الرّحلة الحجازيّة

الأمير شكيب أرسلان

الرّحلة الحجازيّة

المؤلف:

الأمير شكيب أرسلان


المحقق: حسن السماحي سويدان
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار النوادر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٩

لم نطلع على شيء من أخبار موضعها.

ووصف بعض أهل الصناعة في صيغة الفضة أنّه وجد معدن فضة فوق مدينة جبلة (١) ومعدن رصاص أسود في الشعب المدني.

__________________

أخف ماء وأطيبه ، ويصلح عليه الشعر ويكثر.

وأهل المعافر وما والاها يستعملون السكينية في الرأس وتحسن في بلدهم (قلت السكينية طرة منسوبة إلى سكينة ، على وزن جهينة وهي بنت الحسين بن علي رضي‌الله‌عنهما ، شهدت مع أبيها الطفّ ، ولما رجعت إلى المدينة خطبها أشراف قريش ، فأبت وترفّعت ، وبقيت تبكي على أبيها حتى ماتت كمدا رضي‌الله‌عنها).

ويفضي قاع جبأ في المنحدر إلى ناحية بلد بني مجيد ، إلى كثير من قرى المعافر ، مثل حرازة ، وصحارة ، وعزازة ، والدمينة ، وبزداد ، وساكن هذه المواضع من بطون حمير من ولد المعافر بن يعفر. ا ه.

قلت : وكانت معافر كثيرة العدد في جالية العرب إلى الأندلس ، وقد جاء أمامي ذكر المعافري كثيرا في كتاب «الصلة» لابن بشكوال ، و «التكملة» لابن الآبّار البلنسي ، و «بغية المتلمس» لابن عميرة ، و «نفح الطيب» للمقري ، وناهيك أنّ محمد بن أبي عامر الملك المنصور الشهير الفاتح ـ المعدود من أعظم رجال الإسلام ، بل رجال العالم ، الذي غزا ستا وخمسين غزوة في الإفرنج لم تنكس له راية في واحدة منها ـ هو معافريّ ، ونسبه محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك المعافري ، وعبد الملك جدّه هو الوافد مع طارق بن زياد على الأندلس. [انظر سيرته في كتاب «منصور الأندلس» للأستاذ علي أدهم من سلسلة أعلام الإسلام].

(١) جبلة (بكسر فسكون) مدينة باليمن ، تحت جبل صبر ، وتسمى ذات النهرين ، وهي من أحسن مدن اليمن ، وأنزهها ، وأطيبها. قال عمارة : جبلة رجل يهودي كان يبيع الفخار في الموضع الذي بنت فيه الحرّة الصّليحية دار العروبة ، وسميت باسمها.

وكان أول من اختطها عبد الله بن محمد الصّليحي ، ويقال لها : ذو جبلة أيضا.

٣٤١

وذكر أيضا أنّ في جبل بني سبأ (١) قبلي ضرية (٢) عمرو ، وفي رأس نقيل (٣) مما يلي بني سيف معدن نحاس ، وقد أخذ منه ، وعمل عملا ، وهو بالقرب من الطريق الذي ينزل منها إلى بني سيف.

وفي مكان يسمّى حوبر (٤) قفر حاشد (٥)

__________________

وياقوت قال : إنّها مدينة ، وصاحب «تاج العروس» قال : إنّها قرية ـ ولعلّها في زمن الزّبيدي أي منذ نحو (٢٠٠) سنة ـ كانت أنحطّت إلى قرية.

(١) بفتح أوله وثانيه وهمز آخره وقصره ـ أرض باليمن ، مدينتها مأرب ، بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام ـ على قول ياقوت ـ سميت سبأ باسم سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، وكان اسم سبأ عامرا ، وإنما سمي سبأ لأنّه أول من سبى السبي ، ولما كان سيل العرم ، تفرّق أهل اليمن ، فقيل ذهبوا أيدي سبا ، أي طرائق سبأ ، فاليد الطريق ، ومتى قيل : تفّرقوا أيدي سبا ، لا ينبغي الهمز ، لأنّه كثر في كلامهم ، فاستثقلوا الهمزة.

(٢) الضرية ـ بفتح فكسر وياء مشددة ـ مأخوذة من الضراء هو ما واراك من شجر ، ويقال للأرض المستوية إذا كان فيها شجر : ضرّاء ، فإن كانت في هبطة فهي غيضة.

(٣) النقيل بلغة أهل اليمن العقبة ، وفي اليمن نقيل بين مخلف جعفر وبين حقل ذمار ، وعمل فيه سيف الإسلام عتبا ، سهل به طلوعه ، وفي رأسه قلعة تسمى سمارة ، قاله ياقوت.

(٤) لم نعرف هل هو حوبر بالمهملة ، أو جوبر بالمعجمة ، أو هو مصحّف عن حوير بالياء ، أو جوير ، أو عن غير ذلك ، وقد وجدنا خوير اسم نهر بالخاء المعجمة في أرض حاشد.

(٥) حاشد حي من همدان ، يذكر مع بكيل ، قال الهمداني (٢٣٩) : أمّا بلد همدان فإنّه آخذ لما بين الغائط وتهامة من نجد والسراة في شماليّ صنعاء ، ما بينها وبين صعدة من بلد خولان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة ، وهو منقسم بخط عرضي ما بين صنعاء وصعدة ، فشرقيه لبكيل ، وغربيه لحاشد ، وفي قسم بكيل بلاد لحاشد ، وفي قسم حاشد بلاد لبكيل ، ثم شرح الهمداني أقسام كلّ من حاشد وبكيل ، ومدن الفريقين ، وقراهما ، وأوديتهما ، وأسواقهما ، فمن

٣٤٢

وعتمة (١) معدن ذهب. وفي بلد سماه معدن فضة ، وفي واد من بلد حراز (٢) معدن ذهب ، وفي ذمار القرن معدن نحاس أحمر جيد ، وكذلك اثنان من المعادن في رداع (٣) ،

__________________

شاء معرفة ذلك فعليه بمطالعة «صفة جزيرة العرب».

(١) حصن من جبال وصاب من عمل زبيد ، ولفظها بضمتين.

(٢) بالفتح وتخفيف الراء ، وآخره زاي ـ مخلاف باليمن ، قرب زبيد ، سمّي باسم بطن من حمير ، وهو حراز بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن أيمن ابن الهميسع بن حمير. ويقال لقريتهم : حرازة ، وبها تعمل الأطباق الحرازية ، قاله ياقوت في «المعجم» : وذكر الهمداني أيضا الأطباق الحرازية ، وربما نقله ياقوت عنه.

وأما قول الهمداني عن حراز فهو مايلي (٢٢٨) : مخلاف حراز وهوزن ، سبعة أسباع أي سبع بلاد : حراز المستحرزة ، وهوزن ، وكرارا ، وإليها تنسب البقر الكرارية ، وصعفان ، ومسار ، ولهاب ، ومجيح ، وشبام ، ومجمع الجميع اسم حراز وهوزن وهما بطنان من حمير الكبرى ، وهما ابنا الغوث بن سعد بن عوف بن عدي.

(٣) ذكر الهمداني رداع في وادي اليمن الشرقي ، وقال ياقوت : رداع بضم أوله ـ وأصله النكس من المرض ، وقيل : وجع الجسد أجمع ـ هو مخلاف من مخاليف اليمن ، وهو مخلاف خولان ، بين نجد وحمير ، الذي عليه مصانع رعين ، وبين نجد مذحج الذي عليه ردمان وقرن ، قال : وبه وادي النمل المذكور في القرآن المجيد ، وخبرّني بعض أهل اليمن أنّه بكسر الراء. ومنها أحمد بن عيسى الخولاني له أرجوزة في الحجّ تسمّى الرداعية.

قلت : هذه الأرجوزة استوفاها الهمداني في آخر كتابه «صفة جزيرة العرب» (٤٠١ ـ ٤٥٨) أولها :

أول ما أبدأ من مقالي

فالحمد للمنعم ذي الجلال

والمنّ والآلاء والإفضال

والملك والجدّ الرفيع العالي

عدّ خليلي كم مضت ليال

من شهر ذي القعدة مع شوّال

ثم أنم بالكور عن شملال

عيدية أو قطم ذيّال ـ

٣٤٣

.................................................................................

__________________

قد دق منه موضع الحبال

ثمّت نادى القوم بارتحال

قوله (الجد الرفيع العالي) أي العظمة ، قال في «تاج العروس» الجدّ العظمة ، وفي التنزيل (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) [الجن : ٣] قيل : جده عظمته ، وقيل : غناه ، وقال مجاهد : جدّ ربنا ، جلال ربنا ، وقال بعضهم : عظمة ربنا ، وهما قريبان على السواء ، وفي حديث دعاء الاستفتاح في الصلاة : «تبارك اسمك وتعالى جدّك» ا ه قال لي السيد جمال الدين الأفغاني : تعالى جدّك أي سريرك ، والجد هو معرب «ككد» وهو السرير بالفارسية ، ولكن غاب عن علمائنا أصلها!! ثم منها :

فتيان صدق من بني أبيكا

فإنّهم أولى بما يعنيكا

وأسرع القوم لما يرضيكا

إني سأصفيك الذي أصفيكا

فاسمع إلى قولي إذ أوصيكا

أوامرا أضعاف ما يوليكا

من تره يرغب ويزدد فيكا

ثم ادع ربا مالكا مليكا

فإنّه أجدر أن يكفيكا

وقل صحابي ارتحلوا وشيكا

وهي نحو (٥٥٠) بيتا ، مقسومة إلى مقطوعات ، كلّ مقطوعة خمسة أبيات ، يذكر فيها جميع منازل الحج إلى البيت الحرام برجز سلس متين بغاية الانسجام.

ويقول عند الوصول إلى البيت :

بعقبة في الحرم المحرّم

ألقي به يا ناق رحلي واسلمي

في منزل كان لرهط الأقدم

ثم عن الحجون لا تلعثمي

إلى جوابيها العظام العظّم

ثم اشربي إن شئت أو تقدّمي

منها لردم السؤدد المردّم

ردم بني مخزومها المخزّم

حتى تناخي عند باب الأعظم

وتشربي ريا بحوض زمزم

* * *

والحمد لله الذي قد أنعما

سيّرنا في أرضه وسلّما

حتى أتينا بيته المحرّما

منا فعظمناه مع من عظّما

ثم هدانا نسكا وعلّما

كما هدى قبل أبانا آدما

ثم تطوّفنا به تحرّما

وسنة يفعلها من أسلما

ثم استلمنا ركنه المكرّما

ثم ركعنا ووردنا زمزما

٣٤٤

واثنان ذهب وحديد في القانع (١) ، وكذلك معدن في البيضاء (٢) نحاس.

ومما وجد في بعض الكتب المكتوم سرّها وتركيبها من معادن الأجساد الترابية التي بين بيشة وذمار خمسة وعشرون موضعا مشهورا ، ولا يصلح منها إلا ستة :

واحد منها بنجران.

__________________

ويقول في الإفاضة :

حتى إذا ضوء النهار أدبرا

وغابت الشّمس استطاروا حسّرا

يدعون ذا العزّ الذي تجبّرا

ثم مضى إمامهم وكبّرا

إفاضة لم تك فيهم منكرا

قد لزموا التؤدة والتوقّرا

حتى أتوا جمعا ، وجاءوا المشعرا

ثم أناخوا ساهمات ضمّرا

بها يخافون العذاب الأكبرا

حتى إذا ضوء الصباح أسفرا

* * *

وانجاب ليل ودنا النّهار

سار إمام الناس ثم ساروا

مع كل مرء منهمو أحجار

سبع لطاف صنّع صغار

ثم مضوا عليمو وقار

لجمرة من دونها جمار

ثم رموها ولهم كبار

وحلّقوا وذبحوا وازداروا

يوما به للبدن مستطار

من طول ما يشحذها الشفار

وآخر مقطوعة منها :

فالحمد لله على إحسانه

وفضله المعروف وامتنانه

سيّرنا ذو اللطف في بلدانه

في رزقه العفو وفي أمانه

حتى أتينا البيت في مكانه

ثم قضينا شأننا من شانه

من طوفه والمسح من أركانه

ثم هدانا الله في ضمانه

كلّا إلى المحبوب من أوطانه

مع الذي يأمل من غفرانه

(١) لم نعثر على ذكر القانع أو هي مصحفة.

(٢) ذكر ياقوت في «المعجم» ستة عشر موضعا باسم البيضاء ، لكنّه لم يذكر ولا بيضاء في اليمن. [ذكر القاضي الأكوع : البيضاء في اليمن وكان يسكنها آل الجلال].

٣٤٥

الثاني : بشرس (١) في مكان يسمى القروات.

الثالث : بسحر من نواحي هجرة عريمان (٢).

الرابع : في بلاد بني شداد (٣) يسمونه كحال.

الخامس : بردمان بني النمري (٤) في سكان يسمى العنقفير.

السادس : في جبل الأحزم (٥) في سارع ، وهو أفضل هذه ، لكن قد نزل قدر ثمانين ذراعا (وفي الأصل ثمانون ، وصاحب هذه الرسالة لا يقيم النحو كثيرا) وحلف عليه من عرضه ، وهو رطب لا يحتاج لدواء.

والثاني مما يذكر يخرج قاسيه يحتاج إلى ملينات ، ثم خرج واحد

__________________

(١) ذكر الهمداني شرس هذه ، وضبطها بفتح فكسر ، وذلك عند كلامه على أسواق حاشد ، قال (٢٤٨) : فأولها وأقدمها سوق همل ، وهمل (بفتحتين) من الخارف ، وهي سوق جاهلية ، والكلابح المرانيين من الجبر (بفتحتين) ، وباري للفائش من الجبر ، وسوق صافر ، وسوق الفاقعة ، وسوق الأهنوم ، وسوق الظهر ، وسوق قطابة (بضم أوله) والعرقة ـ بفتح فكسر ـ لوثن بن قدم (بضم ففتح) عيان سوق قديمة من همدان ، وأدران وحجة ونمل وقيّلاب ـ بفتح فسكون ـ وشرس ، وحملان ـ بضم فسكون ـ ويند ، الخ.

(٢) أورد الهمداني ذكر سحر وهجرة.

(٣) ذكر الهمداني بني شداد وقال (١٩٨) : إنّ لهم أودية كثيرة النخل مثل البجباجة.

(٤) ردمان مشرق صنعاء ، الذي يقع بينها وبين مأرب ، وهو مخلاف خولان بن عمرو. وهم خولان العالية ، الذين ذكرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «اللهم صلّ على السكاسك والسكون ، وعلى الأملوك أملوك ردمان ، وعلى خولان العالية» وقال الهمداني (٢٢٠) : مخلاف رداع القريتان ، رداع وثاث والعروش ، ونشران ـ بضم فسكون ـ وأذنة ، ـ محركة ـ ورحبتها ، وبلد ردمان ـ بفتح فسكون.

(٥) جبل الأحزم قال الهمداني (٢٤٦) : إنه الجنوبي من جبلي لاعة في غربي صنعاء.

٣٤٦

في قرب سوق (كذا) (١) فوق قرية الهجر (٢) من بلاد الأهنوم (٣) في زمن الإمام شرف الدين عليه‌السلام ، وضع منه ولده شمس الدين ابن الإمام ، وهو جيد يماثل الذي في أحزم بالصلاح.

وحكي أنّ في سارع بادية تسمى السواد ، فيها مكان يسمّى بني سعيد ، فيها مكان يسمّى عدة الزعلا ، مقابل لمكان يسمى المقتال ، فيها جنس يفرح القلب.

ومما حكي أنّ جبل شايبة جبل الصلب (٤) في شرقيه لون شمسي ، والمليح الذي يناله الشمس ، والثاني غربيّ الجبل ، مشهور كثير يجذوه تظهر فيه فضة مليحة طيبة.

وأما المواضع التي تكثر شهرتها ، فواحد بجبل الشرف من بلاد أنس بمكان يسمّى الركن ، والأشهر في اسمه أبو صلاح ابن علي ، وواحد بمكان يسمى البونين (٥) مستور ، وواحد في آكام بني الأقرعي ، في مكان

__________________

(١) هنا كلمة لم نقدر أن نتبينها فوضعنا محلها لفظة كذا.

(٢) الذي عثرنا عليه هو أن الهجر في بلد حكم بتهامة ، فهل هي هذه ، أو قرية أخرى بهذا الاسم لا نعلم ، فقد ذكر الهمداني (١٧٠) أنّ معنى هجر القرية بلغة حمير ، والعرب العاربة ، فمنها هجر البحرين ، وهجر نجران ، وهجر جازان ، وهجر حصبة من مخلاف مأذن.

(٣) ورد ذكر الأهنوم في أسواق حاشد ، وقال الهمداني في محل آخر : جبل الأهنوم من همدان ، ثم من حاشد ، بطن من خولان بن عمرو بن الحاف ، وهو قبالة تخلى من شماليه ، وعلى وصفه من جبال السراة وهو أحصن ، وأثلع ، وأوسع.

(٤) نظنه الصلب ـ بضم ففتح مشدد ـ أي حجر المسن.

(٥) قال ياقوت : بون مدينة باليمن ، وزعموا أنّها ذات البئر المعطلة والقصر المشيد ، المذكورين في القرآن العظيم ، قال : وحدثني أبو الربيع سليمان المكي ، والمفضل بن أبي الحجاج أنّهما بونان ، وهما كورتان ذاتا قرى ، البون الأعلى ، والبون السفل ولا يقوله أهل اليمن إلا بالفتح ، وهي مذكورة هنا بالتثنية.

٣٤٧

يسمى السهر ، تحت القدرة ، لونه عجيب يفرح القلب ، وواحد في ملتقى وادي مزهر ، ووادي صيحان (١) بقرب الجود يعرفه البداوة وبعض المحاددين انتهى.

عمران جزيرة العرب

وما يجب على الحكومتين السعودية والإمامية من استئنافه

هذا ما آثرنا ذكره على وجه الاختصار عن معادن جزيرة العرب التي يجب على حكومة الحجاز ونجد من جهة ، وحكومة اليمن من جهة أخرى ، أن تبادرا فيها إلى مباحث فنية دقيقة عميقة ، بدون أن يثبطهما عن ذلك ملاحظات سياسة ، كالتي تقدّم ذكرها. فإنّ هذه الملاحظات غير واردة ، وإنّ استئناف عمران جزيرة العرب متوقّف على أمرين :

أحدهما : ترقية أحوال الزراعة ، باستعمال الآلات الرافعة الحديثة ، واستنباط المياه ، وبناء السدود ، وحفر الآبار الارتوازية ، وما أشبه ذلك ، ما يزيد كمية مياه الري.

والثاني : تعدين المعادن التي في الجزيرة ، واستخراج أفلاذ هذه الأرض ، التي طالما كانت تغني الأهالي في الأعصر القديمة ، وما صلح به أول الأمر يصلح به آخره.

فإذا دأبت الحكومات العربية المستقلة في هذه السبيل من الآن ، وسارت تدريجا ، وجدت من العرب الآخرين الذين بالشام ومصر والعراق والمغرب وغيرها من يأخذ بأيديها ، وذلك لأنّ جميع العرب في الدنيا يهتمون بتقوية الجزيرة العربية ، وصيانتها ، وإصلاح أمورها ، كما يهتمون ببلدانهم ومساقط رؤوسهم ، إن لم نقل زيادة ، لأنّها هي دار العروبة ، وعقر الأمة الناطقة بالضاد ، والمركز الذي تفرقوا منه إلى سائر البلدان ، والملجأ الذي يلجأون إليه إذا نبا بهم الدهر ، وأديل من المد

__________________

(١) وادي صيحان بأرض نجران.

٣٤٨

بالجزر ، وحسبك أنها هي أيضا دار الإسلام ، ومبعث الدين ، ومهوى أفئدة المؤمنين ، وإنّ فيها المثابة التي تخفق عليها قلوب ثلاثمئة وخمسين مليون نسمة من العالمين ، وهي البيت الحرام ـ حماه الله ـ مركز الحج ، ومقصد المسلمين من كل فجّ ، فلا يوجد مسلم على وجه البسيطة إلا وقلبه مشغوف بهذا البيت وجواره ، مشغول بنصرة حماته وعمّاره.

ولقد صادفت كثيرين من مسلمي الأمم غير العربية ـ أذكر الآن منهم كثيرين من أعيان التتر وفضلائهم ، لقيتهم في موسكو بعد صلاة الجمعة ـ فرأيت من اهتمامهم بأمر الجزيرة العربية والحجاز الشريف وإحفائهم في الأسئلة عنه ، وتواجدهم الشديد ـ ما لا يمكن أن يكون أكثر منه عند العرب أنفسهم.

دحض شبهة عدم قابلية الجزيرة للعمران

ومما يذهب إليه بعض الناس أنّ جزيرة العرب لا يتهيأ لها أن تكون ذات مستقبل باهر ، وأن تكون ميدان عمل للعرب ، وذلك لحرارة إقليمها التي تزيد على درجة الاحتمال ، وتمنع العرب الذين في الديار الشمالية من الدأب في أطراف الجزيرة ، ولا رأي أعرق من هذا الرأي في الوهم ، فلو كانت الحرارة تمنع العمل لمنعت الأوربيين ، الذين نجدهم في الهند ، وجاوة ، ومدغشقر ، وزنجبار ، وأوغندة ، وموزامبيق ، وبلاد الرأس ، (١) والكونغو ، وغينية ، والسنغال ، وأمريكة الجنوبية ، وغيرها مما لا يحصى ، وقد صاروا فيها كالجراد المنتشر ، وعمّروا فيها أوطانا ، وأدركوا أوطارا ، وهم أقلّ منّا تحملا للحرارة ، وآلف منا للبلاد الباردة ، ولكنّهم قاتلوا حمارّة القيط بالوسائل الفنية ،

__________________

(١) [رأس الرجاء الصالح].

٣٤٩

وبإسالة المياه ، وغرس الأشجار ، وبثّ الخضرة حول المنازل ، بحيث تجدهم بواسطة الفن في نعيم مقيم في وسط ذلك السعير.

على أنّ الحرارة الشديدة إنما هي في أشهر معدودات من الصيف ، وفي سواحل الجزيرة وتهائمها ، التي إن ارتفع الإنسان عنها مسافة بضع ساعات في الجبال رقّ الهواء ، وطاب الإقليم ، ومن هناك كلما ارتفع صار إلى الأهوية اللطيفة والأماكن التي لا يفضلها في الصيف مكان من المعمور كله.

* * *

٣٥٠

جبال جزيرة العرب أطيب هواء

من لبنان وسويسرة

إنّ في جزيرة العرب سلسلة جبال عالية ، لا تجد أحسن منها هواء ، ولا أطيب إقليما ، لا في جبال لبنان ، ولا في جبال سويسرة ، ولا في غيرها.

ولأجل أن تعلم ارتفاع هذه الجبال ، أريد أن أدكر لك علوّ بعض المدن والقرى العربية عن سطح البحر ، مما أمكنني الاطلاع عليه في كتب من تأليف ضباط من أركان حرب الجيش التركي ، أطالوا الإقامة باليمن ، وكتبوا عنه :

فالطائف تعلو نحو (١٦٠٠) متر عن سطح البحر ، على حين عين صوفر أبدع مصيف في لبنان لا تعلو أكثر من (١٢٥٠) ولا يوجد في جبل لبنان مكان مسكون يعلو عن سطح البحر أكثر من (١٥٠٠) متر.

وأن علو أبها ـ مركز حكومة عسير ـ عن سطح البحر (٢٢٧٥) مترا وأعلا منها سوغا فهي تعلو (٢٣٦٠) مترا ، وهناك بلدة غامد وعلوها (٢١١٠) أمتار ، ومحائل وعلوها (١٦١٠) أمتار.

ثم إنّ صنعاء اليمن تعلو عن سطح البحر (٢٣٤٢) مترا ، وجبل نقم ـ الذي تقدّم ذكره ـ يعلو (٢٩٤٢) مترا ، وكوكبان (٣٠٠١) متر ، وتعز (١٣٤٧) مترا ، وعمران (٢٣٠٢) وصعدة (٢٢١٦) والروضة (٢٣٠٦) وتلا (٢٨٦١) وذو مرمر ـ تقدم ذكرها في بحث المعادن ـ (٢٦٩٨)

٣٥١

وشبام ـ تقدم ذكرها أيضا (٢٦٣٥) وذمار (٢٤٣١) وبوعان (٢٩٣٦) وسوق الخميس (٢٣٧٢) ومناخة (٢٣٢١).

فارتفاعات مثل هذه مهما يكن من وجودها في منطقة جنوبية لا يمكن إلا أن تكون المثل الأعلى في رقّة الهواء ، وطيب المناخ ، والملاءمة للصحة ، وهذه الجبال هي عندي أوتاد البيت العربي ، لا في منعتها الطبيعية ومواقعها الحربية فحسب ، بل في بيئتها الصحية ، ونقاوتها الجوية ، إذ ذلك من أعظم العوامل التي تعتمد عليها الأسرة العربية في صيانة نفسها.

وهذه السلسلة الجبلية العالية ممتدّة من بلاد الشام ، ومن أهم أقسامها وأطيبها نجعة جبال الشراة ، التي كانت معمورة جدا في صدر الإسلام ، والتي لها مستقبل كبير للعرب ، ومستأنف باهر لو خلصت من أيدي الإنكليز.

ولقد أقمت بقصبة معان شيع شهر في أثناء الحرب العامة سنة (١٩١٥) إذ كنت ذاهبا ومعي (١٢٠) مجاهدا من جماعتي إلى حرب الترعة ، منضما إلى الجيش العثماني الحجازي ، الذي كان يقوده وهيب باشا ، وسرنا من معان هبوطا مستمرّا إلى قلعة النخل في صحراء التيه (١) ، ولقد قطعت في تلك الرحلة جانبا من جبال الشراة ، وعرفت أي جبال هي ، وأي نجعة طيبة هنالك.

ومن حول وادى القرى في الحجاز جبال وأودية وعيون تقدّم الكلام على شيء منها.

وفي جهات المدينة المنورة جبل رضوى الشهير ، قال أبو زيد : وقرب ينبع جبل رضوى ، وهو جبل منيف ، ذو شعاب وأودية ، ورأيته

__________________

(١) [صحراء سيناء ، انظر تفصيل ذلك في كتاب الأمير شكيب «تاريخ الدولة العثمانية» وهو من جمعي وتحقيقي نشر دار ابن كثير بدمشق].

٣٥٢

من ينبع أخضر ، وأخبرني من طاف في شعابه أنّ فيه مياها كثيرة وأشجارا ، ومن رضوى يقطع حجر المسنّ ، ويحمل إلى الدنيا كلها ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رضوى رضي‌الله‌عنه ، وقدس قدسه الله» (قدس بضم فسكون جبل بتلك الناحية) و «أحد يحّبنا ونحبّه» (١).

قلت : وحدّثنا من يعرفون رضوى أنه مصيف كأحسن ما يوجد من مصايف الشام ماء وهواء ، وهو على مقربة من المدينة ، ومن ينبع ، وعلى ليلتين من البحر ، فلا يلزم لرضوى إلا تعبيد طريق تسير عليها السيارات ، ليعمر ، وتسكنه النّاس وتقصده في أيام القيظ.

وقال الهمداني (٢٦٧) : الجبال المشهورة عند العرب المذكورة في أشعارها : أجأ ، وسلمى ، جبلا طيء ، وأبان (بفتح أوله) ، وتعار (بفتح أوله) ، ولبن (بضم فسكون) وقدس ، ورضوى ، وغزوان ، ويسوم ، وحراء ، وثبير ، والعارض ، وقنان (بفتح أوله) وأفرع (على وزن أفعل) والنير (بكسر النون) وعسيب ، ويذبل ، والمجيمر ، ولبنان ، واللكام.

ومن أنزه الجبال في الجزيرة : أجأ وسلمى جبلا طيء. قيل : إنّ أجأ اسم رجل ، وسلمى اسم امرأة ، وقيل : أجأ علم مرتجل ، وقيل : بل

__________________

(١) أما جبل أحد فحديثه في «الصحيحين» وأما رضوى وقدس فلا يصحّ فيهما ما ذكر.

وقالوا : إنّ المراد بحب أحد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حبّ أهله ، وهم الأنصار رضي‌الله‌عنهم ، وجوّز بعضهم حمله على الحقيقة لمعنى غيبي.

وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ونحبه» فجواز الوجهين فيه أظهر ، فإنّ الناس يحبون بلادهم وأوطانهم ، ويفضّلون بعض جبالها ومواقعها الجميلة في الحب على بعض ، وأحب ما يحبون منها أهلها ، ولا سيما الآل والأصحاب والأحباب ، قال الشاعر :

أمرّ على الديار ديار ليلى

أقبّل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حبّ الديار شغفن قلبي

ولكن حبّ من سكن الدّيارا

ا ه. مصححه.

٣٥٣

منقول ، معناه الفرار ، يقال : أجأ الرّجل إذا فرّ.

قال الزمخشريّ : أجأ وسلمى جبلان عن يسار السميراء ، وقد رأيتهما شاهقان.

ونقل ياقوت عن أبي عبيد السكوني : أجأ أحد جبلي طيء ، وهو غربي فيد ، وبينهما مسير ليلتين ، وفيه قرى كثيرة ، قال : ومنازل طيء في الجبلين عشر ليال من دون فيد ، إلى أقصى أجإ ، إلى القريات من ناحية الشام ، وبين المدينة والجبلين على غير الجادة ثلاث مراحل. قال امرؤ القيس (١) :

أبت أجأ أن تسلم العام جارها

فمن شاء فلينهض لها من مقاتل

أي أبت أهل أجأ ، حذف المضاف ، وأقام المضاف إليه مقامه ، مثل قالت إنكلترة لفرنسة كذا ، واحتجت ألمانية على كذا ، وعقدت أمريكة معاهدة كذا الخ.

وقال عارق الطائي :

ومن أجإ حولي رعان كأنّها

قنابل خيل من كميت ومن ورد

وقال العيزار بن الأخفش الطائي :

ألا حيّ رسم الدّار أصبح باليا

وحيّ وإن شاب القذال الغوانيا

تحمّلن من سلمى فوجّهن بالضّحى

إلى أجإ يقطعن بيدا مهاويا

وقال زيد بن مهلهل الطائي :

جلبنا الخيل من أجإ وسلمى

تخبّ نزائعا خبب الرّكاب

جلبنا كلّ طرف أعوجيّ

وسلهبة كخافية الغراب

وكان يحدّثني عن هذين الجبلين وما فيهما من الريف والخصب والأودية والعيون الخ رشيد باشا النجدي ، الذي كان معتمدا لابن رشيد في الآستانة العلية أيام السلطنة العثمانية ، وسمعت أخبارهما من نجديين

__________________

(١) [ديوانه (٩٥].

٣٥٤

آخرين ، وطالما تمنيت لو أمكنتني الرحلة إلى نجد والتنزّه فيهما.

والسلسلة الجبلية من الحجاز إلى اليمن متصلة ، وعن يمين الذاهب من الشام إلى مكة التهائم ، الواصلة إلى سيف البحر الأحمر ، وعن اليسار بلاد نجد ، وهي من أطيب البلدان نجعة ، وألطفها هواء ، يضرب المثل بجودة هوائها ، فيقال : بلاد نجدّية الهواء (١).

وإذا سار الراكب من الطائف إلى صنعاء اليمن ، لم يصل إليها إلا في مسيرة شهر ، كلها في الجبال العالية ، والأهوية اللطيفة ، والمناظر البديعة ، والمناهل العذبة.

ما شاهدنا من الأماكن النزهة بجوار الطائف

وأما ما تيسّر لي مشاهدته من الأماكن النزهة بجوار الطائف فهو وادي محرم ، أي قرن المنازل ، الذي ينتهي إلى وادي السيل ، ومنه يحرم الحجّاج الذين هم آتون من الشرق ، ولا يبعد وادي محرم عن الطائف أكثر من ساعة ونصف ، وهو على طريق الكرا ، وهو واد يجفّ في الصيف ، إلا أن البساتين منتظمة بجانبه ، على مسافة ثلاث أو أربع ساعات ، تشرب بالسواني ، وفيها من جميع أصناف الفواكه وألذّها ،

__________________

(١) للشعراء من المدح لهواء نجد والحنين إلى صبا نجد ما يكاد يفوق نسيبهم وتشبيبهم بالغواني الحسان ، ولعلّ أمير البيان لو تذكّر هذا هنا لروى لنا من محفوظه الواسع من الشعر الرائع [ما] هو أشدّ تشويقا لجزيرة العرب من سرد أسماء المواقع ، فإنّ ذكر تلك الصّبا يكاد يكون أرقّ من ذكري أيام الصّبا ، وحسبي في هذه الحواشي التي أكتبها بإذن الأمير لتكون ذكرى لإخائنا الذي لا يلزبه نظير ، قول الشاعر الشهير [الحاجري] :

خذا من صبا نجد أمانا لقلبه

فقد كاد ريّاها يطير بلبّه

وإيّاكما ذاك النّسيم فإنّه

إذا هبّ كان الوجد أيسر خطبه

ا ه. مصححه.

٣٥٥

ولم أصادف عنبا أشهى ولا أكبر حبا من عنب وادي محرم ، ومن هذا الوادي يصعد الإنسان إلى الهدة ، مرتقيا العقبة المسماة الكرا الصغير ، وخمنت علوّها بثلاثمئة متر ، ومرتقاها صعب.

وقد كان الواجب على الحكومة وعلى أهالي القرى الكثيرة المجاورة ولا سيما وادي محرم أن يصلحوا هذا المرتقى ، الذي يترجّل فيه كلّ الركبان من وسط العقبة ، وإذا وصل الإنسان إلى سطح الجبل ، وجد يفاعا منبسطا ، ينشرح له الصدر ، وشاهد جنانا ناضرة تشرب بالسواني أيضا ، يقال لها : بستان المغربي ، وبستان البّني ، وغيرهما.

ولقد بتنا ليلتين بوادي محرم ، وليلة واحدة في بستان المغربي ضيوفا على صاحب البستان ، وهو مغربي تونسي الأصل ، أبوه جاء إلى هذا المكان ، وتمكن به.

وهناك جبل عال جدا ربما يعلو (٢٥٠) مترا عن البساتين ، يقال له : جبل الهندي ، وهو ناتئ من الأرض صعدا أشبه بالمئذنة ، وكان في إحدى ذراه حصن بقيت فيه مدافع وجنود إلى آخر أيام الملك حسين ، وقد طلعنا هذا الجبل إلى قنته ، فظهر لنا جانب كبير من الحجاز ، وبدت لنا خضرة ونضرة وأودية لا يأخذها الإحصاء ، وكان منظرا يبهر العقول.

وبإزاء هذا الجبل جبل آخر أقلّ منه ارتفاعا ، اسمه جبل الكمل بحذائه قرية ، بل قرى وبساتين ، تسقيها النواضح ، ومن الكمل إلى قرية الهدة مسيرة نصف ساعة لا غير ، والهدة قرية من أشهر قرى الحجاز ، تعلو (١٧٦٠) مترا عن سطح البحر ، وفيها جنان ومنازه ، وبعض مصايف لأهل مكة ، ولها منظر على وادي نعمان لا مثيل له في بلاد العرب ، لأنّ الناظر يشرف منها على شفير الوادي المسمى الكرا الكبير ذي العقبة الشهيرة ، التي تأخذ ثلاث ساعات على الصاعد ، وهي من الوقوف في مثل الحائط ، وإذا أشرف الرائي على حافة هذا الشفير لم

٣٥٦

يكن أمامه العمق الهائل فقط ، بل العمق الهائل والعرض المدهش ، فللنظر هناك مدّ ليس له حدّ.

وتكتب الهدة بتشديد الدال ، لكن غلب عليها التخفيف ، وقد ذكرها ياقوت في «المعجم» وقال : إنّها مكان بين مكة والطائف فيه القرود (١).

قلت : والقرود توجد في جبل الكمل الذي فوق الهاد ، وتقدم ذكره ، وتكثر في بعض جبال الحجاز ، ولكنها في جبال اليمن أكثر جدا.

ومن كثرة ما توصف اليمن بالقردة صار الذين يريدون أن يتنادروا على أهل اليمن يقولون : إنّ أباهم قرد.

روى ياقوت أنّ زياد بن عبيد الله الحارثي خال الخليفة أبي العباس السفاح اجتمع بابن هبيرة الفزاري ـ وكان الأول يمانيا ، وكان الثاني قيسيا ـ فقال ابن هبيرة لزياد : ممّن الرجل؟

فقال زياد : من اليمن.

فقال ابن هبيرة : فأخبرني عنها.

__________________

(١) اقتصر الأمير هنا على هذا خلافا لعادته في الاستقصاء ، وقد ذكر ياقوت في حرف الهاء ثلاثة مواضع :

(١) (الهدى) المقصور ، قال : (الهدى) بالفتح منقول عن الفعل الماضي من هدى يهدي إذا أرشد ـ موضع في نواحي الطائف.

(٢) (الهدّة) بالفتح ثم التشديد ، وهو الخسفة في الأرض ، و (الهدة) الهدم ـ وهو موضع بين مكة والطائف ، والنسبة إليه هدوي ، وهو موضع القرود ، وقد خفّف بعضهم داله.

(٣) (الهدى) بتخفيف الدال من الهدي أو الهدى بزيادة هاء ـ بأعلى مرّ الظهران بمدرة أهل مكة ، والمدر طين أبيض يحمل منها إلى مكة ، تأكله النساء ، ويدّق ويضاف إليه الأذخر يغسلون به أيديهم ا ه وذكر هذه في «التاج» وزاد أنّ بعضهم يزيد فيها ألف فيقول الهداة. أقول : ولم أسمع من نطق أهل مكة إلا (الهدى) بالفتح والقصر. ا ه مصححه.

٣٥٧

فقال زياد : أمّا جبالها فكروم وورس ، وأمّا سهولها فبرّ وشعير وذرة.

فتغيّر وجه ابن هبيرة وقال : أو ليس أبو اليمن القرد؟

فقال زياد : إنما يكنى القرد بولده ، وهو أبو قيس ، فيوجب أن يكون أبا قيس عيلان ، فاصفرّ لون ابن هبيرة من هذا الجواب.

فمن هنا يظهر أنّ مذهب داروين كان ملحوظا في الغابرين ، وكان خاطر أبوة القرد لابن آدم واردا ، إلا أنّ ما كان يقال في الماضي مزاحا ، صار اليوم جدا بحتا وحقيقة علمية!

أقول : حقيقة علمية بحسب رأي بعضهم ، وإلا فليس بصحيح أنّ الجمهور كلهم في أوربة تلقّوا هذا الرأي بالتسليم ، بل العلماء في أوربة لا يزالون فيه مختلفين. وقد كثر في السنين الأخيرة العلماء القائلون بنقضه ، والأكثرون على عدم الجزم لعدم كفاية دلائله ، ولوفرة نواقضه ونواقصه (١).

ومن العلماء من يقف موقفا وسطا في النظرية الداروينية ، فيحكم بصحة بعضها ، ويرد البعض الآخر ، مما ليس هنا موضعه.

ناحية الشّفا من جبال الطائف

ومن أنزه الجبال التي عهدتها في حياتي ، وأبدعها مصيفا ، وأطيبها نجعة ، وأنقاها إقليما ، الناحية التي يقال لها : الشّفا ، (بفتح أوله) وهي جبال المسكون منها يعلو عن الطائف نحو ألف متر ، وربما أكثر ، وسكان هذه الناحية السفاينة من ثقيف ، ولا تبعد عن الطائف أكثر من أربع أو خمس ساعات بالسير المعتدل.

قصدنا إليها من الوهط والوهيط في رفقة من إخواننا الدكتور محمود

__________________

(١) [انظر كتاب «أصل الإنسان» للدكتور موريس بوكاي].

٣٥٨

بك حمدي رئيس الدائرة الصحية الحجازية ، وفؤاد بك حمزة مستشار الخارجية ، وفوزي بك القاوقجي قائد القوة النظامية الحجازية ، والسيد الطيب الهزاز من رجال المعيّة الملوكية ، ورشدي بك ملحس محرر جريدة «أم القرى» فبتنا ليلة في الوهط وليلة في الوهيط ، ثم أصبحنا قاصدين شقرا ، صاعدين إليها في عقاب ، فبلغناها بعد مسير ساعتين من الوهيط ، ومررنا في طريقنا بخربة ذات جبانة متسعة ، يستدل منها على أنّ القرية كانت ذات شأن ، وفي تلك الأودية سدر كثير ، وطلح ، وأشجار غيرها ، وفي الجبال عرعر كثير.

وأما شقرا ففي واد لطيف ، عن جانبيه البساتين ، تسقيها النواعير أو السواني ، وهي حارتان ، شقرا العليا ، وشقرا السفلى ، وقد كان نزولنا عند مختار شقرا السفلى ، وشعرنا من النشاط ورقة الهواء في شقرا ما لم نعهده لا في الطائف ولا في مكان آخر ، ولغة أهل تلك الديار فصيحة ، سمعتهم يقولون : خصر الماء ، أي برد ، فخطر ببالي قول شاعر قريش في الحجاز عمر بن أبي ربيعة :

رأت رجلا أما إذا الشّمس عارضت

فيضحى ، وأمّا بالعشيّ فيخصر

ومن شقرا صعدنا عقابا أوعر وأعلى من التي توقلنا فيها بين الوهيط وشقرا ، ثم انحدرنا من رأس العقبة إلى واد هو مبدأ وادي ليّة الشهير ، وكنا كلما تقدّمنا في السير رأينا الحراج تزداد ، ولا سيما العرعر والعفص ، ومن ذلك الوادي عدنا إلى التصعيد ، فوصلنا إلى قرية صغيرة اسمها مسيمير ، فبتنا فيها ، وشممنا هواء عاطرا ، وشربنا ماء خاصرا (١) ، وشاهدنا منظرا ناضرا.

قرية الفرع وموقعها من أفضل مصايف الدنيا

ومن مسيمير تسلقنا في عقبة أوعر من كلّ ما مضى ، أخذت أكثر من

__________________

(١) خصر الماء وغيره فهو خصر (كتعب فهو تعب) أي برد.

٣٥٩

ساعة ونصف ، أفضنا في منتهاها إلى يفاع أفيح ، عليه قرية كبيرة متفرّقة الحارات ، اسمها الفرع ، هي من أعلى المعمور في جبال الحجاز ، ومعنى الفرع في اللغة أعلى الشيء.

ومن محاسن هذه القرية أنّها مع علوها ـ ولا أظنه أقل من (٢٥٠٠) متر ـ عن سطح البحر ـ واقعة في بسيط من الأرض ، تحيط به الهضاب الخضر المغطاة بالحراج من الأرز والعرعر ، وهذا البسيط المطمئن في الوسط منه ما هو مزارع للحبوب ، ومنه ما هو مباقل للخضر ، ومنه ما هو جنان للفواكه ، وكلّ ما ينبت هناك يأتي بغاية الزكاء والفكاهة ، والجنان تسقى بالسواني والماء غزير (١).

ولما صرت في الفرع تمنيت أن يكون لي هناك مصيف ، ورجحته على أي مصيف آخر ، حتى على عين صوفر ، التي هي أنزه مصايف جبل لبنان مع كثرتها ، والتي قضيت مدة شبابي أقيّظ بها ، ولي فيها الأراضي الواسعة والعقارات ، نعم لم أجد أعلى ولا أهنأ ولا أعزل من الفرع.

وإلى الغرب من الفرع على مسافة (٢٠) دقيقة فقط شفير عال ، يشرف منه الإنسان على واد عميق ، قد حزرت انحطاطه عن الفرع بنحو ألف متر ، وقد ذكر لي أهل الفرع أنّهم في فصل الشتاء ينحدرون من الفرع إلى هذا الوادي بمواشيهم ، ويشتّون فيه ، ولا يبقى في القرية سوى بعض الحراس.

وأمام هذا الوادي إلى جهة الغرب ـ أي إلى البحر ـ جبل عال أيضا ، لكنّه ليس بعلو جبل الفرع ، ووراء هذا الجبل أودية أخرى ، ثم جبال أقلّ ارتفاعا ، وهكذا إلى أن تصل إلى البحر بين جدة والليث ، وقد سألتهم : كم مرحلة من الفرع إلى جدة؟ فقالوا : إنّهم يصلون إلى جدة في (٨) أيام بسير البعير.

__________________

(١) وقيل لي في المدينة لما زرتها سنة (١٣٣٣) : إن بالفرع ستين عين ماء.

٣٦٠