الرّحلة الحجازيّة

الأمير شكيب أرسلان

الرّحلة الحجازيّة

المؤلف:

الأمير شكيب أرسلان


المحقق: حسن السماحي سويدان
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار النوادر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٩

أمر ممكّن له ، وحجّاج الشام يحرمون من رابغ (١) ، وإذا كانوا في السفين في البحر الأحمر وعلموا أنّهم صاروا بحذاء رابغ أحرموا ولبّوا.

ووادي رابغ من أخصب أودية الجزيرة ، يجعل الأهالي هناك له سدا موقتا من طين ، يجددونه كلّ سنة ، ويزرعون عليه ، ولو انتدبت شركة إسلامية ، وأخذت من حكومة الحجاز امتيازا ببناء سد من حجر ، يتكوّن وراءه خزان مياه ذو مفاجر ، تسدّ وتفتح بحسب الحاجة ، لكانت عملية من أربح العمليات الاقتصادية ، لأنّ الزّراع وأصحاب الأراضي يتمنون أن يؤدوا شيئا معلوما لأصحاب الخزان ، بشرط أن يأمّنوا على قضية ري أراضيهم.

ومن مزايا رابغ أن ميناءها آمن ميناء في الحجاز ، إذ من المعلوم أنّ مرافىء بحر الحجاز كلّها مخوفة ، لا تقدر السّفن أن ترفأ إليها إلا بدلالة بحرية من أهل الحجاز ، يتخلّلون البحر أمامها ، وأما رابغ فقد عافاها الله من هذه العلّة.

بيشة

ومن المواضع الزراعية ذات البال في الحجاز بيشة التي إلى الجنوب من الحجاز نحو اليمن.

قال ياقوت (١ : ٥٢٩) : اسم قرية غنّاء في واد كثير الأهل من بلاد اليمن.

وعن أبي زياد : خير ديار بني سلول بيشة ، وهو واد يصبّ سيله من الحجاز ـ حجاز الطائف ـ ثم ينصبّ في نجد ، حتى ينتهي في بلاد عقيل.

__________________

(١) وكذا سائر من يجيء من الشمال وشرقيه وغربيه ، فيمر منها برا وبحرا ، ولو عمرت ميناء رابغ لكانت أولى بنزول هؤلاء الحجاج منها ، لأنّ بحرها خير من بحر جدة ، وبرّها خير من برّها لكثرة المياه والشجر فيه ، وإن كان أبعد عن مكة.

٣٠١

وفي بيشة بطون من الناس كثيرة في خثعم ، وهلال ، وسواءة بن عامر بن صعصعة ، وعقيل ، والضّباب ، وقريش ، وهم بنو هاشم لهم المعمل.

ثم قال ياقوت : وبيشة من عمل مكة ، ممايلي اليمن ، من مكة على خمس مراحل ، وبها من النخل والفسيل شيء كثير ، وفي وادي بيشة موضع مشجّر كثير الأسد ، قال السمهريّ :

وأنبئت ليلى بالغريّين سلّمت

عليّ ودوني طخفة ورجامها

فإنّ التي أهدت على نأي دارها

سلاما لمردود عليها سلامها

عديد الحصى والأثل من بطن بيشة

وطرفائها ما دام فيها حمامها

قلت : (طخفة) جبل ، و (رجام) جبل أيضا.

وأما المعمل الذي أشار إليه ياقوت فهو ملك لبني هاشم في بيشة والأصل في تسميته المعمل هو هذه القصة :

كان في بيشة سلول وخثعم يتنازعون ، يحفر السلوليون ، فيضعون الفسيل ، فيجيء الخثعميون فينتزعونه ، ولا يزال بينهم القتال على ذلك ، وسمّي المكان الذي كانوا يتنازعون فيه مطلوبا ، فتخوّف العجير السّلوليّ من وقوع شرّ أعظم ، فأخذ من طين هذا المحل ومائه ، ولحق بهشام بن عبد الملك الأموي ، ووصف له صفته ، وأتاه بالماء والطين ، وأخبره بما في بيشة من الأودية ، وما فيها من الفسيل ، وقال له : إنّ من الممكن هناك غرس عشرة آلاف فسيلة في يوم واحد ، فأرسل الخليفة هشام من الشام إلى أمير مكة أن يشتري مئة زنجي ، ويجعل مع كلّ زنجي امرأته ، ثم يحملهم حتى يضعهم بمطلوب ، وينقل إليهم الفسيل حتى يغرسوه ، ففعل أمير مكة ما أمره به الخليفة ، فلما رأى الناس ذلك قالوا : إنّ مطلوبا معمل يعمل فيه ، فذهب اسمه المعمل إلى اليوم ، وقال العجير السلولي :

لا نوم للعين إلا وهي ساهرة

حتى أصيب بغيظ أهل مطلوب

٣٠٢

أو تغضبون فقد بدّلت أيكتكم

ذرق الدّجاج وتجفاف اليعاقيب

قد كنت أخبرتكم أن سوف يملكها

بنو أمية وعدا غير مكذوب

قلت : (اليعاقيب) جمع يعقوب ، وهو الذكر من الحجل والقطا. و (تجفجف) اليعقوب انتفش وتحرّك ، وألقى جناحيه على البيضة.

يريد أن يقول لسلول وخثعم : ما زلتم تتنازعون ، حتى اضطرتموني أن ألجأ إلى الخليفة الأموي ، وأدعوه أن يملك المحل ، ويحرمه الفريقين ، فبدلتم بالجنان والمغارس ذرق الدجاج وتجفجف القطا.

ولم أشاهد ينبع النخل ، ولا رابغ ، ولا بيشة ، وإنما شافهت كثيرا ممن شاهدوها ، وكان أكثر من ذكر لي خصب بيشة وخيراتها الكاتب النمساوي ليوبولد فايس ، الذي أسلم ، وتسمّى محمد أسد الله فقد حدثني عنها أنّ فيها من قابلية الزراعة ما تكفي به ميرة مكة وجوارها طول السنة لو كان العمل قائما فيها كما يجب.

وأما النخيل فكثرته تدهش العقل ، وقد سمعت محمد أسد الله يذكر مثل هذا لجلالة الملك ابن سعود في مجلسه الملوكي بمكة ، وهذه بعض أمثلة اجتزىء بها عن الاستقصاء ، فأقول :

الطريقة المثلى لعمران الحجاز الاقتصادي

إنّ الحجاز فيه بقاع زراعية هي في الدرجة القصوى من الخصب والزكاء ، ولكن ينبغي لها المال والعلم ، فلا بدّ من بناء السدود كما كانت من القديم ، ومن حفر الآبار الإرتوازية لاستنباط المياه ، ومن الاعتماد في السواني على الآلات الرافعة البخارية (المواتر) وهناك طريقة رأيتها في الصيف الماضي في جزيرة ميورقة ، وهي الدواليب الهوائية ، تدور بهبوب الريح ، فترفع الماء ، ويتصبب إلى الصهاريج ، ولا يتكلّف عليها صاحبها زيتا ولا فحما. فإذا وجد الماء وجد من الخصب والخير والمير في الحجاز ما لا يوجد في قطر آخر.

وأما المال اللازم للمشروعات الزراعية المذكورة فله طريقان :

٣٠٣

إحداهما : أن تنظّم الميزانية المالية لحكومة الحجاز تنظيما حسنا ، ويفرز منها جانب واف لمصلحة الزراعة ، فتأخذ هذه كلّ سنة بمشروع ، وتقوم بإنشائه من مال الخزانة ، ثم تستوفي ذلك من الأهالي المنتفعين على أقساط معلومة مؤجّلة إلى عدة سنوات ، بحسب جسامة المشروع.

والثانية : أن تتقدّم لهذه الأعمال شركات إسلامية بحتة من حجازيين ، ونجديين ، ومصريين ، وشاميين ، وهنود ، وأندونيسيين وغيرهم ، وتعطيها حكومة الحجاز بها امتيازات إلى آجال معينة ، وهذه الشركات هي التي تبني السدود ، وتستوفي على الري شيئا معلوما من الزّراع ، أو تحفر الآبار الإرتوازية ، وتأخذ بدل العمل مع الربح الذي يكون وقع عليه الشرط ، أو تقدّم المواتر لأصحاب السواني ، وتأخذ ثمنها منجّما على عدة سنوات ، وما أشبه ذلك (١).

* * *

__________________

(١) وفي أخبار «أم القرى» أنّ الحكومة السعودية انتدبت أحد كبار مهندسي الأمريكان لاختبار الأرض ، وأماكن وجود المياه فيها ، وأنّه وجد مياه غزيرة قرب وادي فاطمة من جهة جدة ، وستحفر هناك الآبار الإرتوازية لاستخراجها وسقي الأرض بها.

٣٠٤

ما في الحجاز وجزيرة العرب من كنوز المعادن

ويوجد عدا الزراعة منبع عظيم للرزق في الحجاز بل في كل جزيرة العرب هو المعادن (١) ، فإنّ غنى الجزيرة بالمعادن موصوف معروف عند جميع الأمم من قديم الدهر ، حتى إنّ المؤرخين أجمعوا على أنّ حضارة هذه الجزيرة الباهرة في الحقب القديمة إنما قامت بأمرين :

أحدهما : نقل متاجر الهند والشرق الأقصى إلى الغرب ، بموقع العرب بين الاثنين.

والثاني : ثروة المعادن التي تكنّها أرض الجزيرة.

فينبغي الآن وقد مضى وقت الفتوحات ، وصرنا لا نطمح إلا إلى حفظ الموجود بيدنا ، أن نأرز إلى الجزيرة ، التي هي مهد العرب المنتشرين في أقطار المعمور جميعا ، ونجعلها الكهف المانع ، والأصل الجامع ، ونستخرج كلّ ما فيها من عيون الحياة الكامنة ، حتى تصون نفسها ، وتنجد أخواتها التي انبسطت عليهنّ أيدي الاستيلاء الأجنبي ، وأصبحن لا يملكن لأنفسهن أمرا ، فتزحزح عنهنّ هذا الرق الذي يرسفن في قيوده ، وتتم بذلك الجامعة العربية ، التي هي نكتة المحيا ، ونشيدة آمالنا في هذه الدنيا ، ويجب أن لا ننسى أنّ هذا الأمر لا يصلح آخره إلا

__________________

(١) [يستعمل المؤلف هذه الكلمة مرة بمعنى الفلزات الموجودة في باطن الأرض ومرة بمعنى المناجم].

٣٠٥

بما صلح به أوله ، فقد كانت معادن الجزيرة في القديم من أغزر منابع ثروتها ، وعزّها ، وارتقائها ، وهي لا تزال هي هي ، لا ينقصها إلا الإرادة والعمل.

ولقد يقال : إنّ استثمار المعادن ليس بأمر سهل ، وإنه إن أنشبت الشركات الأوربية مخالبها في هذه المعادن جنينا منها السيطرة الأجنبية ، والذّلّ والندامة ، فالأفضل أن نكون فقراء أحرارا ولا نكون أغنياء أرقاء ... ولن نكون أرقاء وأغنياء أبدا ، لأنّ الثروة لا تجتمع مع فقد الاستقلال ، وهاؤم أهل المغرب والجزائر وتونس عندهم من معادن الفوسفات وغيرها ما يقوّم بالمليارات ، وليس بأيديهم منه شيء ، حتى كأنّ ذلك ليس في أرضهم.

كلّ هذا التعليل صحيح لا اعتراض عليه ، وأحسن لنا أن نبقى فقراء مستقلّين ، من أن يبتلعنا الاستعمار الأجنبي بواسطة معادن ، نرجو في استثمارها اليسر ، فيؤول بنا الأمر إلى الخسر ، ولكنّ هذا التعليل لا يحلّ المشكل ، ولا يجوز لأمّة عاقلة رشيدة أبيّة تبغي الحياة مثلنا أن تعوّل في قضية ذات بال كهذه على حلّ سلبيّ صرف ، نظن أننا قد أجبنا به ضمائرنا الناشزة ، وسكنّا به خواطرنا الثائرة ، على حين أنّه الحل الذي يليق بالأمم التي استوى عندها الماء والخشبة ، والتي لا تريد أن تعمل شيئا ، بل تتنتظر قضاء الاستيلاء الأجنبيّ أن ينفذ فيها.

أقول في تعليل ذلك :

أولا : إنّ الذين يقترحون استثمار هذه المعادن الثمينة لا يشيرون بإعطاء أقلّ شيء منها لشركة أجنبية ، أو لشركة مؤلّفة من مسلمين ، هم تبع لدولة أجنبية غير مسلمة ، بل يشيرون بإعطاء الامتيازات لاستثمارها إلى شركات إسلامية ، مرجعها حكومات إسلامية ، ومما لا نزاع فيه أنّ الشركات التجارية في بلاد الإسلام قليلة ، وأنّ رؤوس الأموال قليلة أيضا.

٣٠٦

فالمسلمون لم يتعّودوا أسلوب الشركات في التجارة ، فضلا عن أنّ ثروتهم العامة لا تساعدهم على تأليف هذه الشركات. إلا أنّ المبالغة في كلّ شيء مذمومة ، فلا يجوز أن نظنّ أنّ تأليف الشركات عند المسلمين مستحيل ، ولا أنّ المال معدوم تماما بين أيديهم ، فكلا هذين الافتراضين مخالف للمحسوس.

وفي بلاد الإسلام شركات اقتصادية كثيرة ، ومن المسلمين عدد غفير من ذوي الثروة ، وعدد غفير من ذوي المهارة في الأمور الاقتصادية.

وإذا جربت حكومتا الحجاز واليمن استثمار المعادن التي في هذين القطرين على أيدي متموّلين من المسلمين ، فلا يبدأ هؤلاء بالربح ، ولا يتحقق المسلمون أنّ هذه المشروعات ذات عوايد أكيدة حتى يقبلوا على المساهمة من كلّ صوب ، وتجد من رؤوس الأموال عند المسلمين ما لا يخطر لك على بال ، وذلك لأنّ الربح جلّاب ، وحيث تحقّق وجود الفائدة وجد المال بلا إشكال.

إذن يمكننا أن نستثمر معادن جزيرة العرب برؤوس أموال أصحابها مسلمون ، بل أصحابها مسلمون لا تلي بلدانهم دول غير مسلمة (١) ، وليس بضربة لازب أن نستثمر هذه المناجم كلّها دفعة واحدة ، بل يمكننا أن نستخرج خيراتها تدريجا ، ولكنّ الذي لا يجوز أصلا هو أن نظمأ والماء فوق ظهورنا ، أو أن نشكو مزيد الفقر والمال تحت رحالنا.

ثانيا : إنّ الظنّ الذي يظنه بعضنا أنّ الشروع باستخراج هذه المناجم يفتح أعين الأوربيين على الجزيرة ، لا سيما إذا رأوا الخيرات تدرّ منها ،

__________________

(١) إن تجار العرب في بومباي الهند ـ وأكثرهم من نجد والكويت ـ قد ألّفوا شركة بواخر ، تمخر بين الهند وشط العرب ، زاحموا بها الشركات الإنكليزية ، فزحموها ، ثم كانت الحرب العامة سبب استيلاء الإنكليز عليها بصفة قانونية.

٣٠٧

وأنّهم قد يشنون الغارات على البلاد لأجل حيازة هذه المعادن ، هو ظنّ لعمري بغير محله.

فإنّ الإفرنج يعرفون مواقع هذه المعادن ـ ويعلمون ما فيها ، إن لم يكن تفصيلا فإجمالا ـ وعندهم علم آخر من طبقات الأرض ، يجعلهم عارفين بما يحتوي من المعدن والفلز كلّ نوع من هذه الطبقات ، فإن كانوا لم يشنّوا الغارات إلى اليوم على الجزيرة فليس لجهلهم بما في بطنها من الكنوز والخيرات ، بل لأنّ الأمور مرهونة بأوقاتها ، والاستيلاء على جزيرة العرب أو على بعض أقسام من جزيرة العرب ليس بالأمر السهل ، بل دونه عقبات من وعورة الجبال ، وحرارة الرّمال ، وشجاعة الرجال ، فضلا عما بين الدول من التنافس الذي يحمل بعضهنّ على الوقوف بالمرصاد لبعض ، مما يخشى منه وقوع الحرب بينهن.

وعلى كلّ حال فالجزيرة إلى الآن سالمة من استيلاء الأجنبي إلا بعض أطراف لا بال لها.

فليس من الحكمة ، ولا من الحزم ، أن نضيّع على أنفسنا ثروة ، نحن في أشد الاحتياج إليها تحت ملاحظات ليست صحيحة ، وأسباب غير واردة.

ومما يدلّنا على كون هذه المعادن معروفة عند الإفرنج رسالة بالألمانية أطلعني عليها مؤخّرا مؤلفها المستشرق الألماني الشهير الأستاذ موريتز واسمها «المعادن في العربية القديمة» (die Bergwerke in altenarabien) جاء فيها ما ملخصه : يظنّ النّاس إجمالا أنّ جزيرة العرب هي من أفقر بلاد الدنيا ، وحقيقة الحال أنّها ليست كذلك ، بل إذا نظرنا إلى ما كانت عليه في القرون الوسطى نجدها كانت ذات ثروة تضرب بها الأمثال ، وكانت تلك الثروة آتية من منبعين :

أحدهما : كون الجزيرة طريق التجارة بين الشرق والبحر المتوسط.

٣٠٨

والثاني : وفرة المعادن التي كانت فيها ، وأخصّها الذّهب ، فقد كانت هذه المعادن في أواسط عهد الألف سنة قبل المسيح معروفة عند العبرانيين والفينقيين والآشوريين. وقد كان سليمان بن داود عليهما‌السلام أرسل بعثة على حسابه إلى البحر الأحمر ، وعادت بغنائم تدهش العقل.

وذكر سترابون (جغرافي يوناني مات في زمان طيباريوس قيصر) وديودور (مؤرخ يوناني يقال له ديودور الصقلي صاحب تاريخ عظيم ، وكان معاصرا لأغسطس قيصر) أنهرا في بلاد العرب كان فيها التبر.

وقد كانت جزيرة العرب قبل الإسلام وقبل دخولها في الفتوحات النائية ذات ثروة عظيمة بالزراعة والمعادن ، وكانت مكة أشبه بمركز حكومة جمهورية ذي مراكز تجارية عظيمة ، ذات علاقات مع الآفاق (١) ، وكان الأخذ والعطاء جاريين بقوة بينها وبين سائر البلدان ، وكانت فيها صناعة الحلي بالغة درجة الإتقان ، ولا يزال صاغة مكة ، وصنعاء اليمن ، وعنيزة نجد ، إلى يومنا هذا مشهورين بإتقان الصنعة.

أماكن معدن الذهب في جزيرة العرب

فأما الأقاليم التي فيها معادن الذهب من جزيرة العرب ، فمنها الأقاليم الغربية ، والذهب يوجد فيها بأسناد الجبال الواقعة بين الداخل والساحل ، أي أسناد الجبال المتدلية إلى التهائم.

وكذلك توجد معادن ذهب في أواسط الجزيرة ، في الأماكن المجهولة الضاربة إلى الجنوب والشرق ، وهذه الجوانب الجبلية متكونة من حجر الغرانيت ، مع كثير من الرخام السّماقي ، وهذه الحرّات التي

__________________

(١) [انظر فكتور سحاب : «إيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف» طبع المركز الثقافي العربي في بيروت].

٣٠٩

في الجنوب ، والتي تمتدّ إلى مكة وإلى غربيها ـ لا شك أنّها تولّدت تحت تأثير التحولات الجيولوجية ، التي أدّت إلى هذه القفار المحرقة ، وهذه اليبوسة في الجزيرة ، وإنّ شكل الغرانيت الصّواني هذا يظهر في وسط البلاد ، وتمتد آثاره إلى جهة الشرق أي في جبال نجد ، وأطرافه الجنوبية تظهر في شماليّ اليمن إلى أن تحاذي صنعاء من الشمال.

وأما الجنوب الغربي من الجزيرة والجنوب كلّه فتشكلاتهما الجيولوجية مختلفة عن الأولى ، والذهب إنما يوجد في الجهات التي فيها الصوان أو الغرانيت وهي ما يأتي :

أولا : في الشمال الغربي من الجزيرة بأرض مدين القديمة.

ثانيا : في أرض الحجاز الضاربة إلى الجنوب.

ثالثا : في الشرق من الجزيرة نحو نجد.

رابعا : في الجنوب الشرقي إلى جهة اليمن.

خامسا : في الجنوب المحض بأرض عسير إلى الشمال من اليمن.

فمدين هي البلاد الواقعة بين البحر الأحمر وقمم الجبال المحاذية للبحر الممتدة من نحو العقبة في الشمال إلى وادي الحمض في الجنوب ، وهي اليوم تابعة للحجاز وهناك مراكز على ساحل البحر منها : ظبا والمويلح ، والوجه.

وفي بلاد مدين معادن مفتوحة من قديم الدهر ، وآثار الشغل في المعدن واضحة جدا.

ومعدن مدين هو المعدن الوحيد الذي توصّل الأوربيون إلى معرفته جيدا من معادن جزيرة العرب ، فإنّ الكابتن برتون (Burton) الرحالة الإنكليزي كان قد ذهب على رأس بعثة أولى وثانية سنة (١٨٧٧) من قبل إسماعيل باشا خديوي مصر ـ الذي كانت مدين إذ ذاك تحت إدارته ولكن لم يستصحبوا معهم في تلك البعثات علماء متخصصين في فن

٣١٠

المعدن ، ومع هذا فقد أمكنهم أن يحققوا وجود التعدين القديم في نقاط عدة ، وجاءوا بحجارة مأخوذة كيفما اتفق من على سطح الأرض ، ووجدوا (٤٨) غراما من الذهب في الطن الواحد ، ووجدوا فضة ونحاسا وحديدا ، ولكنّ النتائج لم تكن بحسب المأمول منها ، لعدم اعتمادهم في التعدين على أرباب الفن ذوي الاختصاص.

ثم إنّ إسماعيل باشا بلغه ظهور معادن ذهب في السودان ، فانصرف عن معادن مدين إليها. ولم تلبث أن استرجعت الدولة العثمانية مدين إلى إدارتها ، فبطلت كلّ حركة بحث في مدين (١).

وفي جنوبيّ مدين معدن يقال له الحراضة (٢) ، ثم إلى الجنوب منه

__________________

(١) بعد أن احتلّ الإنكليز مصر ، بادرت الدولة إلى استرجاع سواحل العقبة والوجه وما يليها من يد الحكومة المصرية ، حتى لا تجعل للإنكليز يدا في الحجاز.

ولو لم تفعل الدولة ذلك لكان شطر من الحجاز الآن تحت سيطرة إنكلترة ، وبرغم هذا ، فقد أذاق الإنكليز بعد ذلك السلطان عبد الحميد عرق القربة من أجل العقبة ، وما رجعوا حتى ألحقوا طابة بمصر ، لتكون العقبة تحت طائلة قوتهم ، ثم لما زالت الدولة العثمانية بعد الحرب العامة لم يزالوا حتى ألحقوا العقبة بشرقي الأردن ، بموافقة الملك علي بن الحسين ، الذي كان سمّي ملك الحجاز حينئذ لأخيه الأمير عبد الله أمير هذه الجهة ، ويقال بموافقة غيره من أمراء الحجاز. وقد احتجّ على ذلك المؤتمر الإسلامي الذي انعقد في مكة منذ خمس سنوات ، ولم يعترف الملك ابن سعود باعتداء إنكلترة هذا على العقبة ومعان اللتين كانتا تابعتين للحجاز مع كل مراودتها له على هذا الأمر ، ومع استظهارها باعتراف الملك علي.

(٢) في «معجم البلدان» ذو حرض ـ على وزن عنق ـ واد لبني عبد الله من غطفان ، على مقربة من معدن النقرة ، ولم يقل شيئا عن هذا المعدن ، ولقد جاء ذلك التعريف بعينه في «تاج العروس».

وأما الحراضة ـ بضم أوله ـ فقد قالوا : إنه ماء بالمدينة ا ه من هوامش الأصل.

٣١١

معدن غير الذي ذكره الجغرافي العربي المقدسي ، وقال : إنّه بين ينبع النخل ومروة ، وهذا المعدن المجهول لم يزل بكرا ، وأصحابه قبائل صغيرة لا يمكن للأوروبي أن يجول في أرضهم.

وأما المعادن المهمة في الجزيرة فهي التي في الحجاز واليمن ، ويكثر فيها الذهب والفضة ، وفيها قليل من النحاس ، وفيها الحديد.

ففي جنوبيّ الحجاز معادن كثيرة شهيرة ، وكانوا في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستخرجون منها بمجرد رفع الحجارة ، ومما لا شكّ فيه أنّ الاستخراج منها وقع بعد المسيح بستمئة سنة ، وكان حثيثا.

ومن معادن الحجاز معدن بحران (١) بالضم أو بالفتح ـ على الطريق السلطاني من مكة إلى المدينة.

ومنها معدن القبلية (٢) في جبل قدس (بالضم) حيث بويع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان معدنا عظيم الغلة.

__________________

(١) جاء في «معجم البلدان» بحران بالضم موضع بناحية الفرع ، قال ابن إسحاق : هو معدن بالحجاز في ناحية الفرع ، وذلك المعدن للحجّاج بن علاط البهزي ، قال ابن إسحاق في سرية عبد الله بن جحش : فسلك على طريق الحجاز ، حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له بحران (بفتح الباء) : أضلّ سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه ، كذا قيّده ابن الفرات بفتح الباء ههنا ، وقد قيده في مواضع بضمها ، وذكره العمراني والزمخشري وضبطاه بالفتح.

(٢) القبلية ـ بالتحريك ـ من نواحي الفرع قال العمراني سراة ما بين المدينة وينبع ، ما سال منها إلى ينبع سمي بالغور ، وما سال منها إلى أودية المدينة سمي بالقبلية ، وأقطع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه القطيعة بلال بن الحارث المزني ، وكتب له «هذا ما أعطى محمّد رسول الله بلال بن الحارث ، أعطاه معادن القبلية غوريّها وجلسيّها : غشية وذات النصب وحيث صلح الزرع من قدس. وكتب معاوية.

٣١٢

وكانت ثروة الخليفة أبي بكر (١) من هذا المعدن ، ومن معدن آخر في بلاد جهينة.

ومن المعادن المعروفة في الحجاز معادن السوراقية ، وهي على ثلاث مراحل من المدينة إلى الشرق منها ، وهي ذهب وفضة ورصاص ، وهناك طواحينها وأفرانها.

ومن الغريب أني لم أجدها في «معجم» ياقوت ، إلا إذا كان قد ذكرها تحت اسم آخر.

وبحثت في «القاموس» و «التاج» عن السوارقية فرأيته يذكر بلدة بهذا الاسم من الحرمين الشريفين ، ولم يذكر أنّ فيها معادن ، ويقول : إنها بضم أولها.

وملحوظ أنّ كلّ هذه الجبال التي هناك غنية بالمعادن ، وقد كانت في زمن الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز يؤخذ عليها رسم من مال الصدقة ، ثم أخذ منها على وجه الخمس.

__________________

(١) جاء في «طبقات ابن سعد» : كان أبو بكر معروفا بالتجارة ، ولقد بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده أربعون ألف درهم ، فكان ينفق منها ويقوّي المسلمين ، حتى قدم المدينة بخمسة آلاف درهم ، فكان يفعل فيها ما كان يفعل في مكة. انتهى.

وأمّا من جهة ما كان يعود عليه من المعادن ، فجاء فيها مايلي : وكان قدم عليه مال من معدن القبلية ، ومن معادن جهينة كثير ، وانفتح معدن بني سليم في خلافة أبي بكر ، فقدم عليه منه بصدقته ، فكان يوضع ذلك في بيت المال ، فكان أبو بكر يقسمه على الناس نقرا نقرا ـ بضم النون وفتح القاف ـ فيصيب كلّ مئة إنسان كذا وكذا ، وكان يسوّي بين الناس في القسم ، الحر والعبد ، والذكر والأنثى ، والصغير والكبير ا ه كلّه من حواشي الأصل.

٣١٣

وأعظم معدن في جزيرة العرب معدن جبل فاران (١) الذي كان لبني سليم (٢) ، وكان فيه ذهب وحديد.

ولا نعلم أنّه تأسست نظارة خاصة بمعادن الحجاز في الدولة الإسلامية إلا سنة (١٢٨) للهجرة ، وبعد هذا التاريخ بمئتي سنة خربت هذه المعادن ، أو انقطع الاستخراج منها بحسب رواية الأصطخري ، ولم يذكر ياقوت عن استغلالها شيئا.

وليس عندنا عن أسباب ترك العمل في هذه المعادن إلا افتراضات ، فيجوز أن تكون نفدت مادتها ، ويجوز أن يكون إهمالها جاء من قبل الفتح الإسلامي ، الذي نشر العرب في الأقطار ، فقد كانت مكة قبل الإسلام مركزا عظيما للأخذ والعطاء ، ولم يكن ذلك بسبب حركة أهلها وحدهم ، بل بسبب كونها محط رحال القبائل المجاورة ، فقد كانت القافلة الواحدة نحو ألف جمل تتقدمها السواري (٣) وتخفرها ، وتأخذ (٥٠) بالمئة من الأرباح ، وهكذا كان البدو متعلّقين بأهل مكة تابعين لهم ، فلما فتح الإسلام البلدان ، وتفرّق العرب ، لم تبق مكة كما كانت من قبل مركزا كبيرا للأخذ والعطاء ، لكنّها بقيت فيها ثروة غير زهيدة.

وفي القرن الأول من الهجرة كان في الحرمين يسار عظيم ، يستدلّ على ذلك من أنّه لما قتل الخليفة عثمان وجد وراءه من الذهب

__________________

(١) فاران من أسماء مكة المكرمة ، وقيل : هو اسم لجبال مكة ، وفي «التوراة» : جاء الله من سيناء ، وأشرق من ساعير ، واستعلن من فاران. تفسيره : إنّ الله كلّم موسى عليه‌السلام من سيناء ، وأنزل الإنجيل على عيسى عليه‌السلام في ساعير ، أي جبال فلسطين ، وأنزل القرآن على محمد عليه‌السلام في فاران أي جبل مكة.

(٢) جاء في «المعجم» : معدن بني سليم هو معدن فاران ، وهو من أعمال المدينة على طريق نجد. ا ه. من الأصل.

(٣) [الخيالة].

٣١٤

العين (١٥٠) ألف دينار ، يساوي الدينار عشرة ماركات ، فإذا ضرب بأربعة ، ليطابق حساب النقد اليوم ، بلغ ذلك ما يساوي (٦) ملايين مارك (١).

__________________

(١) كان عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه تاجرا في الجاهلية والإسلام ، وهو الذي جهّز جيش العسرة ، لغزوة تبوك من ماله ، وترك يوم قتل مئة وخمسين ألف دينار ، وثلاثين ألف ألف درهم ، وخمسين ألف درهم ، وترك ألف بعير بالربذة ، وترك صدقات كان تصدّق بها في براديس ، وخيبر ، ووادي القرى ، قيمتها مئتي ألف دينار. فأنت ترى أنّ تركة عثمان كانت أعظم مما قال الأستاذ موريتز الألماني.

وكان عبد الرحمن بن عوف رضي‌الله‌عنه موسرا أيضا ، باع أرضا من عثمان بأربعين ألف دينار ، فقسّم ذلك في فقراء بني زهرة أقاربه ، وفي ذوي الحاجة من الناس ، ولما مات ترك ألف بعير ، وثلاثة آلاف شاة ، ومئة فرس ترعى بالبقيع في المدينة ، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحا ، وقيل : إنّه ترك ذهبا قطّع بالفؤوس ، حتى مجلت أيدي الرجال منه ، وكان له نسوة أربع ، فخرجت كلّ واحدة ، بثمانين ألف درهم.

وكان سعد بن أبي وقاص رضي‌الله‌عنه غنيا ، ترك يوم مات مئتي ألف وخمسين ألف درهم.

ولكن الثروة العظمى كانت للزبير بن العوام رضي‌الله‌عنه ، جاء في «طبقات ابن سعد» : أنّه بلغ ماله قيمة خمسة وثلاثين ألف ألف ومئتي ألف درهم ، أي (٣٥) مليونا و (٢٠٠) ألف ، وترك أربع نسوة ، فأصاب كلا منهن مليون ومئة ألف.

وحدّث ابنه عبد الله بن الزبير أنّه دعاه يوم الجمل ، وقال له : إني سأقتل اليوم مظلوما ، يا بني! بع مالنا واقض ديني ، وأوص بالثلث ، فإن فضل من مالنا من بعد قضاء الدين شيء فثلثه لولدك ، قال عبد الله بن الزبير : فجعل يوصيني بدينه ، ويقول : يا بني إن عجزت عن شيء فاستعن عليه بمولاي ، قال : فو الله ما دريت ما أراد حتى قلت : يا أبت! من مولاك؟ قال : الله ، قال : فو الله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت : يا مولى الزبير اقض عنه دينه ، فيقضيه ، [قال] : وقتل الزبير ولم يدع دينارا ولا درهما ، إلا أرضين فيها الغابة ، وإحدى

٣١٥

............................................................................

__________________

عشرة دارا : بالمدينة ، ودارين بالبصرة ، ودارا بالكوفة ، ودارا بمصر.

وأما دينه فكان مليونين ومئتي ألف درهم ، وكان سبب هذه الديون أنّ الرجل كان يأتيه بالمال ليستودعه إياه ، فيقول الزبير : لا ، ولكن هو سلف ، إني أخشى عليه الضيعة.

وكان الزبير اشترى الغابة بمئة وسبعين ألف درهم ، فباعها عبد الله بن الزبير بمليون وستمائة ألف ، ثم قام فقال : من كان له على الزبير شيء فليوافنا بالغابة ، فوافاه أصحاب الديون ، واستوفوا حقوقهم.

وقال بنو الزبير لعبد الله : اقسم لنا ميراثنا ، قال : لا والله لا أقسم بينكم حتى أنادي في الموسم أربع سنين : ألا من كان له على الزبير دين فليأتنا فلنقضه ، فجعل كلّ سنة ينادى بالموسم ، فلما مضت أربع سنين قسم بينهم.

قالوا : كان للزبير بمصر خطط ، وبالإسكندرية خطط ، وبالكوفة خطط ، وبالبصرة دور ، وكانت له غلات كثيرة تقدم عليه من أعراض المدينة.

وأما طلحة بن عبيد الله رضي‌الله‌عنه ، فقد ترك يوم قتل في واقعة الجمل تركة عظيمة ، جاء في «الطبقات» قتل طلحة بن عبيد الله ـ رحمه‌الله ـ وفي يد خازنه ألفا ألف درهم ، ومئتا ألف درهم ، وقوّمت أصوله وعقاره ثلاثين ألف ألف درهم.

وحدث عمرو بن العاص قال : إنّ طلحة بن عبيد الله ترك مئة بهار في كل بهار ثلاثة قناطر ذهب ، وسمعت أن البهار جلد ثور (وفي «المصباح المنير» البهار بالضم شيء يوزن به).

وقال إبراهيم بن محمد بن طلحة : كان قيمة ما ترك طلحة بن عبيد الله من العقار والأموال وما ترك من الناضّ (المال الصامت العين في إصطلاح أهل الحجاز) ثلاثين ألف ألف درهم ، ترك من العين ألفي ألف ومئتي ألف درهم ومئتي ألف دينار ، والباقي عروض.

وسأل معاوية موسى بن طلحة : كم ترك أبو محمد يرحمه‌الله من العين؟

قال : ترك ألفي ألف درهم ومئتي ألف درهم ومئتي ألف دينار.

وكان يغل كلّ سنة من العراق مئة ألف سوى غلاته من السراة وغيرها. وكان يدخل قوت أهله بالمدينة سنتهم من مزرعة بقناة ، كان يزرع على عشرين ـ

٣١٦

وقد كانت تركة أخرى مقدرة بخمسمئة ألف دينار ، أي (٢٠) مليون مارك ، ولكن عند ما ارتفع لواء الإسلام في الآفاق ، أخذ العرب يغادرون الجزيرة لينضووا تحته ، ولم يبق في الحجاز إلا قبائل بادية ، كبني هلال ، وبني سليم ، وحرب ـ الذين بين مكة والمدينة ـ فصاروا بخلوّ البلاد من الساكن إلى فقر شديد ، حملهم على الارتزاق من نهب الحجاج ، وقطع السوابل ، وعاد معوّل الحجاز كلّه ـ بدوا وحضرا ـ في المعيشة على موسم الحج.

وفي نجد معادن أيضا منها المعدن الذي يقال له : الحليت في أمّ البل أي أم الإبل ، بقرب حمى ضرية (١) ، وهو مشهور بالتبر ، وقد تناقص محصوله من كثرة ما استخرج منه ، وترك أخيرا ، ولو أمكنت زيارة الأرض لكان منها فائدة ، إذ عندها كتابات منقوشة من قبل الإسلام ، ربما يعرف منه شيء عن استخراج هذا المعدن.

ثم في نجد معدن المحجة ، ومعدن الهجيرة ، ومعدن القصاص

__________________

ناضحا ، وأول من زرع القمح بقناة هو ، وكان لا يدع أحدا من بني تيم أقاربه عائلا إلا كفاه مؤونته ومؤنة عياله ، وزوج أياماهم ، وأخذ دم غائلهم ، وقضى دين غارمهم ، وكان يرسل إلى عائشة كلّ سنة (١٠) آلاف درهم ، وقضى عن صبيحة التيمي (٣٠) ألف درهم ، وطلحة هو أحد أجواد العرب المشهورين ، وأحد الطلحات الأربعة المضروب المثل بكرمهم ا ه من الأصل.

(١) قال الأصمعي : حليت ـ بوزن خريت ـ معدن وقرية. وقال ياقوت : قال نصر : حليت جبال من أخيلة ، حمى ضرية ، عظيمة ، كثيرة الفنان ، كان فيه معدن ذهب ، وهو من ديار بني كلاب.

وقال أبو زياد : حليت ماء بالحمى للضباب ، وبحليت معدن ا ه.

وجاء في «معجم البلدان» ذكر معدم بقرب حمى ضرية غير هذا ، قال أبو عبيدة : والخربة (بالتحريك) أرض مما يلي ضريّة ، به معدن يقال له معدن خربة.

٣١٧

وهي معادن ذهب والمعمل في تربة (١) هو معدن ذهب أيضا.

وأما معادن الفضة فهي اثنان فقط :

أحدهما : معدن أبرق خترب (٢) الذي كان غزيرا جدا ، ثم من القرن الحادي عشر (أي الرابع للهجرة) انقطع خبره.

ومعدن النقرة (بالفتح) (٣) الذي كان مذكورا كثيرا إلى القرن الثاني عشر.

وأما الحديد فقد ذكر وجوده الرحالة الإلزاسي هوبر (Huber) الذي ساح في بلاد العرب ، لكنه لم يقل عنها شيئا ، وإنما أشار إلى معدن حديد في تبوك.

واليمامة غزيرة المعادن. ذكر الجغرافي الهمداني ص (٢٩١) معدن

__________________

(١) جاء في «معجم البلدان» ذكر تربة ـ بضم ففتح ـ أنّها واد بالقرب من مكة ، على مسافة يومين منها ، يصبّ في بستان ابن عامر ، يسكنه بنو هلال ، وحواليه من الجبال السراة ويسوم وفرقد ، ومعدن البرم ا ه.

قال محمد بن أحمد الهمداني : تربة ورنية وبيشة هذه الأودية الثلاثة ضخام ، مسيرة كلّ واحد منها عشرون يوما ، أسافلها في نجد ، وأعاليها في السراة ، ثم قال : وفي المثل عرف بطني بطن تربة ، قاله عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب أبو براء ملاعب الأسنة في قصة فيها طول ، غاب عن قومه ، فلما عاد إلى تربة وهي أرضه التي ولد بها ، ألصق بطنه بأرضها ، فوجد راحة فقال ذلك ا ه من حواشي الأصل.

(٢) ضبطها الأستاذ موريتز بضم فسكون ، وهكذا في «تاج العروس» أنّه على وزن قنفذ ، وقد جاء في «معجم البلدان» : «خترب» اسم موضع ، لكن بفتح فسكون.

(٣) جاء في «القاموس» للفيروز أبادي : والنقرة ، ويقال معدن النقرة ، وقد تكسر قافها.

٣١٨

الحسن (١) ومعدن الحفير (٢) والضبيب (٣) وثنية ابن عصام ، والعوسجة ، وتياس.

ثم يذكر الهمداني بعد ذلك ص (٢٩٤) معدني فضة ونحاس في شمام (٤) وكان يشتغل فيهما ألف رجل يوميا ، وإن صحّ ذلك ، فيكون تعدين هذه المعادن من أيام الجاهلية.

وأما معادن اليمن وعسير فكانت معروفة من زمان الفينيقيين والعبرانيين ، وهي شويلة ، وشيبا ، وأوفير ، وفراويم ، والمظنون أنّ شويلة هي خولان وأنّ شيبا هي سبأ ، وأن فروايم هي فروة. وأما أوافير فمذكور في التوارة ، ويظنّ أنّه في المكان المسمّى سينبابي.

وكثير من المؤلفين العرب لم يكونوا يعرفون من هذه المعادن إلا أسماءها ، ولم يكونوا محققين أماكنها ، ومن ذلك قول ياقوت : إنّ معدن البرم (بضم فسكون) بين مكة والطائف (٥) ، وفي الوقت نفسه

__________________

(١) جاء في «المعجم» : الحسن في ديار ضبة. وسنذكر كلام الهمداني نفسه عن هذه الأماكن.

(٢) الحفير كزبير ، جاء ذكره في «المعجم» وفي «التاج» ـ اسما لعدة مواضع أشهرها موضع بين البصرة ومكة يمرّ عليه الحاج ، ولكنّ المقصود هنا معدن الحفير بناحية عماية ، وسننقل كلام الهمداني نفسه.

(٣) ضبطه موريتز بفتح فكسر كأمير ، ولم أجده اسم موضع إلا بضم ففتح كزبير.

(٤) سننقل كلام الهمداني عن كلّ هذه المواضع ا ه من الأصل.

(٥) قال في «المعجم» : معدن البرم قال عرام : قرية بين مكة والطائف يقال لها المعدن ، معدن البرم كثيرة النخل والزروع والمياه ، مياه آبار يسقون زروعهم بالزرانيق ، قال أبو الدينار : معدن البرم لبني عقيل.

قلت : وقوله (الزرانيق) معناه السواني ، و (الزررنوقان) حائطان مبنيان على رأس البئر من جانبيها ، فتوضع عليهما النعامة ، وهي الخشبة المعلقة عليهما ، ثم تعلق بهما البكرة ، قيل : وإذا كان الزونوقان من خشب فهما النعامتان ، والخشبة المعترضة هي العجلة ، والغرب معلّق بالعجلة.

٣١٩

قالوا : إنه في وادي تربة.

كذلك معدن العتم الذي جرى ذكره إلى القرن العاشر والحادي عشر ، جعلوه في الساحل جنوبيّ الليث ، وفي تثليث إلى جهة الداخل ، ويجوز أن يكون المكان الثاني مقصودا به معدن نجران.

وعلى (١٨٠) كيلو مترا من نجران إلى الشمال بالعقيق الأعلى معدن صعاد (١) ، الذي بأرض بني عقيل ، الذي قال فيهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بأرض بني عقيل يمطر الذّهب» وقد كان هذا المعدن غزير المحصول إلى القرن العاشر ، فانقطع ذكره.

واشتهر معدن ضنكان (٢) شماليّ عسير بجودة التبر الذي يخرج منه ، ثم انقطع خبره أيضا ، ويجوز أن تتغير الأسماء بكرور الأيام ، فإنّ ناحية قنونا صار اسمها في الحديث قنفذة ، وإنّ التي كان يقال ها : ليتوس هامايوم هي الليث اليوم.

وفي صعدة من اليمن معدن الحديد ، وذكر السائح هالفي أنّه شاهد بعينه سنة (١٨٧٢) في خولان وسرواح شمالي صنعاء قطعا من الذهب مع الأدلاء ، الذين كانوا معه من العرب ، وعلمت أنّهم يجدون هذا الذهب بشكل حبّات في الرمل ، وفي مجاري الأنهر ، وفي الأودية.

وفي اليمن أيضا معادن فضة منها معدن الرحراح في أرض همدان.

وختم الأستاذ موريتز رسالته على معادن بلاد العرب بقوله : إنّ

__________________

(١) قال الهمداني في «صفة جزيرة العرب» (٣٢٩) : العقيق عقيقان : العقيق الأعلى للمنتفق ، ومعه معدن صعاد على يوم أو يومين ، وهو أغزر معدن في جزيرة العرب ، وهو الذي ذكره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : «مطرت أرض عقيل ذهبا» والأسفل هو في طيء.

(٢) قال في «المعجم» : هو واد في أسافل السراة ، يصبّ إلى البحر ، وهو من مخاليف اليمن ا ه من حواشي الأصل.

٣٢٠