الرّحلة الحجازيّة

الأمير شكيب أرسلان

الرّحلة الحجازيّة

المؤلف:

الأمير شكيب أرسلان


المحقق: حسن السماحي سويدان
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار النوادر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٩

في كتاب «الأغاني» (١) سمّي العرجيّ لأنّه كان يسكن عرج الطائف ، وقيل : سمّي كذلك لمال كان له بالعرج ، وكان من شعراء قريش ، وممن اشتهر بالغزل منهم ، ونحا نحو عمر بن أبي ربيعة في ذلك ، وتشبّه به فأجاد ، وكان مشغوفا باللهو والصيد ، حريصا عليهما ، قليل المحاشاة لأحد فيهما.

نقل السيد خير الدين الزركلي في كتابه «ما رأيت وما سمعت» (٢) عن كتاب «العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين» للمؤرّخ الإمام الحافظ أبي الطيب تقي الدين محمد بن أحمد بن علي الحسني الفاسي المكي ، المتوفّى في منتصف القرن التاسع ، أنّ محمد بن هشام بن إسماعيل كان واليا على مكة لهشام بن عبد الملك ، فسجن العرجيّ في تهمة دم مولى لعبد الله بن عمر ، فلم يزل في السجن إلى أن مات.

ولكنّ رواية «الأغاني» تخالف ذلك ، فهو يقول : إنّه كان يشبّب بجيداء أم محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومي ، ليفضح ابنها ، لا لمحبة كانت بينهما ، فكان ذلك سبب حبس محمد إياه ، وضربه له حتى مات في السجن.

وذكر صاحب «الأغاني» أنّه كان صاحب غزل وفتوة ، وقال : إنّه كان من الفرسان المعدودين مع مسلمة بن عبد الملك بأرض الروم ، وكان له معه بلاء حسن ، ونفقة كثيرة.

وذكر أنّ العرجي باع أموالا عظاما كانت له ، وأطعم ثمنها في سبيل الله ، حتى نفد ذلك كله ، وكان قد اتخذ غلامين ، فإذا كان الليل نصب قدره ، وقام الغلامان يوقدان ، فإذا نام الواحد قام الآخر ، فلا يزالان كذلك حتى يصبحا ، يقول : لعلّ طارقا يطرق.

__________________

(١) [«الأغاني» (١ : ٢٥٠)].

(٢) [«ما رأيت وما سمعت» ص (٦٩)].

٢٤١

وأخبار العرجيّ كثيرة ، ونكاته مشهورة ، والظاهر أنّه كان على كرم عريض ، وفتوة أكيدة ، إلا أنّ الله ابتلاه بالتشبيب بنساء قريش في شعره ، مما كان يعرّض من يتشبّب بهنّ للظّنة ، وسوء القالة.

ومن ظريف ما يحكى أنّ جارية [حبشية] من مولّدات مكة [ظريفة] صارت إلى المدينة ، فلما أتاهم موت عمر بن أبي ربيعة اشتدّ جزعها ، وجعلت تبكي وتقول : من لمكة وشعابها وبطحائها ونزهها ، ووصف نسائها وحسنهنّ [وجمالهن ، ووصف ما فيها]؟

فقيل لها : خفّضي عليك ، فقد نشأ فتى من ولد عثمان رضي‌الله‌عنه ، يأخذ مأخذه ، ويسلك مسلكه.

فقالت : أنشدوني من شعره ، فأنشدوها ، فقالت : الحمد لله الذي لم يضيّع حرمه ، ومسحت عينها.

أمية بن أبي الصلت

وممن اشتهر بالنسبة إلى الطائف أمية بن أبي الصلت : عبد الله بن أبي ربيعة بن عوف بن عقدة بن عنزة بن قسيّ ـ وهو ثقيف ـ بن منبه بن بكر بن هوازن ، قال صاحب «الأغاني» : هكذا يقول من نسبهم إلى قسيّ.

وأم أمية بن أبي الصلت قرشية ، وهي رقيّة بنت عبد شمس بن عبد مناف.

وكان أمية من أشعر العرب ، وإليه ينسب هذا البيتان :

قوم إذا نزل الغريب بأرضهم

ردّوه ربّ صواهل وقيان

لا ينكتون الأرض عند سؤالهم

لتلمّس العّلات بالعيدان

وهما من قصيدة أوّلها :

قومي ثقيف إن سألت وأسرتي

وبهم أدافع ركن من عاداني

قال أبو عبيدة : اتفقت العرب على أنّ أشعر أهل المدن أهل يثرب ، ثم عبد القيس ، ثم ثقيف ، وأنّ أشعر ثقيف أمية بن أبي الصلت.

٢٤٢

قالوا : وطمع أمية في النبوة ، وكان قد نظر في الكتب ، وقرأها ، ولبس المسوح تعبّدا ، وحرّم الخمر ، وشكّ في الأوثان ، وكان مما قرأ أنّ نبيّا يبعث من العرب ، فكان يرجو أن يكون هو ، فلما بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قيل له : هذا الذي كنت تنتظره ، فحسده ، وقال : إنما كنت أرجو أن أكونه.

وكان يرثي قتلى قريش في وقعة بدر ، ومما استحسن من شعره ، قوله معاتبا ابنا له أغضبه :

غذوتك مولودا ومنتك يافعا

تعلّ بما أجني عليك وتنهل

إذا ليلة نابتك بالشكو لم أبت

لشكواك إلا ساهرا أتململ

كأنّي أنا المطروق دونك بالذي

طرقت به دوني فعيني تهمل

تخاف الرّدى نفسي عليك وإنّني

لأعلم أنّ الموت حتم مؤجّل

فلمّا بلغت السّنّ والغاية التي

إليها مدى ما كنت فيك أؤمّل

جعلت جزائي غلظة وفظاظة

كأنّك أنت المنعم المتفضّل

ومات ولم يؤمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لكنّه كان يقول : إنّ الحنيفية حقّ ، لذلك كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن كاد أمية ليسلم».

طريح بن إسماعيل الثقفي الشاعر

ومنهم طريح بن إسماعيل بن عقبة الثقفي.

وساق صاحب «الأغاني» (١) نسبه هكذا : طريح بن إسماعيل بن عبيد بن أسيد بن علاج بن أبي سلمة بن عبد العزّى بن عنزة بن عوف بن قسيّ ـ وهو ثقيف ـ بن منبّه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر.

قال ابن الكلبي : ومن النسابين من يذكر أنّ ثقيفا هو قسيّ بن منبّه بن النّبيت بن منصور بن يقدم بن أفصى بن دعميّ بن إياد بن نزار.

__________________

(١) [«الأغاني» (٤ : ٢١٢)].

٢٤٣

وروى الكلبي أنّ أبا رغال هو أبو ثقيف كلّها ، وأنّه من بقية ثمود ، وكان ملكا بالطائف.

وقيل : بل ذكرت القبائل عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «قبائل تنمى إلى العرب ، وليسوا من العرب ، حمير من تبّع ، وجرهم من عاد ، وثقيف من ثمود».

وكان طريح شاعرا فحلا ، انقطع إلى الخليفة الوليد بن [يزيد بن] عبد الملك ، الذي كان يمت إليه بالقرابة ، لأنّ أم الوليد ثقفية ، واستفرغ شعره في الوليد ، وأدرك دولة بني العباس ، ومات في زمان المهدي العباسي ، وقيل : في زمان الهادي.

وكان الوليد مكرما لطريح ، عظيم البرّ به ، وكان طريح يغلو في مديحه ما شاء ، قيل : إنّ الوليد جلس يوما في مجلس له عامّ ، ودخل إليه أهل بيته ومواليه والشعراء وأصحاب الحوائج ، فقضاها ، وكان أشرف يوم رؤي له ، فأنشده طريح ما يأتي :

أنت ابن مسلنطح البطاح ، ولم

تطرق عليك الحني والولج

طوبى لفرعيك من هنا وهنا

طوبى لأعرقك التّي تشج

لو قلت للسّيل دع طريقك وال

موج عليه كالهضب يعتلج

لساخ وارتدّ ، أو لكان له

في سائر الأرض عنك منعرج

(مسلنطح البطاح) : ما اتسع منها. و (الحني) : ما انخفض من الأرض. و (الولج) : كل متّسع في الوادي.

أي لم تكن بين الحني والولج ليخفى مكانك.

و (طوبى لفرعيك من هنا وهنا) أي أنّه كريم الأب والأم من قريش وثقيف ، وأنّه يطيعه من هيبته كلّ شيء ، حتى إنّه لو أمر السيل بانصراف لأطاعه.

قيل : إنّه لما انقضت دولة بني أميّة ، وأديل منهم لبني العباس ، دخل طريح على المنصور في جملة الشعراء ، فقال له المنصور : لا حيّاك الله

٢٤٤

ولا بيّاك ، أما اتقيت الله ويلك حيث تقول للوليد بن يزيد :

لو قلت للسّيل دع طريقك وال

موج عليه كالهضب يعتلج

فقال طريح : قد علم الله عزوجل أنيّ قلت ذاك ، ويدي ممدودة إليه تبارك وتعالى ، وإيّاه تعالى عنيت.

فقال المنصور : يا ربيع! أما ترى هذا التخلص؟

ويعجبني جدا من شعر طريح هذه القصيدة في الوليد :

لم أنس سلمى ولا ليالينا

بالحزن ، إذ عيشنا بها رغد

إذ نحن في ميعة الشّباب ، وإذ

أيامنا تلك غضة جدد

في عيشة كالفرند عازبة الشق

وة ، خضراء غصنها خضد

نحسد فيها على النّعيم ، وما

يولع إلا بالنّعمة الحسد

أيّام سلمى غريرة أنف

كأنّها خوط بانة رؤد

ويحي غدا إن غدا عليّ بما

أكره من لوعة الفراق غد

قد كنت أبكي من الفراق وحيّ

انا جميعا ، ودارنا صدد

فكيف صبري؟ وقد تجاوب بال

فرقة منها الغراب والصّرد

ومنها في المديح :

دع عنك سلمى لغير مقلية

وعدّ مدحا بيوته شرد

للأفضل الأفضل الخليفة عب

د الله من دون شأوه صعد

في وجهه النّور يستبان ، كما

لاح سراج النّهار إذ يقد

يمضي على خير ما يقول ، ولا

يخلف ميعاده إذا يعد

من معشر لا يشم من خذلوا

عزّا ، ولا يستذلّ من رفدوا

بيض عظام الحلوم ، حدّهم

ماض حسام ، وخيرهم عتد

أنت إمام الهدى الذي أصلح ال

له به النّاس بعد ما فسدوا

لما أتى النّاس أنّ ملكهم

إليك قد صار أمره سجدوا

واستبشروا بالرّضا تباشرهم

بالخلد لو قيل إنّكم خلد

رزقت من ودّهم وطاعتهم

ما لم يجده من والد ولد

٢٤٥

أثلجهم منك أنّهم علموا

أنّك فيما ولّيت مجّتهد

ألفّت أهواءهم ، فأصبحت الأ

ضغان سلما ، وماتت الحقد

كنت أرى أنّ وما وجدت من ال

فرحة لم يلق مثله أحد

حتّى رأيت العباد كلّهم

قد وجدوا من هواك ما أجد

قد طلب النّاس ما بلغت فما

نالوا ، ولا قاربوا ، وقد جهدوا

يرفعك الله بالتكرّم والتق

وى فتعلو ، وأنت مقتصد

حسب امرىء من غنى تقرّبه

منك ، وإن لم يكن له سند

فأنت أمن لمن يخاف ولل

مخذول أودى نصيره عضد

غيلان الشاعر

وممن ينسب إلى الطائف من الشعراء غيلان بن سلمة بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قسيّ وهو ثقيف.

وأمه : سبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف بن قصي ، أخت أمية بن عبد شمس ، أدرك الإسلام فأسلم بعد فتح الطائف ، ولم يهاجر ، وأسلم ابنه عامر قبله وهاجر ، ومات عامر بطاعون عمواس بالشام سنة (١٨) وكان مع خالد بن الوليد ، وكان فارس ثقيف في زمانه ، فرثاه غيلان بقوله :

عيني تجود بدمعها الهتّان

سحّا وتبكي فارس الفرسان

ياعام من للخيل لمّا أحجمت

عن شدّة مرهوبة وطعان

لو أستطيع جعلت منيّ عامرا

بين الضلوع ، وكلّ حيّ فان

وكان له من الولد غير عامر ثلاثة : عمّار ونافع وبادية ، وقيل : إن خثعم جمعت جموعا من اليمن ، وغزت ثقيفا بالطائف ، فخرج إليهم غيلان بن سلمة في ثقيف ، فقاتلهم قتالا شديدا ، فهزمهم وقتل وأسر ، ثم منّ على الأسرى فقال :

ألا يا أخت خثعم خبّرينا

بأيّ بلاء قوم تفخرينا

جلبنا الخيل من أكناف وجّ

وليّة نحوكم بالدّار عينا

٢٤٦

تركن نساءكم البدّار نوحا

يبكون البعولة والبنينا

جمعتم جمعكم فطلبتمونا

فهل أنبئت حال الطالبينا

واستشهد نافع بن غيلان مع خالد بن الوليد بدومة الجندل ، فجزع عليه غيلان وقال :

ما بال عيني لا تغمّض ساعة

إلا اعترتني عبرة تغشاني

أرعى نجوم اللّيل عند طلوعها

وهنا ، وهن من الغروب دواني

يا نافعا من للفوارس أحجمت

عن فارس يعلو ذرى الأقران

فلو استطعت جعلت منّي نافعا

بين اللهاة وبين عكد لساني

وكثر بكاء غيلان على نافع ، فعوتب في ذلك فقال : والله لا تسمح عيني بمائها فأضنّ به على نافع ، ثم تطاول العهد ففتر ما به ، فقيل له في ذلك فقال : بلي نافع وبلي الجزع ، وفني وفنيت الدموع ، واللحاق به قريب.

ووفد غيلان على كسرى في خبر استوفاه صاحب «الأغاني» فعهد إليه كسرى بأن يبني له قصرا بالطائف ففعل.

[المختار الثقفي]

وممن ينسب إلى الطائف ، واشتهر جدا ، المختار الثقفي بن أبي عبيد ، ولد عام الهجرة ، ورحل من الطائف مع أبيه في أيام عمر رضي‌الله‌عنه حين ندب الناس إلى العراق ، وكان منقطعا إلى بني هاشم ، وصحب عليا رضي‌الله‌عنه ، وسكن البصرة بعد علي ، ولما تولّى بنو أمية نفوه إلى الطائف بلده ، فأقام بها إلى أن بويع عبد الله بن الزبير بمكة ، فأتاه ، واستعمله ابن الزبير على الكوفة ، فجرى بينه وبين مصعب بن الزبير خلاف أدى إلى القتال ، فقتله مصعب في سنة (٦٧) وقيل : ادعى النبوة ، فقتله ابن الزبير!!

٢٤٧

[من دفن في الطائف من أمراء الأشراف]

ودفن [في الطائف] آخرون من الأعيان والصلحاء والأمراء ومن هؤلاء الأمير جعفر بن سعيد بن سعد بن زيد بن محسن ، تولى إمارة مكة سنة (١١٧٢) ثم نزل عنها لأخيه مساعد ، ومات بالطائف سنة (١١٧٨).

ثم الأمير عبد الله بن محمد بن عبد المعين بن عون ، ولي إمارة مكة بعد وفاة أبيه محمد بن عون ، أول أمير عليها من ذوي عون ، وبقي فيها نحو (٢٠) سنة ، وكانت وفاته بالطائف سنة (١٢٩٤).

ثم الأمير عون الرفيق بن محمد بن عبد المعين بن عون ، أخو الأمير عبد الله ، ولي الامارة سنة (١٢٩٩) وبقي فيها إلى أن توفي بالطائف سنة (١٣٢٣) وله قصر بديع ، أتمّ الطابق الأول منه وبقي بدون نجارة ، ولا يزال قائما من شدة متانته ، وهو مشرف على السهل الأفيح الممتد منه إلى الثكنة العسكرية.

* * *

٢٤٨

تخطيط الطائف

وسبب نزول ثقيف

ولنذكر الآن ما قيل عن تخطيط الطائف ، وسبب نزول ثقيف بها ، فنقول : قال الهمداني صاحب «صفة جزيرة العرب» ـ الذي لم يؤلّف في بابه مثله ـ ما يلي : الطائف مدينة قديمة جاهلية ، وهي بلد الدّباغ ، تدبغ بها الأهب الطائفية المعروفة (١) ، وتسمّى المدينة أيضا الطائف ، والمعنى مدينة الطائف ، وساكنوا الطائف ثقيف.

ويسكن شرقيّ الطائف قوم من ولد عمرو بن العاص ، وواد قريب من الطائف يقال له برد ، فيه حائطان لزبيدة عظيمان ، يقال لموضعهما : وجّ ، وبشرقي الطائف واد قال له : ليّة ، يسكنه بنو نصر من هوازن.

ومن يماني الطائف واد يقال له : جفن لثقيف ، وهو بين الطائف وبين معدن البرام ، ويسكن معدن البرم قريش وثقيف.

ومن قبلة الطائف أيضا واد يقال له : مشريق لبني أمية من قريش ، ووادي جلذان منقلب إلى نجد في شرقيّ الطائف ، يسكنه بنو هلال.

وفي قبلة الطائف حائط أم المقتدر ، الذي يدعى سلامة.

وبين الطائف وبين عرفة وادي نعمان ، وفيه طريق الطائف المختصرة إلى مكة ، وأما المحجة فعلى قرن المحرم. انتهى (٢).

__________________

(١) [في صفة جزيرة العرب : المعروكة].

(٢) [صفة جزيرة العرب : (٢٦٠)].

٢٤٩

قلت : أما أنّ الطائف قديمة جاهلية فمما لا شكّ فيه ، وقال في «صبح الأعشى» : إنّها كانت قديما للعمالقة ، ثم نزلتها ثمود ، قبل وادي القرى ، ويقال : إنّه نزلها عدوان بعد العماليق ، وغلبتهم عليها ثقيف ، فهي الآن دارهم.

وأما الدباغ فليس له أثر اليوم فيما رأيت.

وأما برد (بالتحريك) فالذي سمعته من أهل الطائف أنّه اسم الجبل الذي في غربي الطائف ، بعيد عنها نحو ثلاث إلى أربع ساعات ، وهو أعلى جبل هناك ، ومن أسفله يأتي ماء المثناة ، ومنه يسيل وادي وجّ ، ولا ينافيه قول الهمداني : إنّه واد ، فإنّ الجبل لا يكون بلا واد ، والوادي لا يتصوّر وجوده بلا جبل ، فقد يكون اسم برد للجبل والوادي معا ، وهذا الجبل شديد البرد ، ومنه اسمه برد الدال على برده ، إلا أنّه لا ينزل عليه الثلج في الشتاء مثل جبال الشام ، وإنما ينزل البرد ـ محركة ـ هو حبّ الغمام ، ويتجمّد فيه الماء.

والجبال في جزيرة العرب وإن أنافت على جبال الشام في الارتفاع ، فإنّها لوقوعها في المنطقة الحارة ، لا ينزل عليها الثلج مثل جبالنا ، فلهذا لا تجد في الجزيرة الأنهار الكبار التي تجدها في الأراضي الضاربة في الشمال (١).

إنّ الهمداني يستعمل الخبّة بالكسر بمعنى المنطقة ، ولعله أخذها من قولهم الخبة ـ مثلثة ـ طريقة من رمل أو سحاب ، والخبة من الثوب شبه الطرة ، وقيل شبه طية من الثوب مستطيلة.

وقد ورد في كتب اللغة اسم «برد» و «بردى» و «برديا» لأماكن كثيرة من أنهار وغدران وجبال وغيرها ، وقيل إنّ برد ـ وضبطها البكري بكسر

__________________

(١) يقول بعض علماء الإفرنج : إنّه كان فيها أنهار عظيمة وعمران عظيم قبل عصر التاريخ ، ويدلّ على ذلك وجود الأودية العميقة.

٢٥٠

الراء ـ جبل في أرض غطفان ، ولا أظنّ أنّه هو هذا الجبل الذي بقرب الطائف ، لأنّ هذا مفتوح الراء ، ثم لأنّ غطفان وهم بطن من قيس عيلان كانوا ينزلون بوادي القرى شماليّ الحجاز ، وبجبلي أجأ وسلمى ، فليست منازلهم بالطائف وجبالها.

وقد ذكر ياقوت في «معجم البلدان» برد ـ محركة بفتح الراء ـ وقال : إنّه موضع في قول بدر بن هزّان الفزاري :

ما اضطرك الحرز من ليلى إلى برد

يختاره معقلا عن جش أعيار

ولم يعين هذا الموضع.

أما جش أعيار الذي ذكره بدر الفزاري فهو موضع أيضا لم يذكر ياقوت أي موضع هو؟

وجاء في «تاج العروس» هذا البيت منسوبا إلى بدر المازني لا بدر الفزاري. ولم يفسّر (جش أعيار) إلا بقوله : موضع.

وأغرب منه أنّ البيت نفسه وارد في «لسان العرب» منسوبا إلى النابغة (وجش أعيار) غير مفسّر فيه ، إلا بقوله : موضع.

وأورد ياقوت بيتا آخر عن برد ـ مفتوح الراء ـ للفضل بن العباس اللهبي :

إنّي إذا حلّ أهلي من ديارهم

بطن العقيق وأمست دارها برد

وبعده :

تجمعنا نية لا الخلّ واصلة

سعدى ، ولا دارنا من دارهم صدد

ولا نقدر أن نعرف منه هل برد المقصود في هذا الشعر هو هذا الجبل الذي نحن بصدده أم غيره؟

وقد ورد اسم «بردى» بالألف المقصورة لجبل في الحجاز ، فهل

٢٥١

يا ترى هو هذا الذي يقولون له برد ، وقد أوردوا شاهدا عليه قول النعمان بن بشير كما في «تاج العروس» :

يا عمر لو كنت أرقى الهضب من بردى

أو العلا من ذرى نعمان أو جردا

لمّا رقيتك لاستهونت مانعها

فهل تكونين إلا صخرة صلدا

فالأشبه أن يكون هو المراد ، وذلك نظرا لذكره نعمان ، وهو الوادي الذي بين مكة والطائف ومنه إلى الهدا ، العقبة الكبرى التي يقال لها :

كرى الكبير ، وأما جرد ـ محركة ـ فهو جبل في بني سليم.

وأمّا قول الهمداني : إنّ في برد حائطين كبيرين لزبيدة عظيمين يقال لموضعهما وجّ ، فأظنّه يعني بهما الوهط والوهيط ، الأول بفتح فسكون ، والثاني بالتصغير ، وذلك أنّه لا يوجد في سفوح برد مياه تسقي بساتين إلا في الوهط والوهيط ، الأول جار الآن في وقف الأشراف ذوي زيد ، والثاني يخصّ ذرية الشريف عون الرفيق من ذوي عون.

لقد ورد ذكر الوهط في «معجم البلدان» قال ياقوت : والوهط المكان المطمئن المستوي ، ينبت العضاه والسمر والطلح ، به سمي الوهط .. وهو مال كان لعمرو بن العاص بالطائف ، وهو كرم كان على ألف ألف ـ (أي مليون) ـ خشبة ، اشترى كل خشبة بدرهم قال ابن الأعرابي : عرّش عمرو بن العاص بالوهط ألف ألف عود كرم ، على ألف ألف خشبة ، ابتاع كلّ خشبة بدرهم ، فحج سليمان بن عبد الملك (١) فمرّ بالوهط فقال : أحبّ أن أنظر إليه ، فلما رآه قال : هذا أكرم مال وأحسنه ، ما رأيت لأحد مثله ، لو لا أنّ هذه الحرّة في وسطه.

فقيل له : ليست بحرة ، ولكنّها مسطاح الزبيب ، وكان زبيبه جمع في وسطه ، فلما رآه من البعد ظنّه حرّة سوداء.

__________________

(١) [الذي في المجاز ص (٢٥٥) : معاوية بن أبي سفيان ، وقد أراد معاوية أن يهب له عمرو الوهط ، فاحتال عمرو لحفظ ماله بحلية لطيفة].

٢٥٢

وقال ابن موسى : الوهط قرية بالطائف ، هي على ثلاثة أميال من وجّ ، كانت لعمرو بن العاص.

قلت : لما فتح عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنه مصر ، ثم غزا منها طرابلس ، مرّ بالجبل الأخضر ، الذي يندر نظيره في الخصب والإمراع وخضرة البقاع ، فقال : لو لا أموالي بالحجاز ما اخترت على هذه الأرض ، فكنت إذا قرأت هذا الكلام ولم أكن عرفت جبال الطائف أتعجّب منه ، قائلا : ماذا عسى أن يكون لسيدنا عمرو من الأموال في قطر ناشف كالحجاز؟

ولما ذهبت في جهاد طرابلس الغرب إلى الجبل الأخضر (١) ، وأقمت به أشهرا ، وعرفت عين منصور ، وعين ماره ، والقيقب ، وشحات ـ محل سيرنا القديمة ـ والمرج وغيرها ، وسرت بين فينان الدوح ومشتبك الشجر ، الذي لا يتخلّله نور الشمس في كثير من المواضع مسافة عشرة أيام ، ورأيت تلك المناظر المشرفة من شاهق على البحر ، لا يحاكي فسحة منظرها إلا عاليه ، وعبيّة ، وبيت مرّي ، وبرمانة ، وما في خطها من جبل لبنان ـ قلت لنفسي لما عرفت ما الجبل الأخضر ، وما هو من طيب النّجعة : علمت معنى افتتان عمرو بن العاص بالجبل الأحضر ، لكني لم أعلم وجه مقايسته له بالحجاز ، وعدم رغبته عن أمواله في الحجاز إلى ذلك الجبل المنقطع النظير في الخضرة والنضرة ، إلا أنّي لما شاهدت جبال الطائف ، وأقمت بها أيضا عدة أشهر ـ علمت أن لعمرو بن العاص وجها للقول ، وحقا في التيه بأمواله في الحجاز ، فإنّ في جبال الطائف جنانا مدّت عليها الخضرة رواقها ، ورياضا شدت بها النضرة نطاقها.

فأما الوهط فقد انحط كثيرا عن درجته السابقة ، ورتبته السامقة ،

__________________

(١) عام (١٣١٠ ـ ١٩١٢).

٢٥٣

ولا تجد فيه لا ألف ألف عود كرم ، ولا ألف عود كرم ، ولا مسطاحا واحدا للزبيب (١).

ومن أغرب الأمور أنّي حدّقت كثيرا في أرض الوهط على ما هي عليه الآن ، فلم أجدها تسع هذه النعمة التي وصفوها ، ولم أجد الماء كافيا لشيء منها ، بل رأينا عين الوهط ، وكان ذلك في شهر أغسطس ـ آب لا تجري إلا إلى مسافة قصيرة جدا ، وقال لنا أهل القرية : إنّها في بعض السنين التي يكون المطر فيها نزرا تنقطع تماما ، ويضطرون إلى الاستقاء من المثناة ، أي من مسافة ساعة ، فكيف كان الوهط بتلك النعمة التي حدثوا عنها ، وهو الآن لا يكاد ماؤه يسقي بعض حيطان ، وقد ينقطع بعض السنين ، إنّ في ذلك لسرّا ، والذي أظنّه أنّه قد كان الشجر في جبال الطائف لذلك العهد أكثر جدا ، فكان المطر أغزر ، وكانت العيون أجرى ، وكانت الجنان أعظم ، وإنّ الذي أصاب هذه الجبال من قلّة المطر التي لا تسمع أهل تلك الديار إلا شاكين منها ، إنما هو من أثر قطع الأشجار ، وزوال الحراج الملتفة.

وهناك سبب آخر للخصب والعمران قد زال أيضا بتطاول الأعصر ، وهو السدود التي كانوا يجعلونها على الأودية ، ومجاري المياه الشتوية ، فكانت تخزن المياه إلى مدة طويلة ، وتسقى الأرضات العطاش ، وتمسك بأرماق الخضرة في سني القحط ، وأينما ذهبت في جزيرة العرب تجد سدودا دارسة وقنيا خربة (٢).

__________________

(١) الذي في «لسان العرب» وفي «القاموس» هو المسطح لا المسطاح ، قال في «اللسان» : والمسطح تفتح ميمه وتكسر ، مكان مستو يبسط عليه التمر ويجفف ، ويسمى الجرين يمانية ، وقد استدرك صاحب «تاج العروس» على «القاموس» بقوله : والمسطاح لغة في المسطح ، ومنه قول ياقوت الحموي أو قول الذي نقل عنهم ، ونحن أيضا في جبل لبنان نقول : مسطاح تين ، ومسطاح زبيب.

(٢) قرأت في أرجوزة أحمد بن عيسى الرداعي في الحج قوله :

٢٥٤

ولما كان العرب منحصرين في الجزيرة لا يتجاوز ملكهم شطوطها البحرية ، وبادية الشام من الشمال ، كانت الجزيرة عامرة ، والمدن كثيرة ، والقرى متصلة ، والمزارع ناضرة ، والقصور والجواسق وأماكن النزهة لا يأخذها العد ، فإنّ أراضيها المنبتة كانت تضيق بأهلها ، فكانوا يعملون فيها بكدّ عظيم ، ليستغلوا منها كل ما يقدرون أن يستغلوه ، ويتذرعون للخصب بأصناف الحيل.

فلما ظهر الإسلام وهبّ العرب للفتوحات ، ونشر عقيدة التوحيد من جبال الهندكوش إلى جبال الألب ، وكان خلفاؤهم يندبونهم للغزوات ،

__________________

لضيعة الطلحي مستقيمه

صادرة عنها تؤم الزيمه

ثم على سبوحة القديمه

حيث بريد الصخرة القديمه

مطنبة في السير ذي العزيمه

إلى أريك تعتلي صميمه

حميدة في الركب لا مليمه

باقية أعراقها كريمه

إني لأرجو أن ترى سليمه

محمودة في الركب لا مذيمه

قال الهمداني في تفسير هذه الأبيات (٣٨٨): (ضيعة الطلحي) من قريش نخل قديمات. (الزيمة) موضع فيه بستان عبد الله بن عبيد الله الهاشمي ، وكان في أيام المقتدر على غاية العمارة ، وكان يغلّ خمسة آلاف دينار مثقال ، وفيه حصن للمقاتلة مبنيّ بالصخر ، ويحميه بنو سعد من ساكنة غزوان ، وعدد جذوعه ألوف ، وفيه غيل مستخرج من وادي نخلة غزير يفضي إلى فوّارة في وسط الحائط تحت حنية ، ثم إلى ماجل كبير ، وفيه الموز والحنا. وأنواع من البقول.

و (سبوحة) موضع و (أريك) عقبة تضاف إلى المكان ، فيقال : عقبة أريك بضم الألف وأريك بفتحها ا ه.

قلت : مررت بالزيمة مرارا ، ولم أجد شيئا من تلك العمارة التي كانت في أيام المقتدر ، ولا حصنا هذا وصفه ، وإنما هناك عين فوّارة من الصخر ، يسمع خريرها من بعيد ، وليس فوقها حنية ، ويسقي بها العرب بعض زرائع وأشجار في الوادي ا ه المؤلف.

٢٥٥

ويستجيشونهم بدون انقطاع ، وكانوا هم مادّة الإسلام وحملة الدين الجديد إلى الأمم ، كانت القواصي تأكلهم ، والحروب تفني منهم مئات الألوف ، وكانت قبائلهم أصبحت منتشرة من الصين ، إلى الهند ، إلى فارس ، إلى الروم ، إلى مصر ، إلى أفريقية ، إلى الأندلس ، إلى فرنسة ، إلى جزائر البحر ، فلم يبق منهم في الجزيرة العدد الذي يقوم بعمرانها.

وكانوا في هذا أشبه بإسبانية التي بعد فتحها للمكسيك ولأمريكة الجنوبية قد تقهقرت إلى الوراء ، بما هاجر من أهلها إلى تلك الديار ، التي فاق فيها الإسبانيول في العدد من بقي منهم في وطنهم الأصلي.

فهذا هو السبب الحقيقي في تقلّص عمران الجزيرة بعد الإسلام ، حتى عاد الوهط مثلا دسكرة حقيرة ، بعد أن كان مسطاح الزبيب فيه يظنّ حرّة لسواده واتساعه.

ومما لا ريب فيه أنّ كروم الطائف كانت لعهد البعثة أكثر مما هي الآن مرارا ، وكانت الخيرات فوق التصور ، فقد روى البلاذري في «فتوح البلدان» (١) أنّ سفيان بن عبد الله الثقفي كتب إلى عمر رضي‌الله‌عنه ، وكان عاملا له على الطائف ، يذكر أنّ قبله حيطانا فيها كروم ، وفيها من الفرسك (٢) والرّمان ما هو أكثر غلة من الكروم أضعافا ، واستأمره في العشر ، فكتب إليه عمر : ليس فيها عشر.

__________________

(١) [فتوح البلدان (٦٩)].

(٢) المؤلف : الفرسك هو ما نسميه نحن في الشام بالدرّاقن بالتشديد ، وقد يخفف. قال :

وتضربني الحبيبة بالدراقن

وتحسبني الحبيبة لا أراها

ويقولون له في مصر والمغرب : الخوخ ، وأما في اليمن فيقولون له : فرسك ، كما في الحجاز ، وهي لفظة فارسية ، فإنّ اسم هذه الفاكهة فرسك في بلاد العجم ، ويظهر أنّ الألمان أخذوها من فارس ، فهم يقولون لها أيضا : فرسك (Pfirich).

٢٥٦

ويظهر من كلام البلاذري أنّه كانت تصدّر من الطائف غلات عظيمة من الزبيب ، ومن سائر المحصولات ، ومن العسل ، ولقد بقي من هذا شيء ، لكنّه لا يقاس في قليل ولا كثير إلى ما كان في الجاهلية وصدر الإسلام ، وإنما غاضت هذه الغلّات بغيض العمران ، الذي يتوقّف على الرجال ، وكان أكثر الرجال خرجوا إلى الفتوحات ، واعتمروا أطراف الأرض.

والأصلح الآن لاستئناف العمران طريقتان :

إحداهما : زرع الحراج ، والإكثار من غرس الأشجار ، حتى تكثر الأمطار ، فإن الله خلق لكل شيء سببا ، فهذه من أسباب الأمطار.

والثانية : الرجوع إلى السدود والخزانات التي تحفظ المياه ، وتروي الأرضين عند عطشها ، وعند الوهط مكان ضيّق على وجّ ، ولو أنّ إدارة الزراعة في الحجاز بنت فيه سدا ، لما كانت كلفته كثيرة ، ولاستأنف به الوهط عمرانه القديم.

وأما وادي ليّة ، الذي يسكنه بنو نصر من هوازن ، فقد زرته ، وبتّ فيه ليلة ، وهو واد ضيّق مستطيل ، يمتدّ مسافة أربع ساعات ، مبدؤه من بلاد السفاينة من ثقيف ، وهو ينحدر نحو الجنوب الشرقيّ ، وعليه من الجانبين البساتين والجنان والزروع ، وكلّها تسقى بالسواني ، لأنّ مياه الوادي تشحّ كثيرا في الصيف ، وقد ينقطع بعضها عن بعض ، فلا يبقى منها إلا غدران تردها المواشي ، أشهرها الذي يقال له : غدير البنات.

وبيوت سكان الوادي مرتفعة عن النهر ، احتياطا من السيل ، لأنه كثيرا ما تطغى المياه على الجانبين. والبيوت مبنية بالحجر ، تظنّ بعضها أبراجا منيعة.

وللوادي تربة هي الحد الأقصى في الخصب ، فتجد من نماء الشجر ما يحار فيه العقل.

وجميع ما في هذه الجنان أشجار مثمرة ، منها ، الكرمة ، والسفرجل ،

٢٥٧

والرمان ، والفرسك ، والحماط ، والكمثرى ، وغيرها ، وكلّها عدا الحماط ـ أي التين ـ هي في الطبقة العليا بين الفواكه.

أما الرمان فهو كحب الياقوت ، ليس له نظير منظرا وطعما ، وقد اشتهر وادي ليّة به ، ومما يجب على إدارة الزراعة في الحجاز أن تبني في أعلى المعمور من هذا الوادي سدا ، يتكون منه خزان يكفل جميع حاجة الوادي في أيام القيظ ، عندما تشحّ آبار السواني.

وقيل لي : إنّ خزانا كهذا لا تزيد كلفته على خمسة أو ستة آلاف جنيه ، على حين ما يرده من ريع البساتين يعدل هذه القيمة من أول سنة ، فإنّ أثمان الفواكه في مكة لا يعادلها شيء ، ويمكن الحكومة أن تبني لأهل وادي ليّة هذا الخزان ، ثم تستردّ منهم كلفته تقسيطا.

هذا وقد ذكر ياقوت هذا الوادي في «المعجم» فقال : ليّة بتشديد الياء وكسر اللام لها معنيان : اللية قرابة الرجل وخاصته ، واللية العود الذي يستجمر به ، وهو الألو ، وليّة من نواحي الطائف ، مرّ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين انصرافه من حنين ، يريد الطائف ، وأمر وهو في ليّة بهدم حصن مالك بن عوف ، قائد غطفان ، وقال خفاف بن ندبة :

سرت كلّ واد دون رهوة دافع

وجلذان أو كرم بليّة محدق

في أبيات ذكرت في جلذان.

وقال مالك بن خالد الهذلي

أمال ابن عوف إنما الغزو بيننا

ثلاث ليال غير مغزاة أشهر

متى تنزعوا من بطن ليّة تصبحوا

بقرن ، ولم يضمر لكم بطن محمر

ا ه. واستشهد بأبيات أخر على ذكر ليّة.

وأما جلذان بكسر الجيم وسكون اللام ـ واختلف في الدّال ، فمنهم من رواها معجمة ، ومنهم من رواها مهملة ـ فموضع بقرب الطائف.

قال ياقوت : يسكنه بنو نصر بن معاوية من هوازن ، ومن الأمثال

٢٥٨

المضروبة أسهل من جلذان. فنقل ياقوت عن نصر بن حماد أنّه حمى قريب من الطائف ، مستو كالراحة.

وجاء في «المعجم» عن جلذان هذان البيتان لحسن بن إبراهيم الشيباني من سكان الطائف :

وجلذان العريض قطعن سوقا

يطرن بأجرعيه قطا سكونا

تخال الشّمس إن طلعت عليه

لناظرها علالي أو حصونا

ومن الأمثال المضروبة : صرّحته بجلذان بجدّان وبجدّاء ، إذا تبيّن لك الأمر وصرح ، والتاء في قوله صرّحت إشارة إلى القصّة أو الخطة

وقال أمية بن الأسكر :

أصبحت فردا لراعي الضأن يلعب بي

ماذا يريبك منّي راعي الضّان

أعجب لغيري إنّي تابع سلفي

أعمام مجد وإخوان وأخدان

وانعق بضأنك في أرض تطيف بها

بين الأصافر وانتجها بجلذان

وقال خفاف بن ندبة يذكر جلذان :

ألا طرقت أسماء من غير مطرق

وأنّى ـ وقد حلّت بنجران ـ نلتقي

سرت كلّ واد دون رهوة دافع

وجلذان أو كرم بليّة محدق

تجاوزت الأعراض حتى توسدت

وسادي لدى باب بجلذان مغلق

فالكروم المحدقة في ليّة هي من قديم الزمان.

وأما سكان وادي ليّة الآن ، فأولهم الأشراف ، الذي يقال لهم الفعور ، ولهم أفضل البساتين ، والباقي من العرب شماطيط ، وأكثرهم من عتيبة ، ويقال : إن عتيبة هي من هوازن ، وقد بحثت عن عتيبة في الكتب القديمة ، فلم أجد إلا قولهم عتيبة قبيلة من العرب ، وقد ذكروا أنّ حيا من اليمن اسمه عتيب.

وأما هوازن فمن قبائل قيس ، وهم بنو هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان ، ومن هوازن بنو سعد بن بكر بن هوازن ، كانوا أفصح العرب ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم رضيعا فيهم ، قال في

٢٥٩

«صبح الأعشى» نقلا عن «العبر» : وقد افترق بنو سعد هؤلاء في الإسلام ، ولم يبق لهم حيّ فيطرق ، إلا أنّ منهم فرقة بأفريقية من بلاد المغرب ، بنواحي باجة ، يعسكرون مع جند السلطان.

قلت : وقد أصاب هذا التشتت كثيرا من قبائل العرب ، بسبب الفتوحات الإسلامية في صدر الملة ، والرحيل إلى الآفاق ، ففي كاشغر قبائل تركية أصلها من العرب من عهد قتيبة فاتح بلاد الترك ، وفي الطاغستان على شواطىء بحر الخزر بطون كثيرة أصلها عرب من زمن الفتح ، وفي السند والهند أناس كثيرون متحدّرون من أصول عربية ، وفي أفغانستان وفارس أسر كثيرة أصولها عربية ، وفي الأندلس ، وفي جنوبيّ فرنسة ، وفي صقلية ، وعلى شطوط إيطالية أمم أصلها من العرب ، هذا عدا القبائل التي تفرّقت في الأقطار ، والتي هي إلى الآن عربية كالشام ، والجزيرة ، والعراق ، ومصر ، والسودان ، وبرقة ، وطرابلس ، والصحراء الكبرى إلى أواسط أفريقية ، وبحيرة تشاد ، وكذلك تونس ، والجزائر ، والمغرب ، والسوس الأقصى ، إلى تنبكتو ، وأضف إلى هذا بلاد الحبشة ، والصومال ، وزنجبار ، وجزائر القمر ، ومدغشقر ، وموزامبيق ، ولا تجد في أفريقية قطرا إلا فيه أقوام من العرب ، ولا تنس سنغافورة ، وجاوة ، وسومطرة الخ (١).

ومن هوازن بنو عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن.

ومن بني عامر بن صعصعة بنو كلاب ، الذي هاجروا إلى الشام ، وكانت لهم دولة وصولة في حلب.

__________________

(١) العبرة الكبرى في هذا أنّ العرب كانوا في أيّام حياتهم ودولهم يدخلون المصر أو القطر من بلاد الأعاجم ، فيحوّلون أهله إلى دينهم ولغتهم بقوة تأثيرهم في الهداية ، ثم انعكست القضية ، فتحولوا هم إلى لغة بعض الأقطار ، وإلى دين بعض آخر ولغته ، فهل يعتبرون فيعلمون كيف يرجعون؟

٢٦٠