الرّحلة الحجازيّة

الأمير شكيب أرسلان

الرّحلة الحجازيّة

المؤلف:

الأمير شكيب أرسلان


المحقق: حسن السماحي سويدان
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار النوادر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٩

الجمهور ، رواه العباس بن الوليد العذري قاضي بيروت المتوفى سنة (٢٧٠) قال عنه ياقوت في «معجم البلدان» : إنّه كان من خيار عباد الله.

وقد نقل هذه الرواية عن وفاة الأوزاعيّ زين الدين بن تقي الدين بن عبد الرحمن الخطيب في كتابه «محاسن المساعي في مناقب الإمام أبي عمرو الأوزاعي» وهو مخطوط اطلعت عليه أخيرا في المكتبة الملوكية في برلين (١) ، وعلمت منه أنّ ناسخه أكمله سنة (١٠٤٨) وهو لا يقول «في مناقب الإمام أبي عمرو الأوزاعي» بل «في مناقب الإمام أبا عمرو الأوزاعي» لا أعلم أهو من خطأ الناسخ ، أم من نفس المؤلف عملا بلغة :

إنّ أباها وأبا أباها

وقال ابن خلّكان عن وفاة الأوزاعي : وتوفي سنة سبع وخمسين ومئة ، لليلتين بقيتا من صفر ، وقيل : في شهر ربيع الأول بمدينة بيروت.

أما الرشيد فقد كانت ولادته سنة (١٤٨) أي إنه يوم وفاة الأوزاعي كان قاصرا ، واستخلف الرشيد سنة (١٧٠) فالخليفة الذي سأل الإمام الأوزاعيّ عن السواد هو المنصور لا الرشيد ، لأنّ الأوزاعيّ جرى بينه وبين المنصور حديث طويل ، ولما قدم أبو جعفر المنصور الشام زاره الأوزاعي ووعظه ، فعظّمه الخليفة وأحبّه ، ولما أراد الانصراف من بين يديه استأذنه أن لا يلبس السواد ، فأذن له ، فلما خرج قال المنصور للربيع الحاجب : الحقه فاسأله ، لم كره لبس السواد ، ولا تعلمه أني قلت لك. فسأله الربيع ، فقال : لأني لم أر محرما أحرم فيه ، ولا ميتا كفّن فيه ، ولا عروسا جلّيت فيه ، فلهذا أكرهه.

__________________

(١) [وقد حققه الأمير ونشره في مصر بمطبعة عيسى البابي الحلبي].

٢٢١

أما أبو نواس فيجوز أن يكون قال للرشيد هذا وأكثر منه ، لكن بدون أن يكون الأوزاعيّ حاضرا.

وكيف كان الأمر ، فكان السواد شعار العباسيين ، وكان يقال لهم المسوّدة ، وكان الخلفاء العباسيون يخلعون حلل السواد على من ينتسب إليهم ، أو ينال الحظوة عندهم ، جاء في «تاريخ الأعيان في جبل لبنان» للشيخ طنوس الشدياق والمعلم بطرس البستاني أنّه لما وقع القتال على نهر بيروت بين المردة والأمير النعمان بن الأمير عامر بن الأمير هاني بن أرسلان ، وهزم الأمير النعمان المردة ، وقتل بعضا ، وأسر بعضا ، وكتب إلى موسى بن بغا في بغداد يخبره ، وأرسل الرؤوس والأسرى إلى بغداد ، عرض موسى ذلك على الخليفة المتوكل ، فكتب إليه المتوكّل كتابا يمدح شجاعته ، ويحرّضه على القتال ، وأقرّه على ولايته تقريرا له ولذريته ، وأرسل له سيفا ومنطقة وشاشا أسود ، وكتب إليه ابنه الموفق وغيره كتبا يمدحونه بها ، وأعاد رسله مكرّمين ، فتقلّد الأمير السيف ، وشد المنطقة ، ولفّ الشاش ، ودعا لأمير المؤمنين ، وزينت البلاد. الخ وهذه الرواية محّررة ، لكن باختصار في سجلّ نسبنا الأرسلاني.

والخلاصة أنّ بني العباس أرادوا أن يتميزوا بشعار فجعلوه السواد ، اقتداء بجدهم عبد الله بن عباس ، الذي اقتدى بابن عمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اعتمامه بالسواد يوم فتح مكة.

ومناقب عبد الله بن عباس كثيرة ، وأقواله مأثورة ، ومما ينسب إليه : مذاكرة العلم ساعة خير من إحياء ليلة.

ويروى عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : ما رأيت أحدا أحضر فهما ، ولا ألبّ لبا ، ولا أكثر علما ، ولا أوسع حلما من ابن عباس ، ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات ، فيقول : قد جاءتك معضلة ، ثم لا يجاوز قوله ، وإنّ حوله لأهل بدر.

وقيل : إنّ بعضهم وجدوا على عمر في إدنائه ابن عباس دونهم فقال

٢٢٢

لهم : إنّه يعظمه لعلمه مع صغر سنه.

وكان عمر يستشيره إذا أهمته الأمور ، ويقول : غّواص.

وأوصاه أبوه العباس أن يحسن صحبة عمر ، فقال له : يا بنيّ إنّ أمير المؤمنين يدعوك ويقربك ويستشيرك ، فاحفظ عني ثلاثا : لا يجربنّ عليك كذبا ، ولا تفشينّ له سرا ، ولا تغتابنّ عنده أحدا.

وقالوا : إنه أورد رجل ذكر القرّاء أمام عمر ، فقال ابن عبّاس : ما أحبّ أن يتنازعوا (١) في القرآن. فساء قوله عمر ، قال ابن عباس : فانطلقت إلى منزلي فقلت : ما أراني إلا سقطت من نفسه ، فبينا أنا كذلك ، جاءني رجل فقال : أجب أمير المؤمنين. فذهبت ، فأخذ بيدي ، ثم خلا بي ، فقال : ما كرهت مما قال الرجل؟

فقلت : يا أمير المؤمنين! إن كنت أسأت فأستغفر الله.

قال : لتحدثني.

قلت : إنّهم متى تنازعوا (٢) اختلفوا ، ومتى اختلفوا اقتتلوا ، فقال : لله أبوك ، لقد كنت أكتمها للنّاس.

وعن ابن مسعود أنّه قال : إنّ هذا الغلام ـ يعني عبد الله بن عباس ـ لو أدرك ما أدركناه ما تعلقنا معه بشيء.

وسأل أحدهم ابن عمر عن شيء فقال : سل ابن عباس فإنّه أعلم من بقي بما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعن معاوية : أنّ ابن عباس أفقه من مات ومن عاش.

وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود : ما رأيت أحدا أعلم من ابن عباس بما سبقه من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبقضاء أبي بكر ،

__________________

(١) وفي رواية : أن يتسارعوا.

(٢) وفي الرواية الأخرى : سارعوا.

٢٢٣

وعمر ، وعثمان ، ولا أفقه ولا أعلم بتفسير القرآن ، العربية ، والشعر ، والحساب ، والفرائض. وكان يجلس يوما للتأويل ، ويوما للفقه ، ويوما للمغازي ، ويوما لأيّام العرب ، وما رأيت قط عالما جلس إليه إلا خضع له ، ولا سائلا يسأله إلا أخذ عنه علما.

وقال عمرو بن دينار : ما رأيت مجلسا أجمع لكلّ خير من مجلس ابن عباس : الحلال ، والحرام ، والعربية ، والأنساب.

وعن عطاء : ما رأيت قط أكرم من مجلس ابن عباس ، أكثر فقها وأعظم خشية ، إنّ أصحاب الفقه عنده ، وأصحاب القرآن عنده ، وأصحاب الشعر عنده ، يصدرهم كلّهم من واد واسع.

وعن طاوس : أدركت خمسين أو سبعين من الصحابة إذا سئلوا عن شيء فخالفوا ابن عباس لا يقومون حتى يقولوا : هو كما قلت.

وسمع أحدهم ابن عباس يخطب ويفسّر فقال : لو سمعته الروم وفارس لأسلمت.

ولو شئنا استقصاء مناقبه لطال المقال جدا ، لا سيما أنّ كتابنا هو رحلة إلى الحجاز ، لا ترجمة لابن عباس رضي‌الله‌عنهما ، وإنما أوردنا ما أوردنا منها ، لأنّ التراجم الزكية هي خير ما يطرف به الكاتب القراء ، ولا سيما القراء الناشئين ، الذين قد يقتدون بما فيها من الفضائل ، ويتعلّمون مكارم الأخلاق ومعالي الأمور ، ونعم التاريخ الذي يزكّي النفوس ، ويشحذ الألباب.

وكان ابن عباس عاملا لعلي رضي‌الله‌عنهما على البصرة ، وشهد معه صفّين ، فلما استشهد أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ، استخلف ابن عباس على البصرة عبد الله بن الحارث النوفلي ، ولحق بالحجاز.

ولما دعا عبد الله بن الزبير الناس إلى مبايعته بالخلافة أبى عبد الله

٢٢٤

ابن عباس أن يبايعه ، فصعد إلى الطائف ، ولم تزل الطائف لأهل الحجاز متنفّسا ، ومات فيها.

وقال محمد ابن الحنفية عند موته : مات اليوم ربانيّ هذه الأمة (١).

وقد دفن محمّد ابن الحنفية في المكان الذي دفن فيه ابن عمّ أبيه ، أي ابن عباس.

* * *

__________________

(١) [انظر ترجمته في «أنساب الأشراف» للبلاذري (٣ : ٣٣ ـ ٦٠)].

٢٢٥

من نزل من الصحابة في الطائف

ومن كان فيها من الفقهاء والمحدثين ،

وأشهر المولودين فيها

ونزل بالطائف رهط من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم (١) :

١ ـ عروة بن مسعود بن معتّب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد ابن عوف بن ثقيف ، كان حين حاصرهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على ما سيأتي خبره ـ غائبا بجرش ، يتعلّم عمل الدبابات والمنجنيق ، فلما قدم الطائف بعد انصراف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنها ، قذف الله في قلبه الإسلام ، فقدم على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، فأسلم ، واستأذنه في الرجوع إلى قومه ، ليدعوهم إلى الإسلام ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم له : «إنّهم إذا قاتلوك» فقال : لو وجدوني نائما ما أيقظوني ، فلما رجع إلى الطائف أتته ثقيف تسلّم عليه بتحية الجاهلية ، فأنكرها عليهم ، وقال لهم : عليكم بتحية أهل الجنة ، فنالوا منه ، فحلم عنهم ، وخرجوا من عنده ، وجعلوا يأتمرون به ، وطلع الفجر ، فأذّن بالصلاة ، فخرجت إليه ثقيف من كل ناحية ، فرماه أوس بن عوف من بني مالك ، فأصاب أكحله ، فقام غيلان بن سلمة ، وكنانة بن عبد ياليل ، والحكم بن عمرو ، وغيرهم وقالوا : نموت عن آخرنا أو نثأر به عشرة من بني مالك ، فلما رأى عروة ما يصنعون ، قال : لا تقتلوا فيّ ، قد تصدّقت بدمي على صاحبه ، لأصلح بذلك بينكم ،

__________________

(١) [كان هذا الفصل متداخلا فأعدت ترتيبه].

٢٢٦

فهي كرامة أكرمني الله بها ، وشهادة ساقها الله إلي ، وأشهد أنّ محمدا رسول الله ، لقد أخبرني أنّكم تقتلوني ، ثم دعا رهطه ، فقال ، إذا متّ ادفنوني مع الشهداء الذين قتلوا في حصار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للطائف ، فدفنوه معهم ، وبلغ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبر قتله ، فقال : «مثل عروة مثل صاحب (يس) ، دعا قومه إلى الله فقتلوه».

٢ ـ ومنهم أبو مليح بن عروة بن مسعود ، وقارب بن الأسود بن مسعود ، أسلما ، ولحقا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، ولما وفدت ثقيف على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأسلمت عادا إلى الطائف ، وقال أبو مليح للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ أبي مات وعليه دين مئتا مثقال ذهبا ، فإن رأيت أن تقضيه من حلي الربة ، أي اللات ، فعلت ، فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم».

فقال قارب بن الأسود : وعن الأسود بن مسعود أبي ، فإنّه ترك دينا مثل دين عروة ، فاقضه عنه من مال الطاغية.

فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الأسود مات كافرا» فقال قارب : تصل به قرابة ، إنّما الدين عليّ ، وأنا مطلوب به ، فقضى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه دينه من مال الطاغية.

٣ ـ ومنهم الحكم بن عمرو ، أسلم في وفد ثقيف على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤ ـ ومنهم غيلان بن سلمة ، وكان شاعرا ، وفد على كسرى ، فسأله أن يبني له حصنا بالطائف ، فبنى له ، ولما جاء الإسلام أسلم ، وكان عنده عشر نسوة ، فقال له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اختر منهن أربعا» فاختار أربعا ، وطلّق الباقيات.

٥ ـ ومنهم شرحبيل بن غيلان ، وكان في وفد ثقيف على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٦ ـ ومنهم عبد ياليل بن عمرو ، وكان رئيس الوفد.

٧ ـ ومنهم كنانة بن عبد ياليل ، وأسلم يومئذ.

٢٢٧

٨ ـ ومنهم الحارث بن كلدة طبيب العرب ، وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمر من به علة أن يأتيه.

٩ ـ ومنهم نافع بن الحارث بن كلدة ، وهو أبو عبد الله ، الذي انتقل إلى البصرة.

١٠ ـ ومنهم العلاء بن جارية بن عبد الله بن أبي سلمة بن عبد العزى بن غيرة بن عوف بن ثقيف.

١١ ـ ومنهم عثمان بن أبي العاص بن بشر بن عبد دهمان بن عبد الله بن همام بن أبان بن يسار بن مالك بن حطيط بن جثم بن ثقيف.

قدم مع وفد ثقيف على رسول الله بالمدينة ، وكان أصغرهم سنا ، فكانوا يخلّفونه على رحالهم ، يتعاهدها لهم ، فإذا رجعوا من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وناموا ، ـ وكانت الهاجرة ـ أتى عثمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلم قبلهم سرّا منهم ، وكتمهم ذلك ، وكان يسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الدين ، ويستقرئه القرآن ، وكان إذا وجد رسول الله نائما عمد إلى أبي بكر فسأله ، واستقرأه فأعجب به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأحبّه.

فلما أسلم الوفد ، وكتب لهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكتاب الذي قاضاهم عليه ، وأرادوا الرجوع إلى بلادهم قالوا : يا رسول الله أمّر علينا رجلا منا ، فأمّر عليهم عثمان بن أبي العاص ، وهو أصغرهم ، لما رأى من حرصه على الإسلام.

قال عثمان بن أبي العاص : استعملني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الطائف ، فكان آخر ما عهد إليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن قال : «خفف عن النّاس الصلاة».

ولما قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عامله على الطائف عثمان بن أبي العاص ، فبقي عليها إلى خلافة عمر ، فاحتاج عمر إلى عامل يستعمله على البحرين ، فسمّوا له عثمان بن أبي العاص ، فقال : ذاك أمير أمّره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الطائف ، فلا أعزله ، قالوا له : يا أمير

٢٢٨

المؤمنين تأمّره ، ويستخلف على عمله من أحبّ ، وتستعين به ، فكأنك لم تعزله. فقال : أما هذا فنعم. فكتب إليه أن خلّف على عملك من أحببت ، وأقدم علي ، فخلف أخاه الحكم بن أبي العاص على الطائف ، وقدم على عمر ، فولاه البحرين.

قال محمد بن سعد في «الطبقات» : فلما عزل عن البحرين نزل البصرة هو وأهل بيته ، وشرفوا بها ، والموضع الذي بالبصرة يقال له شط عثمان إليه ينسب.

١٢ ـ وكان الحكم بن عثمان ممّن صحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا.

١٣ ـ وممن أسلم مع وفد ثقيف أوس بن عوف ، أحد بني مالك ، الذي رمى عروة بن مسعود حسبما تقدم القول ، وكان خائفا من أبي مليح بن عروة ، وقارب بن الأسود ، فشكا ذلك إلى أبي بكر رضي‌الله‌عنه ، فنهاهما أبو بكر عنه ، وقال لهما : ألستما مسلمين؟ قالا : بلى ، قال فتأخذان بذحول الشرك (١) ، وهذا رجل قدم يريد الإسلام ، وله ذمة وأمان ، وأما وقد أسلم صار دمه عليكما حراما ، ثم قارب بينهم حتى تصافحوا ، وكفّوا عنه.

١٤ ـ ومنهم أوس بن حذيفة الثقفي ، وكان ممن أسلم في وفد ثقيف ، قال : خرجنا من الطائف سبعين رجلا من الأحلاف وبني مالك ، فنزل الأحلافيون على المغيرة بن شعبة ، وأنزلنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قبة له بين مسكنه وبين المسجد.

١٥ ـ ومنهم أوس بن أوس الثقفي ، ومما روى عنه حفيد له أنّه أومأ إليه وهو في الصلاة أن ناولني نعليّ ، فناولته نعليه ، فصلّى فيهما ، وقال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي في نعليه.

١٦ ـ ومنهم الحارث بن عبد الله بن أوس الثقفي ، ويروى عنه أنّه

__________________

(١) الذحول بالذال المعجمة والحاء المهملة جمع ذحل وهو الثأر.

٢٢٩

قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من حجّ أو اعتمر فليكن آخر عهده بالبيت».

١٧ ـ ومنهم الحارث بن أويس الثقفي ، وقد صحب وروى.

١٨ ـ ومنهم الشريد بن سويد ، ومما حدث به أنّ النبي قال : «جار الدار أحقّ بالدار من غيره». وقد استنشده الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شعر أمية بن أبي الصلت ، وجعل يقول : «إن كاد ليسلم». مات الشريد في خلافة يزيد بن معاوية.

١٩ ـ ومنهم نمير بن خرشة الثقفي ، كان في وفد ثقيف إلى المدينة.

٢٠ ـ ومنهم سفيان بن عبد الله ، وكان فيهم أيضا ، وولى سفيان الطائف.

٢١ ـ ومنهم الحكم بن سفيان.

٢٢ ـ ومنهم أبو زهير معاذ الثقفي.

٢٣ ـ ومنهم كردم بن سفيان ، جاء إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : إني نذرت أن أنحر عشرة أبعرة لي ببوانة (١) ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نذرت ذلك وفي نفسك شيء من أمر الجاهلية؟» قال : لا والله ، قال «فانطلق فانحرهم».

٢٤ ـ ومنهم وهب بن خويلد الثقفي ، أسلم ، وصحب ، ومات على عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) حاشية للمؤلف : بوانة ، بضم أوله كثمامة ـ هضبة وراء ينبع ـ ويفتح. وأيضا ماء لبني جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن ، بالقرب من مكة ، وأيضا ماء لبني عقيل ، وأنشد الجوهري :

لقد لقيت شول بجنبي بوانة

نصيّا كأعراف الكوادن أسحما

وقال وضّاح اليمن :

أيا نخلتي وادي بوانة حبّذا

إذا نام حرّاس النخيل جناكما

٢٣٠

٢٥ ـ ومنهم وهب بن أمية بن أبي الصلت الثقفي الشاعر ، وأسلم وهب وصحب.

٢٦ ـ ومنهم أبو محجن بن عمرو بن عمير الثقفي ، وكان شاعرا.

٢٧ ـ ومنهم الحكم بن حزن الكلفي من بني كلفة بن عوف بن نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن ، روى عنه محمد بن سعد في «الطبقات» أنّه وفد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سابع سبعة ، أو تاسع تسعة ، وشهد معه الجمعة ، فقام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم متوكئا على قوس ، أو على عصا ، فحمد الله ، وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات ، ثم قال : «أيها الناس إنّكم لن تطيقوا ، ولن تفعلوا كلّ ما أمرتكم ، فسدّدوا وأبشروا».

٢٨ ـ ومنهم زفر بن حرثان بن الحارث من هوازن أيضا ، وفد وأسلم.

٢٩ ـ ومنهم مضرس بن خفاجة بن النابغة ، من هوازن أيضا ، وفد وأسلم ، وشهد حنينا ، وذكره العباس بن مرداس في شعره.

٣٠ ـ ومنهم يزيد بن الأسود ، من بني سواءة ، روى أنّه صلى مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الفجر في مسجد منى في حجة الوداع ، فلما قضى الصلاة التفت ، فإذا هو برجلين لم يصليا ، فقال : «أئتوني بهما» ، فأتي بهما ترعد فرائصهما ، فقال : «ما منعكما أن تصليا معنا؟» قالا : يا رسول الله صلينا في رحالنا ، قال «فإذا جئتم والإمام يصلي فصلّوا معه ، فإنها لكم نافلة» وكان يزيد شهد حنينا مع المشركين ، ثم أسلم وصحب.

٣١ ـ ومنهم عبيد الله بن معية من بني سواءة.

٣٢ ـ ومنهم أبو رزين العقيلي ، واسمه لقيط بن عامر بن المنتفق ، قيل : إنه أتى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : يا رسول الله! إن أبي شيخ كبير ، لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن ، فقال : «حج عن أبيك واعتمر».

وأما شهداء الصحابة في الطائف عام ثمانية للهجرة فهم :

١ ـ سعيد بن سعيد بن العاص الأموي.

٢ ـ وعبد الله بن أبي أمية المخزومي.

٢٣١

٣ ـ والسائب بن الحارث بن قيس السهمي القرشي ، أحد المهاجرين إلى الحبشة.

٤ ـ وعبد الله بن الحارث بن قيس ، أخو السائب ، ومثله في المهاجر إلى الحبشة.

٥ ـ والحارث بن سهل بن أبي صعصعة الأنصاري.

٦ ـ وثابت بن الجذع الخزرجي من الأنصار.

٧ ـ والمنذر بن عبد الله الخزرجي الأنصاري.

٨ ـ ورقيم بن ثابت الأنصاري.

٩ ـ وعبد الله بن عامر بن ربيعة.

١٠ ـ عرفطة بن حباب الأزدي حليف بني أمية.

١١ ـ ورجل من بني الليث. وهو جليحة بن عبد الله بن محارب الليثي.

١٢ ـ وألحق بعضهم بهم عبد الله بن أبي بكر الصديق ، لأنه كان جرح في غزاة الطائف ، واندمل جرحه مدّة ، ثم انتكس ، ومات.

[من كان في الطائف من الفقهاء والمحدثين]

وروى ابن سعد في «الطبقات» أنه كان بالطائف بعد هؤلاء من الفقهاء والمحدثين :

١ ـ عمرو بن الشريد بن سويد الثقفي.

٢ ـ وعاصم بن سفيان الثقفي.

٣ ـ وأبو هندية ، الذي روى عنه سعيد بن المسيب.

٤ ـ وعمرو بن أوس الثقفي.

٥ ـ وعبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان بن عبد الله من ثقيف ، وأمه أم الحكم بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية ، وخاله معاوية. وكان جده عثمان بن عبد الله حامل لواء المشركين يوم حنين ، فقتله علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبعده الله ، إنّه كان يبغض قريشا».

٢٣٢

وقد ولي عبد الرحمن بن عبد الله الكوفة ومصر ، قال محمد بن سعد : وولده اليوم يسكنون دمشق (محمد بن سعد كان في القرن الثالث).

٦ ـ ومنهم وكيع بن عدس (بضمتين).

٧ ـ ويعلى بن عطاء ، أقام بواسط في آخر سلطنة بني أمية.

٨ ـ وعبد الله بن يزيد.

٩ ـ وبشر بن عاصم الثقفي.

١٠ ـ وإبراهيم بن ميسرة.

١١ ـ وعطيف بن أبي سفيان.

١٢ ـ وعبيد بن سعد.

١٣ ـ ومحمد بن أبي سويد.

١٤ ـ وسعيد بن السائب.

١٥ ـ وعبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى بن كعب الثقفي.

١٦ ـ ويونس بن الحارث الطائفي.

١٧ ـ ومحمد بن عبد الله بن أفلح الطائفي.

١٨ ـ ومحمد بن أبي سعيد الثقفي.

١٩ ـ ومحمد بن مسلم بن سوسن الطائفي.

٢٠ ـ ويحيى بن سليم الطائفي ، وكان قد نزل مكة.

[من أشهر المولدين في الطائف]

زياد بن عبيد

ومن أشهر المولودين في الطائف : زياد بن عبيد ، المعروف بزياد بن أبيه ، لاختلاف المؤرّخين في نسبه ، وهو الذي استلحقه معاوية بن أبي سفيان ، وأمه سمية جارية الحارث بن كلدة ، كان كاتبا لأبي موسى الأشعري ، وكانت ولادته سنة الهجرة ، وقال في «الطبقات الكبرى» :

٢٣٣

عام الفتح ، ولي البصرة لمعاوية حين ادعاه ، وضم إليه الكوفة ، فكان يشتو بالبصرة ، ويصيّف بالكوفة ، ويولي على الكوفة إذا خرج منها عمرو بن حريث ، ويولي على البصرة إذا خرج منها سمرة بن جندب ، ولم يكن زياد من القرّاء ولا الفقهاء إلا أنه كان معروفا.

ثم ذكر صاحب «الطبقات» أنّ عائشة أم المؤمنين كتبت إليه كتابا خاطبته فيه بزياد بن أبي سفيان ، ومات بالكوفة وهو عامل عليها لمعاوية.

وكان زياد بلا مراء من أعاظم الرجال ، قال الشعبي : ما رأيت أحدا أخصب ناديا ، ولا أكرم مجلسا ، ولا أشبه سرا بعلانية من زياد.

وقال الأصمعي : أول من ضرب الدنانير والدراهم ، ونقش عليها اسم الله ، ومحا عنها اسم الروم ونقوشهم زياد.

وقال العتبي : إنّ زيادا أول من ابتدع ترك السلام على القادم بحضرة السلطان ، وقالوا : إنّه أول من عرّف العرفاء ، ورتّب النقباء ، ومشى الأعوان بين يديه ، ووضع الكرسي ، وربّع الرباع ، وخمّس الأخماس في الكوفة والبصرة.

ونقل الخير الزركليّ (١) عن ابن حزم مايلي : امتنع زياد وهو قفعة القاع (٢) ، لا عشيرة له ، ولا نسب ، ولا سابقة ، ولا قدم ، فما أطاقه معاوية إلا بالمدرة حتى أرضاه وولاه.

وقال الأصمعي : الدهاة أربعة ، معاوية للروية ، وعمرو بن العاص للبديهة ، والمغيرة بن شعبة للمعضلة ، وزياد لكلّ كبيرة وصغيرة.

__________________

(١) [ما رأيت وما سمعت ص (٦٦)].

(٢) القفعة بفتح أوله ، القفة من خوص ، وقد يكون أعلاها ضيقا ، وأسفلها واسعا ، وفي لبنان يصغرونها ، ويقولون : قفّوعة ، وأما القاع فالأرض المطمئنة ، والمقصود بذلك أنّه ليس بشيء في نسبه وحسبه.

٢٣٤

قلت : فضل زياد في المكانة التي حازها أعظم من فضل جميعهم ، لأنّ معاوية أموي ، وعمرو بن العاص سهمي ، والمغيرة ثقفي ، فأما زياد فهو ابن سمية ... وإنما :

نفس عصام سوّدت عصاما

[الحجاج بن يوسف الثقفي]

ومن أشهر المولودين بديار الطائف الحجّاج بن يوسف الثقفي ، الذي صار اسمه رمزا للظلم وسفك الدماء ، فإذا قيل : سفّاك دماء ، قيل : حجاج ، قيل : إنه قتل أكثر من مئة ألف صبرا ، وسمعوه يقول عند الموت : ربّ اغفر لي ، فإنّ النّاس يزعمون أنّك لا تغفر لي.

قال الذهبي في كتاب «دول الإسلام» : إنّه كان شجاعا مهيبا جبارا عنيدا ، ومخازيه كثيرة ، إلا أنّه كان عالما ، فصيحا ، مفوّها ، مجوّدا للقرآن (١).

وقال : إنّه قتل الإمام المفسّر سعيد بن جبير ظلما ، فما أمهله الله بعده ، فهلك في رمضان سنة خمس وتسعين ، وله ثلاث وخمسون سنة.

وقرأت في محلّ آخر أنّه عاش خمسا وخمسين سنة.

وقال ابن خلّكان : إنّه كان عمره ثلاثا وخمسين ، وقيل : أربعا وخمسين ، وهو الأصح ، وروى ابن خلكان أنه كان ينشد في مرض موته هذين البيتين لعبيد بن سفيان العكلي (٢) :

يا ربّ قد حلف الأعداء واجتهدوا

أيمانهم أننّي من ساكني النّار

أيحلفون على عمياء ويحهم

ما ظنّهم بعظيم العفو غفّار

__________________

(١) [انظر أخباره في كتاب «الحجاج بن يوسف الثقفي» للدكتور إحسان صدقي العمد].

(٢) [«وفيات الأعيان» (٢ : ٥٣)].

٢٣٥

قلت : إنّ النّاس غير مخطئين فيما يذهبون إليه من أمر الحجاج ، فكما أنّ الله عظيم العفو ، فهو عظيم العدل أيضا سبحانه وتعالى ، إن لم يعاقب مثل الحجاج على ما سفك من دماء الأبرياء ، فمن يستحق العقوبة إذا؟!!

وقال ابن خلكان (١) عن مرضه : إنّ الله سلط عليه الزمهرير ، فكانت الكوانين تجعل تحته مملوءة نارا ، وتدنى منه حتى تحرق جلده ، وهو لا يحسّ بها.

وشكا ما يجده إلى الحسن البصري رضي‌الله‌عنه فقال له : قد كنت نهيتك أن تتعرّض للصالحين فلججت.

فقال له : يا حسن لا أسألك أن تسأل الله أن يفرّج عني ، ولكن أسألك أن تسأله [أن] يعجّل قبض روحي ، وألا يطيل عذابي.

ولما جاء موت الحجاج إلى الحسن البصري سجد لله تعالى شكرا ، وقال : اللهم إنّك قد أمتّه فأمت عنّا سنّته.

وكانت وفاته بمدينة واسط ، ودفن بها ، وعفّي قبره ، وأجري عليه الماء.

قلت : ليس الحجاج مسؤولا فيما أتاه من الموبقات وقتل من قتل من عباد أكثر من عبد الملك بن مروان ، الذي استعمله وأملى له ، وكان ولّاه العراق وخراسان ، وولّاه قبل ذلك الحجاز ، وكانت له إمرة بدمشق ، ولا يزال فيها بناء اسمه قصر حجاج أظنّه منسوبا له (٢) ، ولما توفي عبد الملك ، وتولّى الوليد أبقاه في عمله ، فكأنه أعجب بني أمية.

__________________

(١) [«وفيات الأعيان» (٢ : ٥٣)].

(٢) [قال محمد كرد علي في «غوطة دمشق» (١٨٦) : القصر منسوب إلى حجاج بن عبد الملك بن مروان ، وكان قبله أيضا معروفا بالحجاجية ، وكان ملكا للحجاج بن يوسف الثقفي].

٢٣٦

وقال ابن خلكان (١) : وكان للحجاج في القتل وسفك الدماء والعقوبات غرائب لم يسمع بمثلها.

ويقال : إنّ زياد بن أبيه ـ أو ابن سمية أو ابن أبي سفيان ـ أراد أن يتشبّه بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه في ضبط الأمور ، والحزم والصرامة ، وإقامة السياسات ، إلا أنّه أسرف وتجاوز الحد ، وأراد الحجاج أن يتشبّه بزياد فأهلك ودمّر.

وكان الحجاج يخبر عن نفسه أنّ أكبر لذّاته سفك الدماء ، وارتكاب أمور لا يقدم عليها غيره ، ومن كان كذلك فكيف يوليّه الخلفاء الولايات الكبرى ، ويطلقون فيها يده!!.

نعم إنّ الضبط والربط والحزامة من الأمور التي تصلح للولاة ، بل من الأمور التي لا يصلح الولاة إلا بها ، لكن على شرط أن لا يخرج ذلك بالولاة إلى الإسراف والإعتداء ، وتجاوز حدود الله ، فإنّ العدل هو الحد الوحيد الذي لا يجوز التأخر عنه ، ولا التقدم عليه ، ومن تجاوز حدّ العدل فقد أفرط ، ومن تأخّر عنه فقد فرّط ، وما يسع الجميع إلا العدل.

ومن أشدّ الأمور ضررا أن يتعمّد الوالي أو القائد إتيان الأمور التي تجعل له هيبة في قلوب الناس بزعمه ، أو أن يتلذّذ بسمعة البطش وإرهاف الحد ، كما كان يفعل جمال باشا التركي قائد الجيش العثماني في سورية أيام الحرب الكبرى ، فقد كان يتعمّد البطش وإظهار الاستخفاف بدماء البشر ، آملا بأن ينال المهابة في الصدور ، وأن تسير عنه الأخبار ، فأضرّ عمله بدولته وأمته ، وزاد في شقاق الترك مع العرب ، وما نفعت سياسته إلا الإفرنج الطامحين إلى البلاد ، وما نفعت إلا الرائدين لهم ، الساعين بين أيديهم من أبناء البلاد (٢).

__________________

(١) [«وفيات الأعيان» (٢ : ٣١)].

(٢) [انظر «تاريخ الدولة العثمانية» للأمير شكيب أرسلان ص (٤١٧ ـ ٤٥٨) وهو من منشورات دار ابن كثير بدمشق بتحقيقي].

٢٣٧

فأما الحزامة والضبط فقد روي فيهما عن الحجاج ما لو وقف عند ذلك الحد ، لما انتقده أحد.

قالوا : كان الحجاج وأبوه يعلّمان الصبيان بالطائف ، ثم لحق الحجاج بروح بن زنباع الجذامي وزير عبد الملك بن مروان ، فكان في عداد شرطته ، إلى أن رأى عبد الملك انحلال عسكره ، وأنّ الناس لا يرحلون برحيله ، ولا ينزلون بنزوله ، فشكا ذلك إلى روح بن زنباع ، قال له : إنّ في شرطتي رجلا لو قلّده أمير المؤمنين أمر عسكره لأرحل النّاس برحيله ، وأنزلهم بنزوله ، يقال له : الحجاج بن يوسف ، قال : فإنّا قد قلدناه ذلك ، فكان لا يقدر أحد أن يتخلّف عن الرحيل والنزول إلا أعوان روح بن زنباع ، فوقف عليهم يوما ـ وقد أرحل النّاس ـ على الطعام يأكلون ، فقال لهم : ما منعكم أن ترحلوا برحيل أمير المؤمنين؟ فقالوا له : انزل يا ابن اللخناء فكل معنا ، فقال لهم : هيهات ذهب ذلك ، ثم أمر بهم فجلدوا بالسياط ، وطوّف بهم في العسكر ، وأمر بفساطيط روح فأحرقت بالنّار ، فدخل روح على عبد الملك شاكيا وقال : يا أمير المؤمنين! إنّ الحجاج الذي كان في شرطتي ضرب غلماني ، وأحرق فساطيطي ، قال : عليّ به ، فلما دخل عليه ، قال : ما حملك على ما فعلت؟ قال : أنا ما فعلت ، قال : ومن فعل؟ قال : أنت فعلت ، إنما يدي يدك ، وسوطي سوطك ، وما على أمير المؤمنين أن يخلف لروح عوض الفسطاط فسطاطين ، وعوض الغلام غلامين ، ولا يكسرني فيما قدّمني له ، فمن ذلك الوقت تقدّم الحجاج في منزلته ، ولكن كان ينبغي لهم أن يلزموه من الحزامة والصرامة هذا الحد ، ولا يسمحوا له أن يتجاوزه.

قال الإمام السيوطي في «تاريخ الخلفاء» (١) : لو لم يكن من مساوىء

__________________

(١) [تاريخ الخلفاء : (٢٦٠)].

٢٣٨

عبد الملك إلا الحجاج وتوليته إياه على المسلمين وعلى الصحابة والتابعين رضي‌الله‌عنهم يهينهم ويذلّهم قتلا وضربا وشتما وحبسا ، وقد قتل من الصحابة وأكابر التابعين ما لا يحصى فضلا عن غيرهم ، وختم في عنق أنس وغيره من الصحابة ختما ، يريد بذلك ذلّهم ـ فلا رحمه‌الله ولا عفا عنه.

قلت : وأغرب من تولية عبد الملك الحجاج بن يوسف ـ توصيته ولده الوليد به عند موته ، فقد قال له وهو يجود بروحه : وانظر إلى الحجاج فأكرمه ، فإنّه هو الذي وطّأ لكم المنابر ، وهو سيفك يا وليد ، ويدك على من ناوأك ، فلا تسمعنّ فيه قول أحد ، وأنت إليه أحوج منه إليك. فكأنّ عبد الملك تحمّل تبعة أعمال الحجاج حيا وميتا.

ومن أغرب الغرائب أنّ بعض الناس يلتمس العذر لعبد الملك بقوله : إنّ الحجاج هو الذي أنقذ ملك بني أمية ، وأنّه لولاه لانتقلت الخلافة إلى آل الزبير ، فإنّ النّاس بعد موت يزيد بن معاوية بايعوا عبد الله بن الزبير ، وكان فحل قريش الصائل في وقته ، لا يدركه أحد في شجاعة ولا عبادة ولا بلاغة ، وأطاعه الحجاز واليمن والعراق وخراسان ، ولم يمتنع عن مبايعته إلا أهل الشام ومصر ، فإنّهم بايعوا معاوية بن يزيد ، إلى أن مات ، فبايعوا ابن الزبير ، إلى أن خرج مروان بن الحكم ، فغلب على الشام ومصر.

والحافظ الذهبي لا يعدّه من أمراء المؤمنين ، بل يعدّه باغيا خارجا على ابن الزبير ، ويعدّ عهده لابنه عبد الملك بن مروان غير صحيح ، وقد صحّح السيوطيّ هذا القول.

وهذا يدل على أنّ أصل الولاية في الإسلام هو ولاية الأمة ، وأن لا ملك ولا خلافة إلا من الأمة (١) ، وأنّ الاختيار هو الشرط الأول

__________________

(١) والدليل على ذلك أنها لا تعقد إلا بمبايعة الأمة الاختيارية.

٢٣٩

لا الإرث ، خلافا لظنّ من لم يقرأ شيئا عن أصول الحكم في الإسلام ، ظنوا أن استمداد الحكم من الأمة ، هو منزع أوربيّ جديد. قاتلهم الله ما أجهلهم بالتاريخ ، هذا إن لم يكونوا يتجاهلونه عمدا للمرض الذي في قلوبهم.

ولما استوسق الأمر لعبد الملك أرسل الحجاج في أربعين ألفا لقتال ابن الزبير ، فحاصره بمكة أشهرا ، ورمى الكعبة بالمنجنيق ، وخذل ابن الزبير أصحابه ، وتسلّلوا إلى الحجاج ، فظفر به وقتله ، وكان ابن الزبير أخبر أمّه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنهما عن خذلان الناس إيّاه ، واستشارها فيما يصنع ، فأشارت عليه بأن يخرج ويقاتل إلى أن يقتل ، في خبر يعرف منه الإنسان درجة الأنفة ، وعزّة النفس ، اللتين عند العرب ، حتى عند النّساء اللائي كن يفضّلن قتل أولادهنّ على المهانة والذل.

* * *

ونعود إلى المشهورين من ثقيف ومن سكان ديار الطائف ، فمنهم :

السائب بن الأقرع الثقفي

روى عن عمر بن الخطاب ، وكان قليل الحديث ، وولاه عمر ولايات في فارس بعد أن شهد فتح نهاوند العظيم ، ومات بإصبهان.

ويوسف بن محمد بن يوسف الثقفي ، ابن أخي الحجاج ، وهو ممّن ولي مكة ، تولاها في زمن الوليد بن يزيد بن عبد الملك.

العرجي الشاعر

ومنهم العرجيّ ـ الشاعر المشهور ـ وهو عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس ، قال

٢٤٠