الرّحلة الحجازيّة

الأمير شكيب أرسلان

الرّحلة الحجازيّة

المؤلف:

الأمير شكيب أرسلان


المحقق: حسن السماحي سويدان
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار النوادر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٩

ومن بني عامر بن صعصعة بنو هلال ، وهم الذي ذكر الهمداني أنّهم يسكنون وادي جلذان ، وقد هاجر بنو هلال إلى مصر والشام والمغرب ، ولم يبق لهم في جبال الطائف إلا آثار وأخبار ، فكلّ شيء قديم يقول عنه الأهالي : إنّه من زمن بني هلال.

قال الهمداني : وكان لهم بلاد صعيد مصر كلّها ، وذكرهم ابن سعيد في عرب برقة ، وقال : منازلهم فيما بين مصر وأفريقية ، ولم يزالوا إلى أن بايعوا لأبي ركوة في أيام الحاكم العبيدي ، فرماهم بغيرهم من العرب ، وأفنى أكثرهم ، ونزح من بقي منهم إلى المغرب الأقصى ، فهم مع بني جشم هناك ، ومنهم طائفة بحلب ، وطوائف في أسوان ، وأخميم ، وأصفون ، وإسنا من الصعيد.

ولا يزال من بني هلال في الحجاز حرب فيما ذكره ابن سعيد ، وهم ثلاثة بطون : بنو مسروح ، وبنو سالم ، وبنو عبيد الله.

ومن هوازن بنو عقيل ـ بضم العين وفتح القاف ـ وهم بنو عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ، وكانت منازلهم بالبحرين ، وكان معهم من العرب بنو تغلب وبنو سليم (بضم ففتح) فاقتتلوا في إحدى المرار ، وكان بنو تغلب وبنو عقيل يدا على بني سليم ، فأخرجوهم من البحرين ، فجاءوا إلى مصر ، ومنها نزلوا ببرقة ، فأكثر عرب الجبل الأخضر من بني سليم بن منصور ، ثم اقتتل بنو تغلب وبنو عقيل ، فتغلب بنو تغلب على هؤلاء ، فخرجوا إلى العراق ، ومنها تغلبوا على الموصل والجزيرة ، وكانت لهم هناك دولة وسلطان.

ثم لما جاء الأتراك السلاجقة وانتزعوا منهم بلاد الجزيرة رجع منهم أناس إلى البحرين وتغلّبوا على بني تغلب فيها.

ومن بني عقيل بنو عبادة بالجزيرة الفراتية ، وبنو خفاجة بالعراق ، وكانت لهم إمرة فيه.

ومن بطون هوازن : بنو جشم ، وكانوا بالسروات ، وهي تلال تفصل

٢٦١

بين تهامة ونجد وسرواتهم متصلة بسروات هذيل : وقد هاجر أكثرهم إلى بلاد المغرب.

وثقيف من بطون هوازن ، وقد تقدّم ذكر نسبهم ، ويقال لوادي وجّ بلاد ثقيف ، ولمدينة الطائف سوق ثقيف ـ إلى يوم الناس هذا.

* * *

٢٦٢

عرض الطائف الجغرافي وسبب تأسيسه

والطائف في الإقليم الثاني ، وعرضها إحدى وعشرون درجة ، كما في «معجم البلدان» ، والأظهر في تسميتها بالطائف أنّه من الحائط المحدق بها ، ومنه قول أبي طالب بن عبد المطلب.

نحن بنينا طائفا حصينا

قال ياقوت : وهي مع هذا الاسم الفخم بليدة صغيرة على طرف واد ، هي محلتان إحداهما عن هذا الجانب يقال لها طائف ثقيف ، والأخرى على هذا الجانب يقال لها : الوهط ، والوادي بين ذلك تجري فيه مياه المدابغ ، التي يدبغ فيها الأديم ، تصرع الطيور رائحتها إذا مرّت بها ، وبيوتها لاطئة حرجة ، وفي أكنافها كروم على جوانب ذلك الجبل ، فيها من العنب العذب ما لا يوجد مثله في بلد من البلدان ، وأما زبيبها فيضرب بحسنه المثل ، وهي طيبة الهواء شامية ، ربما جمد فيها الماء في الشتاء ، وفواكه أهل مكة منها ، والجبل الذي هي عليه يقال له غزوان.

ونقل عن عرام أنّ الطائف ذات مزارع ، ونخل ، وأعناب ، وموز ، وسائر الفواكه ، وبها مياه جارية ، وأودية تنصبّ منها إلى تبالة ، وجلّ أهل الطائف ثقيف وحمير ، وقوم من قريش ، وهي على ظهر جبل غزوان ، وبغزوان قبائل هذيل. ا ه.

قلت : يظهر أنّ هذا وصف من لم يشاهد الطائف ، لأنّه لو شاهدها لعرف أنّه ليس بها نخيل ولا موز ، إلا إذا كان يعني بالطائف جميع

٢٦٣

البلاد التي حولها ، فقد يوجد في الهابط من جوارها شيء من النخيل.

قالوا : وكانت الطائف تسمى وجّا باسم وج بن عبد الحي من العماليق ، هو أخو أجأ ، الذي سمّي به جبل طيء ، قالوا : وكان رجل من الصدف يقال له : الدمون بن عبد الملك ، قتل ابن عم له بحضرموت ، وفرّ هاربا ، فأتى مسعود بن معتب الثقفي ، وكان معه مال كثير ، فرغب إلى ثقيف أن يزوّجوه فزوّجوه ، وكان من رأيه أن يبني لهم طوفا مثل الحائط ، حتى لا يصل إليهم أحد من العرب ، فبناه لهم ، فسميت من ذلك الوقت الطائف.

وقيل : بل كانت الطائف بين ولد ثقيف وولد عامر بن صعصعة ، فلما كثر الحيان ، قالت ثقيف لعامر : إنّكم اخترتم العمد على المدن ، والوبر على الشجر ، فلستم تعرفون ما نعرف ، ولا تلطفوه ما نلطف ، ونحن ندعوكم إلى حظّ كبير ، لكم ما في أيديكم من الماشية والإبل ، والذي في أيدينا من هذه الحدائق ، فلكم نصف ثمره ، فتكونوا بادين حاضرين ، يأتيكم ريف القرى ، ولم تتكلّفوا مؤونة ، وتقيمون في أموالكم وماشيتكم في بدوكم ، ولا تتعرّضون للوباء (كانوا يعلمون أنّ الوباء إنما يكون في الحواضر) ولا تشتغلون عن المرعى ، ففعلوا ذلك ، فكانوا يأتونهم كلّ عام ، فيأخذون نصف غلاتهم ، وقد قيل : إنّ الذي وافقوهم عليه كان الربع.

فلما اشتدت شوكة ثقيف ، وكثرت عمارة وجّ رمتهم العرب بالحسد ، وطمع فيهم من حولهم وغزوهم ، فاستغاثوا ببني عامر ، فلم يغيثوهم ، فاجمعوا على بناء حائط يكون لهم حصنا ، فكانت النساء تلبّن اللبن ، والرجال يبنون الحائط ، حتى فرغوا منه ، وسمّوه الطائف ، لإطافته بهم ، وجعلوا لحائطهم بابين :

أحدهما : لبني يسار ، والآخر : لبني عوف ، وسموا باب بني يسار صعبا ، وباب بني عوف ساحرا ، ثم جاءهم بنو عامر ليأخذوا ما تعوّدوه ،

٢٦٤

فمنعوهم منه ، وجرت بينهم حرب ، انتصرت فيها ثقيف ، وتفرّدت بملك الطائف ، فضربتهم العرب مثلا ، فقال أبو طالب بن عبد المطلب :

منعنا أرضنا من كلّ حيّ

كما امتنعت بطائفها ثقيف

أتاهم معشر كي يسلبوهم

فحالت دون ذلكم السّيوف

وقال بعض الأنصار :

فكونوا دون بيضتكم كقوم

حموا أعنابهم من كلّ عاد

وذكر المدائني : أنّ سليمان بن عبد الملك لما حجّ مرّ بالطائف ، فرأى بيادر الزبيب ، فقال : ما هذه الحرار؟ فقالوا : ليست حرارا ، ولكنها بيادر الزبيب ، فقال : لله در قسي : بأيّ أرض وضع سهامه ، وبأيّ أرض مهّد عشّ فراخه ا ه.

قلت : لعلّ سليمان بن عبد الملك سمع بذكر عنب الطائف الشهير ، فحج إليه من بعد أن حجّ البيت ، ورأى ما رأى منه.

وهنا يخطر ببالي قصة عن شدة نهمه رواها عنه أحد أصحابه ، وهو أنّهم ذهبوا معه يوما إلى بستان للنزهة ، فأتوه بزنبيلين ، أحدهما ملآن تينا ، والآخر ملآن بيضا ، فلم يزل يأكل من هذا تينة ، ومن هذا بيضة ، حتى أتى عليهما ، ثم قام يطوف على الأشجار المثمرة ، فقطف بيده من كلّ نوع وأكل أكلا ذريعا. قال رواي القصة : ثم صرنا نقول له : وهذا العنقود يا أمير المؤمنين فيخرطه في فيه (١) الخ فلا عجب أن عرّج أمير المؤمنين سليمان على كروم الطائف ...

* * *

__________________

(١) خرط العنقود : وضعه في فيه ، فقضم حبه ، وأخرج عمشوشه عاريا.

٢٦٥

خبر فتح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الطائف

قال ياقوت : ثم حسدهم طوائف العرب وقصدوهم ، فصمدوا لهم ، وجدّوا في حربهم ، فلما لم يظفروا منهم بطائل ، ولا طمعوا منهم بغرّة ، تركوهم على حالهم أغبط العرب عيشا ، إلى أن جاء الإسلام ، فغزاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فافتتحها سنة تسع من الهجرة صلحا ، وكتب لهم كتابا ، نزل عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شوّال سنة ثمان عند منصرفه من حنين ، وتحصّنوا منه ، واحتاطوا لأنفسهم غاية الاحتياط ، فلم يكن إليهم سبيل ، ونزل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رقيق من رقيق أهل الطائف ، منهم أبو بكرة نفيع بن مسروح مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جماعة كثيرة ، منهم الأزرق الذي تنسب إليه الأزارقة ، والد نافع بن الأزرق الخارجي الشاري ، فعتقوا بنزولهم إليه. ونصب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منجنيقا ودبّابة ، فأحرقها أهل الطائف ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم يؤذن لي في فتح الطائف» ثم انصرف عنها إلى الجعرانة ، ليقسّم سبي أهل حنين وغنائمهم ، فخافت ثقيف أن يعود إليهم ، فبعثوا إليه وفدهم ، وتصالحوا على أن يسلموا ، ويقرّوا على ما في أيديهم من أموالهم وركازهم ، فصالحهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن يسلموا ، وعلى أن لا يزنوا ولا يربوا ، وكانوا أهل زنا وربا. ا ه.

قال ياقوت : وكان معاوية يقول : أغبط الناس عيشا عبدي ، أو قال : مولاي سعد ، وكان يلي أمواله بالحجاز ، ويتربّع جدة ، ويتقّيظ الطائف ، ويشتو بمكة. ولذلك وصف محمد بن عبد الله النميري زينب بنت

٢٦٦

يوسف أخت الحجاج بالنّعمة والرفاهية فقال :

تشتو بمكة نعمة

ومصيفها بالطّائف

وقال البلاذري في «فتوح البلدان» (١) عن غزوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للطائف ما يأتي : لمّا هزمت هوازن يوم حنين ، وقتل دريد بن الصمة ، أتى فلّهم أوطاس ، فبعث إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا عامر الأشعري ، فقتل ، فقام بأمر النّاس أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري ، وأقبل المسلمون إلى أوطاس ، فلما رأى ذلك مالك بن عوف بن سعد أحد بني دهمان بن نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن ، وكان رئيس هوازن يومئذ ، هرب إلى الطائف ، فوجد أهلها مستعدّين للحصار ، قد رمّوا حصنهم ، وجمعوا فيه الميرة ، فأقام بها.

وسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمسلمين ، حتى نزل الطائف ، فرمتهم ثقيف بالحجارة والنّبل ، ونصب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منجنيقا على حصنهم ، وكانت مع المسلمين دبابة من جلود البقر ، فألقت عليها ثقيف سكك الحديد المحماة فأحرقتها ، فأصيب من تحتها من المسلمين ، وكان حصار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الطائف خمس عشرة ليلة ، وكان غزوه إياها في شوال سنة ثمان (٢).

قالوا : ونزل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رقيق من رقيق أهل الطائف ، منهم أبو بكرة بن مسروح مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واسمه نفيع ، ومنهم الأزرق ، الذي نسبت الأزارقة إليه ، كان عبدا روميا حدّادا ، وهو أبو نافع بن الأزرق الخارجي ، فأعتقوا بنزولهم ، ويقال : إنّ نافع بن الأزرق الخارجي من بني حنيفة ، وأنّ الأزرق الذي نزل من الطائف غيره.

__________________

(١) [فتوح البلدان] : (٦٦)].

(٢) [أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة الطائف رقم (٤٣٢٦ ، ٤٣٢٧) ومسلم في الجهاد والسير رقم (١٧٧٨)].

٢٦٧

ثم إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انصرف إلى الجعرانة ، ليقسّم سبي أهل حنين وغنائمهم ، فخافت ثقيف أن يعود إليهم ، فبعثوا إليه وفدهم ، فصالحهم على أن يسلموا ، ويقرّهم على ما في أيديهم من أموالهم وركازهم ، واشترط عليهم أن لا يربوا ، ولا يشربوا الخمر ، وكانوا أصحاب ربا ، وكتب لهم كتابا.

وكانت الطائف تسمّى وجّ ، فلما حصّنت وبني سورها سميت الطائف.

ثم قال البلاذري : حدثني المدائني ، عن أبي إسماعيل الطائفي ، عن أبيه ، عن أشياخ من أهل الطائف ، قال : كان بمخلاف الطائف قوم من اليهود ، طردوا من اليمن ويثرب ، فأقاموا بها للتجارة ، فوضعت عليهم الجزية ، ومن بعضهم ابتاع معاوية أمواله بالطائف.

قالوا : وكانت للعباس بن عبد المطلب رضي‌الله‌عنه أرض بالطائف ، وكان الزبيب يحمل منها ، فينبذ في السقاية للحاج ، وكانت لعامة قريش أموال بالطائف يأتونها من مكة ، فيصلحونها ، فلمّا فتحت مكة ، وأسلم أهلها ، طمعت ثقيف فيها ، حتى إذا فتحت الطائف ، أقرّت في أيدي المكيين ، وصارت أرض الطائف مخلافا من مخاليف مكة ، قالوا : وفي يوم الطائف أصيبت عين أبي سفيان بن حرب. ا ه.

قلت : إنّ من عرف أنّ أكثر المؤرخين ينقلون في الفتوح عن البلاذري ، نظرا لقرب روايته من أيام الفتح ، ومتانة أسانيده ، وقارن بين رواية ياقوت الحموي في «معجم البلدان» ورواية البلاذري في «فتوح البلدان» ـ علم أنّ ياقوت إنما أخذ عن البلاذري ، لأنّ العبارة تكاد تكون واحدة ، وقد نقلها البلاذري عن الكلبي ، وإنما تجنّب ياقوت أن يذكر أنّ الأزرق الذي نسبت الأزارقة إليه ـ كان عبدا روميا حدادا ـ لأن ياقوت نفسه كان عبدا روميا ، فحذف من روايته عن البلاذري ما يذكّر الناس بأصله هو.

٢٦٨

وقد روى محمد بن سعد بن منيع صاحب «الطبقات الكبرى» غزوة الطائف كما يلي : ثم غزوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الطائف في شوال سنة ثمان من مهاجره. قالوا : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حنين يريد الطائف ، وقدّم خالد بن الوليد على مقدمته ، وقد كانت ثقيف رمّوا حصنهم ، وأدخلوا فيه ما يصلحهم لسنة ، فلمّا انهزموا من أوطاس دخلوا حصنهم ، وأغلقوه عليهم ، وتهيّؤا للقتال ، وسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزل قريبا من حصن الطائف ، وعسكر هناك ، فرموا المسلمين بالنبل رميا شديدا ، كأنّه رجل (١) جراد ، حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة ، وقتل منهم اثنا عشر رجلا ، فيهم عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ، وسعيد بن العاص ، ورمي عبد الله بن أبي بكر الصديق يومئذ فاندمل الجرح ، ثم انتقض به بعد ذلك فمات منه ، فارتفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى موضع مسجد الطائف اليوم ، وكان معه من نسائه أمّ سلمة وزينب ، فضرب لهما قبتين ، وكان يصلّي بين القبتين حصار الطائف كلّه ، فحاصرهم ثمانية عشر يوما ، ونصب عليهم المنجنيق ، ونثر الحسك (٢) سقبين (٣). من عبدان حول الحصن فرمتهم ثقيف بالنبل ، فقتل منهم رجال ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقطع أعنابهم وتحريقها ، فقطع المسلمون قطعا ذريعا ، ثم سألوه أن يدعها لله وللرحم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإنّي أدعها لله وللرّحم» ، ونادى منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيّما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حرّ» فخرج منهم بضعة عشر رجلا ، منهم ، أبو بكرة ، نزل في بكرة ، فقيل : أبو بكرة ، فأعتقهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودفع كلّ رجل منهم إلى رجل

__________________

(١) [القطعة العظيمة].

(٢) آلة من الحديد ، وأحيانا من الخشب ، تلقى حول العسكر لتنشب في رجل من يدوسها ، وهي أشبه بما يقال له اليوم : الأسلاك الشائكة.

(٣) السقب بفتح فسكون : الطويل من كلّ شيء ، وكلّ شيء تمّ وامتلأ فهو سقب ، والغصن الغليظ الريان سقب انتهى. والحاشيتان للمؤلف.

٢٦٩

من المسلمين يمونه ، فشقّ ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة ، ولم يؤذن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في فتح الطائف ، واستشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نوفل بن معاوية الديلي فقال : «ما ترى؟» فقال : ثعلب في جحر ، إن أقمت عليه أخذته ، وإن تركته لم يضرّك ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمر بن الخطاب فأذّن في الناس بالرّحيل ، فضجّ النّاس من ذلك ، وقالوا : نرحل ولم يفتح علينا الطائف؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فاغدوا على القتال» ، فغدوا ، فأصابت المسلمين جراحات ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّا قافلون إن شاء الله» فسرّوا بذلك ، وأذعنوا ، وجعلوا يرحلون ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يضحك ، وقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قولوا : لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده» فلما ارتحلوا واستقلوا ، قال : «قولوا : آيبون ، تائبون ، عابدون ، لربنا حامدون» وقيل : يا رسول الله! أدع الله على ثقيف. فقال : «اللهم اهد ثقيفا وائت بهم».

أخبرنا عمرو بن عاصم الكلابي ، أخبرنا أبو الأشهب ، أخبرنا الحسن ، قال : حاصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل الطائف ، قال : فرمي رجل من فوق سورها فقتل ، فأتى عمر رضي‌الله‌عنه فقال : يا نبيّ الله ادع على ثقيف ، قال : «إنّ الله لم يأذن في ثقيف» قال : فكيف نقاتل في يوم لم يأذن الله فيهم؟ قال : «فارتحلوا» فارتحلوا. ا ه (١).

وقالوا في كتب السير في سبب غزاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للطائف : إنّه لمّا حصرته قريش في الشعب ، ومات عمّه أبو طالب الذي كان يحوطه ، وماتت زوجته خديجة ، التي كانت تثبته ، وتقر عينه في الناس ، خرج إلى الطائف من شدة الكرب ، يرجو عند أهلها النّصرة ، لأنّ الله جعل الطائف متنفّسا لأهل مكة.

فلمّا انتهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الطائف ، عمد إلى نفر من ثقيف ،

__________________

(١) [الطبقات (١ : ١٥٩)].

٢٧٠

وهم ثلاثة إخوة : عبد ياليل ، ومسعود ، وحبيب أبناء عمرو بن عمير بن عوف الثقفي ، وكانوا سادات قومهم ، وكانت تحت أحدهم امرأة من قريش من بني جمح ، فجلس إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوهم إلى الإسلام ، وإلى نصرته فيما جاء به ، فقال له أحدهم : أمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك ، وقال الآخر : أما وجد الله من يرسله غيرك؟ وقال الثالث : والله لا أكلّمك أبدا ، لئن كنت رسول الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أردّ عليك الكلام ، ولئن كنت تكذب على الله ، فما ينبغي لي أن أكلّمك.

فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد يئس من خير ثقيف ، وقال لهم : «إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا ذلك عني» وكره صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبلغ ذلك قومه فيثيرهم (١) ، ولكنّ هؤلاء لم يفعلوا ، فأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبّونه ، ويصيحون به ، حتى اجتمع عليه النّاس ، وألجؤوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه ، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه ، ثم جلس في ظلّ حبلة من عنب (الحبلة بالتحريك شجرة العنب) وابنا ربيعة ينظران إليه (٢).

فلمّا اطمأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلّة حيلتي ، وهواني على النّاس ، أنت أرحم الراحمين ، أنت ربّ المستضعفين ، وأنت ربيّ ، إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهّمني؟ أو إلى قريب ملّكته أمري ، إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي ، ولكنّ عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، من أن ينزل بي غضبك ، أو يحلّ عليّ سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك» (٣).

__________________

(١) [في كتب السير : فيذئرهم : أي يحرشهم ويحرضهم].

(٢) [ابن هشام (١ : ٤١٩) ، ومجمع الزوائد (٦ : ٣٥)].

(٣) [مجمع الزوائد (٦ : ٣٥) الجامع لأخلاق الرواي والسامع (٢ : ٢٧٥)].

٢٧١

فلمّا رآه ابنا ربيعة وما لقي ، تحركت له رحمهما ، فدعوا غلاما لهما نصرانيا ، يقال له : عدّاس ، فقالا له : يا عدّاس خذ قطفا من هذا العنب ، فضعه في هذا الطبق ، واذهب به إلى ذلك الرجل ، وقل له يأكل منه ، ففعل عدّاس ، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال له : كل.

فلمّا وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه يده قال : «بسم الله» ، ثم أكل ، فنظر عدّاس في وجهه ، ثم قال : والله إنّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ومن أيّ البلاد أنت؟» فقال : أنا رجل نصراني من أهل نينوى ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمن قرية الرّجل الصالح يونس بن متّى؟» فقال عدّاس : وما يدريك ما يونس بن متّى؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ذاك أخي ، كان نبيا وأنا نبي» فأكبّ عدّاس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقبّل رأسه ويديه وقدميه وأسلم.

فقال أحد ابني ربيعة لأخيه : أمّا غلامك فقد أفسده عليك ، فلما جاءهما عدّاس ، قالا : ويلك يا عدّاس مالك تقبّل رأس هذا الرجل ، ويديه وقدميه؟ فقال : يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا الرجل ، لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي ، قالا له : ويحك يا عداس لا يصرفنّك عن دينك ، فإنّ دينك خير من دينه ، ولكنّ عدّاسا لم يتزعزع لقولهما.

ولا يزال في المثناة محلّ يزار يقال : إنّه المكان الذي أسلم فيه عدّاس.

وقد روى أهل السير أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خرج إلى الطائف يدعو ثقيفا إلى الإسلام ، كان معه زيد بن حارثة ، وأقام شهرا يدعوهم إلى الله ، ولم يجيبوه ، ثم أغروا به سفهاءهم ، وجعلوا يرمونه بالحجارة ، حتى لقد شجّ رأسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحتى إنّ رجليه لتدميان ، وزيد يقيه بنفسه.

ثم إنّه غزا الطائف ، وضرب في أثناء حصاره الطائف قبتين لزوجتيه : أم سلمة وزينب رضي‌الله‌عنهما ، وكان يصلّي بين القبتين. فلما أسلمت

٢٧٢

ثقيف بنى عمرو بن أمية بن وهب بن مالك على مصلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسجدا.

قالوا : ونصب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حصن الطائف منجنيقا ، قيل : أشار به سلمان الفارسي رضي‌الله‌عنه ، وقيل قدم به الطفيل بن عمرو ، وقيل يزيد بن زمعة ، ومعه دبابتان ، وقيل : قدم بالمنجنيق والدبابتين خالد بن سعد بن حريش ، وكانوا يصنعون الدبابات ، ويغطّونها بجلود الإبل والبقر ، ويدخلون في جوفها ، فتقيهم من السهام والحجارة.

ثم قال ابن فهد في «تاريخه» للطائف ، نقلا عن الحافظ مغلطاي : إنّ هذا المنجنيق هو أول منجنيق رمي به في الإسلام. وقد نثر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحسك حول حصن الطائف ، ورمى رجال ثقيف الدبابتين بسكك الحديد المحمّاة بالنار ، فأحرقت الدبابتين ، وأصيب جماعة من المسلمين ، وقالوا : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لم يؤذن في ثقيف» ، ثم انصرف من الطائف إلى الجعرانة ، وأرادوه على أن يدعو على ثقيف فكان دعاؤه : «اللهم اهد ثقيفا وائت بهم» (١).

ولما أسلمت ثقيف ثبتت ، وحسن إسلامها ، ولما لحق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرفيق الأعلى ، وارتدت العرب ، ثبتت ثقيف على الإسلام ، ومن ارتدّ منهم قتلوه ، وقالوا : ما دخلنا آخر النّاس إلا لما تبيّن لنا من الحق.

* * *

__________________

(١) [أخرجه الترمذي رقم (٣٩٤٢) وأحمد (٣ : ٣٤٣)].

٢٧٣

وجوب اتخاذ الات الحرب الحديثة

وفنون صناعاتها

قلت : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد استخدم إذا الصناعة في الحرب بما أجمعت عليه الرواة ، من ضربه حصن الطائف بالمنجنيق ، ونثره حوله الحسك ، وقتاله بالدبابات ، وكلّ هذا من الصناعة المحضة ، فالمنجنيق كان بمنزلة المدفع في هذه الأيام ، والحسك أشبه بالأسلاك الشائكة ، والدبابات هي دبابات ـ التانك ـ التي يصفّحونها اليوم بالفولاذ ، حتى لا يخرقها الرصاص ، وكانوا في ذلك العصر يجلّلونها بالجلود ، وعليه يكون استعمال الآلات الحربية بأنواعها سنة نبوية أكيدة ، لا يجوز إهمالها ولا التهاون بها ، هذا فضلا عن الأمر الإلهي الصريح الذي تتضمنه آية (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) [الأنفال : ٦٠].

ونحن مع الأسف نرى المسلمين اليوم أقلّ الأمم اعتناء بالميكانيكات ، والطبيعيات ، والكيمياء ، وجميع العلوم ، التي يكفل لهم إتقانها الحيل الحربية ، وجرّ الأثقال ، واختراع الآلات ، التي توفّر دماءهم وتصون دهماءهم.

ونرى جمهور علمائهم نافرين من هذه العلوم والفنون ، كأنها من عمل الشياطين ، يقضون الأعمار الطويلة في درس علوم مخصوصة لا يتعدّونها ، من نحو وصرف وحديث وتفسير وما أشبه ذلك ، مما لا شك في ضرورته ، لأن به قوام اللغة والعقيدة ، ولكنّه ليس يغني أصلا عن العلوم الطبيعية ، التي هلك اليوم من أهملها ، وعن المكانيكيات التي

٢٧٤

لو أفرغوا لها من الوقت ربع ما أفرغوه للحديث والتفسير والفقه والنحو والصرف لكانوا من الصناعة ومن ثمّ من التجارة والثروة ـ على حظ يضاهي حظوظ الأمم الأوربية.

ولكنا قد أهملنا علوم هذه الدنيا ، وحصرنا جميع عنايتنا بعلوم الآخرة (١) ، غير ذاكرين أنّ الإسلام إنما هو شرع دنيا وآخرة ، وأنّ من أهمل أحد الشقين فهو آثم ، كما لو أهمل الشقّ الآخر.

ونعود إلى الدبابات فنقول : إنّ الفرنج قد استعملوها من القديم ، وأهمّ ما روي عنهم فيها ما صنعوه في حصار عكا في الحروب الصليبية ، فقد صنعوا ثلاثة أبراج طول البرج ستون ذراعا ، جاءوا بخشبها من جزائر البحر ، وعملوها طبقات ، وشحنوها بالمقاتلة ، ولبّسوها جلود البقر والطين بالخل ، وقربوها من الأسوار ، وكادوا يأخذون بها البلد ، لأنّ المسلمين رموها بالنيران ، فلم تعمل فيها ، فحاروا في أمرهم ، ودخل عليهم من الخوف ما لا يوصف. قال أبو الفداء : فتحيّل المسلمون ، وأحرقوا البرج الأول ، فاحترق بمن فيه من الرجال والسلاح ، ثم أحرقوا الثاني والثالث ، وانبسطت نفوس المسلمين لذلك بعد الكآبة.

وقد روى بهاء الدين ابن شداد في سيرة صلاح الدين يوسف الأيوبي ـ وكان ابن شداد شاهدا تلك الوقائع ، ملازما للسلطان [قال] : إنّ الذي تحيّل لإحراق هذه الأبراج المسيّرة على العجل ، بعد أن أعياهم أمرها كان نحّاسا حمويا ، قال للمسلمين : أنا أكفيكم أمرها ، بشرط أن تهيئوا لي كذا وكذا ، وذكر موادّا أتوا له بها ، فطبخ من هذه المواد ثلاث قدور ، ورمى كلّ دبابة بقدر منها ، فلم تكد تصيبها حتى اشتعلت بمن فيها جميعا ، فكان من فرح المسلمين بصناعة هذا النّحاس الحموي ما لا تفي به عبارة.

__________________

(١) قد ضعفت كلّ هذه العلوم أيضا في جميع الأمصار الإسلامية ، وقلّما يوجد أحد يشتغل بها لأجل الآخرة.

٢٧٥

وقد ذكر المستشرق الفرنسي الشهير رينو (Reinaud) صاحب كتاب «غارة العرب على فرنسة» أنّه لما زحف العرب من الأندلس إلى فرنسة ، وافتتحوا أربونة (Narbonne) وقرقشونة (Carcassonne) ووصلوا إلى أفينيون وليون وغيرها تحت قيادة السّمح بن مالك الخولاني ، وعنبسة بن سحيم الكلبي ، والحر الثقفي ، كانت معهم آلات لم تكن عند الإفرنج في ذلك العصر ، ذكر «رينو» ذلك في كلامه على حصار السّمح الخولاني لطلوزة (Toulouse).

فاليوم قد انعكست الأمور ، وصرنا في وسائل الدفاع عيالا على أعدائنا أنفسهم ، فإن طاب لهم أن يتفقوا علينا ، ويمنعوا عنا السلاح بأجمعه ـ أمسينا وليس [لنا] ماندافع به طياراتهم ودباباتهم ومدافعهم وقذائفهم سوى أصابعنا وأظافرنا ، ولقد رأيناهم بالفعل قرّروا منع الأسلحة عن جزيرة العرب في مؤتمر نزع السلاح ، الذي انعقد منذ بضع سنوات في جنيف ، ووقّع هذا القرار بأصوات أكثرية الدول ، بناء على رغبة إنكلترة وفرنسة وإيطالية وتوابعهن ، وغاية ما فعلته الأقلية أنّها استنكفت عن إعطاء الرأي لا سلبا ولا إيجابا ، وهي لو كانت راضية عن سياسة الأكثرية لما تأخّرت عن موافقتها على منع السلاح عن العرب ، فكان اعتناء العرب وجميع العالم الإسلامي بقضية التسلح فرضا عليهم كفرض الصلاة ، إذ لا بقاء لهم بدونه ، وكان هذا متوقّفا على الصناعة ، التي هي من ثمرات العلم الطبيعي ، ولأجل هذا كان انصراف المسلمين إلى اتقان العلوم الطبيعية ، وإدخالها بحذافيرها في برامج تعليمهم من الأمور الحيوية ، التي لا يجوز أن يغفلوا عنها طرفة عين.

وأراني قد بعدت عن الموضوع الذي كنت فيه ، وليست هذه بأول مرة جرّنا الاستطراد إلى ما هو بعيد عن المقام الذي نكون فيه ، ولكنّنا في كلّ مرة لم نخرج إلى شيء غير مرتبط بأصل الموضوع.

* * *

٢٧٦

عود إلى الطائف وآثار حضارة العرب فيها

ولنعد إلى سياحتنا في الطائف وجبالها بعد أن روينا ما لا بدّ منه من تاريخها فنقول : من أنصع الدلائل على مدنية العرب ، لا في دور الجاهلية فقط ، بل في صدر الإسلام أيضا ـ كثرة الكتابات المنقوشة على الصخور.

فمن المعلوم أنّ الأمم الهمجية لا تعرف قيد الحوادث ، ولا تخليد الذكريات ، ولا تفكّر في اطلاع الأعقاب على ما جرى في سالف الأحقاب ، وأنّه لا يعنى بأمور كهذه إلا من علا كعبهم في الحضارة ، وبعد شأوهم في العمارة ، وهذه أمم الفرنجة اليوم بعد أن بلغوا ما بلغوه من هذا المدى البعيد في المدنية تجدهم لا يبرحون يشيّدون المباني ، وينحتون التماثيل ، ويقيمون الأنصاب ، وينقشون عليها كلّها التواريخ المتعلقة بها ، خدمة لعلم التاريخ في مستقبل الدهر ، وحرصا على اطراد سلسلته ، ووصل فصوله ، وتفاديا من انقطاع أسانيده ، وضياع مصادره.

وبالجملة لا يجتمع حفر الكتابات والنقش على الصخور مع الجهل والانحطاط ، وخلو الدار من الفاضل.

وما عثرنا في أثناء الحفر عمدا أو عرضا على حجارة من أنقاض السلف ، عليها كتابات قديمة ـ إلا وجدناها محررة بلغات أمم عظيمة الآثار ، جليلة المقدار ، كالرومانين ، واليونانيين ، ومن قبلهم كالمصريين ، والفينيقيين ، والحثيين ، والبابليين ، والعرب الذين كان

٢٧٧

الناس لا يدركون درجة مدنيتهم العالية في الأعصر المتوغلة في القدم إلى أن اطلعوا على ما تركوه من المباني الباذخة ، والقصور الشاهقة ، والمصانع ، والسدود ، وغير ذلك من الآثار الدالة على رسوخ الحضارة ، وقرأوا ما عليها من الكتابات بالحميرية.

وقد كان أول من نبّه على ذلك الهمداني الحسن بن أحمد ، صاحب كتاب «صفة جزيرة العرب» وكتاب «الإكليل» لا سيّما في الجزء الثامن من «الإكليل» ، الذي فيه ذكر محافد اليمن ، ومساندها ، وقصورها ، ونقل كتابات بالقلم المعروف بالمسند ، وجاء بعض المستشرقين مثل «مولر» وغيره ، فحققوا ما قاله الهمداني ، ولم يجدوا فيه مبالغة ، ونشر «مولر» كتابا طبعه في فينا سنة (١٨٨١) عن هذه الآثار الباهرة واعتمد في تأليفه على «الإكليل» (١).

__________________

(١) هذا الكتاب عشرة أجزاء ، في أول الجزء الثامن منه مايلي : الجزء الثامن من «الإكليل» للحسن بن أحمد الهمداني ، وهو كتاب محافد اليمن ومساندها ودفائنها ، ومراثي حمير ، والقبوريات ، وشعر علقمة ، والمحفد القصد ، وإنما سمي محفدا لحفود الناس حوله ، أي شدهم وقصدهم ، ومنه دعاء الوتر «إليك نسعى ونحفد» والحفد الخدم.

واعلم أنّ كتاب «الإكليل» عشرة أجزاء.

فالأوّل ، مختصّ في المبتدأ وأصول الأنساب.

والثاني : نسب ولد الهميسع بن حمير.

والثالث : في فضائل قحطان.

والرابع : في السيرة القديمة إلى عهد تبّع أبي كرب.

والخامس : في السيرة الوسطى من أول أيام أسعد تبع ، إلى أيام ذي نواس.

والسادس : في السيرة الأخيرة إلى الإسلام.

والسابع : في التنبيه على الأخبار الباطلة والحكايات المستحيلة.

والثامن : في ذكر قصور حمير ومدنها ودواوينها ، وما حفظ من شعر علقمة ، والمراثي والمساند.

٢٧٨

وملخّص الكلام أنّه لا يتصور العقل بلادا تكثر فيها النقوش والرسوم على الحجارة المنضودة في الأبنية أو الصخور المبعثرة في الجبال والفلوات إلا إذا كانت تلك البلاد في أعصرها الخوالي حافلة بالعمران ، موصوفة بكثرة السّكان (١).

ومما لا ريب فيه أنّ الطائف وجبالها كانت من جملة أقسام الجزيرة

__________________

والتاسع : في أمثال حمير ، وحكمها باللسان الحميري ، وحروف المسند.

والعاشر : في معارف حاشد وبكيل. والله أعلم وأحكم.

وكنت سمعت بوجود جزء من هذا الكتاب في مكتبة جامع بايزيد في إستانبول ، فأرسلت إلى الأخ الفاضل خالد بك القرقني الطرابلسي المغربي ، المنسوب إلى بني هود ملوك سرقسطة بالأندلس ، وكان يومئذ بتلك العاصمة ، ليبحث لي عنه ، فوجدهم نقلوه إلى مكتبة دار الفنون ، ونقل لي بعض صفحات منه ، فإذا به الجزء الثامن ، وقال لي : إنّه قد بلغه وجود نسخة من هذا الجزء في برلين ، فلما ذهبت إلى برلين أواخر السنة الماضية (١٩٣٠) بحثت عنه في المكتبة الملوكية ، فوجدت منه جزئين : الجزء الثامن ، والجزء العاشر ، ووجدت مع الجزء العاشر في جلد واحد بعض رسائل منها شيء عن المعادن التي في اليمن ، وكتابا من تأليف الملك الأشرف أبي حفص عمر بن رسول الغسّاني اسمه «طرفة الأصحاب في معرفة الأنساب» فأخذت صور جميع ذلك بالفوتوغرافية ، وبينما أنا مصمم على طبع هذين الجزئين من «الإكليل» إذ بلغني أنّ اللغويّ المحقّق الأب أنستاس الكرملي مباشر طبع الجزء الثامن ببغداد ، معتمدا في ذلك على خمس نسخ وقعت في يده ، وأنه سيطبعه مع حواش وتفاسير ، فلما علمت ذلك وقفت عن طبع هذا الجزء ، حتى أرى ما يكون ، ثم إنّي أرسلت إلى حضرة صاحب السمو صديقي الأمير سيف الإسلام محمد والي تهامة ، ونجل الإمام المتوكل على الله يحيى بن محمد بن حميد الدين صاحب اليمن أسأله عما يوجد من أجزاء هذا الكتاب في اليمن ، فأجابني بأنّه لا يوجد من «الإكليل» إلا جزءان ، وثلاثة قطع متفرقة ، وأنّه مع ذلك سيبحث ثانية ، وهذا ما عرفنا إلى الآن عن هذا الكتاب (حاشية للمؤلف).

(١) [انظر الملحق الأول عن «تاريخ العرب الأولين» للمؤلف ص (٣٨٣)].

٢٧٩

العربية المعمورة ، وأنّه قد تقلّص عمرانها كما تقلّص عمران سائر الجزيرة بسبب الفتوحات الإسلامية ، التي ضربت من الجزيرة إلى الصين والهند شرقا ، وإلى الأناضول والطاغستان شمالا ، وإلى [الميحط] الأطلسي غربا ، وكانت كلّها على أيدي العرب ، الذين التهمتهم القواصي ، وأفنى رجالهم قراع الكتائب ، فخلا كثير من ديارهم الأصلية ، وصفرت الجزيرة من تلك الجموع ، التي كانت تموج بها ، وتداعت القصور ، وانهارت السدود ، وتعطّلت القني ، وتصوّحت النضرة ، وعطشت الأرض.

وأما الكتابات المنقوشة على الصخور ، فلم يضر بها الجوع ولا العطش ، فبقيت على حالها ، ناطقة بما كان ثمة من عمران سابق ومجد سامق.

ولقد أتيح لي أن أرى طرفا من هذه الكتابات ، وأن أقرأ بعضها ، وأن تشكل عليّ قراءة البعض الآخر ، فعوّلت فيه على بعض الأساتيذ المختصصين بمعرفة الخطوط القديمة ، وذلك أنّي نسخت ما قرأته في جبل السّكارى في وسط الطائف ، وبعثت به إلى برلين ، وذلك إلى الأستاذ موريتز (Morits) من فحول المستشرقين ، فحلّ الكتابة وأعادها إلي ، ولم تكن من الخط المسند ، بل من الخطّ الكوفي القديم ، الذي لم نألفه ، فإنّ الخط الكوفي ليس شكلا واحدا ، وهذه الكتابات خالية مع الأسف من التواريخ.

وأكثر ما عثرت به من هذه الكتابات في كلّ محل خلو من ذكر السنة التي كتبت فيها ، إلا ما كان منها متأخّرا من آثار القرن الرابع والقرن الخامس للهجرة ، وما بعد ذلك فهو مؤرّخ بالأشهر والسنين ، كما هي العادة.

ويظهر أنّ الكتابات التي في جبل السّكارى هي من القرن الأول للهجرة ، وكان بعضها من زمن الجاهلية.

٢٨٠