الرّحلة الحجازيّة

الأمير شكيب أرسلان

الرّحلة الحجازيّة

المؤلف:

الأمير شكيب أرسلان


المحقق: حسن السماحي سويدان
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار النوادر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٩

فأما خصب أراضي اليمن الذي روى عنه هذه الروايات مؤرخو اليونان والرومان متفقين في ذلك مع مؤرخي العرب ؛ فقد اعترف به سياح الإفرنج الذين جوّلوا في بلاد اليمن ، إلا أن هؤلاء أشاروا إلى تناقص الأشجار والغابات بالقياس إلى الماضي.

وقد ذكر الهمداني اعتدال الإقليم في جهات صنعاء بخاصة ، وهذا يطابق ما قاله كلازر وغيره من السياح الأوروبيين ، وهو أنّ أعالي اليمن معتدلة الهواء ، وأنّ هذا الاعتدال هو السبب في كثرة محصولاتها.

ولقد شاهدت بنفسي في سياحتي إلى اليمن السنة الماضية (١) اعتدال بقعة صنعاء منذ صعدنا عقبة آنس ، حتى انتهينا إلى قرية يقال لها القبّة ، ثم إلى قرية أخرى يقال لها المعبر ، ومن هناك سرنا عدة ساعات بالسيارة الكهربائية في بسيط من الأرض يعلو ألفين إلى ألفين وخمسمئة متر عن سطح البحر ، إلى أن بلغنا صنعاء ، فمررنا ببقعة من أحسن بقاع الأرض ، وأكثرها قابلية زراعية ، وأجودها هواء وماء ، ولما وصلنا إلى صنعاء سألنا : هل يوجد كثير من نمط هذه البقعة في اليمن؟ فأجابونا بأننا لم نشاهد إلا جزءا يسيرا من البسائط المريعة المحيطة بصنعاء من الجهات الأربع. وقد كاشفت بما في نفسي من هذا الأمر الأمير الخطير السيد عبد الله بن الوزير أمير الحديّدة ـ وهو من العقل والفضل بالمقام الذي يندر مثله ـ فقال لي : إنّ اليمن في الحقيقة هي عبارة عن جبالها.

ولم تكن الزراعة وحدها سبب ثروة اليمن المدهشة في ذلك العصر ، كما تقدم الكلام عليه ؛ فقد أفاض المؤرخون الأولون من اليونان والرومان مثل ديودور وسترابون ، وأنختريد ، في ذكر تجارة

__________________

(١) [وذلك عام (١٩٣٤) حيث اشترك الأمير في وفد الصلح الذي أرسله المؤتمر الإسلامي للتوفيق بين الملك عبد العزيز آل سعود والإمام يحيى حميد الدين].

٤٠١

سبأ ، واستخراجها للذهب والحجارة الكريمة التي كانت تبيعها من البطالسة بمصر (١) ، وإلى الفينيقيين بالشام ، هذا مع تجارة العنبر وعود الطيب ، وأيّدت «التوراة» هذه الروايات كلها.

جاء في «الأنسيكلوبيدية الإسلامية» أنه لا مبالغة فيما نقلوه من أنّ أبواب منازل سبأ وجدرانها وسقوفها وأعمدتها كان منها الكثير مموّها بالذهب والفضة ، مرصعا بالحجارة الكريمة ، وأن آنيتهم كانت مصوغة من أنفس المعادن. وهذا ما ذكره الهمداني والمسعودي وغيرهما من مؤرخي العرب ، وما أيدته الكتابات الصخرية نفسها فيما ترويه عن التقادم (٢) العظيمة من الذهب والفضة ونفائس الأحجار. وقد وجد كثير من المسكوكات السبئية ومن الحلي تؤيد أيضا روايات الرواة من كل قبيل.

وقد عني بعض علماء الإفرنج بالتنقيب عن هذه الحياة الاقتصادية التي كانت في اليمن السعيدة من جميع نواحيها ، وكان السابق في هذه الرحلة رودوكناكيس (Rhodocanakis) الذي ألف كتابا استخرج فيه من الكتابات الحجريّة مما أمكنه أن يستخرجه من المسائل الاقتصادية التي كان يعوّل عليها أهل اليمن ، والمسائل الحقوقية المتعلقة بها.

وثبت من هذه التدقيقات أنّه يوجد عند العرب الأولين قانون صارم يقتضي استثمار الأرض بدون إهمال شيء منها ، وأنّه كان يوجد إدارة خاصة لأجل تقسيم المياه وتوزيع الأعمال الزراعية ، وهذه القوانين المتعلقة باستثمار الأرضين ، واستيفاء أسباب القيام عليها ؛ كانت متشابهة في جميع بلاد العرب الجنوبية. وهذا البحث قد حمل كرومان (Grohmann) على تأليف كتاب خاص بهذا الموضوع وصف فيه طبقات الأرض والمناخ ، وكيفية توزيع المياه ، واستخراج المعادن ، وتربية

__________________

(١) [انظر عن معادن الذهب والفضة (٣٠٥) من هذا الكتاب].

(٢) [الهدايا].

٤٠٢

المواشي والصيد ، وغير ذلك مما اعتمد فيه على الكتابات الحجرية من جهة ، وعلى شهادات المؤرخين والسياح من جهة أخرى. وقد استقى في هذا التأليف من بعض منابع (١) مجهولة حتى الآن نظير الآثار التي جمعها كلازر ، ولم يتيسر له نشرها كلها. وبالجملة فرأي محققي الإفرنج عن بلاد العرب يتلخّص فيما يلي :

الأول : أن المدينة العربية ـ لا سيما في جنوبيّ جزيرة العرب ـ هي من أقدم مدنيات العالم وأرقاها ، وهم على خلاف فيما إذا كان الساميّون هم الذين نزحوا من جزيرة العرب إلى بلاد بابل ؛ أو كانوا نزحوا من بابل إلى الجزيرة ، وكل فئة من المؤرخين تفترض افتراضات لا يمكن معها الجزم بشيء.

الثاني : أن أهم أمة في الجزيرة العربية في الثروة والعظمة والآثر في الأرض كانت أمة سبأ ، وكان يعاصرها ويضارعها المعينيون وقحطان وحضرموت ، وأن هاتين الأمتين سبأ ومعين بقيتا سائدتين إلى الزمن الذي ظهرت فيه الدولة الحميرية ، وأنّ هذه الدولة تغلّبت على اليمن ، وبقيت فيه إلى أن جاء الأحبوش فاستولى على اليمن ، وأزال ملك الحميريين ، وبقيت اليمن خاضعة للحبشة حتى جاء الفرس ، فأزالوهم عنها ، وبقيت اليمن تابعة للأكاسرة حتى ظهر الإسلام.

الثالث : أن تاريخ اليمن وبلاد العرب أجمع لم يكن له منابع (٢) سوى العهد القديم ، وكتابات هيرودوت ، وسترابون ، وديودور ، وأنختريد. وغيرهم من يونانيين ورومانيين ، مع بعض تواريخ للعرب أنفسهم بعد الإسلام ، مما اختلط فيه التاريخ بالخرافة. فيجب على الناظر في التواريخ العربية أن يجّرد الأقاصيص من الأخبار التاريخية ، وأنّ أحسن ما كتب عن جزيرة العرب بأقلام العرب هو كتب الهمداني

__________________

(١) [مصادر].

(١) [مصادر].

٤٠٣

أي «الأكليل» و «صفة جزيرة العرب».

الرابع : أنّ معرفة تاريخ العرب الأولين لم يبدأ في الحقيقة إلا منذ بدأ السياح الأوربيين بالاطلاع على الكتابات المنقوشة على الأحجار ، وأخذوا ينظرون فيها إلى أن تمكّنوا من حلها وفهم معانيها ، فمنها ما وافق كتابات المؤرخين ، ومنها ما اختلف عنها ، إلا أنّ الكتابات قد جاءت بالجملة مؤيدة للتاريخ ، ولم يبق شك في صحة المجموع ، وإن يكن واقع اختلاف في التفاصيل.

والقضية الأصلية وهي ارتقاء مدنية العرب إلى تلك الدرجة العليا في تلك الأعصر المتوغلة في القدم ؛ قد ثبتت بالكتابات الحجرية التي أيدت أقوال المؤرخين ، كما أنّ أقوال المؤرخين قد أيدتها.

وهذه مسألة يجب أن تكون عبرة ودرسا للذين يحملون جميع ما يتناقله الناس من الأخبار القديمة محمل الأساطير والأقاصيص الوهمية ، وهو ظنّ باطل ، ورأي فائل. فإنّه مهما كان التواتر قد داخلته أقوال عامية ، وآراء ساذجة ؛ فإنّه يرجع إلى نصاب صدق في الأصل لا شبهة فيه في مجموعه ، وهذه قضية تاريخ جزيرة العرب شاهدة على ذلك ، بعد أن جاءت فيها المكتوبات الحجرية معززة للقراطيس والأرواق المخلفة عن اليونان والرومان والعرب ، تعزيزا لم يكن لينتظره أحد.

الخامس : أنه وجدت أقوام دخلت إلى جزيرة العرب ، كما وجدت أقوام خرجت منها. وأنّه بسبب اسيتلاء الحبشة على اليمن ، ثم استيلاء الفرس ، حصل اختلاط في الدماء في جنوبيّ الجزيرة ، كما حصل اختلاط في شماليها بسبب تقدم الآراميين إلى مدائن صالح وتيماء ، وأنّ النبطيين كانوا أيضا تقدّموا من بلاد الشراة إلى شمالي الحجاز.

السادس : أنه يوجد عرب بائدة ، وعرب عاربة ، وعرب مستعربة كما جاء في تواريخ الإسلام. وإنّ من العرب البائدة عادا ، وثمود ، وطسما ،

٤٠٤

وجديسا ، وكلّهم نزحوا من اليمن إلى الشمال. وبعضهم يذكر منهم العمالقة ، وقد ورد ذكرهم في «التوراة» وقد وجدت كتابات آرامية في شماليّ الحجاز ، كمدائن صالح منتشرة على الصخور ، ويذهب بعضهم إلى أنّ هذه الكتابات من بقايا النبط الذين اختلطوا بالعرب ، ولذلك يجد فيها الإنسان ألفاظا عربية مع الألفاظ النبطية (١).

وقد روى هورات (Huart) في «تاريخ العرب» أن الكتابات التي وجدت في تيماء هي أقدم جدّا من الكتابات التي وجدت في مدائن صالح ، والمظنون أنها ترجع إلى ستمئة سنة قبل المسيح ، وهي خطوط بارزة كما هي خطوط العرب المحدثين بعكس سائر الخطوط السامية التي حروفها مجوفة (٢).

السابع : على ظن محققي الإفرنج أنّ الكنعانيين في الأمم السامية ، نزحوا من الجنوب ، واستوطنوا فلسطين ، وأنّ الفينيقيين جاءوا من شواطىء خليج فارس الغربية ، وأقاموا على شواطىء الشام ، واستدلّوا على أنّ أصل الفينيقيين هو من شواطىء خليج فارس بوجود النواويس ـ أي القبور المنحوتة في الصخور ـ في وطن الفينيقيين الأصلي كما في سواحل سورية ، وكذلك الرعاة في مصر كانوا عربا ، فتحوا قسما من وادي النيل ، وخرج منهم ملوك. وقد ثبت أنّ الآشوريين في حروبهم مع المصريين قد تكلّموا عن العرب ، ووجدت لذلك آثار في كتاباتهم الخزفية (٣).

وقد جاء في هذه الآثار وجود دولتين في شماليّ جزيرة العرب ، يقال لإحداهما : موصري (Mousri) وللأخرى : ملوحة (Melouhha) ولم

__________________

(١) [انظر «تاريخ الأنباط» للدكتور إحسان عباس طبع دار الشروق في عمّان].

(٢) [انظر صور مدائن صالح في آخر الكتاب].

(٣) [انظر كتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب» للدكتور كمال صليبي].

٤٠٥

يعلم شيء عن ملوحة هذه ، ولكن ظهر أنّ دولة موصري هي المستعمرة المعينية التي كانت في شماليّ الحجاز ، فإنّ تغلاط بيلسّر الثالث ملك الآشوريين الذي عاش بين سنة (٧٤٥) و (٧٢٧) قبل المسيح كان قد غزا العرب في شماليّ الحجاز.

فهذه لمحة دالة مما يتعلق بالعرب وتاريخ القديم ؛ يقدر أن ينشد منها القارىء مظانّ البحث.

ولكنّ الذي لم أجده حتى الآن في كتب الإفرنج هو أصل اشتقاق لفظة عرب ومن أين جاءت؟

فعلماء العرب قالوا : إنّ هذه اللفظة جاءت من قولهم : أعرب عن الشيء ، أي أبان عنه ، سمّي العرب بذلك لفصاحتهم ، وحسن إعرابهم عن مقاصدهم. وقيل : إنّهم انتسبوا إلى ناحية بقرب المدينة المنورة اسمها عربة ، وذلك أنّ أولاد إسماعيل نشأوا بهذه الناحية ، فسمّوا عربا. ثم غلب الاسم على الجميع.

وردّ على هذا القول بأن الغالب هو أنّ أسماء الأرضين والبلاد تنقل من أسماء ساكنيها ، أو من صفة ثابتة لها ، ولم يعهد أنّ الناس أخذت أسماءها من الأرض التي نزلت فيها إلا على وجه النسبة. والأكثرون على أن اشتقاق لفظة العرب هو من مادة الإعراب أي الإبانة عن الضمير ، وذلك لما اتصفت به هذه الأمة من حسن البيان ، وبلاغة التعبير ، ومن كون لغتهم هي أشرف للغات ، والله أعلم.

* * *

٤٠٦

الأنساب

[تعريف علم النسب]

إن علم الأنساب هو العلم الذي يبحث في تناسل القبائل والبطون من الشعوب ، وتسلسل الأبناء من الآباء والجدود ، وتفرّع الغصون من الأصول في الشجرة البشرية ، بحيث يعرف الخلف عن أيّ سلف انحدر ، والفرع عن أيّ أصل صدر.

[فوائده] :

وفي هذا العلم من الفوائد النظرية والعملية ، بل من الضرورات الشرعية والاجتماعية والأدبية والمادية ـ ما لا يحصى.

فليس علم الأنساب بطراز (١) مجالس يتعلّمه الناس لمجرد الاستطراف ، أو للدلالة على سعة العلم ، وإنّما هو علم نظري علمي معا ، عملي لأنه ضروري لأجل إثبات المواريث ، التي يتوقّف توفيرها لأهلها على ثبوت درجة قرابة الوارث من المورّث ، وهذا لا يكون إلا بمعرفة النسب.

وكذلك هو ضروري لأجل الدول الراقية المهذبة ، التي تريد أن تعرف أصول الشعوب التي اشتملت عليها ممالكها ، والخصائص التي عرف بها كل من هذه الشعوب ، بما يكون أعون لها على تهذيبها وحسن

__________________

(١) [زينة].

٤٠٧

إدارتها ، فكلما أنّ العالم المتمدن يعنى بتدريس جغرافية البلدان من جهة أسماء البلاد ، ومواقعها ، وحاصلاتها ، وعدد سكانها ، ومقدار جبايتها ، فإنّه يجب أن يعنى بمعرفة أنساب أولئك السكان ، وطبائعهم ، وعاداتهم ، وميزة كل جماعة منهم ، وغير ذلك من المعارف التي لا يجوز أن تخلو منها هيئة بشرية راقية.

ولما كان من الحقائق العلمية الثابتة المقررة عند الأطباء والحكماء ، كما هي مقررة عند الأدباء والشعراء ، أنّ الأخلاق والميول والنزعات المختلفة تتوارث كما تتوارث الأمراض والأعراض الصحية ، والدماء الجارية في العروق ، فقد كان لا بدّ من معرفة الأنساب ، حتى يسعى كلّ فريق في إصلاح نوعه بطريق الترقية والتهذيب ، ضمن دائرة الدموية ، بحسب استعدادها الفطري ، لأنّ الاجتهاد في تنمية القرائح الطبيعية والمواهب اللدنية لا يمكن أن يثمر ثمره في قبيل إذا جاء معاكسا لاستعداده الفطري ، وهذه الاستعدادات أحسن دليل عليها هو علم الأنساب.

[عناية الأمم بالأنساب]

وليس هذا العلم منحصرا في العرب ـ كما يتوهم بعضهم ، ويظنّون أنّ سائر الأمم قليلة الاحتفال به.

فإنّ الأمة الصينية الكبرى هي أشد الأمم قياما على حفظ الأنساب ، حتى إنّهم ليكتبون أسماء الآباء والجدود في هياكلهم ، فيعرف الإنسان أصوله إلى ألف سنة فأكثر ، وقد تناهوا في الاعتناء بهذا الأمر ، إلى أن قدّسوا آباءهم وجدودهم ، وعبدوهم كما يعبدون آلهتهم.

وكذلك الإفرنج كانت لهم عناية تامة بالأنساب في القرون الوسطى والأخيرة ، وكانت في دولهم دوائر خاصة لأجل تقييدها وضبطها ،

٤٠٨

ووصل آخرها بأولها ، وقد بقي ذلك معمولا به إلى أن ساد الحكم الديمقراطي في أوربة ، فضعف عندهم الاعتناء بهذا الأمر بإلغاء الامتيازات التي كان يتمتع بها النبلاء ، وكانوا يدقّقون في الأنساب من أجلها ، وبقي الاهتمام بالأنساب من الجهة العلمية لا العملية.

[عناية العرب بالأنساب]

فأما العرب فلا شك في أنّهم في مقدمة الأمم التي تحفظ أنسابها ، وتتجنّب التخليط بينها ، فلا تجعل الأصيل هجينا ، ولا الهجين أصيلا ، ولا تحتقر قضية الكفاءة في الزواج بينها ، بل تعضّ عليها بالنواجذ. ولا يقيم العربيّ وزنا لشيء بقدر ما يقيم للنسب ، لا سيما في البوادي التي اقتضت طبيعة استقلال بعضها عن بعض ، وتنافسها الدائم فيما بينها ؛ أنّ كل قبيلة فيها تعرف نفسها ، وتحصي أفرادها ، وتحفظ بطونها وأفخاذها ، حتى تكون يدا واحدة في وجه من يعاديها من سائر القبائل.

فاقتضى ذلك أن يكون العرب علماء بأنسابهم ، يحفظون سلاسلهم العائلية بصورة مدهشة ، لا تجدها عند غيرهم ، فتجد البدويّ أحيانا يجهل أقرب الأمور إليه ، ولكنّه إذا سألته عن أبيه وجده ومنتسبه فإنّه يسرد لك عشرين اسما ولا يتتعتع.

وأما في الحواضر ، فليس الأمر بهذه الدرجة من الضبط ، وذلك لعدم الاحتياج الذي عليه البوادي من هذه الجهة ، فإنّ الحواضر مشغولة بصناعاتها ومهنها ومتاجرها ، ومكفولة بالسلطان الذي يغنيها عن تماسك الفصيلة أو القبيلة ، وعن اعتناء كل فريق بجمع أفراده ليقف في وجه عدوه.

وكلّما استبحر العمران في مصر من الأمصار قلّ الاعتناء بالأنساب ، وصار الناس ينسبون إلى حرفهم ومهنهم ، أو إلى البلاد التي جاءوا

٤٠٩

منها ، وكلّما قرب المجتمع من حال البداوة اشتدت العناية بالأنساب ، واستفحلت العصبيات ، التي هي من طبيعة الاعتناء بالنسب.

وقولنا : إنّ البوادي أشد من الحواضر عناية بهذا الأمر لا يعني أنّ الحواضر العربية لا تقيم للأنساب وزنا ، فالعرب غالب عليهم الاحتفال بالنسب حاضرهم وباديهم ، وأبناء البيوتات منهم ، ولو كانوا في أشدّ الحواضر استبحار عمارة يحفظون أنسابهم ، ويقيّدونها في السجلات ، وكثيرا ما يصدقونها لدى القضاة بشهادات العلماء الأعلام والعدول ، ويسجّلونها في المحاكم الشرعية.

وإذا كانوا من آل البيت النبوي ـ وهو أشرف الأنساب بالنظر إلى اتصالهم بفاطمة الزهراء ، التي هي بضعة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وهو أشرف الخلق ـ حرّروا أنسابهم لدى نقباء الأشراف ، وكتبوا به الكتب المؤلفة ، وهذا أمر بديهي لا نزاع فيه ، لأنّ هذا الشرف هو مما يتنافس به ، ومما يستجلب لصاحبه مزايا معنوية ، وأحيانا منافع مادية ، فلا يريد منتسب إلى هذا البيت الشريف أن يفقد الدليل على نسبته هذه.

ولئن كان البيت النبوي هو أشرف الأنساب بالسبب الذي تقدّم الكلام عليه ، فليس سائر بيوتات العرب من ذراري الملوك والأمراء ، والأئمة والعلماء والأولياء أقل حرصا على حفظ أنسابهم من آل البيت الفاطمي.

وجميع قريش مثلا سواء كانوا من الطالبيين أو من غيرهم يفتخرون بنسبهم القرشيّ ، وكذلك ذراريّ الأنصار من الأوس والخزرج يفتخرون بأنسابهم القحطانية ، وكذلك سلائل الملوك من لخم وغسان ، وأمثالهم من العرب القحطانية ليسوا أقل حرصا على حفظ أنسابهم من تلك البطون العدنانية الشريفة.

والعرب بالإجمال سائرون في النسب على مقتضى قوله تعالى : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [المؤمنون : ٣٥] ، فكل قبيلة راضية بنسبها ،

٤١٠

تحفظ مآثر قومها ، وتعتز بالاعتزاء إلى سلفها ، مع أنّ القبيلة الثانية التي تنافسها تحفظ لها عورات ومعرات تعيّرها بها عند المفاخرة والمنافرة.

ولشدة اعتنائهم بالأنساب تجد انتصار بعضهم لبعض على نسبة درجة القرابة ، فكلّما كانت القبيلة أقرب إلى القبيلة كانت أولى بنصرها ، لا يتخلّف ذلك فيهم إلا لعوامل غير معتادة. ومهما اشتدت العداوة بين أبناء فخذ واحد فإنّهم يجتمعون بطنا واحدا على بطن آخر ، يناوئهم من قبيلتهم ، وكذلك تجتمع البطون المنتسبة إلى عمارة لمقاومة عمارة أخرى ، وهلمّ جرا.

ولا بدّ أن ينزع عرق النسب في العربي ، فيميل به إلى الأقرب مهما كان هذا الأقرب بعيدا في الحقيقة ؛ فالقحطانيّ ينتسب إلى شعب طويل عريض يحصى بالملايين ، والعدنانيّ ينتسب إلى شعب لا يقل عنه في العدد والمدد ، ولكن إذا اختصما في موقف من المواقف وجدت عرق العصبية نزع في كل عربي ، فمال القحطانيّ إلى قبائل اليمن ، ومال العدنانيّ إلى قبائل الحجاز ونجد ، أي مضر وربيعة. وقد يؤاخي الفريق منهم من كان يعاديه بغضا بفريق آخر أشد عداوة لأنّه أبعد نسبا ، وعليه قول شاعرهم :

وذوي ضباب مضمرين عداوة

قرحى القلوب معاودي الأفناد

ناسيتهم بغضاءهم وتركتهم

وهمو إذا ذكر الصّديق أعادي

كيما أعدّهمو لأبعد منهم

ولقد يجاء إلى ذوي الأحقاد

ومن أجل هذا التدقيق في قرب النسب وبعده ، وترتيب الصداقة والعداوة على درجات هذا القرب وهذا البعد ؛ انقسم العرب إلى ذنيك الشعبين الكبيرين عدنان ، وقحطان.

[القحطانية]

وغلب على قحطان اسم اليمن ، لأنّ أكثر منازل العرب القحطانية

٤١١

هي في اليمن ، ومن وجد منهم خارجا عن اليمن كالأوس والخزرج في المدينة ، وكطيء وغيرها في نجد مثلا ؛ فإنما خرجوا بعد أن انهدم سدّ مأرب ، وتفرّقت القبائل في البلدان.

وأشهر القحطانيين حمير ، ومنهم قضاعة ، ومن قضاعة بلي ، ومنهم الآن في شمالي الحجاز ، وجهينة ، ومنهم على سواحل الحجاز يبلغون ١٠٠ ألف نسمة. وكلب وهم في بادية الشام ، ويقال لهم اليوم الشرارات. وعذرة المشهورون بالعشق ، ولهم بقايا بمصر ، وبقايا بالشام. وبهراء ، ومنهم ما بين بلاد الحبشة وصعيد مصر. ونهد ، وجرم ، وتنوخ ، وهؤلاء كانوا في شماليّ بلاد الشام.

ومن القحطانية ؛ كهلان ، ومنهم الأزد ، ومن الأزد غسّان ؛ وكانوا بالشام ، وكان منهم نصارى ، ولذلك تجد كثيرين من نصارى سورية ينتسبون إلى غسّان ، أو يحبون أن ينتسبوا إلى غسّان.

ومنهم الأوس والخزرج في المدينة المنوّرة ، وقد تفرقوا في البلاد ، ولا يكاد يوجد منهم أحد في المدينة في هذه الأيام.

ومن كهلان : طيء ، وهم من أكبر القبائل ، ويقال لهم اليوم شمّر ، وبطون طيء كثيرة : منها ثعل ، وجديلة ، ونبهان ، وبولان ، وهناء ، وسدوس ، وسلامان ، وبحتر ، الذين منهم البحتريّ الشاعر. وزبيد بضم أوله ففتح فسكون ، وكثير من قبائل الشام هي من زبيد ، وسنبس. وجرم ومنهم في بلاد غزة ومصر. وثعلبة ، ومنهم كثير في الديار المصرية. وغزيّة ، ومنهم بطون في العراق وفي الشام والحجاز. وبنولام ، وهم بالعراق ، ومنهم الظفير.

ومن كهلان : مذحج ، ومن هؤلاء خولان ، وجنب ، وسعد العشيرة ، ومن سعد العشيرة بنو جعفي بضم فسكون ، والنسبة إليهم جعفي على مثل لفظه ، وكان المتنبي الشاعر جعفيّا.

٤١٢

ومن سعد العشيرة : قبيلة يقال لها أيضا زبيد بضم ففتح فسكون ، وهم زبيد الحجاز الذين ينتسب إليهم عمرو بن معدي كرب.

ومن كهلان : النخع ، ومنهم الأشتر النخعي عامل الإمام علي رضي‌الله‌عنه على مصر.

ومنهم عنس ، الذين منهم عمار بن ياسر رضي‌الله‌عنه ، ومنهم الأسود العنسي الكذاب.

ومنهم بنو الحارث الذين يسكنون في الجنوب الشرقيّ من الطائف.

ومن كهلان : همدان ولا يزال منهم في اليمن جموع غفيرة ، فضلا عمن تفرّقوا في البلاد ، ومنهم الهمداني صاحب كتاب «الإكليل» وكتاب «صفة جزيرة العرب».

ومن كهلان : كندة ، وكان لهم ملك ومنهم امرؤ القيس الكندي الشاعر ، وأبو إسحق يعقوب الكندي فيلسوف العرب. وهم متفرّقون في البلاد ، فمنهم أناس في اليمن ، وآخرون في الشام.

ومنهم قوم يقال لهم السكون ، وآخرون يقال لهم السّكاسك ، جاء في «صبح الأعشى» : أنّ النسبة إلى السّكاسك سكسكي ، ردّا له إلى أصله ، وهذا صحيح.

وقبلي صيدا في سواحل سورية مكان يقال له السكسكية.

ومن كهلان : مراد الذين منهم قاتل سيدنا علي بن أبي طالب.

وأنمار ، ومن أنمار تتفرّع بطون كثيرة مثل بجيلة ، وخثعم ، وهم متفرقون في البلاد.

ومن كهلان جذام ، وقيل إنّهم من العدنانية ، ولكنّهم انتقلوا إلى اليمن ، وكثير من أعقاب جذام في الديار المصرية في الصعيد ، وفي الشرقية ، والدقهلية ، ومنهم بنو صخر في الشام.

٤١٣

ومن كهلان : لخم ، وكان منهم ملوك الحيرة من بلاد العراق ، وكان منهم بنو عبّاد ملوك إشبيلية. ومن لخم أمراء لبنان الأرسلانيّون ، والتنوخيون ، وهؤلاء على الأصح ليسوا من التنوخيين سكان شماليّ سورية ، بل هم ينتسبون إلى جدّ يقال له تنوخ من سلالة اللخميين ملوك الحيرة. ومن لخم بطون كثيرة في الديار المصرية ، ومن لخم بنو الدار رهط تميم الداريّ الصحابي ، وذريته في خليل الرحمن بفلسطين.

ومن كهلان : الأشعريون ، رهط أبي موسى الأشعري الصّحابي. وعاملة ، ومن عاملة أهالي جبل عاملة بالشام بين صور وصيدا ، وهم شيعة الشام. إلا أنّ رؤساءهم بني علي الصغير ينتمون إلى وائل كما علمت منهم.

[العدنانية]

وأما العدنانية فهم بنو إسماعيل بن إبراهيم عليهما‌السلام ، وتواريخ العرب تتفق على أنّ هؤلاء يقال لهم العرب المستعربة ، وأنّ القحطانية هم العرب العاربة ، ولكن في مسألة القحطانية يوجد خلاف ؛ لأنّ بعضهم زعم أنّ العرب العاربة ليسوا قحطان ، ولكن الذين قبلهم ممن يقال لهم العرب البائدة ؛ عاد وثمود وعمليق وطسم الخ ..

والرأي الذي عليه الجمهور أنّ العرب العاربة هم القحطانية ، وأنّ العرب المستعربة هم العدنانية ، وهؤلاء العدنانية هم سلالة إسماعيل بن إبراهيم عليهما‌السلام تعلّموا العربية من جرهم الذين هم القحطانية ، جاؤوا إلى مكة وأقاموا بها ، واختلطوا بذرية إسماعيل.

والعدنانية : هم نزار بن معدّ بن عدنان. ومنهم إياد الذين ينسب إليهم قس بن ساعدة ، ومنهم بنو أنمار بن نزار.

٤١٤

[ربيعة]

ومنهم ربيعة ، ويعرف بربيعة الفرس.

ومن ربيعة : أسد ، وضبيعة ، ديارهم بالجزيرة الفراتية تعرف بديار ربيعة ، وفي نجد كثير من ربيعة الفرس.

وأسد أكثرهم أفخاذا ، ومن أسد بنو عنزة ، وكانت منازلهم خيبر من ضواحي المدينة. ثم رحل قسم كبير منهم إلى بادية الشام ، وهم أكثر عرب هذه البادية. فمنهم الرولة ، وولد علي ، والمعجل ، والحسنة ، ويقال لهؤلاء ضنا مسلم.

ثم السبعة ، والفدعان ، ويقال لهم ضنا عبيد. وآل سعود الذين منهم ملك الحجاز ونجد عبد العزيز بن سعود في هذا العصر ليسوا من عنزة ، ولكنّهم مجتمعون مع عنزة في ربيعة.

ومن ربيعة : جديلة ، وكانت ديارهم بتهامة ، ثم خرجوا إلى البحرين ، ومنهم فريق في الجزيرة الفراتية.

ومن جديلة بنو وائل ، ولوائل بكر وتغلب ، ومن تغلب بن وائل كليب الذي قتله جسّاس ، واشتعلت لأجله الحرب المعروفة بالبسوس.

وكان الحمدانيون ملوك حلب قديما من تغلب ، وكان من تغلب ، نصارى كما كان من غسّان ، ولما ظهر الإسلام أسلم منهم أناس ، وبقي الآخرون متمسكين بنصرانيتهم ، أبوا أن يدفعوا الجزية كسائر النصارى بحجة أنّهم عرب ، وأصرّ سيدنا عمر على أخذها منهم ، وكان سيدنا علي فكّر في منعهم من تنصير أولادهم ، وذلك حتى ينشأ أحداثهم في الإسلام.

ولهم حكم خاص في الفقه الإسلامي ، واختلفت في شأنهم الأقوال ، وجاء في «فتوح البلدان» للبلاذري عن ابن عباس قال : لا تؤكل ذبائح نصارى بني تغلب ، ولا تنكح نساؤهم ، ليسوا منا ولا من

٤١٥

أهل الكتاب ، وتظاهرت الروايات على أنّه لما أراد عمر أخذ الجزية منهم لحقوا بأرض الروم ، فقال زرعة بن النعمان لعمر : أنشدك الله في بني تغلب ، فإنّهم قوم من العرب يأنفون من الجزية ، وهم قوم شديدة نكايتهم.

فأرسل عمر في طلبهم فردّهم ، وأضعف عليهم الصدقة.

وكتب عمير بن سعد إلى عمر يسأله رأيه فيهم ، لأنّهم هموا باللحاق بمملكة الروم ، فكتب إليه عمر رضي‌الله‌عنه يأمره أن يضعف عليهم الصدقة التي تؤخذ من المسلمين في كل سائمة وأرض ، وإن أبوا ذلك حاربهم حتى يبيدهم أو يسلموا ، فقبلوا أن يؤخذ منهم ضعف الصدقة ، وقالوا : أما إذا لم تكن جزية كجزية الأعلاج ، فإنا نرضى ونحفظ ديننا.

وقال الزهري : ليس في مواشي أهل الكتاب صدقة إلّا نصارى العرب الذين عامة أموالهم المواشي ، فإنّ عليهم ضعف ما على المسلمين.

وكان عثمان رضي‌الله‌عنه أمر أن لا يقبل من بني تغلب في الجزية إلا الذهب والفضة ، فجاءه الثبت أنّ عمر أخذ منهم ضعف الصدقة فرجع عن ذلك.

واتفقوا على أنّ سبيل ما يؤخذ من أموال بني تغلب سبيل مال الخراج ، لأنه بدل من الجزية.

وبالاختصار أبت بهم عروبتهم أن يؤدوا [الجزية] كنصارى الأعاجم ، وأبى الخلفاء الراشدون أن يعاملوهم معاملة المسلمين ، فوجدوا لذلك طريقا وسطا.

ومن بني تغلب : الأخطل التغلبي الشاعر النصراني المشهور ، وهم كثيرون في نجد.

وأما بكر بن وائل فمنهم شيبان ، ومنهم بنو حنيفة ، رهط مسيلمة الكذّاب ، وأكثر سكّان الرياض عاصمة نجد اليوم من بني حنيفة.

٤١٦

ومن بكر بنو عجل بن لجيم.

[مضر]

وأما القسم الثاني من العدنانية فهم سلالة مضر بن نزار ، ويقال : مضر الحمراء ، ولذلك تجتمع عدنان كلها في ربيعة ومضر.

ولمضر فرع جمع عدة قبائل وهو قيس ؛ ويقال له قيس عيلان بن مضر ، وقيل : هو قيس بن مضر لصلبه ، وعيلان مضاف إليه ، قيل فرسه وقيل كلبه. ولكثرة بطون قيس غلب على سائر العدنانية ، حتى صار في مقابل اليمن كلها ، فصاروا يقولون قيس ويمن ، وفي جميع الديار الشامية انقسم العرب إلى قيس ويمن ، وكانت حروب القيسية واليمنية في لبنان متصلة ، وانتهت بواقعة عين دارة منذ (٢٢٥) سنة.

وأما في فلسطين فلا تزال هذه القسمة موجودة.

وأما في الأندلس فكانوا يقولون المضرية واليمنية.

ومن أشهر قبائل قيس هوازن ، وهم بنو هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان.

ويقال لهوازن اليوم عتيبة ، وهم من أكبر قبائل العرب ، منهم أناس في الحجاز ، وآخرون في نجد ، وينقسمون اليوم إلى فرعين ؛ الورقة ، والبرقة.

وبعضهم يرى أنّ أحد الفريقين وهو البرقة من عامر بن صعصعة.

ومن هوازن بنو سعد الذين كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رضيعا فيهم ، ويقال لهم : بنو سعد بن بكر.

ذكر صاحب «صبح الأعشى» أنّ منهم فرقة بنواحي باجة من المغرب.

ومن هوازن بنو عامر بن صعصعة ، ومنهم بنو كلاب ، وكان لهم في

٤١٧

الإسلام دولة باليمامة ، ثم انتقلوا إلى الشام ، وملكوا حلب مدة من الزمن.

ومن بني عامر بن صعصعة بنو هلال ، وهم أشهر قبائل العرب. وكانوا في الحجاز ونجد. وقد انتقلوا إلى المغرب فملأوه.

ثم إنّ قبيلة حرب الكبيرة في الحجاز من بني هلال ، وهم بطون ثلاثة : بنو مسروح ، وبنو سالم ، وبنو عبيد الله. هكذا في «صبح الأعشى».

وأما في كتاب «الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف» (١) فقد جاء في الصفحة ٣٦٩ ذكر قبائل الحجاز النازلة بين الحرمين ، وقد كنت نقلتها عن سجلّات الحكومة في المدينة المنوّرة فهنالك أقول : أهم هذه القبائل حرب ؛ وهم بنو حرب بن هلال بن عامر بن صعصعة من العرب العدنانية. وحرب خلّف أربعة أولاد : سالم ، ومسروح ، وعبيد الله ، وعمرو.

فمسروح أكثرهم ولدا ، وقد دخلت بطون بني عبيد الله وبنو عمرو في مسروح.

أما «صبح الأعشى» فيقول نقلا عن الحمداني : إنهم ثلاثة بطون ؛ بنو مسروح ، وبنو سالم ، وبنو عبيد الله.

وقال : إن من حرب زبيد الحجاز ، وذكر أن منهم بني عمرو.

ومنازل مسروح من مكة إلى المدينة المنوّرة ، وعددهم يزيد على ستين ألف نسمة.

وأما بنو سالم من حرب فمنازلهم من مكة إلى المدينة إلى وادي الصفر إلى الحديدة إلى ينبع البحر ، وهم يزيدون على خمسين ألفا.

فحرب إذا اجتمعت تزيد على مئة ألف نسمة ، وكان شيخ مشايخ

__________________

(١) [وهو هذا الكتاب].

٤١٨

حرب خلف بن حذيفة الأحمدي ، وكان ناصر بن نصار الظاهر ، ومنصور الظاهري ، من مشايخ المراوحة من بني سالم من حرب.

وبنو مزينة الذين بأطراف المدينة ، والذين منهم زهير بن أبي سلمى المزني صاحب المعلقة ؛ داخلون الآن في بني سالم من حرب. والحال أنّ مزينة في الأصل هم بنو عثمان وأوس ابني عمرو بن أدّ بن طابخة ، واسمه عمرو بن الياس بن مضر على ما في «صبح الأعشى». وكان شيخهم حجاب بن بخيت معدودا من مشايخ المراوحة من بني سالم ، إلى آخر ما ذكرناه من أسماء شيوخ حرب في العصر الأخير.

وأخبرني العلامة النسابة الشيخ عبد الله بن بلهيد قاضي قضاة المملكة السعودية ، أنّ ما ذكرته عن قبائل الحجاز هو أصحّ ما اطلع عليه في هذا الباب.

ومن بني عامر بن صعصعة أيضا بنو عقيل ، وكانت مساكنهم بالبحرين ، وكانوا أعظم القبائل هناك ، واجتمعوا هم وبني تغلب على بني سليم بن منصور ، فأخرجوهم من البحرين ، ثم تغلب بنو تغلب على بني عقيل فأخرجوهم إلى العراق ، ثم عادوا إلى البحرين ، وتغلّبوا على بني تميم.

ومن بني عقيل بنو عبادة وبنو خفاجة في العراق ، ومنهم المنتفق.

ثم من بطون هوازن بنو جشم ؛ كانت مساكنهم بالسرّوات بين تهامة ونجد ، ومن بطون هوازن ثقيف ، ويقال للطائف سوق ثقيف ، لأنّهم سكّانها ، ومحيطون بها من كل جهة. وفي كتابنا «الارتسامات اللطاف» استوفينا الكلام على ثقيف (١).

ومن قبائل قيس باهلة ، وبنو مازن ، وبنو غطفان ، ومن غطفان بنو

__________________

(١) انظر ص (٣٦٧) من هذا الكتاب.

٤١٩

عبس جماعة عنترة الشاعر الفارس المشهور ، ومنهم أشجع.

ذكر صاحب «صبح الأعشى» أن منهم حيا عظيما بسجلماسة في المغرب.

ومن غطفان ذبيان ، ومنهم النابغة الذبياني ، ومن ذبيان فزارة ، ومنهم بنو صبيح في برقة ، ومن هؤلاء رواحة وهيب بأرض برقة إلى طرابلس الغرب ، وبأفريقية والمغرب ، ومنهم جماعة بالديار المصرية.

ومن قبائل قيس بنو سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان ، وكانوا في عالية نجد ، بالقرب من خيبر ، وفي وادي القرى وتيماء ، ولكنّ أكثرهم رحلوا إلى مصر ، ثم إلى برقة ، وأكثر عرب برقة منهم.

ومن شاء أن يتوسع في معرفة قبائل برقة فعليه بحواشينا على «حاضر العالم الإسلامي» فإنّه يجد في الفصل المتعلق بطرابلس الغرب من صفحة (٦٤) من المجلد الثاني إلى صفحة (١٦٥) كلّ ما يلزم من المعلومات عن ذلك القطر ، ولا سيما عن القبائل بأسمائها القديمة والجديدة مما يطول بنا استيفاؤه هنا. ونحن إنما ذكرنا هنا مجمل أنساب العرب على سبيل التمثيل.

* * *

ومن قبائل قيس بنو عدوان ، وكانوا بالطائف ، ثم غلبهم عليها ثقيف ، فخرجوا إلى تهامة ، وبأفريقية منهم أحياء بادية ، وفي شرقيّ الأردن اليوم عرب العدوان ، وهم رؤساء البدو في تلك الناحية ، ولا يعلم هل هم من عدوان هؤلاء ، أم هو اتفاق في الاسم.

ومن مضر الياس ، وكانت تحته خندف ـ بكسر الخاء وسكون النون وكسر الدال ـ وهي بني حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة ، عرف بنوه بها ، فقيل لهم : خندف ، وغلب على سائر قيس ، قال الشاعر وقد أهانه العدنانية في أسوان ، وأعزّه القحطانية في اليمن :

إذا تمّ لي في أرض مأرب مأربي

فلست على أسوان يوما بأسوان

٤٢٠