الرّحلة الحجازيّة

الأمير شكيب أرسلان

الرّحلة الحجازيّة

المؤلف:

الأمير شكيب أرسلان


المحقق: حسن السماحي سويدان
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار النوادر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٩

وجاء في «الطبقات» عن السائب بن يزيد أنّه صحب سعد بن أبي وقاص من المدينة إلى مكة قال : فما سمعته يحدّث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثا حتى رجع.

ثم جاء عن يحيى بن عباد ، عن شعبة أنّهم دخلوا على سعد بن أبي وقاص ، فسئل عن شيء فاستعجم ، فقال : إنّي أخاف أن أحدّثكم واحدا فتزيدوا عليه المئة.

وجاء في «الطبقات الكبرى» لابن سعد عن عمرو بن ميمون قال : اختلفت إلى عبد الله بن مسعود سنة ، ما سمعته يحدّث فيها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يقول فيها : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إلا أنّه حدّث ذات يوم بحديث ، فجرى على لسانه : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعلاه الكرب ، حتى رأيت العرق ينحدر عن جبهته ، ثم قال : إن شاء الله ، إما فوق ذاك ، وإما قريب من ذاك ، وإما دون ذاك.

فهذا شأن عبد الله بن مسعود في الحديث ، وهو أحد العبادلة الأربعة ، ومن أورع الصحابة ، وأشدّهم ملازمة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما لا يخفى ، وذاك كان شأن سعد بن أبي وقاص ، والزبير بن العوام ـ في هذا الأمر ، وهما من العشرة المبشرين بالجنة ، وذلك كان مشرب الإمام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، وهو الذي قيل : إنّ رسول الله قال فيه : «لو كان نبيّ بعدي لكان عمر» (١) فكيف ينبغي

__________________

[قلت : كما لا يعقل أن يزيد المحدثون شيئا من عند أنفسهم وهم من هم ورعا وخشية وتقوى لأنهم يقعون تحت طائلة هذا الحديث].

(١) [أخرجه الترمذي في المناقب باب مناقب عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه رقم (٣٦٨٧) وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، وهو كما قال ، ورواه أحمد في «المسند» وابن حبان والطبراني في «الأوسط» والحاكم (٣ : ٨٥) وصححه ووافقه الذهبي ، وذكره الألباني في «صحيح الجامع» رقم (٥١٦٠) وقال : حديث حسن].

٢٠١

للناس بعد ذلك أن يستكثروا من الأحاديث ، وهم يعلمون ما قد يتطرّق إليها من زيادات الرواة ، وما قد نقل منها بالمعنى (١).

قال صاحب «تحفة اللطائف» قال الزهري : إنّ الله عزوجل نقل قرية من قرى الشام ، فوضعها بالطائف ، لدعوة خليله إبراهيم عليه‌السلام (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [البقرة : ١٢٦] والله تعالى يقدر أن ينقل إلى الطائف قرية من الشام ، كما أنّه يقدر أن يجعل الطائف في خواصها قرية من قرى الشام ، ويرزق أهل ذلك الوادي المقدس ـ مكة ـ من ثمراتها.

فأما كون الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد ألحق الطائف بمكة والمدينة وحرّم لها حرما ، وقال «لا يختلي خلاها ، ولا يعضد شجرها ، ولا ينفر صيدها» وأنه قدّس وادي وجّ ، فإنّ الأحاديث كثيرة في هذا المعنى ، والدليل على صحتها كون الفقهاء أجمعوا على كراهية الصيد في وجّ ، ومنهم من قطع بتحريمه ، وربما كان الأكثرون على التحريم الباتّ ، وقيل في كلام الشافعي : (أكره صيد وجّ) أنها كراهة تحريم.

وعلى كل حال متفق على النهي عن الصيد في وجّ ، ومختلف في مجرد الكراهة أو التحريم ، كما أنّه مختلف في أمر الضمان وعدمه ، مما

__________________

(١) قد كتب إلينا الأمير سؤالا في هذه المسألة ـ رواية الحديث ـ فأجبنا عن سؤاله في «المنار» بما علم به قصور ما في «طبقات» ابن سعد ، وما هو الحق في المسألة ، فليراجع ذلك من شاء في صفحة (٥٠٧ ـ ٥١٦) من المجلد التاسع والعشرين مصححه.

[وانظر كتاب «السنة قبل التدوين» للدكتور محمد عجاج الخطيب ، وكتاب «الحديث النبوي» للدكتور محمد مصطفى الأعظمي و «تحقيق معنى السنة» لسليمان الندوي (ط. دار الفجر بدمشق بتحقيقي). لترى ما في كلام الأمير شكيب رحمه‌الله من نظر ، وكيف أن الحفاظ محّصوا وبينوا المقبول من المردود].

٢٠٢

أفاض في موضوعه أصحاب التواريخ المارّ ذكرها.

ومع كلّ هذه الأحاديث بقي أناس لا يطمئنون إلى روايات النهي عن صيد وجّ ، فقد نقل صاحب «تحفة اللطائف» عن الميورقي أنّه سأل الشيخ محمد بن عمر القسطلاني إمام المالكية في وقته : هل رأيت في مذهب مالك مسألة في صيد وجّ في الطائف؟

فقال : لا أعرفها ، ولا يسعني أن أفتي بتحريم صيدها إلا بالحديث ، ليس فيها من الأحاديث التي يبتني عليها التحريم والتحليل (١).

موقع الطائف وهواؤها وماؤها

وأما فضل الطائف في صقعها وجودة مائها وهوائها ، فهو مما تواطأ عليه المحسوس والمأثور ، ولست بمستغرب قول بعض المفسرين لقوله تعالى (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١]. إن المراد بالقريتين مكة والطائف.

وكذلك أنا استحلي ما رواه صاحب «تحفة اللطائف» من قول بعضهم : إنّ الطائف من تعاليق مكة ، أي من مضافاتها ، وعندنا في برّ الشام إذا بنيت قرية في طرف قرية نسبت إليها ، وقيل : إنها معلقة لها ، فيقال مثلا : معلقة زحلة ، ومعلقة الدامور وهلم جرا ، فما أجدر الطائف بأن يقال لها : معلقة مكة ، ولعمري لنعم المعلقة هي ، ولا نزاع أنّهما في الأمصار كالمعلقات السبع في الأشعار.

__________________

(١) قال النووي في «شرح المهذب» : وأمّا حديث صيد وجّ ، فرواه البيهقي بإسناده عن الزبير بن العوام رضي‌الله‌عنه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ألا إنّ صيد وجّ وعضاهه ـ يعني شجره ـ حرام» وذلك قبل نزوله الطائف وحصاره ثقيفا ، لكنّ إسناده ضعيف. قال البخاريّ في «تاريخه» : لا يصح ، ثم ذكر الخلاف في وجّ ، هل هو واد بالطائف أو بلد.

٢٠٣

ومن الحديث النبوي المأثور «الطائف من مكة ، ومكة من الطائف» كرّرها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث مرات.

ولقد جاء في بعض الأحاديث التي نقلها الميورقي ورواها العجيمي صاحب «إهداء اللطائف» أنّ الطائف من مكة ، ومكة من الطائف.

ونقل الميورقي عن سطيح : أنّه ستكون فتن في آخر الزمان ، خير النّاس في ذلك الزمان من كان بجدارات الطائف إلى عرقوب بجيلة. قال الميورقي : إنّه حديث ضعيف ، وقال العجيمي : إلا أنّه يشهد له حديث الترمذي عن عمرو بن عوف قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنّ الدين ليأرز إلى الحجاز كما تأرز الحيّة إلى جحرها» (١) قال في «القاموس» : والحجاز مكة والمدينة والطائف ومخاليفها ، كأنّها حجزت بين نجد وتهامة. انتهى.

قلت : وزاد صاحب «تاج العروس» اليمامة ، فقال : إنّها من الحجاز ، وقال في شرح قوله : (إنّها حجزت بين نجد وتهامة ، أو بين الغور والشام والبادية ، أو بين الغور ونجد ، ثم قال صاحب «القاموس» : أو بين نجد والسراة ، أو لأنّها احتجزت بالحرار الخمس) فقال صاحب «التاج» في شرحها : حرّة بني سليم ، وحرّة واقم ، وحرّة ليلى ، وحرّة شوران ، وحرّة النار ، وهذا قول الأصمعي.

وقال الأزهري : سمّي حجازا لأنّ الحرار حجزت بينه وبين عالية نجد.

قال : وقال ابن السكّيت : ما ارتفع عن بطن الرمة فهو نجد ، إلى ثنايا ذات عرق ، وما احتزمت به الحرار حرة شوران ، وعامة منازل بني سليم إلى المدينة ، فما احتاز في ذلك كلّه حجاز ، وطرف تهامة من قبل الحجاز مدارج العرج ، وأولها من قبل نجد مدارج ذات عرق ، وقال

__________________

(١) [تقدم تخريجه ص (١٨)].

٢٠٤

الأصمعيّ : إذا عرضت لك الحرار بنجد ، فذلك الحجاز. وأنشد :

* وفروا بالحجاز ليعجزوني*

أراد بالحجاز الحرار انتهى.

قال العجيمي في تفسير (عرقوب بجيلة) العرقوب ما انحنى من الوادي وطريق في الجبل ، والعراقيب خياشيم الجبال ، والطريق الضيقة في متونها. وتعرقب ؛ أي مسلكها ، كذا في «القاموس» انتهى.

قلت : وزاد صاحب «التاج» أنّ العرقوب هو الجبل المكلّل بالسّحاب.

هذا وقد جرت التسمية بالعرقوب كثيرا في بلادنا الشامية ، ففي جبل لبنان داخل قضاء الشّوف ثلاث نواح باسم العرقوب ، وهي العرقوب الجنوبي ، والعرقوب الشمالي ، والعرقوب الأعلى ، وهي أودية يخرج من أحدها نبع الباروك ، ومن الآخر نبع الصفا ، ونبع القاعة ، وهي من أشهر ينابيع الأرض في العذوبة لا ينابيع لبنان وحده ، وفي جبل الشيخ ناحية يقال لها أيضا العرقوب تابعة لقضاء حاصبيا.

وأما عرقوب بجيلة في الحجاز فهو منسوب إلى بجيلة ـ كسفينة ـ وهي قبيلة اختلف في نسبها ، فقال ابن الكلبي : إنّها حيّ من اليمن ، وروي عن مصعب بن الزبير أنّها من نزار.

وقال صاحب «القاموس» : إنّها حي في اليمن من معدّ ، قال الزّبيدي في «التاج» : إنّ صاحب «القاموس» أراد أن يجمع بين القولين.

وقال الإمام مالك رضي‌الله‌عنه : بلغني أنّ عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه قال : لبيت بركبة أحبّ إليّ من عشرة أبيات بالشّام ، نقل ذلك ابن فهد محمد جار الله بن عبد العزيز صاحب «تحفة اللطائف».

وقال ابن وضّاح : ركبة موضع بين الطائف ومكة في طريق العراق.

قال ابن فهد نقلا عن ابن وضاح : يريد ـ أي عمر ـ والله أعلم لطول الأعمار بها ، وشدة الوباء بالشام ، ثم أخذ بعضهم يعترض على هذا

٢٠٥

التأويل قائلا : إنّ مراد عمر بهذا التفضيل قرب هذا المكان ـ أي ركبة ـ من مكة والمدينة.

قلت : لا وجه لهذا القول ، لأنّه إن كان مراد سيدنا عمر رضي‌الله‌عنه هو قضية القرب من مكة والمدينة ، فهذه مزية لم تختض بركبة ، بل اشتركت بها بقاع لا تعدّ ولا تحصى ، وكم من مكان أقرب إلى مكة أو إلى المدينة من ركبة هذه ، التي هي على مسافة يوم ونصف يوم من مكة ، وما أرى عمر قصد إلا طيب الهواء ، والبعد عن الوباء ، كما قال ابن وضاح ، فالشام هي مضرب الأمثال في جودة الماء والهواء ، ومع هذا فإنّ عمر يرى بقعة مثل ركبة من بقاع الطائف أفضل منه للسكنى ، إنه لم يقسم لي الذهاب إلى ركبة ، وإنما سمعت من أهل الطائف الشيء الكثير عن طيب نجعتها ، وبهجة روضها ، لا سيما في أيّام الربيع.

وقول ابن وضاح لا يخلو من صحة ، فالشام مع كونه مضرب الأمثال في طيب الماء والهواء ، ومع كونها جنة الله في أرضه ، موصوفة بالوباء من قديم الزمان ، حتى إنّ أحد إخواننا المصريين أخذته فيما يظهر الغيرة مما رأى من محاسن دمشق ، فنبزها بسرعة الوباء إليها من كثرة المياه المتدفقة في كل أنحائها فقال ذلك البيت الشهير (١) :

قيل لي صف بردى كوثرها

قلت : غال برداها برداها

__________________

(١) قائله [لا] أشهر منه ، وهو ابن الفارض ، وهو من أبيات له في تفضيل مصر على الشام ، نسيها الأمير فظنّ أنّ البيت لبعض المعاصرين [قلت : الأمير لم ينكر نسبها لابن الفارض بدليل قوله (الشهير) وإنما قصده أنّ قائله تمثّل به ، والأبيات بتمامها هي :

جلّق جنّة من تاه وباهى

ورباها منيتي لو لا وباها

قيل لي : صف بردى كوثرها

قلت : غال برداها برداها

وطني مصر وفيها وطري

ولعيني مشتهاها مشتهاها

ولنفسي غيرها إن سكنت

يا خليليّ سلاها ما سلاها].

٢٠٦

وقد أبى الله إلا أن يجعل بإزاء كلّ سهل حزنا ، ومع كلّ سرور حزنا ، وأن لا يدع الكمال نصيب شيء من هذه الدنيا ، فكثرة المياه في القطر الشامي التي هي مصدر رخائه ، ومرجع نضارته وبهائه ، هي أيضا سبب وبائه ، وشدّة بلائه ، فقد تقرّر أنّ الأوبئة تتفشّى بالبلاد التي تشرب من الأنهار ، أكثر مما تتفشّى بالبلاد التي تشرب من الآبار ، وذلك لأنّ المكروب إنما ينمو في الماء ، وإذ كان الماء مما يشترك الخلق في وروده ، كانت العدوى به أكثر ، كما لا يخفى.

وأكثر حواضر الشام مبنية على الأنهار ، فدمشق على بردى ، وحمص وحماه على العاصي ، وحلب على قويق ، وبعلبك على رأس العين ، وزحلة على البردوني ، وطرابلس على أبي علي ، وصيدا على الأولي ، وهلم جرا.

وقبل أن جرّ إلى بيروت ماء نهر الكلب كانت أقلّ تعرضا للأمراض الوافدة.

فلهذا كانت بلاد الطائف منزّهة عن الوباء بسببين.

الأول : وفرة الأكسجين في هواء تلك الجبال العالية.

والثاني : قلة المياه الجارية فيها ، على الضد من جبال الشام ، والمياه هي التي تنتقل الجراثيم بواسطتها ، فمن أين تتفشى الأوبئة في ركبة ونواحيها ، ومن أين تتكون المستنقعات ، التي تنشأ عنها الحميات؟

فهذا ما أراده سيدنا عمر بن الخطاب بقوله : لبيت بركبة أحبّ إلى من عشرة أبيات بالشام.

وسبق أن روينا عن الأصمعي ـ ولم يكن الأصمعيّ بليدا ـ قوله : دخلنا الطائف ، فكأنني كنت أبشّر ، وكأنّ قلبي ينضح بالسرور ، وما أجد لذلك سببا إلا انفساح حدها ، وطيب نسمتها.

ولا أظن أحدا دخل الطائف إلا وشعر بهذا الإنشراح في صدره ، والانفساح في رئته ، ولو كانت الطائف مربوطة بسكة حديد بجدة لقصدها المصطافون من مصر والشام والهند وسواحل جزيرة العرب.

٢٠٧

عمران الطائف وتقلّصه بعد الحربين

وقد كانت الطائف في أيام الدولة العثمانية معمورة حافلة ، قيل لي : إنّه كان فيها ما يقرب من خمسة عشر ألف نسمة ، فقد كانت إمارة مكة والولاية وقيادة الجيش والأجناد كلّها ، والدوائر الرسمية ـ تنتقل إلى الطائف ، وتقيم بها مدة (٦) أشهر ، وكان بسبب ذلك يزداد توارد الخلق عليها من مكة وغيرها ، وتعمر أسواقها ، ويكثر الأخذ والعطاء فيها ، وقيل لي : إنّه كانت فيها (١٥) طبيبا بين ملكي وعسكري ، وكان كلّ ما يوجد بمكة يوجد فيها.

فبعد الحرب العامة تقلّص عمرانها ، وخفّ قطينها ، حتى عادت كالعرجون القديم ، فلم يبق فيها إلا نحو ألفين إلى ثلاثة آلاف ساكن ، وصارت أكثر البيوت خاوية على عروشها ، فتداعت من نفسها ، ومن البيوت ما عملت فيه القنابر (١) في أثناء حصار العرب للأتراك فيها ، فهذه كانت المرحلة الأولى من مراحل بوارها.

وأما المرحلة الثانية : فقد كانت في حرب الوهابيين مع الملك حسين ، فقد زحف إليها سلطان بن بجاد شيخ عتيبة ، والشريف خالد بن لؤي ، وحاصراها بجمع كان يعجز عنها لو صادف فيها حامية مستبسلة ، موطّنة نفسها على الكفاح ، لأنّها مسورة من كل جهاتها ، وقد كانت فيها مدافع وأعتاد كافية للمقاومة ، فأوقع الله الوهن في قلوب أمراء الحامية ، التي كانت من قبل الملك حسين ، فانهزموا لا يلوون على شيء ، ودخلت عتيبة وأولئك الأعراب الغلاظ الشداد ، ففتكوا بأهلها فتكة شنيعة ، ملأت شناعتها الخافقين ، وقتلوا بضع مئات من الأهالي الوادعين ، وانتهبوا البلدة ، وخربّوا ما قدروا على تخريبه.

__________________

(١) [القنابل].

٢٠٨

وكان بين القتلى جماعة من العلماء والخواص ، ومنهم ويا للأسف المرحوم السيد حسن الشيبي مبعوث الحجاز ، ونجل الشيخ عبد القادر الشيبي كبير سدنة بيت الله الحرام ، وقد كان رحمه‌الله زميلي في مجلس المبعوثين في الآستانة ، وكان من ذوي الشهامة والأخلاق الزكية ، وكانت بيننا مودة أكيدة.

فانتهز أعداء الملك ابن سعود [عند] هذه الوقعة الفرصة للطّعن فيه ، وحاولوا إيهام الناس أنّه كان راضيا عن هذه الفعلة ، وحاشى له من ذلك ، فإنّها وقعت بدون أن يعلم بها ، وقبل أن يكون جاء إلى الحجاز ، ولما نمى إليه خبرها بمكانه من نجد ، ارتمض جدّا ، وأصدر الأمر تلو الأمر تحت الإنذار بالقتل بعدم التعرّض لأحد من الأهالي ، وبالدخول إلى البلد الأمين بدون سلاح ، فدخل الوهابيون مكة بدون سلاح ، وطافوا واعتمروا ، ولم يمسّوا أحدا بسوء ، مما يشهد به كل أهل مكة.

فأما فاجعة الطائف فقد سبق فيها السيف العذل ، وبقيت في قلب الملك عبد العزيز منها حزازات على سلطان بن بجاد ، لم يثبطه عن عقابه على ما فعله في الطائف سوى حداثة عهده بالاستيلاء على الحجاز ، والتربص ريثما تستتبّ الأحوال ، فاكتفى الملك بادىء ذي بدء بتضميد جراحات أهل الطائف ومواساتهم ، والتعويض عليهم ، ولم يتعرّض لسلطان بن بجاد بسوء ، رعيا لسابق عهده ، حتى فتح هذا على نفسه الباب ، وخرج هو وفيصل الدويش عن طاعة الملك ، وجاذباه الحبل ، وظنا أنّهما بقوة عشائرهما ـ عتيبة ومطير ـ ينالان منه وطرا ، فحاجزهما الملك مدة شهرين ، حتى أعيته فيهما الحيلة ، فلما لم يبق من الدواء إلا الكي ، نهد إلى الثوار ، فمزّق شملهم في أقل من ساعتين ، وطرح منهم بالعراء أكثر من ألفي صريع ، وأخذ مقدّميهم أسرى ، وبينهم ابن بجاد والدويش ، فكان الذين فتكوا بأهالي الطائف الوادعين هم الذين لقوا هذا النكال الشديد ، فنالوا الجزاء الذي يستحقونه على

٢٠٩

عملهم بالطائف ، وسقوا الكأس التي سقوا بمثلها ، ولكنهم سقوا ببغي وعدوان ، وشربوا بتأديب سلطان وحكم فرقان ، وقيد ابن بجاد بالأصفاد ، وكفى الله شرّه.

ولكنّ الدويش بعد أن عالج طبيب الملك جراحه فرّ من الأسر ونكث ، وجمع جموعه وجموعا ممن مالؤوه على بغيه ، واستأنفوا الثورة ، واضطروا الملك أيده الله أن يزحف إليهم مرّة ثانية ، ويصدع شملهم عودا على بدء ، وما زال يضّيق عليهم ، حتى تفرّقوا تحت كلّ نجم ، وجاء الدويش إلى العراق ظانّا أنّه ينجو ، وأنّه لا يدركه ليل عمله ، الذي هو مدركه ـ إلا أنّ الملك فيصل بن الحسين كان أعقل وأبصر بمصلحة مملكته العراق وبمصلحة العرب من أن يظاهر الخارجين عن طاعة ابن سعود ، لا سيّما أنّهم هم الذين كانوا يوالون على العراق تلك الغارات التي لا نهاية لها ، فانتهى الأمر بتسليم الإنكليز فيصلا الدويش إلى الملك ابن سعود ، عملا بمعاهدة سابقة في تسليم المجرمين ـ وصار إلى جانب رفيقه ابن بجاد بحيث لا يقدر أحد منهما بعد الآن أن يقلق راحة العرب ، ولا أن يهرج البلاد ويمرجها ، وكانت هذه الواقعة سببا في ائتلاف الملكين العاقلين الحكيمين ، اللذين أقرّ اجتماعهما عيون جميع العرب المخلصين للعروبة ، وفتّ في أعضاد الذين يريدونها دائمة حامية ، ولو أفضى ذلك إلى سقوط العرب.

والذي أدّى بنا إلى هذا البحث الذي بعد كثيرا عن أصل الموضوع خبر واقعة الطائف هذه ، التي كانت الضربة الثانية التي قضت على عمرانها ، والتي لو أغفلنا ذكرها وأسبابها لم يكن ذلك منا نصحا بالتاريخ ، ولكنّا مسؤولين عن هذا الإغفال.

ومن شاء معرفة خطط الطائف ، وما فيها من حارات وقصور ومساجد وآثار وأنصاب ، وما حولها من قرى ودساكر ، وما أشبه ذلك

٢١٠

ـ فعليه بكتاب «ما رأيت وما سمعت» للخير الزركلي ، فإنّه قد وعاها بحذافيرها بأحسن أسلوب.

وأنا لست متعرّضا من ذلك إلا لما شاهدته بعيني ، وارتسم في مخيلّتي ، وحلّ في صدري ، فإنّي قد سميت كتابي هذا «الارتسامات اللطاف» وحصرت الكلام فيما رأيته ، وما تجاوزوته إلا إلى الضروريّ مما رويته.

* * *

٢١١

مسجد ابن عباس بالطائف وقبره

وبعض ترجمته رضي‌الله‌عنهما

أهم أثر في الطائف هو مسجد عبد الله بن عباس رضي‌الله‌عنهما ، وهو على طرف البلدة إلى جهة وجّ ، وليس من بعده إلى وجّ عمارة.

وقد أنزلتني إمارة الطائف في دار شاهقة ، كانت تخصّ أحد أمراء الأكراد ، ممن نفي إلى الطائف في أيام السلطان عبد الحميد الثاني العثماني ، وهي لا تبعد عن المسجد العباسيّ أكثر من مئة وخمسين ذراعا ، وأمام هذه الدار باحة كبيرة عمومية ، تصل إلى مدخل المسجد العباسي ، وإلى باب السور الذي بجانبه.

وتكثر طبقات الدور بالطائف كما بمكة ، وكما بالمدينة ، وكما بجدة ، فقد كنت أسكن في الطبقة الرابعة من الدار ، وكثيرا ما كنّا نسمر على السطح الأعلى لها ، أنا وإخواني فوزي بك القاوقجي ، والدكتور خيري القباني ، وغيرهما ، لكنّنا كثيرا ما كنّا نشتمل بالأكسية الثقيلة على ذلك السطح خشية البرد ، وكنّا نضع كيزان الماء على السطح ، فلا يمضي على ذلك ساعة حتى ينقلب الماء كأنّه ثلج مذاب.

والمسجد العباسيّ كبير ، رحب الفناء ، قيل لي : إنّه وسّع في زمن السلطان عبد المجيد العثماني ، فهو يسع (١٥) ألف مصلّ فيما قدرت ، ولمّا أقبل الصيف صرت أرى الناس فيه تزدحم ، لكثرة الخلق الذين يصعدون إلى الطائف من مكة ، وفي بعض الجمع كان يغصّ بالناس ، وقد كان يؤم فيه قاضي الطائف ، وهو رجل حضرمي من أهل الفضل ،

٢١٢

وبجانب المسجد قبة فيها قبر حبر الأمّة عبد الله بن عباس رضي‌الله‌عنهما ، إلا أن الوهابيين أزالوا القبة ، وأبقوا القبر ، وذلك بحسب عادتهم في هدم القباب ، وكراهية زيارتها على الوجه الذي اعتاده كثير من العوام وبعض الخواص من الاستغاثة والتوسل وتقبيل الحجارة وما شاكل ذلك ، مما هو خلاف الشّرع ، ولا يسمعون فيه لومة لائم (١).

ولما كنت هناك زار الطائف قاضي القضاة بمكة الشيخ عبد الله بن حسن ، وهو من ذرية الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، فرأى بجانب الضريح العباسي خلف الجدار شجرة سدر صغيرة ، فأمر بقطعها ، خشية أن يتبرّك العوام بها. ولا إنكار أنّ الوهابيين يبالغون في الهدم والقطع والنقض والقلع كلّما مرّوا بقبة ، أو مزار ، أو شجرة تعلّق عليها خرق ، وتقشعرّ جلودهم من هذه المناظر ، ولكنّي مع اعترافي بغلّوهم في هذا الأمر ، لا أراهم حائدين فيه عن سنن الشرع القويم.

وإني لأروي للقرّاء قصة جرت معي في تلك الأرض ، وهي أنّي كنت وجماعة من إخواني نتنزّه في الوهط ، قرية عمرو بن العاص المشهورة ، وهي على نحو ساعة ونصف من الطائف ، إلى جهة جبل

__________________

(١) قد صحّت الأحاديث النبوية بالنهي عن الصلاة إلى القبور ، وعن تشييدها وتشريفها ، وبلعن الذين يتّخذون قبور الأنبياء والصالحين مساجد ، والذين يضعون عليها السّرج.

وصرّح الفقهاء بتحريم ذلك ، وبوجوب هدم ما يبنى عليها ، وتسوية القبور المبنية بالأرض ، كما تراه في «الزواجر» لابن حجر [الهيتمي] الشافعي.

وفقهاء الحنابلة أشدّ من غيرهم في هذا ، والوهابيون حنابلة.

وذكروا أنّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه أمر بقلع الشجرة التي بايع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه تحتها بيعة الرضوان ، وإعفاء أثرها ، لأنّه علم أنّ بعض حديثي العهد بالإسلام يتبرّكون بها ، فهل يعدّ الوهابيون غلاة في العمل بما ذكر ، وقد فشت في الناس عبادة قبور الصالحين ، كما سيأتي في كلام الأمير ، وهو قليل من كثير؟ مصححه.

٢١٣

برد ، فرأينا في طريقنا على مقربة من الوهط آثار قرية دارسة ، يعرف أنها كانت ذات شأن من اتساع جبانتها ، وشاهدنا في الجبانة قبة مهدوما أعلاها ، قائمة جدرانها ، قيل لنا : إنّها قبة سيدنا عكاشة من الصحابة رضوان الله عليهم (١).

فقصدنا إلى ذلك المكان ، فوجدنا مسجدا فيه قبور مشيدة ، منها ما هو قديم من صدر الإسلام ، عليه كتابات بالخطّ الكوفي ، ومنها ما هو من القرن الخامس أو السادس للهجرة ، وشاهدنا من هذا الخط كتابات لم تر عيني أجمل منها في البداعة والاتقان ، وتمنيت أن تنقل تلك الخطوط إما بالليتوغرافية (٢) وإما بالفوتوغرافية ، ولا أزال أحدّث

__________________

(١) الذي رأيته في «تاج العروس» عكّاشة الغنوي ، أورده ابن شاهين في «فضائل الصحابة» من طريق حفص بن ميسرة ، عن زيد بن أسلم ، عنه وحديثه في «سنن النسائي».

وعكاشة بن ثور بن أصغر كان عامل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على السكاسك فيما قيل ، وقال الحافظ : هو الغوثي بالغين والمثلثة.

وعكّاشة بن محصن بن جرثان بن قيس بن مرة الأسدي ، أحد السابقين ، كان من أجمل العرب وأشجع الصحابة رضي‌الله‌عنهم ا ه وفي «لسان العرب» عكّاشة (بتشديد الكاف ويخفف) بن محصن الأسدي من الصحابة.

وجاء في «الطبقات الكبرى» لابن سعد : عكاشة بن محصن بن حرثان بن قيس بن مرّة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة ، ويكنى أبا محصن ، شهد بدرا وأحدا ، والخندق ، والمشاهد كلها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعثه رسول الله إلى الغمر ، سرية في أربعين رجلا ، فانصرفوا ولم يلقوا كيدا.

قال أخبرنا محمد بن عمر ، قال : حدّثني عمر بن عثمان الجحشي عن آبائه ، عن أم قيس بنت محصن ، قالت : توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعكّاشة ابن أربع وأربعين سنة. وقتل بعد ذلك بسنة ببزّاخة ، في خلافة أبي بكر الصديق سنة اثنتي عشرة ، وكان عكّاشة من أجمل الرجال ، ثم ذكر ابن سعد كيفية مقتل عكّاشة في قتال خالد بن الوليد لأهل الردّة ا ه المؤلف.

(٢)(Lithography) وهي المسّماة الزنكوغراف].

٢١٤

نفسي بذلك فيما لو زرت الطائف مرّة أخرى.

وبينما نحن نتأمّل في تلك الآثار ، إذ أقبل علينا هنديان كانا سائرين على الطريق السلطاني ، فحادا عنه قاصدين هذا المزار ، وسألانا هل يجوز أن يصليا في ذلك المكان؟ فقلنا لهما : ليس لنا أن نعترضهما في صلاتهما ، إلا أننا لا نعلم لماذا يفضّلان الصلاة في الداخل تحت القبة المهدومة بجانب هذه القبور ـ مع كراهية الصلاة بجانبها ـ على الصلاة في الخارج ، والصلاة هي هي (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : ١١٥] فقالا : لأنّهما رأيا في الداخل محرابا ، فقلنا لهما : نعم إلا أننا لا نعلم وجها شرعيا يجعل للصلاة عند ذلك المحراب فضيلة ليست للصلاة في الصحراء ، فانصرفا ، ولم يصليا ، ولعلّهما رجعا بعد انصرافنا ، وصليا في داخل المزار ، لا نعلم (١).

وكيف كان الأمر ، فإنّ كثيرا من العوام أو من الخواص أشباه العوام يحبّون الصّلاة بجانب القبور ، وهذا مما ينفر منه السلفيون أشدّ النفور ، وليسوا في هذا بغالطين.

* * *

__________________

(١) يعلم من هذا أنّ الصلاة لأجل المزار ، لا خالصة لله ، فهي شرك بالله ، وقد صرّح بعض فقهاء الحنابلة ببطلان الصّلاة في كلّ مسجد فيه قبر ، وإن لم تكن الصلاة إلى القبر أو لأجله ، لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن بناء هذه المساجد ، ولعن فاعليها ، وهو يقتضي بطلان الصّلاة فيها ، واقتضاء النهي للفساد مسألة أصولية معروفة غير خاصّة بالحنابلة مصححه.

٢١٥

[ترجمة عبد الله بن عباس رضي‌الله‌عنهما]

هذا وقد توفّي عبد الله بن عباس بالطائف سنة ثمان وستين ، وقيل : سنة سبعين ، وسنّه إحدى وسبعون سنة ، وقبل : اثنتان وسبعون ، وقيل أكثر. وصلّى عليه محمد بن الحنفية ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه. ودفن ابن عباس في الطائف بالمكان الذي فيه المسجد اليوم ، ودفن ابن الحنفية في الطائف أيضا على أصحّ الأقوال ، وكانت وفاته بعد ابن عباس باثنتي عشرة سنة ، وكانت أمّ عبد الله بن عباس أمّ الفضل لبابة بنت الحارث ، بن حزن ، بن بجير ، بن الهزم ، بن رويبة ، بن عبد الله ، بن هلال ، بن عامر ، بن صعصعة (١) ، وهي التي قيل فيها (٢) :

ما ولدت نجيبة من فحل

بجبل نعلمه أو سهل

كستة من بطن أمّ الفضل

أكرم بها من كهلة وكهل

فإنّ أولادها كانوا بأجمعهم أبطالا مجاهدين ، وقيل : إنه ما رؤيت قبور أخوة أشدّ تباعدا بعضها من بعض من قبور ستة من بني العباس ، مع كونهم ولدوا في دار واحدة ، وذلك أنّ الفضل استشهد في وقعة أجنادين بفلسطين ، وقيل بطاعون عمواس ، ومعبد وعبد الرحمن استشهدا بأفريقية ، وقيل : إنّ معبدا مات شهيدا بأفريقية ، وعبد الرحمن

__________________

(١) [انظر نسبها في «أنساب الأشراف» للبلاذري [٣ : ٥]].

(٢) [القائل هو عبد الله بن بريد الهلالي : انظر «الاستيعاب» (٤ : ٢٩٩)].

٢١٦

مات بالشام ، وقثم بسمرقند مجاهدا ، ومات عبيد الله باليمن ، وقيل بالمدينة ، وعبد الله مات بالطائف.

وكانت فضائل عبد الله بن عباس أكثر من أن تحصى ، وقد ألّفت فيها التآليف ، وأكثر الكتب المؤلّفة عن الطائف ملأى بأخبار عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن ، ووالد الخلفاء العظام ، وهو الذي قال فيه أمير المؤمنين عليّ كرّم الله وجهه : إنّه لينظر إلى الغيب من ستر رقيق.

وقد روى بعضهم أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فيه : «لو كان بعدي نبيّ مرسل لكان عبد الله بن عباس ، اللهم فقهه في الدّين ، وانشر منه ، وعلّمه التأويل ، وبارك فيه ، إنّه سيدفن في الطائف ، فمن زاره فكأنّما زار قبري بطيبة» روى هذا الحديث الشيخ عبد الرحمن الميورقي عن أحمد بن حاتم الموصلي ، والأشبه به أن يكون موضوعا (١).

وأما أن يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا له بأن يفقهه الله في الدين ، وأن يبارك فيه ، وأن يعلّمه الكتاب والحكمة ، فهذا معقول.

وقد جاء في «الصّحيح» أنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضمّه إليه ، وقال «اللهم علمه الحكمة» (٢) وكان عمر ابن عباس لما قبض ابن عمه الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث عشرة سنة.

وروى السخاوي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا بالحكمة لابن عباس مرّتين. وكلّ ما روى ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٠) أحاديث ، أو أكثر. ومثل

__________________

(١) [صح في ذلك «لو كان بعدي نبيّ لكان عمر» انظر الحاشية رقم (١) ص (٢٠١)].

(٢) وصحّ أيضا أنّه قال «اللهم علّمه الكتاب» وأيضا «اللهم فقّهه في الدين» كلّ ذلك في «صحيح البخاري» مصححه.

٢١٧

ذلك مما شهد فعله (١) ، وباقي أحاديثه إما مرسل محكوم باتصاله ، أو غير مرسل (٢) عن أبويه ، وأخيه الفضل ، وخالته ميمونة ، وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وخلق من الصحابة.

وروى [أبو] الحسن المديني ، عن سحيم عن حفص ، عن أبي بكرة قال : قدم علينا ابن عباس البصرة ، وما في العرب مثله جسما وعلما ودينا وجمالا وكمالا.

وروى الطبرانيّ وغيره حديثا معناه أنّ أمّ الفضل ابنة الحارث زوجة العباس لما وضعت عبد الله بن عباس أتت به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأذّن في أذنه اليمنى ، وأقام في اليسرى ، وسمّاه عبد الله ، ثم قال : «اذهبي بأبي الخلفاء» ويجوز أن يكون هذا الحديث «اذهبي بأبي الخلفاء» صحيحا ، وأن يكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كوشف بذلك ، كما أنّه يجوز أن يكون مما وضع في زمن خلفاء بني العباس تزلفا إليهم.

ومثله ما رواه ابن فهد نقلا عن «تاريخ دمشق» وهو حديث مرفوع صرّح ابن فهد نفسه أنّه ركيك اللفظ واه ، وهو : «هبط عليّ جبريل عليه‌السلام ، وعليه قباء أسود ، وعمامة سوداء ، فقلت : ما هذه الصورة التي

__________________

(١) في ترجمته من «تهذيب الهذيب» : (فائدة) روي عن غندر أنّ ابن عباس لم يسمع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا تسعة أحاديث ، وعن يحيى القطان : عشرة. وقال الغزاليّ في «المستصفى» : أربعة. وفيه نظر ، ففي «الصحيحين» عن ابن عباس مما صرّح فيه بسماعه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثر من عشرة ، وفيهما مما شهد فعله نحو ذلك ، وفيهما مما له حكم الصريح نحو ذلك ، فضلا عمّا ليس في «الصحيحين» ا ه مصححه.

(٢) كذا ـ والحديث المرسل من سقط من آخر سنده من بعد التابعي ، وهو الصحابي الذي سمع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو حضر أو شاهد ما يرفعه إليه ، كقول التابعي : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذا ، ويطلق على ما رواه الصحابيّ مما لم يسمعه ولم يحضره. ا ه. مصححه.

٢١٨

لم أرك هبطت عليّ فيها قط»؟ قال : هذه صورة الملوك من ولد العباس عمّك رضي الله تعالى عنه. قلت : «وهم على حق»؟ قال جبريل : نعم. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم اغفر للعباس وولده حيث كانوا وأين كانوا» قال جبريل : ليأتينّ على أمتك زمان يعزّ الله عزوجل الإسلام بهذا السواد. فقلت : «رئاستهم ممن»؟ قال : من ولد العباس. قلت : «ومن أتباعهم»؟ قال : من أهل خراسان ، قلت : «وأي شيء يملكون»؟ قال : الأصفر والأخضر ، والحجر والمدر ، والسرير والمنبر ، والدنيا إلى المحشر ، والملك إلى المنتشر» ا ه والوضع ظاهر كالشمس في هذا الحديث.

ومن عادة بعض النّاس التزلف إلى الملوك والخلفاء بأقاويل كهذه وهي داخلة في حكم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من كذب عليّ فليتبوّأ مقعده من النّار» وقد يكون بعضهم ممن يستضعف الحديث ، ولا يثق بإسناده ، لكنّه يرويه عملا بحسن الظنّ بزعمه ، أو اعتقادا للمصلحة فيه ، وهذا من أكبر الخطأ ، ولا سيما إن كان من هذا الباب ، والحق غير محتاج إلى دعامة من الباطل. ولقد انتهى ملك بني العباس ولم يبق إلى المحشر ، كما انتهى ملك بني عثمان في أيامنا هذه ، وذهب معها كلّ ما قيل في خلود ملكهم سدى ، ومن جملة ذلك رسالة للسيد محمود الحمزاوي مفتي الشام رحمه‌الله اسمها «البرهان على بقاء ملك بني عثمان إلى آخر الزمان» لم أعجب إلا من صدورها عن رجل مثله في سعة علمه وعقله (١).

وقد روى الحافظ ابن الأبّار القضاعي البلنسي في «التكملة لكتاب الصلة» أنّ حيوة بن ملامس الحضرمي من أشراف إشبيلية كانت له منزلة لطيفة من عبد الرحمن بن معاوية (الداخل إلى الأندلس) وروى عن حنش الصنعاني يرفعه أنّ ملك بني أمية لا يزال إلى خروج الدجال ، ولما

__________________

(١) [انظر ترجمته في كتاب «علماء الشام كما عرفتهم» للعلامة محمد سعيد الباني ، ص (٢١٥ ـ ٢٢٧) وهو من منشورات دار القادري بدمشق بتحقيقي].

٢١٩

رواه لعبد الرحمن بن معاوية أقطعه قطيعة معروفة. انتهى وهذا أيضا من الباب المتقدم.

وكان ابن عباس أبيض طويلا وسيما جسيما ، مشربا بصفرة ، صبيح الوجه ، له وفرة ، يخضب بالحناء ، وكان يعتمّ بعمامة سوداء ، يرخيها شبرا ، ولعلّ الخلفاء العباسيين اتخذوا السواد شعارا من أجل عمامة جدهم هذه.

وقد روى ابن فهد في «تحفة اللطائف» أنّهم كانوا باقين على لبس السواد إلى عهده ، وقد كانت وفاته سنة (٩٢٢) وكذلك الخطباء في الحرمين الشريفين وغيرهما من بعض البلدان المعظّمة.

قال ابن فهد : وإنّ معتمدهم في ذلك كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل مكة يوم الفتح ، وعلى رأسه عمامة سوداء ، قد أرخى طرفها بين كتفيه ، وخطب بها الخلفاء كذلك ، لكونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في ذلك اليوم منصورا على الكفار ، فاتخذوه شعارا ، ليكونوا دائما منصورين على أعدائهم.

وسأل الرشيد الأوزاعيّ رحمهما‌الله تعالى عن لبس السواد فقال : إني لا أحرّمه ، ولكن أكرهه ، قال : ولم؟ قال : لأنّه لا تجلى فيه عروس ، ولا يلبّي به محرم ، ولا يكفّن فيه ميت. فالتفت الرشيد إلى أبي نواس فقال : فما تقول أنت في السواد؟ فقال : النور في السواد يا أمير المؤمنين. ثم قال : وفضيلة أخرى يا أمير المؤمنين لا يكتب كلّ من كتاب الله عزوجل وحديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقوال العلماء رحمهم‌الله تعالى إلا به ، وهو مضاف إلى الخلافة ، فلما سمع الرشيد هذا الوصفّ في السواد اهتزّ طربا ، وأمر له بجائزة سنية انتهى.

قلت : نسبة هذه الرواية للرشيد خطأ محض ، وكنّا نقول : إنّها سهو ناسخ ، تبدّل لفظة الرشيد بالمنصور ، لو لا مجيء قصة أبي نواس من بعدها ، ووجه الخطأ أنّ الإمام الأوزاعيّ رضي‌الله‌عنه توفي يوم الأحد ، أول النهار ، لليلتين من صفر سنة سبع وخمسين ومئة ، هذا الذي عليه

٢٢٠