الرّحلة الحجازيّة

الأمير شكيب أرسلان

الرّحلة الحجازيّة

المؤلف:

الأمير شكيب أرسلان


المحقق: حسن السماحي سويدان
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار النوادر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٩

وإلى الجنوب الغربيّ من الفرع جبل متصل بالفرع ، له قمة شاهقة ، تعلو نحوا من ثلاثمائة متر عن أرض القرية ، يشرف منها الإنسان على البحر الأحمر ، وقد حدثني صديقي الشيخ عبد القادر الشيبي أنّه رأى بناظوره من تلك القمة المراكب الشراعية ماخرة في بحر الليث ، وشعفات الجبال هناك كلّها شاهقة في السماء ، أينما وقف فيها الرائي رأى منظرا عجبا.

وإلى الشمال الشرقي من الفرع قرية يقال لها : الشرف ، (محركة) هي على مساواة الفرع ، ولم يقدّر لنا الذهاب إلى هذه القرية وما جاورها من القرى التي هي في جبال هذيل.

وجبال هذيل ممتدة من هناك إلى تهامة ، أي إلى ساحل البحر. قال الهمداني في «صفة جزيرة العرب» (٣٢٣) : منازل هذيل عرنة (١) (بوزن همزة لمزة) وعرفة ، وبطن نعمان ، ونخلة (٢) ، ورحيل ، وكبكب (٣) (بفتح فسكون مرتين) والبوباة (٤) (بفتح فسكون)

__________________

(١) عرنة واد بحذاء عرفات ، وعرفة وبطن نعمان تقدّم ذكرهما ا ه من الأصل.

(٢) نخلة ـ وهما نخلتان ـ واديان لهذيل الشامية واليمانية ، على ليلتين من مكة ، يجتمعان ببطن مر وسبوحة ، والوادي الشامي يصبّ من الغمير ، واليماني من قرن المنازل ا ه من الأصل. انظر «صفة جزيرة العرب» ص (٨٦).

(٣) هما كبكبان : أحدهما من ناحية الصفراء ، وهو نقب يطلعك على بدر ، والآخر يطلعك على العرج ، وهو نقب لهذيل. قاله ياقوت ا ه من الأصل.

(٤) قال ياقوت : البوباة صحراء بأرض تهامة ، إذا خرجت من أعالي وادي النخلة اليمانية ، وهي من بلاد بني سعد بن بكر من هوازن. قال رجل من مزينة :

خليليّ بالبوباة عوجا فلا أرى

بها منزلا إلا جديب المقيّد

نذق برد نجد بعد ما لعبت بنا

تهامة في حمّامها المتوقّد

فكلامه يختلف عن كلام الهمداني ، الذي يجعلها من بلاد هذيل ، ولعلّ منها ما هو لهوازن ، ومنها ما هو لهذيل.

٣٦١

وأوطاس (١) (بفتح السكون) وغزوان (٢) (بفتح فسكون).

__________________

(١) أما أوطاس فيقول ياقوت : إنّها في ديار هوازن ، وبها كانت غزوة حنين ، وبها قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حمي الوطيس» فأرسلها مثلا.

قال ابن شبيب : الغور من ذات عرق إلى أوطاس ، وأوطاس على نفس الطريق ، ونجد من حدّ أوطاس إلى القريتين ، ولما نزل المشركون بأوطاس قال دريد بن الصمة ـ وكان مع هوازن شيخا كبيرا ـ بأيّ واد أنتم؟ قالوا : بأوطاس ، قال : نعم مجال الخيل ، لا حزن ضرس ، ولا سهل دهس.

وقال أحمد بن فارس في «أماليه» :

يا دار أقوت بأوطاس وغيّرها

من بعد مأهولها الإمطار والمور

كم ذا لأهلك من دهر ومن حجج

وأين حلّ الدمى والكنّس الحور

ردّي الجواب على حرّان مكتئب

سهاده مطلق ، والنوم مأسور

فلم تبيّن لنا الأطلال من خبر

وقد تجلي العمايات الأخابير

(٢) وأما غزوان فلقد جاء في «المعجم» أنّه جبل بمكة ، وهو الجبل الذي في ذروته الطائف ، وتسكنه قبائل هذيل ، وليس بالحجاز موضع أعلى من هذا الجبل ، ولذلك اعتدل هواء الطائف ، وقيل : إنّ الماء يجمد فيه ، وليس في الحجاز موضع يجمد فيه الماء سوى غزوان ، قال أبو صخر الهذلي :

فألحقن محبوكا كأنّ نشاصه

مناكب من غزوان بيض الأهاضب

(المحبوك) الممتلىء من السحاب ، و (نشاصه) سحابه.

(قلت) : مراده بقوله في ذروته الطائف : بلاد الطائف كلها ، لأنّ جميع هذه الجبال يطلق عليها اسم الطائف.

وأما الماء فيجمد في أكثر هذه الجبال وأحيانا في نفس قصبة الطائف ، وأما ما يرى من الاختلاف بين قول الهمداني وياقوت ـ والهمداني عاش قبل ياقوت بثلاثمئة سنة ـ بقول هذا : إنّ ديار كذا لهذيل ، وقول ذلك : إنّها لهوزان ، فلعلّ السبب فيه تغير الأيام ، والهمداني نفسه يقول بعد أن ذكر منازل هذيل ص (٣٢٣) : إنّ بني سعد أخرجوهم منها في وقته ذاك بمعونة عج بن شاخ سلطان مكة. ثم يقول الهمداني : إنّ غزوان أمنع الحجاز وأكثرها صيدا وعسلا ا ه من الأصل.

٣٦٢

قلت : إنّ جبل الفرع وجبل الشرف وجميع الشعاف والشناخيب التي هناك هي داخلة تحت اسم غزوان ، ولقد سألت الأهالي عن درجة البرد في الشتاء والربيع في تلك الجبال الشامخة فقالوا : إنّ الماء يجمد فيهما دائما ، ولكنّه لا ينزل فيها الثلج المعروف ببلادنا الشامية (١) ، وذكروا أنّه ينزل عندهم صقيع أبيض يجدونه صباحا قد غطّى الأرض.

لغة ثقيف وهذيل في هذا العهد

وأما عربية الأهالي ثقيف وهذيل فنقية ، وكيف لا ، وثقيف مضرب المثل بفصاحتهم يقال : شاعر ثقفي ، ويقال مثل آخر : أكثر من شعراء هذيل. وكان عمر يقول : لا يملي مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف ، وكان عثمان يقول عند جمع القرآن : اجعلوا المملي من هذيل ، والكاتب من ثقيف.

ومررت بسانية في الفرع ، يديرها شاب لا يتجاوز العشرين ، فأخذت أحادثه وأسائله عن الفرع فقال لي : سقى الله الفرع ، فيها من فضول الله ما لا يحصى. أعجبني جدا كلامه ، وقوله : (سقى الله الفرع) هذه العبارة الشعرية ، ثم قوله : (فضول الله) ولو كان من أهل بلادنا الشامية لقال : أفضال الله. فجمع فضل على أفضال خطأ ، وصوابه فضول ، كما قال الشاب الفرعي الثقفي. وحسبك أنّ أدباءنا وقعوا في هذا الخطأ فضلا عن عوامنا ، وانتقد أحمد فارس الشدياق على ناصيف اليازجي ـ وكلاهما من مفاخر سورية ـ قوله :

مضى يجمع الأفضال وهي عبيده

ولكنّ عند ثقيف وهذيل لغة لم أقرأ عنها في كتاب ، ولا سمعت بها

__________________

(١) السبب في ذلك أنّ بلاد الشام يكثر فيها بخار الماء المتصاعد من البحر والأنهار ، وجبال الطائف بعيدة عن البحر ، وليس فيها أنهار كأنهار الشام.

٣٦٣

في مجلس ، وهي أنهم يتلفّظون بالضاد والظاء كاللام المفخمة ، فيقولون مثلا : الليف ، في الضيف ، وصلاة اللهر ، في صلاة الظهر ، وقرية الليق في قرية الضيق ، وهلم جرا.

وقد لحظت أنا ذلك ، ولحظه جميع الرفاق ، وقضينا من هذه اللغة العجب ، ولم نسمع هذه اللغة في بلدة الطائف ، ولا في وادي محرم ، ولا في الهدة ، ولا في وادي ليّة ، وإنما سمعناها من الوهيط فصاعدا ، أي في الشفا عند هذيل ، وهذا الحي من ثقيف.

ولما كنت في الصيف الفائت في الأندلس ، سمعتهم يقولون في كل بلدة : الرابال ، يعنون به ضاحية البلدة ، فأردت أن أعرف مأخذها ، فقرأت في كتبهم اللغوية أنّها لفظة عربية محرّفة عن الربض ، ففكرت حينئذ في قلب الضاد لاما عند هذيل ومن جاورهم من ثقيف ، وقلت : من يدري؟ فلعلّ أول من تلفّظ بالربض هناك تلفّظ بها باللام (١) ، فقد كان في غزاة الأندلس كثير من هذيل وثقيف.

وبتنا ليلة واحدة في الفرع ، ولكن لم نقدر أن ننام إلا بعد أن أشعلوا

__________________

(١) مخرج الضاد العربية الفصحى قريب من اللام المفخمة ، فهو بينها وبين مخرج الظاء ، فلهذا تشتبه الضاد تارة بالظاء في نطق أكثر العرب إلى عهدنا هذا ، وتارة باللام المفخمة في نطق هؤلاء الهذليين والثقفيين ، ومثل هذا الاشتباه يكثر في النطق ، ولا سيما نطق الذي يعجل بالكلام فيتلقاه بعض السامعين محرفا فيصير التحريف أصلا متبعا.

وذكر علماء اللغة أنه سمع إبدال اللام من الضاد فقالوا : الطجع أي اضطجع كعكسه في قولهم : رجل جضد أي جلد. وبعد كتابة ما تقدم راجعت مادة ضجع في «التاج» فإذا هو يقول : قال المازني : إن بعض العرب يكره الجمع بين حرفين مطبقين فيقول : الطجع ، ويبدل مكان الضاد أقرب الحروف إليها وهي اللام ، زاد في «اللسان» : وهو شاذ ، وقال الأزهري : وربما ابدلوا اللام ضادا كما أبدلوا الضاد لاما ، قال بعضهم : الطراد واضطراد لطراد الخيل ا ه وأورد شاهد الكلمة الطجع.

٣٦٤

النار في الموقد ، وأكبروها ، وبعد أن التحفنا أسمك الأغطية.

وكنّا في صلاتي المغرب والعشاء نتوضّأ بالماء الساخن ، وجلسنا بعد الظهر على سطح بيت ، فلما كان عند أذان العصر شعرنا بالبرد ، ودخلنا إلى الداخل ، وكان مبيتنا في الفرع ليلة (٢٢) أغسطس ـ أب ، أي في إبّان القيظ ، فإذا كان هذا في الصيف ، فما ظنّك بالربيع والشتاء والخريف؟

ثم انحدرنا من الفرع إلى واد لطيف ملآن بالشجر اسمه الضيق (بفتح أوله) أو على رأيهم اللّيق (بتعظيم اللام) وتناولنا الغداء في قرية بهذا الوادي ، ثم انتهينا إلى الوادي الذي ذكرنا أنّه مبدأ لمياه وادي ليّة ، وصعدنا منه عقبة أفضنا منها إلى أراض منبسطة ، جيدة للزرع ، وفيها السواني والبساتين والقرى ، وأبنية جميع القرى هناك وفي جميع جبال الحجاز كلّها بالحجر وبغاية المتانة ، ومنها ما يخاله الإنسان أبراجا وحصونا ، وفي كلّ قرية أو دسكرة برج للحصار ، مستدير الشكل ، عال ، متين البناء ، معمم الرأس بمدماك من الحجارة البيض.

وكانوا في أثناء غزوات بعضهم لبعض والوقائع التي تحصل بينهم إذا هاجمت القرية قوة تفوق قوة أهلها ، لجأوا إلى هذا البرج ، واعتصموا به ، وجعلوا يرمون بالبندق من أعلاه.

أما اليوم فقد مضى كلّ هذا ، وأينما سرت يقولون لك ذلك القول الذي رويناه من قبل ، وهو : إنّ الأمن في زمن ابن سعود خيّم تخييما تاما على جميع البلاد ، وإنّ الدماء والثارات كلّها انقطعت ، وصار الجميع يسيرون في كل مكان بدون سلاح ، وقيل لنا : إنّ الأودية التي سلكناها ، والفروع التي فرعناها ، لم يكن أحد في الماضي ليسلكها إلا برفقة شاكية السلاح ، وإنّ الحكومة في أيام الأتراك لم تصل ولا مرة إلى الفرع والشفا ، ولا قدر أحد من الترك أن يطأ تلك الأرض.

٣٦٥

ومن هناك سرنا إلى قرية يقال لها : الأمت ـ (بفتح فسكون) ـ هي أدنى قرى الشفا إلى مدينة الطائف ، لا تبعد عنها أكثر من ثلاث ساعات ، وقد كان مبيتنا بتلك القرية ، وهي قرية في واد تشرف عليه حروف جبال كثيرة الصخور والجنادل ، والأمت بالعربي معناه المكان المرتفع ، ومعناه الروابي الصغار ، ومعناه مسايل الأودية ، ومعنا الوهدة بين نشزين ، ومعناه الانخفاض والارتفاع ، ومنه قوله تعالى : (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٧] أي لا انخفاض فيها ولا ارتفاع. وأصحّ معنى ينطبق على الأمت الذي نحن في صدده مسايل الأودية ، أو الوهدة بين نشزين ، لأنّ القرية هي في مسيل واد ، وهي منحفضة بين نشزين ، ويجوز أن يكون من باب الانخفاض والارتفاع ، لأننا هبطناها بعقبة ، ثم بعد أن وصلنا إليها وجدنا عقبة ثانية على مقربة منها إلى ناحية الطائف.

ومن الأمت إلى الطائف مررنا بواد كانت فيه سدود عدمليّة قديمة ، تجري منها المياه بأقنية منحوتة في الصخر إلى بساتين خاوية الآن على عروشها ، ثم إننا ملنا إلى بستان اسمه بستان القصر ، في نفس هذا الوادي ، عليه سانية غزيرة الماء ، تخصّ رجلا من القبيلة التي يقال لها قريش ، فتناولنا فيها الطعام ، وبعد القيلولة ركبنا عائدين إلى الطائف.

وأقول بالاختصار : إنّ مسافة الانتقال من حرارة مكة بالصيف إلى برودة الشفا التي وصفناها للقارىء لا تزيد اليوم على نهار واحد ، فمن مكة إلى الطائف بالسيارة الكهربائية خمس ساعات (١) ، ومن الطائف إلى الفرع خمس إلى ستّ ساعات ، ولو كان للشفا طرق معبدة ، لكان المصطاف يركب السيارة من مكة صباحا فيكون في الفرع وقت أذان العصر.

* * *

__________________

(١) بلغنا في العام الماضي أنّهم وجدوا أو عبدوا طريقا آخر يقطع في ثلاث ساعات أو أقل.

٣٦٦

سكان الطائف وما حولها

أما سكان الطائف ، فهم شتى ، شماطيط من العرب ، من ثقيف وعتيبة وغيرهما ، ومن ترك وهنود وأجناس أخرى.

وأما إقليم الطائف ، فسكان وادي ليّة من أوسط الوادي إلى أسفله الزوران فخذ من عتيبة أي هوازن ، ومن وسط الوادي إلى أعلاه الفعور ، وهم أشراف ، تقدّم ذكرهم.

وأما الذين هم بأعلى الوادي ـ ونزلنا عندهم لما ذهبنا إلى وادي ليّة ـ فهم عوف بطن من حرب ، وحرب من بني هلال.

وأما ركبة الشهيرة التي تقع إلى الشمال الشرقيّ من الطائف ، ففيها عدة أفخاذ من عتيبة أهمها : العصماء ، الشيابين ، الروقة ، المقطاء ، الجعدة ، الوذانين ، السوطة ، العمارة ، القثمة ، الثبتة.

وأما وادي محرم فعلوه ثقيف ، ووسطه النمور ، وأسفله إلى وادي السيل طويرق.

وأما الهدة فأهل وادي الأعمق الذراوة ، والزنان ، وآل أبي شنب ، والمعالوة ، وكلّهم من ثقيف ، ونفس قرية الهدة : فيها الغشامرة ، والقصران ، وبنو صخر ، ومرجعهم أيضا إلى ثقيف.

والعرج وهو عدة قرى على واد ينصبّ إلى وادي وجّ ، إلى الشرق من لقين ، سكانه الأشراف ذوو ناصر ، الذين منهم حمود وشاكر.

وكانت ثقيف ممتدة إلى ركبة ، لكنّ هوازن أرجعتهم إلى جبال الحجاز.

٣٦٧

ثم إنّ ثقيفا تنقسم إلى عدّة أفخاذ ، أكبرها سفيان ، وثمالة ، ومنها قريش بني سالم ، والغشامرة ، والقصران.

وبنو سفيان سكان الشفا ، ينقسمون إلى بني عمر آل حجة ، وإلى آل ساعد ، وآل عيشة ، وآل حسن.

وثمالة تنقسم إلى المشايخ الحدادين (يقال إنهم من سلالة الشيخ الحداد) والضباعين ، والسودة ، وآل زيد ، وآل مقبل ، وآل ساعد ، وآل عمر.

وجميع قبائل الطائف وبلادها ما عدا الأشراف وما عدا العدوان تفزع مع ثقيف ضد هوازن ، وتسمّى ثقيف يوم الفزعة خندقا ، وتسمّى هوازن أو عتيبة شبابة.

ولا تنحصر عتيبة في هوازن ، بل قد دخلها بطريق الحلف قبائل أخرى.

وهذيل يسكنون في جبل برد وما يليه ، وتسمى هذيل الطلحات.

* * *

٣٦٨

استطراد في قبائل الحجاز

بين الحرمين وشمالي المدينة المنورة

لما كنا قد ذكرنا قبائل هوازن وثقيف وهذيل وغيرها من سكان جبال الطائف ، فلا بأس بذكر سائر قبائل الحجاز ، ممن ينزلون بين الحرمين ، ومن المدينة إلى الشمال ، وقد كنّا يوم زرنا المدينة النبوية قبل الحرب العامة بسنة أخذنا جدول هذه القبائل من سجلّات الحكومة ، واطّلعنا على معلومات ذات قيمة بشأنها ، فرأينا إلحاقها بهذا الكتاب إتماما للفائدة (١).

فأهمّ هذه القبائل :

١ ـ حرب : وهم بنو حرب بن هلال بن عامر بن صعصعة ، من العرب العدنانية.

وحرب خلّف أربعة أولاد : سالم ، ومسروح ، وعبيد الله ، وعمرو.

فمسروح أكثرهم ولدا ، وقد دخلت بطون بني عبيد الله وبني عمرو في مسروح.

أما «صبح الأعشى» فيقول نقلا عن الحمداني : إنّهم ثلاثة بطون : بنو مسروح ، وبنو سالم ، وبنو عبيد الله ، وقال : إنّ من حرب زبيد الحجاز ، وذكر أنّ منهم بني عمرو ، ومنازل مسروح من مكة إلى المدينة المنورة ،

__________________

(١) [انظر الملحق (٢) عن الأنساب للمؤلف].

٣٦٩

وعددهم يزيد على ستين ألف نسمة.

وأما بنو سالم من حرب ، فمنازلهم من مكة إلى المدينة إلى وادي الصفر إلى الجديدة ، إلى ينبع البحر ، وهم يزيدون على خمسين ألفا.

فحرب إذا اجتمعت تزيد على مئة ألف نسمة.

وكان شيخ مشايخ حرب خلف بن حذيفة الأحمدي ، وكان ناصر بن نصّار الظاهر ، ومنصور الظاهري من مشايخ المراوحة من بني سالم من حرب.

وبنو مزينة الذين بأطراف المدينة ، والذين منهم زهير بن أبي سلمى المزني صاحب المعلقة داخلون الآن في بني سالم من حرب.

والحال أنّ مزينة في الأصل هم بنو عثمان وأوس ابني عمرو بن أدّ بن طابخة ، واسمه عمرو بن الياس بن مضر ، على ما في «صبح الأعشى» فقد دخلوا اليوم في بني سالم من حرب ، وكان شيخهم حجاب بن بخيت معدودا من مشايخ المراوحة من بني سالم.

وكان من مشايخ حرب يوم زرت المدينة المنورة أو قبل ذلك بقليل بخيت بن بنيان ، شيخ اللهبة من عوف من مسروح ، والشيخ إبراهيم بن فهيد شيخ قرية قبا ، والشيخ أحمد بن معين ، من مسروح.

وكان محارب بن موقد شيخ الصواعد من عوف من مسروح ، ومرزوق بن عمر ، شيخ بئر الماشي من عوف من مسروح أيضا.

وكان أحمد بن مزيع بن ريبيق شيخ بني عمرو من مسروح بوادي الفرع ، ومريع بن محمد شيخ قبيلة جهم من بني عمرو بوادي الفرع أيضا.

وكان عبد الله أبو ربعة شيخ قبيلة السهلبة من عوف.

٢ ـ ثم قبيلة صبح ببدر ، وشيخها ابن حصاني الصبحي ، وقبيلة صبح تنقسم إلى اللبدة ، وبني عبد الله ، وذوي مرزوق.

٣٧٠

ويوجد فرقة من الأشراف ببدر ، كان شيخهم الشريف محمد بن سالم بن عبد الله أبو نمي.

٣ ـ ثم قبيلة زبيد بين ينبع وجدة ، ومن زبيد هذه [بطون] في الجزيرة الفراتية ، وفي الديار الشامية ، وفي بلدان أخرى مما نزله العرب.

وزبيد بضم الزاي وفتح الباء الموحدة هو ابن معن بن عمرو بن عنيز بن سلامان بن عمرو بن الغوث بن طيء.

ومنهم بساحل الحجاز الشمالي عدد كبير يقال : إنّ منهم نحوا من ثلاثين ألف رجل. يعملون في البحر ، يجلبون الصدف ، ويغوصون على اللؤلؤ ، وكان الشيخ حسين بن مبيريك شيخ رابغ هو شيخ زبيد ، ومن مشايخهم الكبار محمد بن حسم.

وإلى المشرق منهم بنو سليم وبنو عبد الله والروقة.

٤ ـ وبنو سليم (بضم السين) من أشهر قبائل العرب ، ويقول الحمداني : إنّهم أكبر قبائل قيس ، وهم بنو سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان من العدنانية ، ومن منازلهم حرّة سليم ، وحرّة النار ، بين وادي القرى وتيماء.

وأكثر عرب برقة والجبل الأخضر من بني سليم بن منصور ، وهم الذين ابتلاهم الله بالطليان في هذا العصر ، ولم يزالوا يجاهدون عن دينهم ووطنهم منذ عشرين سنة.

وفي عرب مصر كثير من بني سليم بن منصور ، ومشايخ الأحامدة الذين هم مشايخ حرب في الحجاز يقال إنهم من سليم ، وإن جدّهم العباس بن مرداس السلمي.

٥ ـ ثم قبيلة جهينة المنتشرة من ينبع إلى الوجه ، وهم بنو جهينة بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة من العرب القحطانية ، وهم من أكبر القبائل ، قيل : إنّ إبراهيم باشا بن محمد علي

٣٧١

باشا أحصاهم فبلغوا في أيامه (٤٠) ألفا ، وسمعت من يحزرهم اليوم بسبعين ألفا وبمئة ألف ، وهم فئتان : موسى ، ومالك.

وكان أمير جهينة من قبل العرب الشريف جابر بن حمد العياشي ، يقيم بينبع النخل ، ومن جهة الدولة العثمانية لأواخر أيامها بالحجاز الشريف محمد بن علي بن بديوي الهجاري يقيم بينبع البحر.

والمراوين فرقة تابعة لجهينة.

وكان من شيوخ جهينة أحمد بن حماد الشطيري في ينبع النخل ، وصالح بن حامد الصريصري.

وكان حنيشان بن سليم شيخ قبيلة عروة من جهينة.

وكان من مشايخهم في ينبع النخل عبد الرحمن أبو رقيبة ، ومطلق المشرق.

وأشهر فرق جهينة العياشي وهم أشراف ، والصبحة ، والعلاوين ، وذبيان ، والعقيبي ، والحجوري ، والمحياوي ، والفايدي ، والمراوين ، والزايدي ، والعامري ، وهم من قبيلة موسى.

[و] عروة وأشراف ذوي هجار ، والموال ، ورفاعة ، والحصينات ، وبنو كليب ، والحمدة ، والأساورة ، والسناني ، والصيادي ، والريباوي ، والقضاة ، وغيرهم وهؤلاءهم بنو مالك.

٦ ـ ثم قبيلة بلي من الوجه إلى ظبا ، ومن البحر إلى مدائن صالح شرقا. وبلي (بفتح الباء) بن عمرو بن الحاف بن قضاعة.

وقد ذكر القلقشندي أنّ من بلي ومن جهينة قبائل في صعيد مصر.

وقيل لي في المدينة المنورة : إنّ عدد بلي قريب من عدد جهينة.

وهم عدة فرق : المعاقلة ، والعريفات ، والرموث ، والهلبان ، ووابصة ، والسحمة ، والقواعين ، والمواهيب ، وذبالة ، وكان شيخهم سليمان باشا بن رفاد مات في أثناء الحرب العامة.

٣٧٢

٧ ـ وإلى الشرق من بلي قبيلة الفقير ، وهم من عنزة ، ومنازلهم من المدائن إلى تيماء.

وهم فرق : الشفقة والجميعات ، والمغاصيب ، والحجور ، والخماعلة ، وعددهم نحو (١٠) آلاف.

٨ ـ وولد علي : وهم من عنزة أيضا ، ومن هؤلاء قبيلة في بر الشام هي فرقتان :

إحداهما شيخها ابن سمير ، والثانية شيخها الطيار.

وأما الذين من ولد علي بالحجاز فمنازلهم بين العلا وخيبر ، وقد يبلغون (٢٠) ألفا ، وهم : المسعد ، والسند ، والشراعية ، والعطيفات ، والرميلات ، والخالد ، والركاب ، والطلوح ، والدمجان ، وجبارة ، والطوالعة ، وكان أشهر مشايخ ولد علي يوم زرت المدينة فرحان الأيدة.

٩ ـ وأولاد سليمان ، وهم كذلك من عنزة ، ومنازلهم بأطراف خيبر من جهة الشمال والشرق ، وهم من (٥٠) إلى (٧٠) ألفا ، وهم : الشملان ، والسبعة ، والجعافرة ، والبجايرة ، والخمشة ، والسلمات ، وشيخهم العواجي.

١٠ ـ ثم إنّ من قبائل الحجاز مطير : وهم أربع فرق :

الأولى ميمون ، وهم العيابين ، والهويات ، والسكان ، والوهيطات ، والسميحات ، والرماثية ، والمدخال ، والحرشان ، وغراية ، والجعافرة ، ويبلغون نحو (١٠) آلاف.

ثم الصعبة : ومنازلهم بقرب الحناكية إلى الشرق ، وهم : المهالكة ، والشطار ، والحشوش ، والشتيات ، العضيلات ، والمشاريف ، والوطابين ، والهجلة ، وهم في العدد نظير ميمون.

ثم ذوو عون : ومنازلهم من الصفية الى السوارقية ، وهم : الحجيلات ، وذوو ميزان ، والسقايين ، وذوو شطيط ، وذوو بدير ،

٣٧٣

والحلف ، وذوو عزيز ، وعددهم كعدد ميمون أو الصعبة.

ثم الرياحين : ومنازلهم بأطراق السوارقية ، وهم : الوسمي ، والعوارض ، والعناثرة ، والكراكرة ، والعفاسي ، والعطال ، والمطارقة ، والهبور ، وعددهم أقلّ من إحدى الفرق الأخرى ، ومجموع عدد مطير قد يناهز (٤٠) ألفا ويقال : إنّهم أكثر.

١١ ـ ثم إنّ من قبائل الحجاز الحويطات ، ومنازلهم من ظبا إلى المويلح إلى العقبة ، وكان أكبر شيوخهم ياسين بن عليان ، ويبالغ الناس في عددهم ، فيقولون : (١٠٠) ألف ، ويقولون : (٢٠٠) ألف ، ولهم كثير من المراسي على البحر ، ويتصل محلّهم ببني عطية ، الذين في جبال الشراة التابعة اليوم لشرقي الأردن.

١٢ ـ ومن خيبر إلى الحائط والحويط إلى الحرة قبيلة هتيم ، وليست من القبائل المعروفة بالأصالة في العرب ، ولكنّها كثيرة العدد ، تصادم شمّر ، وتصادم حرب ، وتصادم أية قبيلة كبيرة. ويقال : إنها نحو (٢٠٠) ألف نسمة.

١٣ ـ وشرقي هتيم حرب الشرقية ، أي حرب نجد.

١٤ ـ ومن شرقيهم شمر ، وهي من أعظم قبائل العرب ، نسبها في طيء فيما أتذكر.

وأما منطقة الجوف ، فهي تابعة لنجد ، والجميع الآن في مملكة ابن سعود ، وعرب الجوف هم من :

(١٥) عنزة.

(١٦) والشرارات.

(١٧) والحوازم.

ويبلغ عدد أهل الجوف (١٠) آلاف ، ولكنّها تسع أضعاف هذا العدد ، لكثرة مياهها ونخيلها ، وخصب أرضها ، وهي تبعد عن دمشق مسيرة ستة أيام ، وعن بغداد سبعة أيام ، وعن المدينة المنورة ثمانية

٣٧٤

أيام ، وعن حايل سبعة أيام ، فلا يوجد بلدة أوسط منها في بلاد العرب.

وعلى مسافة (١١) ساعة من الجوف مدينة سكاكة ، وقد تكون أكثر سكانا من الجوف.

وأقرب نقطة إلى الجوف من المعمور الغربي هي الكرك ، لأنّ من الجوف إلى محطة القطرانة مسيرة يومين ، ومن محطة القطرانة على سكة حديد الحجاز إلى الكرك مسيرة ست ساعات لا غير.

١٨ ـ وفي منطقة الجوف الطوير ، وفيها (٤٠٠) مقاتل.

(١٩) وقارة وفيها (٧٠٠) مقاتل.

ويتبع هذه المنطقة قريات الملح وهي كاف ، وإثرة ، والقرقر ، والوشواش ، والعقيلة ، وأم الأجراس ، وفيها كلها نحو (٤٠٠) مقاتل ، وهي واقعة في وادي السرحان ، ومركز عامل ابن سعود فيها قرية : كاف.

وعلى مسافة ساعتين منها النبك ، الذي نزل به بقية المجاهدين السوريين لما أجلاهم الإنكليز بالاتفاق مع الفرنسيس عن الأزرق منذ ثلاث سنوات ، وأقام أخي عادل بالنبك نحو سنتين ، ولا يزال فيه محمد باشا عز الدين الحلبي ، ومعه بضع مئات منهم ، كما أنّ سلطان باشا الأطرش ومعه بضع مئات نازلون بالحديثة وعين كرم ، على مقربة من النبك.

وعلى مسافة ثلاثة أيام من مدينة الجوف إلى القبلة بلدة تيماء ، وهي على مسافة يوم إلى الشرق من سكة الحديد الحجازية. ويقول ياقوت : إنّ الأبلق الفرد حصن السموأل بن عادياء مشرف عليها.

وشرقي تيماء قرى متعددة وهي : موقد ، وقبة ، وقنا ، وأم القلبان ، وطوية ، والجذامية ، والوزيد. وبين المدينة وحايل الحائط والحويط.

* * *

٣٧٥

خاتمة الارتسامات

في صفة موقع الطائف الجغرافي والعسكري ومكانه من البلاد العربية كلها

وما كانت شرعت فيه الدولة العثمانية من جعله مركز قوتها في بلاد العرب

وما يجب على الأمة العربية من ذلك

ألا إنّ مدينة الطائف مركز عظيم في بلاد العرب ، لأنّها لمكة من قبيل لازم وملزوم ، ولأنّ إقليمها من أبدع الأقاليم ، وثمراتها من أشهى الثمرات ، ولكونها متوسطة في الجزيرة ، الحجاز محيط بها ، واليمن جنوبيّها ، ونجد والعراق شرقيّها ، والمدينة المنورة والشام شماليّها ، فأختم كتابي ببيان ما يجب على الأمة العربية في موقعها.

لحظت الدولة العثمانية هذه الأهمية لموقع الطائف ، فكان السلطان عبد الحميد الثاني العثماني عزم على مد خط الحديد من الشام إلى المدينة ، ثم إلى مكة فالطائف ، فعسير فصنعاء اليمن ، ولم يقر ذلك بمجرد رأيه ، بل جمع الوزراء وكبار رجال العسكرية ، وبعد مذاكرات طويلة استمرّت عدة ساعات أصدر ذلك المجلس قراره بلزوم إنشاء هذا الخط ، وقاية لجزيرة العرب من عوادي الأعداء ، وتقريبا لها من مركز السلطنة (١).

__________________

(١) نزيد على هذا اعتقاد الترك أنّ سلطانهم على جزيرة العرب لا يتم ولا يدوم إلا بذلك ، فكان أهم غرض لهم منه أن لا يتمكّن العرب من تجديد دولة لهم في معقل وطنهم وعقر دارهم.

٣٧٦

ولقد تمكّن السلطان من إيصال الخط من دمشق إلى المدينة المنورة ، وسارت عليه القطر ، التي لم يكن في كلّ أوربة إذ ذاك قطر أجلّ منها ، وكان المسافر يقطع ما بين دمشق والمدينة أي زهاء ألف وأربعمئة وخمسين كيلو مترا في ليلتين ، ولو لا مصادفة خلع السلطان أيام العمل بهذا الخط لكان أكمله إلى مكة وإلى الطائف وسار به حتى صنعاء.

فمن واجبات الأمة العربية السعيّ في إكمال مشروع السلطان عبد الحميد هذا ، فقد كان السلطان ووزراؤه يرونه ضروريا للوحدة العثمانية ، وكان ذلك حقا ، ولكن العثمانية قد ذهبت ، وذهبت وحدتها ، وانطوى بساطها ، وأما العربية فلن تذهب ، ووحدتها لا تزال نشيد آمال العرب ، وإنّ من أركان هذه الوحدة وأعمدتها الكبرى هذا الخط الحديدي ، الذي لا يقف الإنكليز والفرنسيس في وجه استئناف إتصاله بالشام وفلسطين إلا خوفا من يقظة هذه الوحدة.

ثم إنّ الدولة العثمانية كانت قد شيدت في الطائف ثكنة عسكرية من أعظم ثكن الجند في العالم ، طولها ثلاثمئة متر ، وعرضها يقرب من ذلك ، وأمامها سهل منبسط مستو كحد الحصان ، لا يجتازه الماشي من باب القشلة إلى آخره في أقل من عشرين دقيقة ، وقد جعلت في جانب من هذه الثكنة العظيمة مستشفى متقنا ، وفي وسط ميدان الثكنة الفسيح قصرا لاجتماع أمراء الجيش ، وجميع هذه الأبنية لا تزال ماثلة ، لا ينبغي لها إلا بعض ترميمات غير ذات بال.

ولقد علمت من حديث دار بيني وبين سمو الأمير المهذب الكامل فيصل بن عبد العزيز ـ ثاني أنجال جلالة الملك ، ونائب جلالته في الحجاز ـ أنّ ترميم المستشفى وإعادته كما كان من الأمور المقررة ، وكذلك ترميم القصر الذي في وسط الميدان ، بحيث يجلس فيه الملك عندما يجيء إلى الطائف ، وأنّهم ينوون نقل جميع دوائر الحكومة في

٣٧٧

الصيف إلى الثكنة ، وكذلك دوائر إمارة الطائف ، وهذا لعمري من الأمور التي ينبغي المبادرة إليها وقاية للثكنة من التداعي ، لأنّ كلّ بناء مهجور محكوم عليه بالدثور ، ولقد كلّف بناء هذه الثكنة الدولة العثمانية مبالغ طائلة ، فكلّما تأخرت إقامة الحكومة بالثكنة ازدادت على الحكومة الحجازية النجدية كلفة تجديدها.

وأما الجند النظامي السعودي الذي في الحجاز فإنّه يقيم في مكة بالثكنة التي في جرول في أول البلد الحرام للقادم من جدة ، ويقيم في جدة بثكنة جدة المناوحة للبحر ، ويقيم في الطائف بفلعة الطائف ، وهي قلعة بنيت منذ نيف ومئة سنة ، قيل لي : بناها الوهابيون قدمتهم الأولى في القرن الماضي. ولقد زرتها وسررت بانتظام الجند الذي فيها بقيادة ضابط تركي باق من أيام الملك حسين ، اسمه تحسين بك ، من خيرة الضباط.

ولقد ازدادت الثقة الآن بحسن قيادة الجيش الحجازي بعد أن عهد بها الملك عبد العزيز أيده الله إلى المجاهد المناضل ، والعالم الفاضل ، فوزي بك القاوقجي ، من نخبة ضباط العرب ، وفقه الله لتحقيق آمال الملك وآمال العرب في القوة النظامية السعودية.

* * *

٣٧٨

صفة قتل مدحت باشا ومحمود باشا الداماد

ولما زرت القلعة جلسنا في الغرفة التي كان يسكن بها مدحت باشا أبو الدستور العثماني (١) ، والتي قتل فيها ، وأمامها غرفة كان يسكن فيها محمود باشا الداماد ، وهناك غرفة ثالثة كان يسكن فيها خير الله أفندي شيخ الإسلام ، هؤلاء الثلاثة الذين نفاهم السلطان عبد الحميد إلى الطائف من أجل خلع عمه السلطان عبد العزيز.

ولقد استقصيت من تحسين بك المذكور ، ومن الشيخ محمد بكر كمال رئيس بلدية الطائف ، ومن غيره من المعمّرين فيها عما يعلمونه من كيفية قتل مدحت ومحمود الداماد ، فقيل لي ما خلاصته : جعلوا إقامتهم من البداية في القلعة ، لكن مع الترفيه والاعتناء ، وكان لهم طاه خاص يصلح لهم طعامهم ، لكن بعد أن مضت على ذلك مدة ، شرعوا بالتضييق عليهم ، وأبوا أن يطعموهم إلا من غذاء العسكر ، وبعد عدة سنوات من حبسهم بالقلعة ، وفي أيام الوالي المشير عثمان نوري باشا ، قرروا قتل مدحت باشا ومحمود باشا الداماد ، وكان مدحت في الغرفة التي جلسنا فيها ، وهي محل استقبال الزائرين اليوم ، فدخل عليه ملازم تركي اسمه إسماعيل ، قيل لي يوم كنت بالطائف صيف سنة (١٣٤٧)

__________________

(١) [انظر ترجمته في كتاب «علماء كما عرفتهم» للشيخ محمد سعيد الباني ص (٢٠٥) وهو من جمعي وتحقيقي ، نشر دار القادري بدمشق].

٣٧٩

إنه لا يزال حيا يرزق ، وأنه مقيم بجدة ، ولم يكن قتل هذا الضابط لمدحت خنقا كما كنا نسمع ، بل قبض على أنثييه ، واستلهما بقوة عصبه ، فبرد مدحت في مكانه ، ثم عادوا إلى الداماد ، فحاول أن يجاحش عن خيط رقبته ، ولكنّهم صرعوه ، وأزهقوا روحه ، ولم يستسلم [مدحت ومحمود] للموت بدون صراخ ، بل استغاثا بالجيران الذين بيوتهم مجاورة للقلعة ، فصاح النساء بالذين في القلعة ، ووبخنهم ، ودعون عليهم ، واشتدت الولولة ، إلا أنّ ذلك لم يمنع قيام القتلة بإنفاذ الأمر.

وأما خير الله أفندي شيخ الإسلام فلم يمسوه ، وبقي في القلعة إلى أن مات ، وتزوّج وهو بالقلعة ، وأولد أولادا ، وعاش طويلا ودفن مدحت ومحمود الداماد بتربة الحبر ابن عباس ، ولكنّ رئيس البلدية قال لي : إنّهم لا يعلمون في أية زاوية من الجبانة كانت مراقدهما ، وقد جاء بعض الأتراك بعد إعلان الدستور العثماني ، وبحثوا عنهما وبنوا لهما قبرين حيث رجّح النّاس أنّه وقع دفنهما.

وأما قطع رأس مدحت وإرساله إلى السلطان عبد الحميد في الآستانة كما هو شائع فلا يعلم هؤلاء الرواة شيئا عنه.

ذكرنا هذه الواقعة لأنّها تاريخية مهمة.

وكان الفراغ من تبييض هذا الكتاب بمدينة لوزان من بلاد سويسرة لأربع خلون من ذي الحجة سنة (١٣٤٩) موافق (٢٢) إبريل ـ نيسان سنة (١٩٣١).

والحمد لله أولا وآخرا

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا

وقد تمّ طبعه في شهر المحرم سنة (١٣٥٠) ولله الحمد.

وقد تم تجديد طبعه في شهر ربيع الأول سنة (١٤٢٤) ولله الحمد

٣٨٠