الرّحلة الحجازيّة

الأمير شكيب أرسلان

الرّحلة الحجازيّة

المؤلف:

الأمير شكيب أرسلان


المحقق: حسن السماحي سويدان
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار النوادر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٩

ونصّ واحدة منها : اعف يا الله ، عبدك أود بن موسى.

ونصّ أخرى : إياد بن عيفر بن أوس ، بربه واثق.

نص أخرى : بالله محمد بن عبد الرحمن بن أبي (كلمة لم تمكن قراءتها) واثق بالله.

ونص أخرى : اللهم حكم عبدك عيفر بن أبي قبيع من النادي وكتب.

ونص أخرى : اللهم صل على محمد النبي وكتب محمد بن أبي قبيع.

وجبل السّكارى هذا على طرف الطائف إلى جهة المثناة ـ رابية لا تعلو أكثر من ستين مترا عن سطح الأرض ، لكنّها لشدة قربها من البلدة يشرف الذي يتوقّل فيها على جميع الطائف وبساتينها ، فيقصد الناس النزهة هناك ، ولما كان الجبل كلّه صخريا كانت فيه جنادل كثيرة بعضها فوق بعض ، ومنها ما هو ملاق الآخر على شكل يتكوّن منه شيء أشبه بالكهف (١) ، فيتقي الذي يقيلون تحت هذه الصخور حرّ الشمس.

وقد كان لنا هناك قيلات ، لم نزل نتذكر لطفها بدعوة الشيخ عبد القادر الشيبي كبير سدنة البيت الحرام ، الذي هو المثل البعيد في الكرم وحسن الوفادة ، والذي ذكرته مرارا في هذه الرحلة ، إلى أن قال لي الكثيرون : تالله تفتأ تذكر الشيبي ، فقلت ارتجالا :

يقولون لي : نبغي جواب سؤالنا

ويسألني عن ذاك صحبي وجلّاسي

لماذا نرى الشّيبيّ عندك أولا

وتؤثره في كلّ شيء على النّاس

فقلت : أرى الشّيبيّ يندر مثله

ببرّ وإكرام ولطف وإيناس

وفي خدمة الإسلام قد شاب مفرقي

لذاك أرى الشّيبيّ تاجا على رأسي

وبعد أن برحت الحجاز بقيت المكاتبة بيني وبين الشيخ المشار إليه

__________________

(١) سبق للمؤلف أن تحدّث عن صخور الطائف ص (١٧٣)].

٢٨١

متصلة يتخللها النظم والنثر ، ومقابلة الشيء بمثله من القافية والبحر ، ولا عجب في فصاحة بني شيبة ، وهم لباب قريش ، وخلاصة العرب ، والمقصّر فيهم سابق ، حتى لقد قرأت في «بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس» لأحمد بن يحيى بن أحمد بن عميرة الضّبيّ أنّ أبا العباس أحمد بن رشيق الكاتب لما كان في سن المراهقة يطلب علم النحو بتدمير من بلاد الأندلس ، دخل عليهم من طريق البحر رجل أسمر ، ذكر أنّه من بني شيبة حجبة البيت ، وأنه يقول الشعر على طبعه ، ولا يقرأ ولا يكتب.

وكان يقول : إنّه دخل عليه اللحن بدخول الحضر ، وروى ابن رشيق من شعره :

يا خليلي من دون كلّ خليل

لا تلمني على البكا والعويل

إنّ لي مهجة تكنّفها الشو

ق وعينا قد وكّلت بالهمول

كلّما غرّدت هتوف العشايا

والضّحى هيّجت كمين غليلي

ذات فرخين في ذرى أثلات

هدلات غضن الذوائب ميل

لم يغيبا عن عينها ، وهي تبكي

حذر البين والفراق المديل

أنا أولى بغربتي وانتزاحي

واشتياقي منها بطول العويل

حلّ أهلي بالأبطحين ، وأصبح

ت مع الشمس عند وقت الأفول

فأنت ترى فصاحة الأمي منهم ، فما ظنّك بالمتأدب الذي قرأ العلم وثافن العلماء ، ورأى من رجال الإسلام قصّاد البيت الحرام ما لم يتيسّر لأحد أن يراه.

ثم إنّ لهذا البيت من مزية خدمة البيت ما لا يشركهم فيه غيرهم منذ بضعة عشر قرنا ، حتى إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فتح مكة قال لقريش : «ما تظنون؟» قالوا : نظن خيرا ونقول خيرا ، أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت ، قال : «فإنّي أقول كما قال أخي يوسف عليه‌السلام (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف : ٩٢]» ثم

٢٨٢

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ألا كلّ دين ومال ومأثرة كانت في الجاهلية فهي تحت قدميّ إلا سدانة البيت وسقاية الحاجّ».

وحدّثوا من طريق آخر أنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في خطبة «الحمد لله الذي صدق وعده ، ونصر جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، ألا إنّ كلّ مأثرة في الجاهلية وكلّ دم ودعوى موضوعة تحتّ قدمي ، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج».

وقالوا : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أخذ مفتاح البيت يوم فتح مكة من عثمان بن طلحة بن أبي طلحة ، فنزلت الآية (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) [النساء : ٥٨] فاستدعى عثمان ، وأعاد إليه المفتاح ، قائلا له : «خذوها يا بني أبي طلحة بأمانة الله سبحانه ، لا ينزعها منكم إلا ظالم» وفي رواية أخرى : «خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة لا يظلمكموها إلا كافر» وقيل : «إلا ظالم» ولهذا بقي مفتاح البيت في هذا البيت إلى اليوم.

ليس في مكة أعرق منهم ، لأنّه لم يبق من صدر الإسلام ملازما مكة بسبب سدانة البيت غيرهم ، ولقد رأيت فتاوى كثير من العلماء في وجوب البرّ بهم ، مكافأة على هذه الخدمة المقدسة ، التي اختصوا بها بمحكم الذكر من قديم الدهر.

هذا ولقد ذكر السيد خير الدين الزركلي جبل السّكارى الذي كنا بصدده وقال : إنّهم يسمونه أم السّكارى ، وروى عن قاضي الطائف الذي كان يومئذ (سنة ١٣٣٩) أنّ على هذا الجبل أسطرا تاريخها سنة (١٨٨) قال : فصعدته ، ورأيت كتابات كثيرة ، ولم أر التاريخ الذي ذكره.

قلت : وأنا لم أر كتابة عليها تاريخ ، ولكن يجوز أن تكون على صخر لم يقع نظرنا عليه ، فإنّ هذا الجبل مغطى بالصخور ، وفيه مقطع حجارة لبناء أهل الطائف ، وليس كلّ ما يراه الواحد يراه الآخر.

٢٨٣

وأما تسمية هذا الجبل بأم السّكارى أو جبل السّكارى فنظنّها من جهة اجتماع الناس فيه للنزهة والشرب من أيام الجاهلية ، ويقال : إنّ أبا سفيان بن حرب إنما اجتمع مع سمية أم زياد في هذا الجبل ، أتاه بها أبو مريم الخمار.

وهناك جبل مناوح لمسجد ابن عباس ، على مسافة (٢٠) دقيقة منه ، فيه صخور كثيرة ، عليها كتابات وصور حيوانات ، ومن هذه الكتابات ما يظهر أنّه قديم ، ومنه ما هو من القرن الثالث أو الرابع أو الخامس. وقد نقل الخير الزركلي منها كتابة هي (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب : ٥٦] وفي آخرها محمد بن مهدن.

وجبل آخر اسمه الرّدّف ـ بفتح الدال وتشديدها ـ يذهب السائر إليه من الباب الذي بقرب مسجد ابن عباس رضي‌الله‌عنه ، ويأخذ الوصول إليه نحو ساعة من الزمن ، على طريق بستان حوايا ، وبستان شهرا.

وفي الرّدّف هذا حجارة كبيرة مترادفة ، على بعضها كتابات ، قرأنا بعضها ، وهو من الخط الكوفي القديم من القرن الأول وما يليه. نقل من ذلك الخير الزركلي في كتابه «ما رأيت وما سمعت» (١) الجمل الآتية :

عبد الله بن علي بن أبي محجن يسأل الله بوجهه الكريم الجنّة.

عبد الله بن علي بن أبي محجن يسأل الله القتل في سبيله على بركته.

عبد الرحمن بن سعيد بن عبد الرحمن ، يشهد أنّ الله على كلّ شيء قدير ، وأنّ الله قد أحاط بكلّ شيء علما.

وبينما كنا قافلين من وادي ليّة إلى الطائف ، رأينا أيضا كتابات على

__________________

(١) [ما رأيت وما سمعت : (٥٩)].

٢٨٤

صخور ، منها كتابة ممحوة بعض كلماتها ، فهمنا منها أنّه كان أصاب البلاد قحط ، وأمطروا بعد ذلك.

ورأينا كتابات على الصخور في طريق الطائف إلى وادي محرم ، وقد تقدّم أننا رأينا خطوطا كوفية ، وأخرى من القرن السادس في سيدنا عكاشة من أرض الوهط.

قيل لي : إنّ بين المدينة المنورة وحائل كتابات كثيرة ، ولا أعلم هل هي من الخط الكوفي ، أو من الخط النبطي ، أو من خطوط أخرى؟ وغاية ما يدرك الإنسان من كثرة هذه الخطوط في جزيرة العرب أنّها كانت حافلة بالسكان ، بالغة الشأو الأقصى من العمران ، وأنّ الفتوحات الإسلامية أثّرت في درجة عمرانها ، فغلبت عليها البداوة في التالي ، ويظنّ بعضهم أنّ هناك أسبابا طبيعية أيضا ، تقلّص به العمران : من غيض مياه ، ونضوب أنهار جارية ، وما أشبه ذلك مما حدا العرب إلى الجلاء والتفرق في الأقطار.

ونعود إلى الطائف فتقول : إنّ عمرانها كان قبل الحرب العامة أكثر منه اليوم بكثير ، وأنّه بسبب الحرب بين الشريف حسين والأتراك ، ثم بينه وبين النجديين خرب جانب كبير منها ، ونزح أكثر سكّانها.

* * *

٢٨٥

إشراف الحجاز على العمران

بشمول العدل والأمان

وقد بدأ عمرانها (١) ، بل عمران الحجاز كلّه بالرجوع (٢) في هاتين السنتين ، بعد استقرار الأمن وشمول الدعة ، ومما أقرّ به القاصي والداني ، واعترف النّاس بالفضل فيه لله ، ثم لابن سعود.

ولقد شافهتنا هناك الأهالي في الفرق الذي بين حالتهم الحاضرة وحالتهم الماضية ، فأجمعوا على أنّ نعمة الأمن التي هم متمتعون بها الآن لم يعرفوا شيئا منها من قبل ، لاهم ، ولا آباؤهم ، ولا أجدادهم ، ولا سمعوا بها عن سلفهم.

حدّثني بعض الأشراف الهاشميين من أولاد أمراء مكة أنفسهم أنّهم كانوا في القرى التي لهم حول الطائف يوصدون أبوابهم ليلا ، ولا يفتحونها لأي طارق خيفة الغيلة ، وحذرا من سطو اللصوص ، حتى جاء هذا العهد السعودي ، فصاروا يأمنون أن يبيتوا وأبوابهم مفتّحة ، وصاروا يفتحون لأيّ طارق جاءهم.

وحدثني الجميع أنّهم كانوا لا يقدرون على التجوال إلا مسلحين ، فأصبح الآن كلّ إنسان يجول في الحواضر والبوادي أعزل ، لا يحمل شيئا ، ولا السكين ، وقد يكون حاملا الذهب ، ولا يخشى عادية

__________________

(١) [أي الطائف].

(٢) [في الأصل التراجع].

٢٨٦

ولا حادثة ، وكثيرا ما يترك الناس أوقار دوابهم في قارعة الطريق ، وتبقى أياما وليالي إلى أن يعود أصحابها ، فيأخذوها ولا يجرؤ أحد أن ينظر إليها.

وقيل : إنّ عدلا من الشعير تركه صاحبه لإعياء مسّ دابته ، ومضى ينشد دابة أخرى يحمل عليها عدله ، فجاء ، ووجد في العدل ثقب سكين تتساقط منه حبوب الشعير ، فأخبر الشرطة ، فلم يزالوا يبحثون حتى عرفوا ذلك الرجل الذي وجأ العكم بسكينه ، وجلدوه بالسياط ، لأنّه حاول أن يعرف ما احتوى عليه ذلك العكم (١)

وكلّ يوم يؤتى إلى دوائر الشرطة في كل بلدة بأمتعة وأسباب وحوائج وأموال ، منها الكثير ، ومنها القليل ، ومنها الثمين ، ومنها الخسيس ، مما يجده السابلة في الطرق اتفاقا ، فلا تجد أحدا يطمع في شيء ، بعد أن كان الدعّارة (٢) يذبحون ابن السبيل من أجل حاجة لا تكاد تساوي قطميرا.

فسبحان الذي أدال من تلك الحال لهذه الحال ، وأوقع الرعب في قلوب الدّعار ، في السهول والأوعار ، وليس في باب الأمن في ممالك ابن سعود متطلّع لمزيد ، وقصارى ما يتمنّى الإنسان دوام هذه النعمة.

ومن هذا الباب أنّ الثارات والدماء كانت بين قبائل العرب متصلة ، والغارات مستمرة ، وأنه إذا وقع دم بين قبيلة وأخرى انقطع كلّ اتصال بينهما ، وصار ابن إحداهما لا يقدر أن يمرّ بأرض الأخرى إلا تحت خطر القتل ، وقد سمعت من القبائل التي شافهتها في الحجاز أنّها إلى زمن استيلاء ابن سعود كان بعضها لا يقدر أن يدخل منطقة بعض ، ولو

__________________

(١) حكى الريحاني وغيره مثل هذه الحادثة في بلاد نجد ، والحالة العامة تلد حوادث متشابهة.

(٢) [المفسدون].

٢٨٧

كان في أقرب محلّ إليه ، وأنّ كلّ ذلك قد نسخ الآن بأحكام ابن سعود ، وصار النّاس يمرّ بعضهم بأرض بعض عزّلا من السلاح ، ولا يخشى أحد منهم مكروها ، وانطوت تلك الثارات والذحول ، كأنها لم تكن ، ولا نظن أن الأعراب ينسون الثارات ، وليس ذلك من طبيعتهم ، ولكنّهم إذا وقعت هيبة السلطان في قلوبهم ، وعرفوا أن ليس عند السلطان إلا العدل وإقامة الحدّ الشرعي بدون هوادة مع أحد ، انقادوا للأحكام انقياد الغنم.

لهذا نجد العمران قد بدأ يرجع (١) إلى الحجاز بشمول الأمن ، واستراحة الفكر ، فالقوافل والسيارات الكهربائية ، ذاهبة جائية ، تخترق الصحارى بالأمنة التي تمرّ بها في شوارع البلد الحرام ، والنّاس بعد أن أمنوا على أموالهم وزروعهم وضروعهم قد نشطوا للعمل ، ووثقوا بالمستقبل ، وإذا مضت عشرون سنة ـ وهذه الحالة لم تتبدّل ، وهذه الأمنة ممتدة الرواق على البلاد كما هي اليوم ـ فإنّ البلاد ستسير شوطا بعيدا في ميدان الفلاح ، ويتضاعف عدد قطينها ، وترتفع أثمان أراضيها ، ويقصد إليها كثيرون من أهل العالم الإسلامي ، الذين يثقل عليهم حكم المستعمرين الأوربيين ، كما كانوا بدأوا يهاجرون إليها قبل الحرب العامة ، مع أنّ أمنة السوابل لم تكن حينئذ كما هي الآن.

ومن الأغلاط المشهورة التي شهرتها لا تمنع كونها غلطا ، الظنّ بأنّ بلاد الحجاز هي من القحولة بحيث لا تتحمّل عددا من السكان يزيد على أهاليها الحاضرين ، وإن زاد فلا يكون إلا قليلا ، وأنّ الحجاز ناشف ، وأنّ الحجاز يابس ، وأنّ الحجاز كثير الححار والحرار ، قليل الرياض والغياض ، غير أريض الأراضي ، إلى غير ذلك من وجوه الاعتراض.

وهذا كلّه من الكلام المرسل بدون تحقيق ، الذي يقوله من لا يعرف

__________________

(١) [في الأصل : يتراجع].

٢٨٨

الحجاز ، أو لا يعرف شيئا عن الحجاز ، أو بعض الكسالى من أهل الحرمين الشريفين ، الذين يبدون ويعيدون أمام حجّاج البيت الحرام ، وزوّار الروضة النبوية عن فقر الحجاز تعمّدا منهم ، ليستزيدوا برّ الحجاج بهم ، ويستدرّوا عوارف العالم الإسلامي عليهم.

وحقيقة الحال أنّه لو كان سكان الحجاز ثمانية أو عشرة ملايين نسمة لكان ثمة مكان لهذا القول ، ولكن بدون أن نعرف بالتدقيق عدد أهالي الحجاز نقدر أن نقول : إنّهم جميعا بدوا وحضرا لا يزيدون على مليون نسمة ، وربما لا يناهزون هذا العدد وإنّ من عرف جزءا من الحجاز ـ لا كله ـ علم أنّ الحجاز إذا قام أهله على فلحه وزرعه حقّ القيام أعاش منهم ملايين بالراحة التامة ، وأصار إليهم من الخيرات ما لا يذكر موسم الحجّ في جانبه شيئا.

ولقد رأيت على مقربة من مكة وادي فاطمة ، الممتد إلى وادي الليمون مسافة خمس عشرة ساعة ، فرأيت جنة من حنان الله في أرضه ، لا تفضلها بقعة لا في الشام ، ولا في مصر ، ولا في العراق.

ولما كنت في المدينة المنورة قبل الحرب العامة ، وجوّلت في عواليها والبقاع التي تليها ، وشاهدت زكاء تلك الأرضات ، وسمعت خرير هاتيك المياه ، قدّرت أنّ البلدة الطيبة وحدها إذا كانت سكة الحجاز الحديدية متصلة بها ، وبقيت المهاجرة إليها من الآفاق ، قد تحمل نصف مليون نسمة ، ولا يتكاءدها أمر معيشتهم.

وقد كان بلغ عدد سكان المدينة قبل الحرب العامة نحو خمسين ألف نسمة ، وصار المتر المربع من الأرض الفضاء في وسط البلدة يباع بعشرة جنيهات ، وفي الضواحي بجنيه واحد وكانت النّاس مقبلة على الشراء من كلّ جانب.

فلما انقطعت السكة الحديدية الحجازية الواصلة بين المدينة والشام ، بسبب استئثار دولتي فرنسة وإنكلترة اللتين وضعتا أيديهما على

٢٨٩

قطع هذا الخط التي في سورية وفلسطين والبلقاء ، وجهلتا ، بل هضمتا حقوق المسلمين الخاصة فيه ـ تقلّص عمران المدينة المنورة ، ونزل عدد سكانها من الخمسين ألفا إلى (١٥) ألفا.

كما أنّ جميع القرى التي كانت على جوانب الخطّ مثل معان ، وتبوك ، ومدائن صالح ، والعلا ، وغيرها قد تراجعت إلى الوراء ، بعد أن كانت السكة قد بدأت تعيد إليها غابر عمارتها.

ولعل التخوّف من عمران الحجاز كان من جملة الأسباب التي حدت بدولتي إنكلترة وفرنسة على المعارضة في تسليم السكة الحديدية الحجازية للمسلمين ، فإنّ هاتين الدولتين اللتين تسلطتا على نحو (١٥٠) مليون مسلم تكرهان أن يكون لهم ملجأ تهوي إلى أفئدتهم ، ويكون معمورا ، وتتوافر فيه أسباب الراحة ، وينتهي الأمر بازدحام السكان فيه ، ولا سيما الحجاز ، ولا سيما الحجاز ، ولا سيما الحجاز.

ولكنّ استئناف عمران الحجاز أمر لا مناص منه ، مهما وضع الأجانب أعداء الإسلام في طريقه من العراقيل والعواثير ، لأنّ المسلمين يأرزون إلى الحجاز من كلّ صوب ، كما تأرز الحيّة إلى وكرها ، وقد كانوا يشتكون قلّة الأمنة في السبل ، فقد أزيحت هذه العلّة بتمامها بفضل الله ، ثم بفضل عبد العزيز بن سعود. وقد كانت تطول عليهم المراحل ، وتتعبهم أكوار الرواحل ، فالآن قامت السيارات الكهربائية مقام الأباعر ، وطوت تلك المسافات الطوال طيّ السجل للكتب ، ولا بدّ من أن يأتي دور السكة الحديدية يوما ، فتكمل من المدينة إلى مكة ، ويمتد خطّ من جدة إلى مكة ، ثم من مكة إلى الطائف.

وإذا كان العرب عربا ساروا به من الطائف إلى أبها إلى صنعاء اليمن إلى عدن. فإنّ الأمة العربية سائرة إلى الوحدة مهما عارض في ذلك اللئام من أعدائها ، والمتفلسفون من أبنائها ، وإنّ هذه الوحدة آتية لا ريب فيها ، ولو بعد مئة سنة أو أكثر.

٢٩٠

وطالما قلت : إنّ من أهم الشروط الأساسية لهذه الوحدة هو مدّ الخطوط الحديدية بين الشام وجزيرة العرب ، والعراق وجزيرة العرب ، على أن تكون هذه الخطوط للعرب ، وبأيدي العرب.

وبينما كنت أقرأ ترجمة حياة كافور مؤسس الوحدة الإيطالية بقلم المسيو باليولوغ سفير فرنسة في بطرسبورغ سابقا ، إذ وجدته يقول : إنّ كافور كان يرى الشرط الأساسيّ لوحدة إيطالية ربط جميع أجزائها بالخطوط الحديدية ، وقد ابتدأ بذلك من قبل أن يتمّ الوحدة الإيطالية.

قابلية خيبر للعمران

ونعود إلى عمارة الحجاز فنقول : إنّ من البقاع الملأى مستقبلا ـ كما يقول الإفرنج ـ بقعة خيبر ، ولم أصل إلى خيبر ، ولكنّي سمعت بها كثيرا ، وقيل لي : إن بها سبعة أودية سائلة ، ونخيلا من فوق التصور ، وكنت أيام أنا مبعوث الشام في مجلس النواب بإستانبول سعيت بمدّ شعبة من الخطّ الحديدي الحجازي إلى خيبر ، ينفصل من قبل الوصول إلى المدينة المنورة بنحو ساعتين ، ولا تكون مسافة هذا الخط المتشعب من الخط العمودي أكثر من ساعتين فقط ، فكان يمكن ذهاب الإنسان من المدينة إلى خيبر في أربع ساعات لا غير ، وكنا قرّرنا مدّ هذه الشعبة إلى خيبر ، كما قررنا مدّ شعبة أخرى من أذرعات (درعا) إلى عجلون في حوران ، وشعبة أخرى من ضبعة إلى الكرك في شرق الأردن ، كلّها من الخط الحجازي ، وجاءت الحرب العامة ، فوقفت كلّ هذه المشروعات ، ثم جاء احتلال الأجانب للبلاد ، فأخى على كلّ شيء ، بينما هم يدّعون أنهم إنما أتوا لأجل إسعاد البلاد وترفية عمرانها!!.

قال ياقوت الحموي في «معجم البلدان» : إنّ خيبر سبعة حصون : حصن ناعم ، وحصن القموص ، وحصن الشق ، وحصن النطاة ، وحصن السلالم ، وحصن الوطيح ، وحصن الكتيبة ، ولها كلّها مزارع ونخل كثير.

٢٩١

وروي أنّ غزاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لها كانت لست سنين وثلاثة أشهر وواحد وعشرين يوما للهجرة ، وفتحها ، وحقن دماء أهلها اليهود ، وقالوا له : يا محمد إنّ لنا بالعمارة والقيام على النخل علما فأقرّنا ، فأقرّهم ، وعاملهم على الشطر من التمر والحب.

فلما كانت خلافة عمر ، ظهر فيهم الزنا ، وكان سمع أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» (١) فأجلى عمر رضي‌الله‌عنه يهود خيبر إلى الشام ، وقسّم خيبر بين المسلمين.

قال : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث عبد الله بن رواحة إلى أهل خيبر ، ليخرص عليهم ، فقال : إن شئتم خرصت وخيرتكم ، وإن شئتم خرصتم وخيرتموني ، فأعجبهم ذلك ، وقالوا : هذا هو العدل ، هذا هو القسط ، وبه قامت السموات والأرض.

وخيبر موصوفة من القديم بالحمّى ، وذلك من كثرة مستنقعاتها ، وفيها اليوم أكرة من السودانيين الزنوج ، لا يقدرون على الإقامة بها لو لا ألفتهم للحمّى.

وأما إذا قيّض لخيبر وللحجاز إصلاح ، وأعيدت السكة الحديدية إلى مجراها ، وانشعب من عمودها شعبة إلى خيبر ، وعمّرها الناس ، فللحمى طرق فنية كثيرة تكفل استئصال جراثيمها تدريجا من إحدار المياه ، وحصرها في القني السائلة ، وغرس الغياض الكثيرة من شجر الأوكاليبتوس ، وتجفيف المناقيع ، وإتقاء الحمّى بالكينا ، وغير ذلك مما جرى مثله في أماكن أخرى كانت وبيئة في الماضي ، فصارت مصاح للأجسام.

ولما كنت في المدينة المنورة سنة (١٣٣٢) قيل لي : إن خيبر هي

__________________

(١) [انظر تخريج الحديث وحكمة ذلك في مقدمة السيد محمد رشيد رضا لهذا الكتاب ص (١٨)].

٢٩٢

عن المدينة على مسافة ثلاثة أيام إلى الشمال بسير الجمل ، وإنها كانت آيلة إلى الخراب ، فبعد أن كان ابن رشيد يأخذ منها في السنة (١٢٥) ألف ريال ، أصبحت الدولة لا تأخذ منها إلا ألف ريال.

العلا ووادي القرى

ومن الأماكن القابلة جدا للعمارة العلا ـ بضم أوله ـ وهي على مسافة سبع أو ثماني ساعات من المدينة المنورة ، إلى الشمال بسير القطار الباخر.

قال ياقوت (٤ / ٣٣٨ ـ ٣٣٩) : هو اسم لموضع من ناحية وادي القرى ، بينها وبين الشام ، نزله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طريقه إلى تبوك ، ولم يذكر ياقوت شيئا عن جنان العلا ولذّة فواكهها ، وجودة ثمارها وتمورها ، فهي من أجلّ المراكز المرجوة لعمران القسم الشماليّ من الحجاز.

ووادي القرى كلّه من الأماكن المرجوة لعمران الحجاز ، نقل ياقوت في «المعجم» قول أبي المنذر عن وادي القرى قال : سمّي وادي القرى لأنّ الوادي من أوله إلى آخره قرى منظومة ، وكانت من أعمال البلاد ، وآثار القرى إلى الآن بها ظاهرة ، إلا أنّها في وقتنا هذا كلها خراب ، ومياهها جارية تتدفّق ضائعة ، لا ينتفع بها أحد.

قال أبو عبيد الله السكوني : وادي القرى والحجر والجناب منازل قضاعة ، ثم جهينة وعذرة وبلي ، وهي بين الشام والمدينة ، يمرّ بها حاجّ الشام ، وهي كانت قديما منازل ثمود وعاد ، وبها أهلكهم الله ، وآثارها إلى الآن باقية ، ونزلها بعدهم اليهود ، واستخرجوا كظائمها ، وأساحوا عيونها ، وغرسوا نخلها ، فلما نزلت بهم القبائل عقدوا بينهم حلفا ، وكان لهم فيها على اليهود طعمة وأكل في كل عام ، ومنعوها لهم عن العرب ، ودفعوا عنها قبائل قضاعة.

وروي أنّ معاوية بن أبي سفيان مرّ بوادي القرى. فتلا قوله تعالى : (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها

٢٩٣

هَضِيمٌ) [الشعراء : ١٤٦ / ١٤٨] ثم قال : هذه الآية نزلت في أهل هذه البلدة ، وهي بلاد ثمود ، فأين العيون!؟ فقال له رجل : صدق الله في قوله ، أتحبّ أن استخرج العيون؟ قال : نعم ، فاستخرج ثمانين عينا. فقال معاوية : الله أصدق من معاوية.

وكان النعمان بن الحارث الغسّاني ملك الشام أراد غزو وادي القرى ، فخذّره نابغة بني ذبيان (١) ذلك بقوله :

تجنّب بني حنّ فإنّ لقاءهم

كريه ، وإن لم تلق إلا بصابر

وهم قتلوا الطائيّ بالحجر عنوة

أبا جابر ، واستنكحوا أمّ جابر

وهم ضربوا أنف الفزاريّ بعد ما

أتاهم بمعقود من الأمر قاهر

أتطمع في وادي القرى وجنابه

وقد منعوا منه جميع المعاشر؟

في أبيات.

و (حنّ) بضم الحاء المهملة والنون المشددة ، هو ابن ربيعة بن حرام بن بن ضنّة بن عبد بن كبير بن عذرة بن سعد بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة.

و (أبو جابر) هو الجلاس بن وهب بن قيس بن عبيد بن طريف بن مالك بن جدعاء بن ذهل بن رومان بن جندب بن خارجة بن سعد بن فطرة بن طيء ، وكان ممن اجتمعت عليه جديلة طيء.

ولما فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خيبر في سنة سبع امتدّ إلى وادي القرى فغزاه ، ونزل به. وقال الشاعر (٢) :

ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة

بوادي القرى إنّي إذا لسعيد؟

وهل أرين يوما به وهي أيّم

وما رثّ من حبل الوصال جديد

انتهى كلام أبي المنذر ، وكلام ياقوت.

__________________

(١) [ديوانه : (٩٨)].

(٢) [هو جميل بن معمر العذري في المعجم (جملا) بدل (يوما)].

٢٩٤

ووادي القرى اليوم خراب ، كما كان في أيامهما ، ولا يرجى له استئناف عمران إلا باستئناف حركة الخطّ الحديدي الحجازي.

ولقد كان وادي القرى معمورا في صدر الإسلام وما يليه ، وبه مات موسى بن نصير اللخمي فاتح الأندلس ، وغازي الأرض الكبيرة الأوربية ، وفاتحها كلّها ، لو تركه أعداؤه وحسّاده في دمشق يكمل عمله في الغرب.

وقرأت في كتاب «الصلة» لابن بشكوال في تاريخ أئمة الأندلس وعلمائهم! ترجمة أحمد بن محمد بن محمد بن عبيدة الأموي ، الذي يعرف بابن ميمون من أهل طليطلة : وفيها أنّه رحل إلى المشرق سنة (٣٨٠) وحجّ وزار المدينة ، وأنه سمع بوادي القرى من أبي جعفر أحمد بن علي بن مصعب ، وبمدين من أبي بكر السوسي الصوفي ، وبأيلة من أبي بكر ابن المنتصر ، وبالقلزم من أبي عبيد الله ابن غسان القاضي.

فمن ذكره علماء في هذه الأماكن يأخذ عنهم مثل ابن ميمون الطليطلي بجلالة قدره يعرف أنّها كانت معمورة مأهولة.

والحال أنّها اليوم خراب ، فلا وادي القرى ، ولا مدين ولا أيلة ، ولا القلزم عليها رائحة العمارة ، أو فيها شيء يشبه القرى ، فضلا عن الحواضر أو المزارع ، فضلا عن الجنان النواضر.

أين اليوم وادي القرى ومدين وأيلة والقلزم ، وأين العلم والأدب والسماع منها؟!!

أودية العقيق في المدينة واليمامة وغيرهما

ومن أجمل ما في الحجاز ، بل في جزيرة العرب ، الأمكنة التي يقال لها العقيق ، ويترنّم بها الشعراء بالشعر المتين الرقيق ، والعرب تقول لكلّ مسيل ماء شقّه السيل في الأرض فأنهره ووسّعه عقيق.

٢٩٥

فمن هذه الأعقّة : عقيق عراض اليمامة ، وهو واد واسع ممايلي العرمة ، يتدفق فيه شعاب العارض ، وفيه عيون عذبة الماء.

قال السكوني : عقيق اليمامة لبني عقيل ، فيه قرى ونخل كثير ، ويقال له : عقيق تمرة ، وهو منبر من منابر اليمامة عن يمين من يخرج من اليمامة يريد اليمن ، عليه أمير ، وفيه يقول الشاعر :

تربّع ليلى بالمضيّح فالحمى

وتحفر من بطن العقيق السّواقيا

ذكر ذلك ياقوت في «معجم البلدان» (٤ : ١٣٨) ثم ذكر عن عقيق المدينة ما ملخّصه : إنّه عقيقان : الأكبر ممايلي الحرّة ، ما بين أرض عروة بن الزبير إلى قصر المراجل ، وممايلي الحمى ما بين قصور عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمرو بن عثمان إلى قصر المراجل ، ثم أذهب بالعقيق صعدا إلى منتهى البقيع.

والعقيق الأصغر ما سفل عن قصر المراجل إلى منتهى العرصة.

وفي عقيق المدينة يقول الشاعر ، وهو المديح المرقّص الذي ليس وراءه مديح في الكرم :

إنّي مررت على العقيق وأهله

يشكون من مطر الرّبيع نزورا

ما ضرّكم إن كان جعفر جاركم

أن لا يكون عقيقكم ممطورا

قال : وفي هذا العقيق قصور ودور ومنازل وقرى.

قال القاضي عياض : العقيق واد عليه أموال أهل المدينة ، وهو على ثلاثة أميال أو ميلين ، وقيل : ستة وقيل : سبعة.

وهي أعقة : أحدها عقيق المدينة ، عقّ عن حرّتها ، وهذا العقيق الأصغر ، وفيه بئر رومة.

والعقيق الأكبر بعد هذا ، وفيه بئر عروة.

وعقيق آخر أكبر من هذين ، وفيه بئر على مقربة منه ، وهو من بلاد مزينة.

٢٩٦

ومنها العقيق الذي جاء فيه (إنّك بواد مبارك) هو الذي ببطن وادي ذي الحليفة.

ومنها عقيق اليمامة لبني عقيل ، وفيه يقول ابن حميّر (بضم فتشديد) العقيلي :

يريد العقيق ابن المهير ورهطه

ودون العقيق الموت وردا أحمرا

وكيف تريدون العقيق ودونه

بنو المحصنات اللابسات السّنوّرا

ومنها : العقيق ماء لبني جعدة وجرم ، تخاصموا فيه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقضى به لبني جرم.

ومنها : عقيق البصرة : وهو واد ممايلي سفوان.

ومنها : عقيق آخر يدفع سيله في غوري تهامة ، وهو الذي ذكره الشافعي رضي‌الله‌عنه فقال : لو أهلّوا من العقيق كان أحبّ إليّ (يريد أهل العراق ، الذين من عادتهم أن يهلّوا من ذات عرق).

ومنها : عقيق تمرة : قرب تبالة وبيشة ، وقيل : عقيق تمرة هو عقيق اليمامة.

والعقيق واد لبني كلاب ، نسبه إلى اليمن ، لأنّ أرض هوازن في نجد ممايلي اليمن ، وأرض غطفان في نجد ممايلي الشام ، وإياه عنى الفرزدق بقوله :

ألم تر أنّي يوم جوّ سويقة

بكيت ، فنادتني هنيدة : ماليا؟

فقلت لها : إنّ البكاء لراحة

به يشتفي من ظّن أن لا تلاقيا

قفي ودّعينا يا هنيد ، فإنّني

أرى الركب قد ساموا العقيق اليمانيا

انتهى ملخصا من «معجم البلدان».

وسيّد الأعقة كلّها عقيق المدينة المنورة ، وهو الذي يدور ذكره على ألسنة الشعراء ، وإذا قيل العقيق وحاجر اشتدّ الشوق ، وسالت الدموع من المحاجر ، وقد تنزّهت فيه ، ونشقت طيب هوائه ، ورشفت من عذب

٢٩٧

مائه ، وهو على مسافة ساعة من المدينة النبوية ، على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى التحية ، وفيه بئر عثمان بن عفان رومة ـ وبئر عروة بن الزبير رضي‌الله‌عنهما.

وقد كانت لنا أيام زرت المدينة قبل الحرب العامة بسنة قيلات كثيرة على بئر عروة المشهورة بخفة مائها ، والتي كان يرسل بمائها إلى هارون الرشيد ، قال الزبير بن بكار : رأيت أبي يأمر به فيغلى ، ثم يجعله في القوارير ، ويهديه إلى الرشيد ، وهو بالرقة.

هذا ـ وقد كنت أشعر عند بئر عثمان من انشراح الصدر ، وانفساح الفكر ، ما لا أشعر به في مكان آخر ، حتى إنّي أردت مقابلة أعيان المدينة المنورة الكرام على حفاوتهم بي ، والمكارم التي أظهروها ، والمآدب التي اتخذوها ، فدعوت منهم خمسين أو ستين شخصا إلى مأدبة اخترت لها بئر عثمان ، التي قال فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم القليب قليب المزنيّ» وهي البئر التي كانت تسمى من قبل : بئر رومة (بضم فسكون) كانت لرجل غفاري يقال : إنّ اسمه رومة ، فلما أعجبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اشتراها عثمان بخمسة وثلاثين ألف درهم ، وتصدّق بها على المسلمين.

وقال مصعب بن الزبير يذكر بئر رومة ويتشوّقها وهو بالعراق :

أقول لثابت والعين تهمي

دموعا ما أنهنها انحدارا

أعرني نظرة بقرى دجيل

تحايلها ظلاما أو نهارا

فقال : أرى برومة أو بسلع

منازلنا معطّلة قفارا

ولم تكن جميع المنازل وقتئذ بالعقيق معطلة قفارا ، بل كانت تلك الديار عامرة ، وكانت حولها الجنان ناضرة ، ولا تزال آثار العمارة هناك ظاهرة ، ومنها آثار قصر عروة بن الزبير ، وقصر سعيد بن العاص

٢٩٨

وغيرهما ، وإذا زخر عمران يثرب يوما من الأيام ، فلا بدّ من أن تتصل المنازل من البلدة إلى العقيق (١).

سلع المدينة المنورة

وأما سلع ـ بفتح أوله وسكون ثانيه ـ فهو جبل على طرف المدينة المنورة ، إلى الشمال الغربيّ ، بيضي الشكل ، شامخ ، مشرف على جميع البلدة ، تعلو ذروته عنها نحو ثلاثمئة متر ، فلو حفل عمران المدينة ، وعادت إليها السكة الحديدية متصلة بالشام ، كما لا بدّ أن يكون ذلك إن شاء الله ، وجعلت إلى ذروة هذا الجبل مرقاة (Funiculaire) كما ترى في سويسرة للجبال العالية القريبة من العمران ، التي يتوقّلون إليها بالسكك الراقية ، لكان في رأس سلع متنزه يعزّ نظيره في الدنيا ، ولا يملّ النّاس الاختلاف إليه. ومعنى لفظة ـ سلع بالفتح وقد يكسر ـ الشّق في الجبل ، قال ياقوت : قال أبو زياد : الأسلاع طرق في الجبال ، يسمّى الواحد منها سلعا ، وهو أن يصعد الإنسان في الشعب وهو بين الجبلين ، يبلغ أعلى الوادي ، ثم يمضي فيسند في الجبل حتى يطلع فيشرف على واد آخر ، يفصل بينهما هذا المسند الذي سند فيه (سند فيه : رقى فيه ، والسند : ما قابلك من الجبل ، وما علا عن السفح ، وفي وطني من جبل لبنان مكان يصعد فيه الإنسان من عين عنوب إلى عيناب يقال له : سند عيناب) ثم ينحدر حينئذ في الوادي الآخر ، حتى يخرج من الجبل منحدرا في فضاء الأرض ، فذاك الرأس الذي أشرف من الواديين السّلع ، ولا يعلوه إلا راجل. ا ه.

__________________

(١) في أحاديث أشراط الساعة وما يحدث قبلها ما يدلّ على أنّ منها عمران المدينة ، وأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تبلغ المساكن إهاب ، أو يهاب» رواه مسلم في «صحيحه» رقم (٢٩٠٣) من حديث أبي هريرة ، وإنّ بعض رواته قال : إنّ إهاب على بعد عدة أميال من المدينة.

٢٩٩

قلت : في سلع المدينة ذروة تناوحها ذروة أخرى ، وبينهما منحدر خفيف من الأرض ، وكان الأتراك قد جعلوا هناك نقطة عسكرية ومدافع ، ولعلها باقية إلى اليوم ، ولقد علوت هذا الجبل راجلا في جماعة من الأحباب ، بدعوة قائد المدينة قبل الحرب العامة بصري باشا ، الذي دعانا إلى شرب الشاي هناك ، ولكن سيأتي يوم تعمر فيه مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمرانا حفيلا ، ويصعد الناس إلى سلع بالمرقاة إن شاء الله ، قال صفيّ الدين الحلي :

إن جئت سلعا فسل عن جيرة العلم

واقرا السّلام على عرب بذي سلم

والشعر في سلع كثير.

ينبع

ومن الأماكن الحجازية الملأى بالمستقبل ـ كما يقول الإفرنج ـ ينبع ، قال : ابن دريد : أخذ اسمها من الفعل المضارع لكثر ينابيعها ، وهي عن يمين جبل رضوى لمن كان منحدرا من المدينة المنورة إلى البحر ، على ليلة من رضوى ، وعلى سبع مراحل من المدينة.

قال ياقوت : قال الشريف ابن سلمة بن عياش الينبعي : عددت بها مئة وسبعين عينا.

وقال عرام بن الأصبغ السلمي : وهي لبني حسن بن علي ، وكان يسكنها الأنصار ، وجهينة ، وليث ، وفيها عيون عذاب غزيرة ، وواديها بليل ، وبها منبر ، وهي قرية غنّاء».

رابغ

ومنها رابغ : وهي بلدة على واد من دون الجحفة ، يقطعه الحاجّ من دون عزور (بفتح فسكون).

قال الحازمي : بطن رابغ واد من الجحفة ، له ذكر في المغازي وفي أيام العرب ، ومعنى الرابغ العيش الناعم ، وكذلك الرابغ الذي يقيم على

٣٠٠