الأجانب في مساكننا ومدائننا.

وكلّ ما أورده الشرع من الإعظام والإكبار لكبيرة الأكل من الأموال المرصدة للخير العام ، بل ما قذف به من الصواعق على من يستبيح لنفسه الغلول منها ـ قد ذهب سدى.

فالوقف لا يمضي عليه قرن أو نصف قرن حتى تتعاوره (١) الأيدي

__________________

(١) [تتداوله].

٧١

بالأكل والبلع (١) ، وكثيرا ما يندرس ، ولا يبقى إلا ذكره في الكتب ، أو على ألسنة النّاس ، يأكلون في بطونهم نارا ، لا يخافون الله ولا يشعرون. ويا ليت شعري! ماذا تنفع صلاة من يفعل ذلك؟ وماذا يفيده صيامه ، وتلك النّار في بطنه.

ولهذا تحامى كثير من المتورّعين والمتحققين بالشرع الشريف النظارة على الأوقاف ، وأخذ مقابل عمله من ريعها ، قال الإمام خير الدين الرملي رحمه‌الله :

بورك لي في المرّ والمسحاة (٢)

فما هو الموجب للجّهات (٣)؟

وهي لمن قام عليها صدقه

وللّذي فرّط نار محرقه

* * *

__________________

(١) أحفظ عن أخي جدي السيد أحمد أبي الكمال ، وكان يعنى بالتاريخ : في كل مئة سنة يتحوّل وقف طرابلس ملكا ، وملكها وقفا مصححه.

(٢) [المر والمسحاة : من أدوات الفلاحة].

(٣) [الجهات : تولي الأوقاف].

٧٢

أهمية المياه في الحجاز

أعود إلى ذكر المياه والعيون بمكة ، وقد يقال لي : لماذا هذا الإسهاب كلّه في قضية الحياض والقنيّ والمواجل والبازانات ، وفيما عملته زبيدة ، وفيما عمله عبد الله بن عامر بن كريز وغيرهما من المعمرين والمنظمين الخ؟

والجواب : من لم يعرف الحجاز لم يعرف قيمة المياه في الأرض ، وإذا كانت آية (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء : ٣٠] صحيحة. في أسوج ونروج ، لا بل في القطب الشمالي ، حيث الثلوج عامة للأقطار ، طامّة للأنظار ، فكم تكون هذه الآية الكريمة صحيحة في قطر مثل الحجاز ، تصعد درجة الحرارة فيه بالصيف إلى (٤٧) و (٤٨) بميزان سنتيغراد ، وكثيرا ما يعزّ فيه المطر ، فتنضب من ذلك عيون كانت جارية ، وآبار كانت دافقة ، وتتوقف سوان كانت دائرة ، وتصوّح جنان كانت بهجة للناظرين ، وتموت أشجار كانت آية للسائلين ، وتصبح الرّياض التي كانت أشبه بالزمرّد قاحلة غبراء مربدّة ، كأنّها فيافي بني أسد.

إنّ شأن الحجاز في هذا المعنى هو غير شؤون سائر البلاد ، فالماء فيه يجوز أن يوزن بالمثقال ، والماء فيه هو الذهب ، والماء فيه هو الماس ، ونقط الغيث فيه هي اللآلىء.

وبالجملة فالماء فيه هو الحياة نفسها ، وهي أغلى من كل هذه ، ولو ألّف حجازيّ قاموس لغة ، وعند تعريف الحياة قال : إنها الماء ، أو عند

٧٣

تعريف الماء قال : إنّه الحياة ـ لكان جديرا.

وربّ قائل : إنّ هذا لا يخصّ الحجاز دون غيره ، بل الماء هو الحياة في كلّ أقسام الكرة.

والجواب : إنّه في سائر البلاد لا تبدو من الماء هذه النزارة والكزازة التي تبدو منه في الحجاز ، وأينما تحولت تجد عيونا جارية ، وأودية سائلة ، وأحيانا تجد أنهارا مثل البحار ، وبحيرات تسير فيها السفن الكبار.

هذا والأمطار في بعض البلاد تسحّ في أشهر الشتاء سحّا ، لا يخشى معه ظمأ ولا قحط ، وقد تشحّ آونة لكن سحا لا تنضب به العيون ، ولا تجف الآبار ، وإنما تنتقص نقصا قد تنقص معه الثمرات ، وتذبل الأشجار ، وتذوي الزروع ، ولكن لا يقتلها العطش هذا القتل الوحي (١) ، الذي يقتلها في الحجاز.

ومن بلاد الله ما الأمطار فيها لا تكاد تقلع لا صيفا ولا شتاء ، فتجدها دائما زمردة خضراء.

وأما الحجاز فالغيث فيه قلّما يعمّ ، وأكثر ما ينزل نفضا (جمع نفضة بضم أوله) وهي المطرة تصيب القطعة من الأرض وتخطىء القطعة ، فإذا أصابت النّفضة أرضا زهت تلك السنة ، وأثمرت ، وعاش أهلها. وإذا أخطأتها ، أو جاءت بها رذاذا ، يبس كل ما هناك من زرع ، وعطش كل ما هناك من ضرع ، ولم يبق أمام أهلها إلا التحوّل عنها إلى أرض أخرى ، يكون الغيث قد سقاها ، ولا يعودون إلى الأرض الأولى إلا إذا أصابتها الرحمة ، وقد تكون الأرضات متجاورة ، وإنك لتجد هذه زاهية ناضرة ، وهذه على مسافة ربع ساعة منها غامرة باسرة ، وذلك لأنّ الغيث أصاب هذه وأخطأ هذه.

__________________

(١) [السريع].

٧٤

وصادف أنّه لما كنّا بعرفة جاءنا عارض (١) صحبته رواعد (٢) بينما نحن مفيضون من عرفات إلى المشعر الحرام ، وكان المطر على الجبال أشدّ منه على الأماكن التي كنّا فيها. وبعد ذلك بثلاثة أشهر ، كنا نتنزّه في جبال الطائف ، فقصدنا قرية الهدا الموصوفة ، التي يفضّلها كثيرون على الطائف ، بحجة أنّها أعلى مكانا ، وأفسح منظرا ، وهي أعلى من الطائف بنحو مئتي متر ، تعلو الهدا عن سطح البحر نحوا من (١٨٠٠) متر ، فلما دخلنا القرية ، لم يبق إلا قليل حتى نقول : إنها خاوية على عروشها ، وجدنا بعض أهلها نازحين إلى حيث يقدرون أن يشربوا ، والبعض الآخر يردون المناهل البعيدة ، ووجدنا تلك البساتين قد علتها غبرة الموت ، فمنها ما صوّح شجره ، ومنها ما مات موتا لا حياة بعده.

وقصدنا إلى ساقية كانت مشهورة بغزارة المياه ، فنظرنا إلى قعرها ، فوجدنا الذي فيها قد يكفي لشربنا ، فجلسنا نقيل تحت شجرات هناك ، ونزعنا بالدلو ، حتى سقينا نحن وربعنا ، ولكنّ الأنفس أرمضها منظر الأشجار المحزن ، فلم نمكث إلا ساعتين ، حتى فارقنا الهدا مهرولين إلى واد قريب منها يقال له : وادي الكمّل (بضم ففتح مع التشديد) وقد علمنا من أهل الهدا أنّ العارض الذي جاء الحاج يوم عرفة لم يكن ممطرهم ، ولقد أمطر جيرانهم على درجات متفاوتة ، فمنهم من رزقوا ثمرات وغلّات وافرة ، ومنهم من أتتهم غلة متوسطة ، ولكن الهدا كانت محرومة مغمورة تماما هذا الصيف كلّه ، وبقيت في هذه اللأواء ليس فيها نبت أخضر إلا الصبير ، حتى دخل فصل الخريف (وفي الحجاز يقولون له الشتاء ، ويقولون للشتاء الذي عندنا الربيع) فجاءنا الخبر

__________________

(١) العارض : السحاب الذي يعرض في الأفق قبل أن يطبق السماء ، وحدّه بعضهم بما يعرض في قطر من أقطار السماء من العشي ، ثم يصبح وقد حبا واستوى.

(٢) والرواعد السحاب التي فيها رعد ، قال في «الأساس» : سحابة راعدة ، وسحاب رواعد.

٧٥

ونحن في الطائف أن الهدا سقيت وأغيثت ورجعت إليها روحها.

وليس في الحجاز أوحى (١) من أخبار المطر ، فهي لشدّة غزارة القطر تسري من واد إلى واد ، ومن نجع إلى نجع بسرعة اللاسلكي ، وتراهم من شدة ترقبهم للأمطار يعرفون من مواقعها بمجرّد النظر ما لا نعرفه نحن في بلادنا ، فإذا تلبّدت السحب في أفق من الآفاق ، أو قصف رعد ، أو أومض برق ، قالوا لك : هذا في أرض عسير ، أو في بلاد ثمالة ، أو في الشفا ، أو في بلاد هذيل ، وهلم جرا ، وقد تكون المسافة ساعات بل أياما وتجدهم يخمّنون ويصيبون.

بالجملة سكان البوادي أقرب إلى الطبيعة الفجة ، وآلف لها ، وأعرف بالسحب ومساقط الغيث ، وبالأرض وأنواعها ، والتراب وخواصه وروائحه ، والنبات وحياته ، والنجوم ومطالعها ومغاربها ، وما أشبه ذلك ـ من سكان الحواضر (٢).

* * *

__________________

(١) [أسرع].

(٢) [ومن هنا تعلم بطلان قصة نبوة المتنبي ، لأنه لا يمكن لإنسان كائنا من كان أن يدلّس على الأعراب في شأن من شؤون المطر ، والقصة كلها مختلقة كما ذكر ذلك العلامة محمود محمد شاكر رحمه‌الله تعالى في كتابه الفذ «المتنبي» (١٩٩ ـ ٢١٥).

والحقيقة أن المتنبي لقب بهذا اللقب وهو صغير ، بسبب ترفعه وتكبره على أقرانه ، فهو مأخوذ من النبوة ، وهي المرتفع من الأرض ، لا من النبوّة ، ولمّا لازمه هذا اللقب ركّب خصومه عليه قصّة ادعاء النبوة ، وجعلوها علّة للقبه ، فاللقب سابق في التاريخ لدعوى النبوة المزعومة].

٧٦

لذة الماء والخضرة في البلاد الحارة

غيرها في البلاد الباردة

ترى مما تقدّم أنّ مطرة واحدة في الحجاز تحيي وتميت ، وليس الأمر كذلك في سائر البلاد ، التي تهطل فيها الأمطار فتعمّ ، وإن لم يصب هذه القطعة عارض ممطر هذه المّرة أصابها مرّة أخرى.

نعم إن الودق في الحجاز ـ وفي جميع البلاد الحارة ـ أشدّ منه في البلاد الضاربة إلى الشمال ، وإنّ مزنة واحدة في الآحايين ، لا تستمرّ أكثر من نصف ساعة ، فتسيل لها أودية بقدرها ، تجرف وتجحف ، وقد تذهب بالحيطان (١) والبيوت ، وقد تغتال القوافل والسوابل إذا جاءتهم على غرّة. ولكنّ طغيان المياه هذا لا يستمرّ إلا ريثما ترفع النقطة ، فعند ذلك تنظر في الأرض ، فإذا هي قد بلعت ماءها ، وعاد ما كنت تراه نهرا هدّارا قد نضب ماؤه ، وصحت سماؤه ، وكأنّه لم يمرّ من هناك ماء ، ولم تمطر سماء.

وفي مدينة الطائف واد شهير مذكور في الكتب يقال له : وجّ ، إذا سال هذا الوادي شبعت الطائف وكلّ ما جاورها خيرات وأقواتا ، ومع هذا لا يسيل في السنة كلّها إلا مرّة أو مرتين ، وكلّ مرة ساعة أو ساعتين.

فمن أجل هذا كان الماء في الحجاز أثمن وأغلا منه في سائر

__________________

(١) [البساتين].

٧٧

الأقطار ، وكان ألذّ وأبهج ، وأعلق بالقلب ، وأشرح للصدر ، وكأنّ الماء في الحجاز يساوي خمسين مرة الماء في الشام ، ومئة مرة في سويسرة مثلا ، وكأنّ الغصن الأخضر في الحجاز أحلى منه مئة مرة في أوربة ، وكم من عين لو كنت في سورية ومررت على مثلها لم أقف دقيقة ، ولا نظرت إليها إلا كما أنظر إلى التراب ، فأما في الحجاز فقد كنت أقيل إلى جانبها ، وأحدّق في قطرات مائها ، ولا أبرح أتحدّث إلى الإخوان عن قسطلة جريها ، وصفاء لونها ، وكم من مرّة جلسنا في الحجاز إلى ثمال (١) وأوشال (٢) ، لا تمرّ في غير الحجاز على بال ، فكنّا نستعذبها ، ونتلذّذ بالمقيل عندها ، كما لو كنّا على نبع الباروك ، أو نبع الصفا في جبل لبنان.

لا جرم أنّ الأمور في الغالب نسبية ، تغلو وترخص ، وتحسن وتسمج ، بحسب الزمان والمكان ، وقد يلذّ لك في الصيف ما تجده ثقيلا في الشتاء ، وترتاح في الأقاليم الحارة إلى ما تفرّ منه في الأقاليم الباردة ، والثلج فاكهة الجروم (٣) ، على حين أنّ النار فاكهة الصرود (٤) ، وهلم جرا. ولذلك أراني أتلذّذ بالماء والظل والخضرة في الحجاز وفي الشرق كلّه أكثر مما أتلّذذ بها في أوربة ، لا سيّما في القسم الشماليّ منها.

ففي أوربة مياه تتدفّق ، وأنهار تهدر ، وشلّالات تتحدّر ، ولكن كلّ ذلك في جوّ لا ترتفع حرارته عن (١٥) أو (٢٠) بميزان سنتيغراد إلا أياما قلائل من السنة ، وكلّ ذلك في جو مطير متلبّد بالسحب أكثر السنة ، فأيّ لذة لماء الجداول والأنهار الجارية على الأرض ، حينما تكون المياه نازلة من السماء؟ وأية لذة يجدها الإنسان في الظّلّ الظّليل

__________________

(١) [جمع الثمالة : وهي البقية في أسفل الإناء من شراب ونحوه].

(٢) [جمع وشل : وهو الماء القليل تحلّب من جبل أو صخرة ولا يتصل قطره].

(٣) [جمع جرم ، والجرم الحارّ ، معرّب].

(٤) [البرد].

٧٨

والحرجات الملتفة إذا كانت الشّمس في الغالب محجوبة بالغمام؟ والماء البارد إنما يولع به الخلق في بوارح القيظ ، يتبرّدون به بالعلّ والنهل ، والغسل والمجاورة ، فأما إذا كان الهواء باردا من أصله ، فما لك وللتبرد والابتراد؟!

إنّ الإنسان بني مزاجه على التعديل ، فتجده لا يعرف الراحة والهناء إلا بتسليط العناصر بعضها على بعض ، حتى تصل إلى درجة الاعتدال ، فإذا أفرط به الحرّ لجأ إلى الماء والثلج وأهوية الجبال ، وإذا أفرط به البرد لجأ إلى النار والشمس والصوف وأهوية السواحل.

فما دام الإنسان لا يشعر بالحرارة ، فالبهجة التي عنده للماء الزّلال والظل ، والمرج الأخضر ، والشجر الملتفّ ـ لا تكاد تذكر بالقياس إلى البهجة التي عنده بها والسّموم تهبّ ، والجوف يتلهب.

فالجنات والعيون ، والأنهار ، والأشجار ، إنما جعلها الله نعيما في البلاد الحارة والمعتدلة ، كجزيرة العرب ، ومصر ، والمغرب ، والشام ، والعراق ، وفارس ، وما في ضربها ، ففي هذه الأقاليم تظهر قيمتها ، ويغالي المرء في ثمنها ، ويلحق بهذا الضرب من البلدان إيطالية وإسبانية والجزائر التي في البحر المتوسط ، وجميع جنوبيّ أوربة.

ولقد وجدت مرة في رومية (١) في فصل القيظ ، ففررت منها إلى بلدة تيفولي ، على مسافة ساعتين من رومية في سفح الجبل ، ونعمت من النهر العذب الفياض المنحدر من هناك ، وبشلالات ذلك النهر ، وبحيراته وحياضه ، بما لا أنساه طول حياتي ، وإنما كانت درجة الحرارة البالغة (٣٤) هي التي توحي إليّ بتلك المحاسن التي رأيتها على نهر تيفولي ، وتنطقني بهذه الفقر الشاعرة في وصفها.

* * *

__________________

(١) [رومة عاصمة إيطالية].

٧٩

أثر السيدة زبيدة

من حيث قد تقرّر أنّ الماء هو في البلاد الحارة والمعتدلة أحيا وأعذب ، وأبرد على الأكباد وأطيب أضعافا مضاعفة منه في البلاد الباردة ، فقد كان أعظم ما يرزق به الإنسان من الصواب والثواب ، وما ترتفع به درجته في المبدأ والمآب ، هو تفجير الينابيع ، وإسالة الجداول ، وتقريب المشارع في بلاد نظير الحجاز ، تقصد إليها الحجاج من الحار والبارد ، والرطب واليابس بالألوف ، وعشرات الألوف ، ومئات الألوف ، زائدا إلى من فيها من السكان.

فالمشروع الذي شرعته زبيدة بنت جعفر في هذا المشروع العظيم الذي فتحته لجيران البيت الحرام ، ولقصّاده من جميع بلاد الإسلام ، هو كما تقدم عمل قصّر عن مثله الأولون والآخرون.

وانظر إلى ما قاله أبو الوليد محمد الأزرقي (١) الغساني في هذا الشأن ، وقد عاش في عصرها : ثم كان الناس بعد في شدة من الماء ، وكان أهل مكة والحاج يلقون من ذلك المشقة ، حتى إنّ الرواية لتبلغ في الموسم عشرة دراهم وأكثر وأقل ، فبلغ ذلك أمّ جعفر بنت أبي الفضل جعفر بن أمير المؤمنين المنصور ، فأمرت في سنة أربع وتسعين ومئة بعمل بركتها التي بمكة ، فأجرت لها عينا من الحرم (لا يقصد بالحرم هنا المسجد الحرام ، وإنما يقال حرم لمنطقة مخصوصة معينة حول مكة كما لا يخفى) (٢) فجرت بماء قليل لم يكن

__________________

(١) [«أخبار مكة» : (٢ : ٢٣٠)].

(٢) حرم مكة هو ما حرّم الله فيه القتال والصيد وقطع النبات وعضد الشجر ، وله

٨٠